تفسير آيات الأحكام [49]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

مخاطبة المصلي

فنتكلم هذا اليوم على قول الله عز وجل: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، قبل ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39]، هذه تتضمن حكماً قد تجاوزناه، وبالتأمل يظهر أن في هذه الآية حكماً وهذا الحكم هو مخاطبة المصلي.

الصلاة في هذه الآية تحمل على معنيين:

المعنى الأول: تحمل على الدعاء.

والمعنى الثاني: تحمل على الصلاة ذات الركوع والسجود، وهذا قال به غير واحد من المفسرين، وذهب إلى هذا السدي، ورواه ابن المنذر عن جعفر بن محمد عن ثابت البناني عليه رحمة الله، وقد اختار ذلك ابن جرير الطبري رحمه الله كما في التفسير أن المراد بالصلاة هنا هي الصلاة ذات الركوع والسجود، فنداء الملائكة له هنا بأن الله عز وجل يبشره بغلام هذا هل هو مما له صلة بالصلاة من جنسها، أم خلاف ذلك؟

ظاهر هذا أنه إجابة لدعائه في الصلاة، وإجابة الدعاء في الصلاة والإخبار بذلك هذا أمر ليس من كنه الصلاة، فدل على جواز مخاطبة المصلي لظاهر هذه الآية، ولا شك أن هذا في شرعتهم جائز وصحيح، ولكن هل هو في شرعة أمة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟

نقول من جهة الأصل: أن ما يتعلق بالمصلي شيء، وما يتعلق بغير المصلي من جهة خطابه شيء آخر، فقد يجب على المصلي حكم، ويجب على من كان خارج الصلاة تجاه المصلي حكمٌ آخر.

بالنسبة للمصلي أمره الله عز وجل بالإنصات، كما تقدم معنا في قول الله عز وجل: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وقد جاء في ذلك حديث زيد بن أرقم قال: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نهينا عن ذلك)، وذلك في قول الله جل وعلا: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، يعني: صامتين ممسكين خاشعين، وهذا المعنى تقدم الإشارة معنا إليه، ويكفي في ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن هذه الصلاة لا يجوز فيها الكلام، وإنما هي للتسبيح والتهليل وقراءة القرآن ).

إذاً: فيحرم على المصلي أن يتكلم في صلاته، وأما بالنسبة لمخاطبة المصلي بأي نوع من أنوع الخطاب، نقول: إن الخطاب في ذلك على حالين: خطاب يتعلق بالصلاة، كبيان حكم للمصلي، كأن يكون على ثوبه نجس، أو توجه إلى غير القبلة، فذلك جائز، ولهذا جاء في حديث البراء لما غيرت القبلة، فجاء إلى مسجد قباء، فقال لهم: إن القبلة قد غيرت، فداروا كما هم، فهذا الخطاب يتوجه إلى مصلٍ، فإذا توجه فيما هو من ذات الصلاة فإن هذا جائز، وقد يتأكد إذا كان ذلك يتعلق به حكم من الأحكام الشرعية.

الحالة الثانية: إذا كان ذلك في شيء خارج الصلاة، ولا صلة للمصلي به، فنقول: إنه على حالين: الحالة الأولى: إذا كان ذلك يمكن إرجاؤه، فالأولى إرجاؤه حتى لا ينشغل المصلي في صلاته، وأما إذا كان ذلك لا يمكن إرجاؤه، فنقول: يجوز للإنسان أن يخاطب المصلي، ولو خاطبه في أمرٍ يمكن إرجاؤه لا تبطل صلاة المصلي، ولا يأثم المخاطب باعتبار أن هذا من الأشياء العارضة، وإنما التفريق بين الحالين، بين فاضل ومفضول؛ لأن المصلي يخاطب وليس هو من أهل التكليف؛ لأنه مأمور بالإنصات، أما بالنسبة للسماع فهذا أمر خارج عن الصلاة ومسكوت عنه، ولكن هذا هو فرع عن مسألة من المسائل وهي الخشوع في الصلاة: هل الخشوع في الصلاة واجب أم لا؟ اختلف العلماء عليهم رحمة الله في الخشوع في الصلاة على قولين: ذهب عامة العلماء إلى أن الخشوع في الصلاة ليس بواجب، وأنه متأكد، وذهب بعض العلماء إلى وجوبه، وهذا ظاهر قول البخاري رحمه الله.

ويختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في المقدار الذي إذا لم يع الإنسان شيئاً من صلاته فإنه يجب عليه أن يعيدها، وهذا ليس محل البحث عندنا في هذه الآية.

ولهذا نقول: إن مخاطبة المصلي بالقدر الذي لا يشغله في صلاته جائز، لهذه الآية، وكذلك بعض الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض أصحابه عليهم رضوان الله، ومن ذلك ما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى، وذلك في صلاة الكسوف لما سئلت وهي في الصلاة: فأشارت بيدها إلى السماء يعني: أن الشمس قد كسفت، فهذا دليل على أمرين:

الأمر الأول: جواز مخاطبة المصلي.

الأمر الثاني: جواز مخاطبة المصلي غيره بالإشارة، كأن يسأله عن أمر فيشير إلى موضعه، فهذا جائز.

ويدل هذا وهو في الصحيح على نكارة الحديث الذي جاء من حديث أبي غطفان عن أبي هريرة فيما يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعدها )، وهذا الحديث منكر، قد أنكره جماعة من الأئمة، كـأبي حاتم وغيره، بل حكم بعض العلماء بوضعه، وهذا هو الأظهر؛ لأنه يخالف الأحاديث الثابتة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عن جماعة من أصحابه.

فعلى هذا نقول: إن مخاطبة المصلي جائزة بكل حال، ولكن إذا كان ذلك يمكن إرجاؤه فهو الأولى.

بذل السلام على المصلي

ويتفرع لدينا هنا جملة من المسائل، منها: بذل السلام على المصلي، هل يشرع ذلك أم لا؟

نقول: بالنسبة لبذل السلام على المصلي هذا قد اختلف العلماء عليهم رحمة الله فيه على قولين: ذهب جمهور العلماء إلى استحباب ذلك، وهذا القول ذهب إليه الإمام مالك، و الشافعي، وأحمد، وأبو ثور أنه يستحب بذل السلام على المصلي، قالوا: لعموم الأدلة، وكذلك يعلل هذا بأن بذل السلام فيه تأمين وتطمين، أن الإنسان ربما يدخل عليه ولا يعلم من الداخل عليه وهو في صلاته، فإذا بذل السلام عليه ولو لم يرد السلام فإن هذا يعطيه تأميناً وتطميناً في صلاته، ولهذا نقول: العلة والحكمة من ذلك قائمة، ولو كان المسلم يعذر المصلي في عدم رده للسلام لمعرفته بأنه في صلاة.

وذهب أبو حنيفة إلى كراهة السلام على المصلي، وأما من قال بالكراهة فيستدلون بعموم وجوب الإنصات، وكذلك بأدلة الخشوع، ويستدلون بما جاء في حديث عبد الله بن مسعود قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرد علينا، ثم إنا سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقال: إن الله عز وجل يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة، نقول: هذا الحديث ليس فيه دليل على تحريم التسليم، وإنما فيه دليل على كراهة رد السلام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة )، يعني: يعتذر في عدم رده عليه.

وهذا إشارة إلى أنه لا يجوز للمصلي أن يرد السلام، ورد المصلي للسلام قد اختلف فيه، ذهب جماهير العلماء إلى تحريم ذلك، وهذا القول ذهب إليه الأئمة الأربعة، وهو قول الإمام مالك و الشافعي و أبي حنيفة وأحمد عليهم رحمة الله، إلى أن رد السلام يحرم على المصلي، و أبو حنيفة رحمه الله على ما تقدم يرى كراهة بذل التحية، فرد المصلي عنده من باب أولى.

وقد ذهب بعض السلف إلى جواز رد التحية، وهذا قد جاء عن ابن المسيب، وابن شهاب الزهري لعموم الأدلة، قالوا: وكذلك فإن رد السلام فيه ذكر ودعاء من جنس الصلاة، فهو يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فهذا دعاء، فلو دعا الإنسان من غير تحية بذلت إليه، أن الله عز وجل يسلم ويؤمن فلاناً، وينزل عليه رحمته وبركاته، صح منه ذلك، ولكن من يقول بالكراهة والمنع، قال: لأن النية والمقصد في ذلك يختلف، والأظهر في هذا هو المنع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالإنصات في الصلاة، وهذا ظاهر القرآن، كذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام أقر الصحابة حينما أنكروا على من شمت عاطساً وهو يصلي، كما جاء في حديث معاوية بن الحكم قال: ( عطس رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصلاة فحمد الله فشمته، قال: فابتدرني الناس بأبصارهم ) إلى آخر الخبر، فيه إشارة إلى إقرار النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك منعه من تشميت العاطس.

وتشميت العاطس من جهة الأمر جاء فيه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأكيد، حتى قال بعض العلماء بوجوب تشميت العاطس، فهو من جهة التأكيد يقارب السلام، أو قد يتأكد عليه، فإذا نهي ذلك في تشميت العاطس فإنه في رد السلام من باب أولى.

ولهذا نقول: إنها تشرع التحية من غير المصلي للمصلي، وأما رد المصلي فهذا على حالين: الحالة الأولى: باللفظ، وقد تقدمت، وهذا منهي عنه، لعموم الأدلة، وهذا قول الأئمة الأربعة، وأما بالإشارة فإن هذا جائز، وقيل بسنته، والأدلة في هذا استدل بما جاء في حديث عبد الله بن عمر في سؤاله لـبلال قال: ( كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم السلام إذا سلموا عليه؟ فقال: بالإشارة ) وكذلك ما جاء في حديث صهيب، وهو في السنن: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرد بالإشارة ) وكذلك في حديث جابر وهو في صحيح الإمام مسلم في رد السلام بالإشارة، وجاء ذلك عن غير واحد من الصحابة، جاء ذلك عن عبد الله بن عمر فيما رواه مالك في كتابه الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه رأى رجلاً يصلي فسلم عليه فرد السلام فقال: إن رد السلام يكون بالإشارة بيدك، وجاء ذلك عن عبد الله بن عباس بإسناد صحيح، كما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف، أن رجلاً سلم عليه فقبض ابن عباس يده، يعني: رد السلام كأنه حركها، وهذا أظنه هكذا كأنه أشار بيده إلى شيء من التحية، نقول: هذا من الأمور المباحة، وقيل بسنتها باعتبار ورودها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأظهر أنها سنة، وعلى من قال بوجوب رد السلام عند بذله من أحد، وهذا هو القول الصحيح، فإنه لا يوجبها في هذا الموضع؛ لتأكد الإنصات وتحول الرد من اللفظ إلى الإشارة؛ لأن الوجوب يكون باللفظ، وإذا منع من اللفظ فإنه يتحول إلى الإشارة، والعذر قد قام في ذلك، وإساءة الظن مدفوعة؛ لأنه مأمور بالإنصات.

الحركة في الصلاة

فأما بالنسبة لحركة المصلي في صلاته لأمرٍ من غير الصلاة، معلوم أن الله عز وجل إنما أمر بالإنصات والقنوت في الصلاة لأجل الخشوع والسكينة، حتى لا يخرج الإنسان الصلاة عن وقارها وسمتها، فإذا قلنا بهذا: فهل الحركة في الصلاة تأخذ حكم الكلام؟ نقول: إن الحركة في الصلاة لا تأخذ حكم الكلام من جهة الأصل، باعتبار أن الكلام إذا تكلم المصلي متعمداً فإن صلاته باطلة، ولو كانت كلمة واحدة فتبطل بذلك صلاته، فلو نادى رجلاً: أن هلم إلي، أو اذهب، أو غير ذلك، بطلت صلاته، وأما بالنسبة للحركة فلا تبطل بمثل هذا المقدار، كأن يشير الإنسان بيده أو نحو ذلك، أو يشير إلى السماء كما جاء في حديث عائشة في صلاة الكسوف، فنقول: إن هذا لا تبطل به الصلاة، ولكن ما هو المقدار في هذا؟

نقول: الحركة في الصلاة جائزة إذا كانت لحاجة ولا تذهب جوهر الصلاة من جهة الطمأنينة والخشوع، والأدلة على ذلك كثيرة، سواءً كان ذلك في المرفوع أو الموقوف، منها: ما جاء في حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اقتلوا الأسودين في الصلاة )، وهذا دليل على جواز قتل الحيات والعقارب وما يؤذي الإنسان، ولو كان في ذلك حركة، ومعلوم أن قتل الإنسان للحية والعقرب يلزم من ذلك حركة وذهاب وتحرك بجسمه كله أو ربما يلزم من ذلك شيء من الانحراف اليسير، فهذا لا يضر، لمصلحة الصلاة.

وكذلك جاء عند أبي داود من حديث عائشة عليها رضوان الله، أنها استفتحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الباب وهو في صلاة ففتح لها، وجاء في ذلك جملة من الأحاديث الموقوفة، نقول: هذه في الأشياء العارضة اليسيرة التي لا تبطل أصل الطمأنينة ولا الخشوع، فإن ذلك لا ينافي أصل الصلاة، ولا القنوت فيها، وحينئذٍ يقال بجوازه.

فنتكلم هذا اليوم على قول الله عز وجل: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، قبل ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39]، هذه تتضمن حكماً قد تجاوزناه، وبالتأمل يظهر أن في هذه الآية حكماً وهذا الحكم هو مخاطبة المصلي.

الصلاة في هذه الآية تحمل على معنيين:

المعنى الأول: تحمل على الدعاء.

والمعنى الثاني: تحمل على الصلاة ذات الركوع والسجود، وهذا قال به غير واحد من المفسرين، وذهب إلى هذا السدي، ورواه ابن المنذر عن جعفر بن محمد عن ثابت البناني عليه رحمة الله، وقد اختار ذلك ابن جرير الطبري رحمه الله كما في التفسير أن المراد بالصلاة هنا هي الصلاة ذات الركوع والسجود، فنداء الملائكة له هنا بأن الله عز وجل يبشره بغلام هذا هل هو مما له صلة بالصلاة من جنسها، أم خلاف ذلك؟

ظاهر هذا أنه إجابة لدعائه في الصلاة، وإجابة الدعاء في الصلاة والإخبار بذلك هذا أمر ليس من كنه الصلاة، فدل على جواز مخاطبة المصلي لظاهر هذه الآية، ولا شك أن هذا في شرعتهم جائز وصحيح، ولكن هل هو في شرعة أمة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟

نقول من جهة الأصل: أن ما يتعلق بالمصلي شيء، وما يتعلق بغير المصلي من جهة خطابه شيء آخر، فقد يجب على المصلي حكم، ويجب على من كان خارج الصلاة تجاه المصلي حكمٌ آخر.

بالنسبة للمصلي أمره الله عز وجل بالإنصات، كما تقدم معنا في قول الله عز وجل: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وقد جاء في ذلك حديث زيد بن أرقم قال: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نهينا عن ذلك)، وذلك في قول الله جل وعلا: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، يعني: صامتين ممسكين خاشعين، وهذا المعنى تقدم الإشارة معنا إليه، ويكفي في ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن هذه الصلاة لا يجوز فيها الكلام، وإنما هي للتسبيح والتهليل وقراءة القرآن ).

إذاً: فيحرم على المصلي أن يتكلم في صلاته، وأما بالنسبة لمخاطبة المصلي بأي نوع من أنوع الخطاب، نقول: إن الخطاب في ذلك على حالين: خطاب يتعلق بالصلاة، كبيان حكم للمصلي، كأن يكون على ثوبه نجس، أو توجه إلى غير القبلة، فذلك جائز، ولهذا جاء في حديث البراء لما غيرت القبلة، فجاء إلى مسجد قباء، فقال لهم: إن القبلة قد غيرت، فداروا كما هم، فهذا الخطاب يتوجه إلى مصلٍ، فإذا توجه فيما هو من ذات الصلاة فإن هذا جائز، وقد يتأكد إذا كان ذلك يتعلق به حكم من الأحكام الشرعية.

الحالة الثانية: إذا كان ذلك في شيء خارج الصلاة، ولا صلة للمصلي به، فنقول: إنه على حالين: الحالة الأولى: إذا كان ذلك يمكن إرجاؤه، فالأولى إرجاؤه حتى لا ينشغل المصلي في صلاته، وأما إذا كان ذلك لا يمكن إرجاؤه، فنقول: يجوز للإنسان أن يخاطب المصلي، ولو خاطبه في أمرٍ يمكن إرجاؤه لا تبطل صلاة المصلي، ولا يأثم المخاطب باعتبار أن هذا من الأشياء العارضة، وإنما التفريق بين الحالين، بين فاضل ومفضول؛ لأن المصلي يخاطب وليس هو من أهل التكليف؛ لأنه مأمور بالإنصات، أما بالنسبة للسماع فهذا أمر خارج عن الصلاة ومسكوت عنه، ولكن هذا هو فرع عن مسألة من المسائل وهي الخشوع في الصلاة: هل الخشوع في الصلاة واجب أم لا؟ اختلف العلماء عليهم رحمة الله في الخشوع في الصلاة على قولين: ذهب عامة العلماء إلى أن الخشوع في الصلاة ليس بواجب، وأنه متأكد، وذهب بعض العلماء إلى وجوبه، وهذا ظاهر قول البخاري رحمه الله.

ويختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في المقدار الذي إذا لم يع الإنسان شيئاً من صلاته فإنه يجب عليه أن يعيدها، وهذا ليس محل البحث عندنا في هذه الآية.

ولهذا نقول: إن مخاطبة المصلي بالقدر الذي لا يشغله في صلاته جائز، لهذه الآية، وكذلك بعض الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض أصحابه عليهم رضوان الله، ومن ذلك ما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى، وذلك في صلاة الكسوف لما سئلت وهي في الصلاة: فأشارت بيدها إلى السماء يعني: أن الشمس قد كسفت، فهذا دليل على أمرين:

الأمر الأول: جواز مخاطبة المصلي.

الأمر الثاني: جواز مخاطبة المصلي غيره بالإشارة، كأن يسأله عن أمر فيشير إلى موضعه، فهذا جائز.

ويدل هذا وهو في الصحيح على نكارة الحديث الذي جاء من حديث أبي غطفان عن أبي هريرة فيما يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعدها )، وهذا الحديث منكر، قد أنكره جماعة من الأئمة، كـأبي حاتم وغيره، بل حكم بعض العلماء بوضعه، وهذا هو الأظهر؛ لأنه يخالف الأحاديث الثابتة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عن جماعة من أصحابه.

فعلى هذا نقول: إن مخاطبة المصلي جائزة بكل حال، ولكن إذا كان ذلك يمكن إرجاؤه فهو الأولى.

ويتفرع لدينا هنا جملة من المسائل، منها: بذل السلام على المصلي، هل يشرع ذلك أم لا؟

نقول: بالنسبة لبذل السلام على المصلي هذا قد اختلف العلماء عليهم رحمة الله فيه على قولين: ذهب جمهور العلماء إلى استحباب ذلك، وهذا القول ذهب إليه الإمام مالك، و الشافعي، وأحمد، وأبو ثور أنه يستحب بذل السلام على المصلي، قالوا: لعموم الأدلة، وكذلك يعلل هذا بأن بذل السلام فيه تأمين وتطمين، أن الإنسان ربما يدخل عليه ولا يعلم من الداخل عليه وهو في صلاته، فإذا بذل السلام عليه ولو لم يرد السلام فإن هذا يعطيه تأميناً وتطميناً في صلاته، ولهذا نقول: العلة والحكمة من ذلك قائمة، ولو كان المسلم يعذر المصلي في عدم رده للسلام لمعرفته بأنه في صلاة.

وذهب أبو حنيفة إلى كراهة السلام على المصلي، وأما من قال بالكراهة فيستدلون بعموم وجوب الإنصات، وكذلك بأدلة الخشوع، ويستدلون بما جاء في حديث عبد الله بن مسعود قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرد علينا، ثم إنا سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقال: إن الله عز وجل يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة، نقول: هذا الحديث ليس فيه دليل على تحريم التسليم، وإنما فيه دليل على كراهة رد السلام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة )، يعني: يعتذر في عدم رده عليه.

وهذا إشارة إلى أنه لا يجوز للمصلي أن يرد السلام، ورد المصلي للسلام قد اختلف فيه، ذهب جماهير العلماء إلى تحريم ذلك، وهذا القول ذهب إليه الأئمة الأربعة، وهو قول الإمام مالك و الشافعي و أبي حنيفة وأحمد عليهم رحمة الله، إلى أن رد السلام يحرم على المصلي، و أبو حنيفة رحمه الله على ما تقدم يرى كراهة بذل التحية، فرد المصلي عنده من باب أولى.

وقد ذهب بعض السلف إلى جواز رد التحية، وهذا قد جاء عن ابن المسيب، وابن شهاب الزهري لعموم الأدلة، قالوا: وكذلك فإن رد السلام فيه ذكر ودعاء من جنس الصلاة، فهو يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فهذا دعاء، فلو دعا الإنسان من غير تحية بذلت إليه، أن الله عز وجل يسلم ويؤمن فلاناً، وينزل عليه رحمته وبركاته، صح منه ذلك، ولكن من يقول بالكراهة والمنع، قال: لأن النية والمقصد في ذلك يختلف، والأظهر في هذا هو المنع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالإنصات في الصلاة، وهذا ظاهر القرآن، كذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام أقر الصحابة حينما أنكروا على من شمت عاطساً وهو يصلي، كما جاء في حديث معاوية بن الحكم قال: ( عطس رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصلاة فحمد الله فشمته، قال: فابتدرني الناس بأبصارهم ) إلى آخر الخبر، فيه إشارة إلى إقرار النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك منعه من تشميت العاطس.

وتشميت العاطس من جهة الأمر جاء فيه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأكيد، حتى قال بعض العلماء بوجوب تشميت العاطس، فهو من جهة التأكيد يقارب السلام، أو قد يتأكد عليه، فإذا نهي ذلك في تشميت العاطس فإنه في رد السلام من باب أولى.

ولهذا نقول: إنها تشرع التحية من غير المصلي للمصلي، وأما رد المصلي فهذا على حالين: الحالة الأولى: باللفظ، وقد تقدمت، وهذا منهي عنه، لعموم الأدلة، وهذا قول الأئمة الأربعة، وأما بالإشارة فإن هذا جائز، وقيل بسنته، والأدلة في هذا استدل بما جاء في حديث عبد الله بن عمر في سؤاله لـبلال قال: ( كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم السلام إذا سلموا عليه؟ فقال: بالإشارة ) وكذلك ما جاء في حديث صهيب، وهو في السنن: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرد بالإشارة ) وكذلك في حديث جابر وهو في صحيح الإمام مسلم في رد السلام بالإشارة، وجاء ذلك عن غير واحد من الصحابة، جاء ذلك عن عبد الله بن عمر فيما رواه مالك في كتابه الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه رأى رجلاً يصلي فسلم عليه فرد السلام فقال: إن رد السلام يكون بالإشارة بيدك، وجاء ذلك عن عبد الله بن عباس بإسناد صحيح، كما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف، أن رجلاً سلم عليه فقبض ابن عباس يده، يعني: رد السلام كأنه حركها، وهذا أظنه هكذا كأنه أشار بيده إلى شيء من التحية، نقول: هذا من الأمور المباحة، وقيل بسنتها باعتبار ورودها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأظهر أنها سنة، وعلى من قال بوجوب رد السلام عند بذله من أحد، وهذا هو القول الصحيح، فإنه لا يوجبها في هذا الموضع؛ لتأكد الإنصات وتحول الرد من اللفظ إلى الإشارة؛ لأن الوجوب يكون باللفظ، وإذا منع من اللفظ فإنه يتحول إلى الإشارة، والعذر قد قام في ذلك، وإساءة الظن مدفوعة؛ لأنه مأمور بالإنصات.