تفسير آيات الأحكام [52]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:

تكلمنا في المجلس السابق على تفسير قول الله عز وجل: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96] , ونتكلم هذا اليوم على الآية التي تليها، وهي قول الله جل وعلا: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] .

ذكر الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بالبيت الحرام ونشأته وأسبقيته وأولويته من جهة الزمان ومن جهة التحريم, وكذلك التعظيم على الأصح من أقوال العلماء.

المفاضلة بين مكة والمدينة

وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في التفاضل بين مكة والمدينة أيها أفضل؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن مكة أفضل من المدينة من جهة ذات البقعة.

وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن المدينة أفضل من مكة, والقول الأول أرجح. ولعله يكون ثمة موضع نتحدث فيه عن التفاضل بين مكة والمدينة.

أول زمن تعلق به تعظيم المسجد الحرام والأحكام الشرعية المتعلقة به

لما ذكر الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بالمسجد الحرام وذلك بأسبقيته من جهة الزمان, معلوم أن الله جل وعلا قد جعل حرمة المكان قبل ذلك, ولكن التعظيم والأحكام الشرعية المتعلقة بمسجد الكعبة إنما كانت في زمن إبراهيم, ولهذا قد جاء عن غير واحد من السلف, جاء عن علي بن أبي طالب وقتادة أن هذا الموضع معظم, ولكن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذه الأوصاف فيه هدى ومباركاً وأمناً, جعل الله عز وجل ذلك في زمن الخليل إبراهيم, وروي هذا القول عن قتادة وغيره من السلف.

وجاء في بعض الإسرائيليات وغيرها كبعض الروايات عن وهب بن منبه وغيرها أن آدم عليه الصلاة والسلام طاف بالمسجد الحرام, وهذا لا يصح فيه خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, جاء فيه بعض الروايات من حديث عبد الله بن عمرو، ولا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما الأقوال في ذلك إنما هي آثار, وكذلك في بعض الإسرائيليات في هذا الباب.

وهنا في قول الله عز وجل: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97] , يعني: البيت الحرام.

والآيات البينات ما جعله الله عز وجل من شعائر وأحكام وفضائل الأعمال, وما جعل فيه من خصائص العمل والقول مما لا يكون إلا فيه.

مقام إبراهيم

وهنا في قوله: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] , مقام إبراهيم إذا ذكر في كلام السلف فيراد به معنيين:

المعنى الأول: هو المعنى الخاص, والمراد بذلك هو مقام إبراهيم المعروف الذي قام عليه ثم أخذ ابنه يناوله الحجارة لبناء الكعبة.

وتقدم الإشارة إلى هذا المعنى في سورة البقرة هذا هو المعنى الخاص, وليس هو المراد في هذه الآية, وإنما المراد في ذلك ما هو أعم من هذا.

ومقام إبراهيم قد جاء في هذه الآية في سورة آل عمران وجاء في سورة البقرة, فالمراد بسورة البقرة هو المعنى الخاص, والمراد بسورة آل عمران هو المعنى العام, وهو المعنى الثاني.

المعنى الثاني من مقام إبراهيم: هو المعنى العام الشامل لجميع أعمال المناسك، سواء كان ذلك في الحل أو في الحرم, ومقام إبراهيم الذي قام به إبراهيم متعبداً لله سبحانه وتعالى, سواء كان ذلك بالطواف على البيت, أو كان ذلك بالسعي بين الصفا والمروة أو كان ذلك بالوقوف بعرفة أو المبيت بمزدلفة ومنى ورمي الجمار، وغير ذلك من الأحكام من النحر وغيرها, فهذه من مقام إبراهيم.

جاء هذا عن غير واحد من السلف, قد جاء عن عبد الله بن عباس كما رواه عنه عطاء ورواه ابن المنذر وكذلك ابن أبي حاتم و ابن جرير الطبري عن عطاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى في قوله: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] , قال: البينة هي ما قام عليه إبراهيم ومقام إبراهيم، الحج كله, يعني: حج المسجد الحرام في جميع المواضع التي وضع إبراهيم قدمه فيها، فهي داخلة في هذا المعنى العام في هذه الآية.

وجاء تفسير ذلك عن غير واحد من السلف, جاء عن سعيد بن جبير و مجاهد بن جبر و عطاء وغيرهم أن المراد بمقام إبراهيم في هذه الآية هو المعنى العام, وبهذا نعلم أن الله سبحانه وتعالى إنما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بإحياء الشعائر التي قام فيها إبراهيم ودثرها أهل الجاهلية وبدلوها, مع وجود بعض الأحكام التي لم تكن في زمن إبراهيم قد جاءت في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم, ومن هذه الشعائر التي اختص بها النبي عليه الصلاة والسلام جملة، منها: الصلاة خلف المقام, فالصلاة خلف المقام إنما جاءت بعد ذلك، وخص الله عز وجل به أمة الإسلام, ويأتي الإشارة إلى هذا.

مقام إبراهيم بالمعنى الخاص وهو الذي قد قام عليه ويناوله إسماعيل الحجارة, وإنما كان إسماعيل هو الذي يعاون أباه إبراهيم في بناء المسجد الحرام؛ لأنه كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة, فكان معاوناً لأبيه ببناء البيت, وتناوله أمه الحجارة، فيناول هو الحجارة لأبيه, وأصبح هذا المقام الذي قام عليه إبراهيم هو المقصود بسورة البقرة, وهو المعنى الخاص عند إطلاق السلف في إيرادهم للأحكام المتعلقة بمقام إبراهيم.

وأصل مقام إبراهيم إنما هو بجوار جدار الكعبة ثم نقل بعد ذلك, لأن هذا مقتضى أصل البناء؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يبني حائطاً, وأراد أن يقوم على شيء، فإنه يقوم على أصل هذا الحائط أو بجواره, وهذا ما كان يفعله الخليل إبراهيم, وابنه إسماعيل, ثم بعد ذلك حرك بعد هذا, والتحريك إنما كان من عمر بن الخطاب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء ذلك عنه, في حديث عائشة فيما رواه البيهقي من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، أنها قالت: نقل عمر بن الخطاب الحجارة من عند البيت إلى مقامي هذا.

وهذا عن عمر بن الخطاب مستفيض، وهو محل اتفاق, قد حكاه عنه مجاهد كما رواه ابن جرير عن حميد عن مجاهد، أنه قال: أول من حرك مقام إبراهيم هو عمر بن الخطاب, وجاء ذلك عن عطاء بن أبي رباح إمام أهل المناسك, ولا يختلف السلف عليهم رحمة الله تعالى في هذا، أن أول من حرك مقام إبراهيم هو عمر بن الخطاب فحركه إلى ما هو أبعد من ذلك, ثم جرفه السيل بعد ذلك، فأعاده عمر بن الخطاب إلى موضعه الذي هو فيه.

والعلماء يتفقون على مشروعية ما جاء عن عمر , ويعللون ذلك بجملة من العلل، منها: ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من الوصية بهدي وسنن الخلفاء الراشدين فيما رواه الإمام أحمد , وكذلك أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي, تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ) , وهذا من حديث العرباض بن سارية .

الأمر الثاني: أن الصحابة عليهم رضوان الله لم يخالفوا عمر بن الخطاب في هذا, ولا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه خالف قول عمر في ذلك.

الأمر الثالث: أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله هو من أعلم الناس بأحكام هذا، فقد وافقه الله عز وجل في أصل تشريع الصلاة خلف مقام إبراهيم, فإن أصل التشريع لم يكن موجوداً، فقال عمر بن الخطاب عليه رضوان الله للنبي عليه الصلاة والسلام: ( لو صلينا خلف مقام إبراهيم, فأنزل الله عز وجل على نبيه عليه الصلاة والسلام: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] ), فأصبح بعد ذلك شرعة.

فهذا من المسائل التي وافق عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى ربه بها, فلما كان أولى الصحابة عليهم رضوان الله تعالى بمعرفة هذا الحكم، كان الاقتداء بذلك من الصحابة عليهم رضوان تعالى ظاهراً, فلهذا لم يخالف في هذا الأمر.

وقصد الصلاة والتوجه إلى مقام إبراهيم بالعبادة إنما هو في موضعه الأول لا في موضعه المنقول, لأن العبرة بالمقام لا بالحجارة, فلو حرك إلى جهة أخرى أو جرفه السيل أو سرق وفقد وقدر ذلك، فإن هذا لا يلغي العبادة فيصلون إلى جهتها, بل ما هو أعظم من ذلك لو قدر أن الكعبة أزيلت من مكانها ونقلت حجارتها، ما جاز لأحد أن يستقبل الحجارة ويدع الموضع الذي هو أصلها ولو لم يبق من الحجارة شيء.

إذاً: المقصود من جهة الاتجاه هو القبلة, والمقصود من جهة اتخاذ مقام إبراهيم مصلى هو الموضع الذي قام فيه إبراهيم, وليس المراد بذلك الحجارة, فلو نقلت الحجارة إلى جهة أخرى أو أخذت وأخفيت أو غير ذلك كما نقل الحجر الأسود في أخذ القرامطة له لا يتغير في ذلك الحكم.

وعلى هذا من صلى أمام الحجارة الموجودة اليوم بمقام إبراهيم وصارت خلفه الحجارة فقد صلى خلف مقام إبراهيم, والعلة التي جعل فيها عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى مقام إبراهيم يتأخر في هذا، أنه رأى الناس يتعمدون الدنو من الحجارة ليصلوا مما يعطل الطواف، فأخره عمر بن الخطاب عليه رضوان الله ليكون ثمة مساحة للطواف لما كثر الناس, وهذا من عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى دفعاً لما يجده بعض الناس في نفسه من حب الكمال أن تكون تلك الحجارة بينه وبين الكعبة.

فنقول: إذا كانت بينه وبين الكعبة فهذا هو الكمال، وأما السنة في ذلك فإنها تأتي بالصلاة إلى تلك الناحية, فإذا كان هذا في الكعبة فإنه في مقام إبراهيم من باب أولى, وهذا في ما يظهر على ما تقدم من عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى إنما هو دفع لما يتوهمه البعض أو يجده الناس في نفسه من قصد الحجارة, فلو أراد منهم أن يتأخروا وأن يبتعدوا من الدنو من ذات الحجارة ربما لتكلف بعضهم أو وجد في نفسه من البعد عن هذه الحجارة, وإلا من جهة الأصل فحجارة الكعبة التي بنيت فيها من جهة النظر أعظم من الحجارة التي قام عليها إبراهيم باعتبار أن الإنسان لا يتوجه إلى المقام وإنما يتوجه إلى الكعبة, فلو أن إنساناً استدبر الكعبة واستقبل مقام إبراهيم لعد مخالفاً وصلاته في ذلك باطلة؛ لأنه استدبر الكعبة.

إذاً: الاتجاه إلى الكعبة أعظم من الاتجاه إلى غيره, وما زال الناس في الجاهلية وفي الإسلام يغيرون حجارة الكعبة عند تكسرها أو عند تفتتها وعدم الانتفاع بها, ويغيرونها إلى غيرها, وسمعت أنها من قريب غيرت بعض الحجارة ثم حملت ووضعت في سفينة ثم ركبت في البحر ثم رميت في البحر، هذه الحجارة مما كان في الكعبة خشية أن يتعلق الناس بهذه الحجارة بعينها، إما بتبرك أو تمسح أو طواف بها، ولهذا نقول:

إن الحكم الشرعي متعلق في ذلك بالمكان, وأما بالنسبة للحجارة فإنما هي شاهد وعلم ليتوجه الناس إليها.

من الآيات التي جعلها الله في الحرم

وفي قوله سبحانه وتعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97] , يعني: في البيت الحرام جملة من الآيات البينات، ومن هذه البينات مقام إبراهيم, وحينما ذكر الله عز وجل هذه البينات ذكر وضوحها وجلاءها, وأنها ظاهرة ومعالم شاهدة, وأحكامها في ذلك بينة مشهورة, وأول ما ذكره الله سبحانه وتعالى في ذلك مقام إبراهيم وهي أعمال الحج.

المراد بالأمن لمن دخل الحرم

وفي قوله هنا: مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] المراد بذلك هو من دخل المسجد الحرام, وهذا يدل على المعنى السابق الذي تقدم الكلام عليه، أن المراد بالآيات البينات مقام إبراهيم وهي مناسك الحج؛ لأنه قال: مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] , يعني: من دخل المشاعر كلها التي حدها الله عز وجل بالتحريم بحدودها المعلومة.

والأمان هنا معلوم حتى عند الجاهلية العرب وغيرهم، أن الرجل إذا لاذ بالمسجد الحرام لم يتعرض الناس له, وما زالوا يهجرونه ويضايقونه حتى يخرج ثم يقيمون الحد عليه.

إقامة الحدود في الحرم

وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في إقامة الحدود في الحرم على عدة أقوال: القول الأول: من العلماء من قال بأن الحدود تقام في الحرم, وجعلوا ذلك على الإطلاق, وقال بهذا الإمام مالك رحمه الله.

ومن العلماء من قيد ذلك قال: إذا أصاب الحد في الحرم أقيم عليه في الحرم, وإذا أصاب الحد في غيره فلاذ بالحرم أخرج إلى موضعه الأول ولا يقام عليه الحد لحرمة البيت.

وقال بهذا الإمام الشافعي رحمه الله وعبد الله بن عباس و الحسن البصري و عطاء بن أبي رباح، إلى أن الإنسان إذا أصاب حداً في الحرم يقام عليه في الحرم, وإذا أصاب الحد في غيره ثم لجأ إلى الحرم، فإنه يخرج منه إلى غيره على خلاف عند العلماء في طريقة الإخراج, منهم من قال: إنه يهجر ولا يكلم ويدفع ويناشد بالله إلا خرج, ومنهم من يقول: يؤخذ كرهاً حتى يقام عليه الحد خارج الحرم.

القول الثالث: أن من لاذ بالحرم وأصاب حداً خارجه لا يقام عليه ولا يخرج منه, وهذا قول ضعيف, لأن ذلك يدفع الناس إلى اللوذ بالحرم بارتكاب المحرمات والموبقات والقتل وغير ذلك, ثم يلوذون بذلك إلى الحرم, والحرم أجل من أن يلوذ به من سفك دماً حراماً ثم يترك؛ لأن حرمة المؤمن أعظم من حرمة المسجد الحرام, فلا يقال: إن حرمة البيت تدفع الدم الذي لاذ به من قتل وسفك دماً, فيقال حينئذٍ بأن الإنسان إذا لاذ بالمسجد الحرام، فإنه يخرج منه إذا كان قد أصاب الحد في غيره, ويقام عليه الحد خارج ذلك.

وبهذا نعلم أن من قال بأنه لا يخرج من لاذ بالحرم بأي حال ولو أصاب حداً أو قتل نفساً أو غير ذلك أن هذا قول ضعيف ومدعاة إلى أن يلوذ أهل الفجور، والفسق ومن قتل وسفك الدم بالمسجد الحرام, ولا يجد من يدفعه ويخرجه منه.

وأصوب هذه الأقوال في هذا: أن من أصاب حداً في الحرم أقيم عليه في الحرم, ومن أصاب حداً خارج الحرم ثم دخل إليه أخرج منه ليقام عليه خارج الحرم, إما في الموضع الذي أصاب فيه الحد أو في موضع آخر.

وهذا هو الأرجح والذي عليه عمل عامة السلف, وقد جاء ذلك عن عبد الله بن عباس بإسناد صحيح وجاء ذلك عن مجاهد بن جبر و عطاء بن أبي رباح وروي عن عامر بن شراحيل الشعبي وغيرهم من السلف.

تحريم الصيد في الحرم

وأما بالنسبة للتحريم فيما يتعلق بتحريم الصيد والشجر, فنقول: إن الله عز وجل قد حرم الصيد في الحرم, وحرم قطع الشجر, والمراد بالصيد هو ما كان قائماً فيها مما توحش, وأما ما لا يطلق عليه صيد وذلك من بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم مما يرعاها الناس أو يقتنونها في بساتينهم أو في دورهم أو من الطيور مما يربى، وذلك كالطيور المستأنسة مما تستأنس عادة وذلك كالدجاج والأوز والحمام الأنسي الذي لم يستوحش، فيقال حينئذٍ: إن هذا مما يربى. ومعرفته في ذلك أنه يوضع في الدور ويتوالد ثم يطعمه الناس, فهذا لا حرج على الإنسان أن ينحره.

وأما بالنسبة للمتوحش، فنقول: إن المتوحش في ذلك على حالين:

الحالة الأولى: متوحش في حدود الحرم, فهذا لا يجوز للإنسان أن يتعرض له بحال إلا إذا اعتدى عليه, إذا خشي صولته أو نحو ذلك، فنقول حينئذٍ: يدفعه بما يستطيع, كالضبع وهو صيد, كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث وجاء أيضاً عن أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى, فلو صال على الإنسان له أن يدفعه.

وأما بالنسبة للإنسي ما يستأنس من البهائم عادة ثم توحش بعد ذلك, وذلك كالحمير وكذلك للخيل، فنقول: إن الحمير الوحشية أكلها حلال, فتتحول إلى صيد, والحمير الإنسية محرمة, فإذا كان لدى الناس حمير إنسية ثم توحشت بعد ذلك، فنقول حينئذٍ: استحال حكمها, ولا يجوز للإنسان أن يصيدها.

الحالة الثانية من حال الصيد: هو ما كان خارج الحرم, فإذا صاد الإنسان صيداً خارج الحرم ثم أدخله حياً، له أن يذبحه داخل الحرم, وإذا صاده في خارج الحرم ثم ذبحه خارج الحرم، فهذا من باب أولى له أن يطعمه كذلك.

قطع شجر الحرم

وهذا كما أنه في الصيد كذلك في الشجر, فالشجر في داخل الحرم على نوعين:

النوع الأول: شجر بري ينبت في الأرض من غير استنبات, وكالشجر الذي يخرج في البوادي مما ترعاه البهائم ونحو ذلك, فنقول: لا يجوز للإنسان أن يعمد إلى قطعه.

وهل يجوز له أن ترعى بهائمه فيه؟

نعم, يجوز له أن ترعى بهائمه لكن لا يتناوله بالقطع.

الحالة الثانية من الشجر: هو ما يستنبت ولو كان عادة ينبت من غير استنبات.

ما يستنبت كما يزرع في أفنية المنازل وكذلك في الطرقات وفي الحدائق العامة، فهذا مستنبت أخذ ووضع فسائل أو بذور ثم خرج, فحينئذٍ لا يأخذ تلك الحرمة, وهذا كحكم البهائم الإنسية في حكمها كحال الإبل والبقر والغنم؛ لأنها تأنس وتربى, فيجوز أن يقتلها الإنسان وينحرها ويطعمها, كذلك بالنسبة للشجر مما يستنبته الإنسان لا حرج عليه أن يقصه وأن يتناوله سواء كان مأكولاً للإنسان أو يأخذه بنفسه حشيشاً لغنمه أو غير ذلك, فهذا باعتبار أن الإنسان هو الذي تناوله.

وهل الإنسان يحرم عليه أن يعضد الشجر بإطلاق أم يستثنى من ذلك شيء؟

نقول: استثنى النبي صلى الله عليه وسلم الإذخر, ولأنهم يحتاجونه في الطين للبناء وكذلك في قبورهم، يضعون فيه اللبن حتى يتماسك, وكذلك يجوز للإنسان أن يقطع من الشجر ما يفسد على الناس طريقهم, إذا قصد تعبيد الطريق أن يصنع من ذلك سكة من السكك ليسير الناس, ويعترض ذلك من الشجر، فنقول: لا حرج في ذلك.

ويجوز للإنسان أن ترعى بهائمه من ذلك الشجر الذي يكون في حدود الحرم, لكن ليس للإنسان أن يباشر ذلك الشجر بنفسه, ولكن لو باشره حيوانه أو نحو ذلك، فنقول: إذا كان من غير مباشرة الإنسان بنفسه فإن هذا مما لا حرج فيه.

فرضية الحج

وهنا في قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] , هذه الآية بها فرض الله سبحانه وتعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم حج البيت, وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حج قبل ذلك, ولا خلاف أن النبي عليه الصلاة والسلام قد حج قبل حجة الوداع, وإنما الخلاف في عدد حجاته, حج النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في صحيح البخاري حجة واحدة, كما جاء في حديث جبير بن مطعم , وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج, كما جاء عند الترمذي: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر.

ونقول: إن الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه حج مرتين: حجة قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر, وهي ما تسمى بحجة الوداع, وأما غير ذلك فنقول: محتمل إلا أن الدليل لم يثبت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأما العمرة فكانوا يعتمرون إلا أنهم يحرمونها في أشهر الحج.

وتقدم الإشارة معنا إلى هذا عند قول الله عز وجل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] , وكذلك في قول الله سبحانه وتعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة:197] , تقدم الإشارة إلى أشهر الحج, والعمرة والأزمنة التي شرع الله عز وجل الحج والعمرة فيها.

مواقيت الحج

وذكرنا أن الله سبحانه وتعالى قد جعل المواقيت للحج, وقيدها سبحانه وتعالى, ومواقيت الحج الزمانية هي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة على قول جمهور العلماء, والمكانية معلومة.

وأما بالنسبة للعمرة فيتفق العلماء على أن العمرة جائزة في أي يوم من أيام السنة من ليل أو نهار, وإنما الخلاف في يوم عرفة.

فذهب جمهور العلماء إلى جوازها, وذهب أبو حنيفة إلى كراهة ذلك؛ لأنه يوم الموقف ويوم المشهد فالناس تتوجه إلى ذلك المكان.

وقوله جل وعلا: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] هنا فرض الله سبحانه وتعالى الحج على الناس, والحج لا يكون إلا إلى البيت الحرام, والخطاب هنا في الناس شامل لكل مكلف من ذكر أو أنثى.

وقوله هنا: لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ [آل عمران:97] , يعني: فريضة فرضها الله عز وجل, والحج ركن من أركان الإسلام كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمر قال: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) .

وكذلك في حديث أبي هريرة في قصة جبريل لما جاء للنبي عليه الصلاة والسلام وسأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام, قال: ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ).

وجاء في حديث ابن عمر عن أبيه في صحيح الإمام مسلم وانفرد بإخراجه عن البخاري في سؤال جبريل أيضاً للنبي عليه الصلاة والسلام وهي في قصة واحدة, وغير ذلك من الأحاديث في بيان ركنية الحج.

تقديم الحج على الصيام في بعض الأحاديث

وإنما وقع الاختلاف في تقديم الحج على الصيام, ولا خلاف عند العلماء في تقديم الزكاة على الصيام والحج, وكذلك في ظاهر الروايات, جاء في بعض الروايات تقديم الحج على الصيام, قال: ( وحج البيت وصوم رمضان ).

وهذا التقديم أخذ منه بعض العلماء قال: إن الحج يقدم من جهة المنزلة على الصيام, ومنهم من قال: الصيام, والأشهر عند السلف تقديم الصيام على الحج, وهذا على أشهر الروايات في الصحيحين وغيرهما.

ركنية الحج وحكم تارك الحج

وركنية الحج لا خلاف فيها, وإنما وقع الخلاف في حكم تارك الحج مع القدرة عليه, وقد سبق معنا الكلام على الحج: هل هو على الفور أم على التراخي؟

تقدم معنا هذا عند تفسير قول الله عز وجل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].

وأما من ترك الحج متعمداً مع مرور الأعوام عليه وهو مستطيع؟

ذهب عامة العلماء وأكثر السلف إلى أنه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب, ولا يكفر بفعله ذلك.

القول الثاني: قالوا بكفره, وأن حكمه كحكم تارك الصلاة عمداً, وقد ذهب إلى هذا بعض السلف, وهو مروي عن سعيد بن جبير والحكم بن عتيبة وهو رواية عن الإمام أحمد، وقال به ابن حبيب من المالكية, وهو قول إسحاق بن راهويه عليه رحمة الله، أن من ترك الحج متعمداً فهو كافر.

وأكثر العلماء وعامتهم إلى عدم الكفر, وقد جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه قال: لقد هممت أن أبعث إلى أقوام عندهم الجدة فلم يحجوا أن يضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين, ما هم بمسلمين, وهذا إسناده صحيح عن عمر بن الخطاب، وهو أظهر وأقوى وأعلى النصوص في كفر تارك الحج عمداً من غير عذر.

وتؤول ذلك على أقوال, منهم من قال: إنه قصد بذلك أن هذا أمارة على الجحد, ولما ظهرت الردة ولم يكن ثمة شواهد على بقاء الناس على ما كانوا عليه, ولكن نقول: هذا فيه نظر؛ لأن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى قال: أن يضربوا عليهم الجزية؛ لأن من كان على الإسلام ثم ترك ما تضرب عليه الجزية, لأنه مرتد يؤمر بدخول الإسلام أو القتل.

وفي قول عمر بن الخطاب: (يضربوا عليهم الجزية) يعني: أنهم ليسوا على الإسلام من جهة الأصل, لا أنهم دخلوا الإسلام ثم خرجوا منه.

وأما الأحاديث التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام في المرفوع بنحو حديث عبد الله بن عمر فلا يثبت في ذلك شيء, جاء من حديث أبي أمامة وجاء من مرسل ابن سابق وجاء من حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى, ومن حديث علي بن أبي طالب , ولا يثبت من ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكل الأحاديث في كفر تارك الحج ضعيفة لا يثبت منها شيء.

المراد بالكفر في قوله تعالى: (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)

وأما في قول الله سبحانه وتعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] , الكفر هنا في هذه الآية حمله غير واحد من السلف على الجحود, وهذا جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله، أن المراد بالكفر هنا قال: وَمَنْ كَفَرَ [آل عمران:97] , يعني: كفر بالتشريع, فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] .

ومنهم من حمله على المعنى العام يعني كفر الفعل, وهذا هو الذي ذهب إليه على ما تقدم من قال بكفر تارك الحج.

الاستطاعة في الحج

وأما بالنسبة للاستطاعة في قول الله سبحانه وتعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97], الاستطاعة في كلام الله سبحانه وتعالى ظاهرة ومردها إلى اختلاف أحوال الناس.

أيضاً تقدم الإشارة معنا إلى مسألة الاستطاعة, وما يجب على الإنسان مما يجب عليه الحج.

ولكن نقول باختصار هنا: إن الاستطاعة في قول الله عز وجل: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97], لا يثبت في تعيين الاستطاعة وتقديرها عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك خبر, وأصح ما جاء في هذا عن عبد الله بن عباس، ما جاء فيما رواه علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس، أنه قال في قول الله عز وجل: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] , قال: هي أن يجد الرجل زاداً وراحلة, وأن يسلم الله له بدنه من غير أن يجحف به.

ويظهر في قول عبد الله بن عباس أنه اشترط في الاستطاعة ثلاثة أشياء: الأول: السلامة البدنية, أن يكون الإنسان سليماً في بدنه, وأن يسير بنفسه ويستقل بها.

وقد اختلف في مقدار ذلك, قالوا في مسألة الأعمى إذا كان الإنسان يستطيع الحج بقائد وهو أعمى أو كان الإنسان فيه عرج ويستطيع أن يحج بالحمل: هل يدخل في هذا الخطاب؟

الأظهر أن الاستطاعة في ذلك إنما هو أن يستقل الإنسان بنفسه, لا أن يعتمد على غيره, فإذا وجد مركباً يقوم بمناسكه، فإنه يجب عليه ويتعين. ونقول: إن الإنسان ربما يجد مركباً يذهب به إلى مكة, ولكن قد لا يجد من يحمله بالطواف إذا كان أشل أو أعرج أو كان أعمى, فيظهر والله أعلم أن الاستطاعة البدنية هنا في قول عبد الله بن عباس المراد بها أن يستقل الإنسان بنفسه.

الشرط الثاني: هو المال, أن يجد الإنسان مالاً وهو الزاد يجد زاداً يعني: يتقوت منه إما بطعام أو بشراب أو بلباس, واختلف في مقدار الزاد, من العلماء من قال: يشترط في الزاد الذي يجب معه الحج أن يوصله إلى البيت الحرام, ولا يقال باشتراط أن يعيده لإمكانه أن يعود بغير مال، إما مع الناس في حال الحج أو يعمل في مكة ثم يرجع؛ لأن الشريعة إنما أوجبت قصد البيت لا الرجوع إلى غيره.

ثم إن الشريعة تحث على المجاورة والقرب من البيت ونحو ذلك, فمن العلماء من يقيد ذلك بالقدرة المالية بالذهاب إلى المسجد الحرام.

والأظهر والله أعلم أن القدرة المالية المرادة بالذهاب والإياب؛ لأن الشريعة لا تتشوف إلى ترك الذرية والأولاد فتوجب على كل أحد أن يجد مالاً أن يذهب إلى المسجد الحرام ولو لم يجد عودة إلى أهله, فذلك يؤدي إلى هجر الأولاد كذلك الأزواج وتضييع الأمانة الواجبة على الإنسان.

وأما الثالث: وهي الراحلة, أن يجد الإنسان في ذلك راحلة تؤديه إلى المسجد الحرام, والرواحل في ذلك تختلف بحسب الحال وبحسب الزمان.

وأما الأحاديث الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن الاستطاعة هي الزاد والراحلة, فالأحاديث في ذلك ضعيفة, جاء في حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى وغيره, والصواب فيها الإرسال؛ لأن المراد بالاستطاعة هي: الزاد والراحلة.

وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في التفاضل بين مكة والمدينة أيها أفضل؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن مكة أفضل من المدينة من جهة ذات البقعة.

وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن المدينة أفضل من مكة, والقول الأول أرجح. ولعله يكون ثمة موضع نتحدث فيه عن التفاضل بين مكة والمدينة.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير آيات الأحكام [30] 2761 استماع
تفسير آيات الأحكام [48] 2722 استماع
تفسير آيات الأحكام [54] 2522 استماع
تفسير آيات الأحكام [22] 2449 استماع
تفسير آيات الأحكام [58] 2335 استماع
تفسير آيات الأحكام [25] 2320 استماع
تفسير آيات الأحكام [35] 2272 استماع
تفسير آيات الأحكام [5] 2253 استماع
تفسير آيات الأحكام [11] 2215 استماع
تفسير آيات الأحكام [55] 2179 استماع