تفسير آيات الأحكام [46]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنتكلم هذا اليوم على قول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280]، الله سبحانه وتعالى بعدما ذكر الربا وخطره وعظمه، وعظم أثره على الإنسان في نفسه وماله وولده ووقته، بين سبحانه وتعالى أن من كان عليه دين ربما يلحق به عسر وهي الشدة وعدم الجدة، والله سبحانه وتعالى حينما حرم الربا كان مسكوتاً عنه قبل ذلك وإن دلت بعض الفطر على تحريمه ومنعه، فبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن ثمة من كان من المتبايعين أو من المتداينين من يكون على عسر وشدة، فصاحب العسر الذي يجب عليه الوفاء، فإنه ينظر في المال الذي يكون في ذمته؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] المراد بالعسر هو ضد اليسر كما هو ظاهر، ومعنى ذلك: من كان عادماً للوفاء فإنه ينظر حتى يجد الإنسان وفاءً، والأمر في ذلك في قول الله عز وجل: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، هذا إرشاد بصيغة الأمر.

إنظار المعسر

قال: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في إنظار المعسر، هل هو على الوجوب أم على الاستحباب، على قولين: ذهب قوم إلى الوجوب لظاهر هذه الآية، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر بالإنظار في قوله: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، وهذا يفيد الوجوب، كما في قول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة:196]، فالفدية هنا حقها الوجوب في مال الإنسان، وكذلك في الإعسار، وذهب جمهور العلماء إلى أن الإنظار على الاستحباب؛ لأن المال حق لصاحب الدين، وإنظاره في ذلك لا يعني إضراراً بمن عليه دين، فإنه إذا ثبت إعساره يقيناً فإنه لا يجوز للقاضي أن يحبس المعسر، وهذا يأتي الإشارة إليه.

وظاهر ذلك أن الله سبحانه وتعالى أرشد أصحاب الأموال إلى أن ينظروا من عليهم دين إذا كانوا معسرين، وهذا لما كان الناس يتبايعون بالربا، وكانت رءوس الأموال معلقة عند الناس، أرشد الله سبحانه وتعالى أولئك إلى الإنظار.

ويدل على أن الإنظار على الاستحباب لا على الوجوب، أن النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على الترغيب، لا لرفع الإثم والحرج، ومن ذلك: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن مسعود كما رواه ابن ماجه وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أقرض مسلماً مرتين فكأنما تصدق مرة )، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في رفع هذا الحديث ووقفه، مع القول بصحته موقوفاً، ذهب جماعة من الأئمة كـالدارقطني و البيهقي إلى أن الحديث موقوف، وفي هذا إلى أن الإقراض من جهة الإنسان إذا أقرض أحداً فيه حب لليسار وعدم المشقة عليه، فبدلاً من أن يقرضه مرة يقرضه مرتين، ففي هذا نوع من الإنظار وزيادة، وكذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما روى الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أنظر معسراً فله بكل يوم حسنة )، قال: وقال النبي عليه الصلاة والسلام مرة: ( من أنظر معسراً فله بكل يوم صدقتان، قال: فقلت: يا رسول الله! إنك قلت مرةً: له بكل يوم صدقة، وقلت مرة: بكل يوم صدقتان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لم يبلغ الأجل )، ما لم يبلغ الأجل فله بكل يومٍ صدقة، وإذا بلغ الأجل فله عن كل يوم صدقتان، وإسناده صحيح، هذا ترغيب بإنظار المعسر، ولو كان صاحب الدين آثماً بأنه لا ينظر المعسر لكان الدلالة والإرشاد في ذلك إلى رفع الحرج والإثم عن نفسه، وإنما أراد من ذلك أن يؤخر حقه في ذلك، وهذا يعضده ما جاء في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان رجل يداين الناس، فقال لفتاه: اذهب فإذا وجدت معسراً فأنظره، قال: ففرج الله عنه )، وهذا فيه إنظار المعسر، وأنه على الاستحباب، ولم يأت نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على الوجوب، وأن من لم ينظر معسراً فإنه آثم، وكذلك الدلالة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من فرج كربة مؤمن فرج الله عنه يوم القيامة )، هذا من تنفيس الكربات وتفريجها، وهي داخلة في عموم الاستحباب.

ضابط المعسر

وقوله جل وعلا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، المعسر هو الذي لا يجد وفاءً لدينه الذي عليه، والوفاء في ذلك ما زاد عن حاجته، وحاجته في ذلك هو مأكل ومشرب ومسكن وملبس، مما يكفيه ويكفي عياله، فإن زاد عن ذلك فإنه واجد بمقدار الدين الذي عليه، وإذا كان الرجل معسراً فهل يجب على الحاكم أن يبيع ماله مما زاد عن كفافه؟

نقول: إذا كان ذلك وفاءً أو يطمع صاحب الحق في ذلك، فنقول: إن له أن يبيع ذلك المال ويبقي له المسكن، والمأكل والمشرب والملبس، وما عدا ذلك فإنه يكون للغرماء، وهذا بالنسبة للديون بخلاف الأمانات، الديون في ذلك لا يجب أن تنزع من الإنسان مما يحتاج إليه الإنسان وذلك في مسكنه، أن يخرج من مسكنه إذا كان عليه دين لا يجوز هذا، كذلك من ملبسه ومأكله ومشربه أن ينزع منه ذلك، ولكن إذا كان أمانة فإن أمانة عينية معروفة فإنها تنتزع منه ولو كانت بيتاً، أو مركباً، أو مطعماً، كإنسان أخذ أمانة من شخص داراً على أن يعيدها إليه بعد عام، فهل يقال: إن هذا دين فلا يجوز أن يخرج الإنسان من داره؟

نقول: فرق بين الدين وبين الأمانة، الأمانة عينية، فيجب على الإنسان أن يعيدها بعينه، ولكن إذا أقرض الإنسان أحداً قرضاً فأعطاه قرضاً مائة ألف أو أكثر من ذلك أو أقل، ثم اشترى بها داراً، ولم يجد وفاءً، فهل يقال: اخرج من بيتك وأعطها فلاناً؟ لا؛ لأن هذا دين وليس بعين، فلا يتحول إلى الأمانة، ومثل ذلك إذا كان الدين الذي في ذمة الإنسان عيناً ولكنه وليس بصورة الدين، ولكنه بيع إلى أجل، كأن يبيع الإنسان أحداً ثوباً، أو يبيعه طعاماً، أو يبيعه داراً، فكان هذا بيعاً وليس بأمانة ووديعة، فلا يجوز إخراجه حينئذٍ، أما إذا كان أمانةً، فيقال: دع عندك هذا الطعام حتى آتيه بعد شهر، أو بعد شهرين لآخذه منك لسفري أو نحو ذلك، فإنه يجب عليه أن يعيده بعينه، ولو ادعى حاجته في ذلك ففرق بين الدين وبين ما كان أمانة، فإن الله عز وجل أمر بأداء الأمانة إلى أهلها.

والله سبحانه وتعالى إنما ذكر هذه الآية بعد أحكام الربا لوجود تعلق من أموال الناس فيهم، فبين الله سبحانه وتعالى أن لهم رءوس الأموال، وما عدا ذلك فإنه لا يجوز أن يستوفوه، وهذه رءوس الأموال هي التي أمر الله عز وجل بالإنظار فيها، والى هذا نص جماعة من العلماء كـعبد الله بن عباس، و عطاء، و ابن جريج ، و شريح القاضي ، وغيرهم من المفسرين، أن الإنظار هنا إنما كان في الدين، وما كان من بقايا الربا من رءوس الأموال، وأما بالنسبة للأمانات فإن الآية ليست بداخلة في هذا الباب.

الصدقة على المعسر

وقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280] ذكر الله عز وجل الإنظار، وبعد أن ذكر إنظار المعسر ذكر الصدقة عليه، يعني: أن من المعسرين من لا يجد وفاءً، فإنه يستحب حينئذٍ أن يتصدق عليه بالمال، فهي معدودة من جملة الصدقات، ولكن هل تكون هذه الصدقة من جملة الصدقات الفاضلة أو دون ذلك، ومعلوم أن الصدقة التي يخرجها الإنسان من ماله، ثم يعطيها الفقير، فهذه أعظم أجراً من الدين الذي يعطيه الإنسان أحداً، ثم بعد ذلك يريد وفاءً، فإذا أيس منه أسقطه عنه، فإن إسقاط الدين صدقة عن الإنسان يأتي مرتبة بعد الصدقة التي يخرجها الإنسان؛ لأن الصدقة التي يخرجها الإنسان لا يرجو لها وفاءً، ولا تظهر فيها المنة، وهي أظهر بكسر شح النفوس، بخلاف الدين الذي يدفعه الإنسان لغيره ثم يقوم الإنسان بإسقاطه.

ولهذا نقول: إن الشارع إنما ذكر الإنظار ثم ذكر الصدقة بعد ذلك ولم يقدم الصدقة على الإنظار؛ لأن النفوس مجبولة على حب حقها، فذكر الله سبحانه وتعالى الإنظار، ثم بعد ذلك الصدقة حفظاً لحق صاحب المال، وإذا بان للإنسان أن فلاناً عاجز عن الوفاء، فأنظره مراراً ولم يف، وسبر حاله وكان عاجزاً، فإنه يستحب في حقه أن يتصدق عليه.

إسقاط الدين عن الفقير

وهنا مسألة وهي: إسقاط الدين عن الفقير: هل يجزئ عن الزكاة أم لا؟ يعني: أن الإنسان لديه نصاب زكاة وهو غني وصاحب يسار، ووجب في ماله زكاة، ثم قال: إن لي ديناً عند فلان ومقداره كذا، فهل له أن يسقط الدين الذي في حقه عند فلان من نصاب زكاته التي تحول عليه أم لا؟

نقول: هذه المسألة محل خلاف عند العلماء على ثلاثة أقوال:

جمهور العلماء أن ذلك لا يجزئ، بل هو قول عامتهم، وحكى بعضهم عدم معرفة النزاع في هذا الباب كما نص عليه جماعة من الأئمة عليهم رحمة الله كـابن تيمية وغيره، ونص الإمام أحمد و أبو حنيفة ، وجاء عن جماعة من الفقهاء من الشافعية إلى أن إبراء ذمة الفقير من الدين الذي عليه أن هذا لا يكون من الزكاة، وهذا القول هو الذي عليه عامة الفقهاء من السلف والخلف، وهذا هو الأظهر بالصواب، وثمة قول جاء عن عطاء إلى أن هذا يجزئ عن الزكاة، ويروى عن الحسن البصري في الديون التي تكون بالمال ولا تكون مبايعة، ألا تكون عيناً بدين، كالتجارة كأن يبيع الإنسان شيئاً ويبقى لديه حق عند أحدٍ، فهذا من المتاجرة، أما المراد بكلام الحسن البصري فهو القرض: أن يقرض الإنسان واحداً ثم يعجز عنه، وهذا القول قول غريب، قال به الظاهرية.

القول الثالث: قالوا: إن الأصل عدم الجواز ولكنه يستثنى في حالة، وهي: أن الإنسان إذا كان يطلب أحداً مالاً ثم أسقط زكاة المال الذي عنده من المال الذي على الفقيه، فهو لم يسقط المال نصاب الزكاة التي عنده في ماله، وإنما أسقط نصاب الزكاة الذي عند الفقير، وهذا مثاله أن يكون الإنسان لديه مبلغ من المال، كأن يكون لديه مائة ألف، وقد أدان شخصاً فقيراً عشرة آلاف، وحال عليه الحول ولم يستطع حينئذٍ الوفاء، فيقول: إن إسقاطه لما عنده من نصاب الزكاة الذي لديه وهي التسعون، أن هذا لا يجزئ، أما إسقاطه نصاب الزكاة من العشرة التي أقرضها وهي ربع العشر، فهذا جائز، وهذا ذهب إليه ابن تيمية رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد قال: لأن إسقاط الإنسان وإبراءه لذمة الرجل المدين أنه أخرج زكاة ماله من جنس ماله، فهو أخرج زكاة الدين من الدين، وهذا قول له وجاهته، أما ما عدا ذلك فلا يجزئ، فلا يقول الإنسان: إني أنا لي الآن وجبت علي الزكاة، وقيمة الزكاة عندي مثلاً ألف أو ألفان، وأطلب فلاناً كذا، فأقوم بإبراء ذمتي، فهذا ليس بصحيح، لماذا؟ نقول: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية ذكر الإنظار وحث عليه في قوله جل وعلا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280]، ثم ذكر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك الصدقة، وما أمر بإبراء الذمة وإنما أمر بالتصدق عليه ولو كان أمر الزكاة يسقط على الإنسان الدين لحث الشارع عليه؛ لأنه أولى من الصدقة، ثم إن الله جل وعلا قد جعل الزكاة على صفة معلومة تؤخذ من مال الإنسان ثم توضع في الفقير، وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، وكذلك في حديث عبد الله بن عباس لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن، قال عليه الصلاة والسلام: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أغنيائهم تؤخذ فترد في فقرائهم ).

إذاً: تؤخذ على أنها زكاة، وتعطى على أنها زكاة للفقير، وأما بالنسبة للدين فأخذ من مال الغريم على أنه دين، ثم أعطي الفقير، فلما أيس منه الغني أسقطه، ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى إنما جعل الزكاة تخرج ابتداءً وتؤخذ طهرة للإنسان: صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103]، أي: أن المراد من ذلك هو الإخراج، وتطهيراً لنفوسهم من الشح، أما بالنسبة للدين إذا أخرجه الإنسان أخرجه وهو يرجو عودته، والزكاة إذا أخرجها الإنسان أخرجها بطيب نفس امتثالاً لأمر الله من غير أن يرجو من الناس عوداً في ذلك، ولا يظهر في الزكاة منة بخلاف الدين، فإن الدين فيه منة، وإذا أسقطه الإنسان امتن على غيره.

بالنسبة للزكاة ليس فيها منة من الغني على الفقير، وإنما هي من الله سبحانه وتعالى، وإذا قلنا بأن إسقاط الدين يقوم مقام الزكاة وما فيه من كسر لنفس الفقير، فهذا لا تأتي به الشريعة.

ولهذا نقول أيضاً: إن الزكاة إنما تجب في مال الإنسان عيناً، يعني: معلومة من عين ماله، وأما بالنسبة للدين فإنه واجب ديناً لا عيناً، فمثلاً يكون الإنسان لديه ورق من النقدين، أو يكون لديه الزكاة في عروض التجارة، أو يكون الزكاة لديه من الإبل والبقر والغنم ونحو ذلك، فهي معلومة عيناً، بخلاف الزكاة الذي عند فلان فهي دين عليه، فليس للإنسان أن يخرج ما وجب عليه عيناً فيسقطه من ذلك ديناً، فهذا ليس من جنسه، ولهذا نقول: إن إبراء ذمة المدين بدينه زكاة أن هذا لا يجزئ عن صاحب المال، وهذا ظاهر، ولو كان ذلك مشروعاً لحث عليه النبي عليه الصلاة والسلام ولو مرة بنص ظاهر، وكذلك الخلفاء الراشدون، وكذلك حث عليه الصحابة، لا يعلم عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال بإبراء ذمة المدين من دينه الذي عليه عن الزكاة، وأن ذلك يجزئ عنه، مع كثرة الديون وحاجة الناس، فدل هذا على عدم اعتبار ذلك.

اعتبار إسقاط الدين عن الفقير من الزكاة

وأما الصدقة المذكورة في قول الله جل وعلا: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280]، المراد بهذا: هو الصدقة وإسقاطها نفقة وتبرعاً لا زكاةً، وهذا ظاهر، وهذا في قوله جل وعلا: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280]، يعني: تجعلونها صدقة، فذكر الخيرية يعني أنها على الاستحباب.

وأما من استدل بما جاء في حديث ( الرجل الذي باع نخلاً ثم تاجر به فكثر دينه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: تصدقوا عليه، فتصدقوا، فلم يف بدينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك )، وهذا ما يحتج به ابن حزم الأندلسي رحمه الله إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( تصدقوا عليه )، وهذا أمر من النبي عليه الصلاة والسلام بإسقاط الذي عليه صدقة.

نقول: هذا صدقة لا يخالف ظاهر القرآن.

وأما قوله: ( تصدقوا عليه )، فهذا من النبي عليه الصلاة والسلام ليس لأهل الأموال، وإنما للناس عامة، ولهذا قال: ( تصدقوا عليه )، ثم توجه بالخطاب للغرماء، فقال لغرمائه: ( خذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك ).

حبس المعسر وثواب إنظاره

وفي هذه الآية أيضاً دلالة على أن المعسر لا يجوز حبسه إذا ظهر إعساره، فإذا بان لدى الحاكم أو القاضي أن هذا الرجل ليس بواجد للمال، فلا يجوز حبسه؛ لأن الحبس عقوبة، والإعسار ليس بيد الإنسان، فلم يرتكبه الإنسان اختياراً، وكذلك فإنه أقرض المال اختياراً من صاحب المال، فالغني إنما أقرض الفقير أو المحتاج، أو الغني أقرض غنياً، أقرضه في ذلك وهو على اختياره لا على إكراه، ومعلوم أن الدين في ذلك لا يتحتم يقيناً أن الإنسان يجده، ولكن على غلبة الظن أنه يجد من ذلك وفاءً، فإذا عجز الإنسان ولم يجد وفاءً وتيقن القاضي والحاكم أنه ليس بواجد وأنه معسر، حرم عليه حبسه، نص على هذا سعيد بن جبير رحمه الله من فقهاء السلف، وذهب إلى هذا جماعة، وهو ظاهر هذه الآية، ولكن إذا غلب على ظن القاضي أنه واحد أو أراد أن يستظهر من حاله لصعوبة سبر أحوال الناس، نقول: لا حرج عليه أن يحبسه استظهاراً لحاله ما لم يتبين إعساره، كأن يدعي أحداً أن لديه مالاً وهو يخفيه أو نحو ذلك، أو لم يعلم حاله ولم تقم بينة في ذلك، فظهر عنده أنه واجد، فلا حرج عليه أن يحبسه استظهاراً لحاله، وهذا قد نص عليه الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله كـأبي حنيفة و مالك و الشافعي وأحمد إلى أنه يحبس استظهاراً، وإذا قلنا بحبسه استظهاراً فإنه لا حرج عليه أن يحبسه إذا كان واجداً وماطل، والدليل على ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( مطل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته )، يعني: إذا كان واجداً وهو غني، ثم أخذ يماطل في الدين، فإنه يعاقب لهذا، قال: ( يحل عرضه وعقوبته )، (يحل عرضه) بالوقوع فيه بأن يتشكى الإنسان، فيقال: فلانٌ أخذ مالي، ولم يعطني إياه، فيتشكى لدى الناس حتى يعطيه حقه، وقوله: ( وعقوبته )، يعني: بالحبس، وقد حبس جماعة من الأئمة كـشريح القاضي وغيره في الدين، ولكن نقول: هذا لا يكون إلا في حالين:

الحالة الأولى: في حال غناه ومطله.

الحالة الثانية: في حال الجهلة بحاله مع عدم اليقين بإعساره، فيحبسه استظهاراً، وذلك أن بعض الناس يأخذ المال ولا يعيدها لأصحابها، إما عبثاً أو بخلاً، فإذا حبس أعاد المال إلى أصحابه.

وفي قوله جل وعلا: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]، يعني: ما عند الله سبحانه وتعالى من ثواب لمنظري المعسر، وما جعل الله عز وجل له من حسن عاقبة.

قال: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في إنظار المعسر، هل هو على الوجوب أم على الاستحباب، على قولين: ذهب قوم إلى الوجوب لظاهر هذه الآية، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر بالإنظار في قوله: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، وهذا يفيد الوجوب، كما في قول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة:196]، فالفدية هنا حقها الوجوب في مال الإنسان، وكذلك في الإعسار، وذهب جمهور العلماء إلى أن الإنظار على الاستحباب؛ لأن المال حق لصاحب الدين، وإنظاره في ذلك لا يعني إضراراً بمن عليه دين، فإنه إذا ثبت إعساره يقيناً فإنه لا يجوز للقاضي أن يحبس المعسر، وهذا يأتي الإشارة إليه.

وظاهر ذلك أن الله سبحانه وتعالى أرشد أصحاب الأموال إلى أن ينظروا من عليهم دين إذا كانوا معسرين، وهذا لما كان الناس يتبايعون بالربا، وكانت رءوس الأموال معلقة عند الناس، أرشد الله سبحانه وتعالى أولئك إلى الإنظار.

ويدل على أن الإنظار على الاستحباب لا على الوجوب، أن النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على الترغيب، لا لرفع الإثم والحرج، ومن ذلك: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن مسعود كما رواه ابن ماجه وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أقرض مسلماً مرتين فكأنما تصدق مرة )، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في رفع هذا الحديث ووقفه، مع القول بصحته موقوفاً، ذهب جماعة من الأئمة كـالدارقطني و البيهقي إلى أن الحديث موقوف، وفي هذا إلى أن الإقراض من جهة الإنسان إذا أقرض أحداً فيه حب لليسار وعدم المشقة عليه، فبدلاً من أن يقرضه مرة يقرضه مرتين، ففي هذا نوع من الإنظار وزيادة، وكذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما روى الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أنظر معسراً فله بكل يوم حسنة )، قال: وقال النبي عليه الصلاة والسلام مرة: ( من أنظر معسراً فله بكل يوم صدقتان، قال: فقلت: يا رسول الله! إنك قلت مرةً: له بكل يوم صدقة، وقلت مرة: بكل يوم صدقتان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لم يبلغ الأجل )، ما لم يبلغ الأجل فله بكل يومٍ صدقة، وإذا بلغ الأجل فله عن كل يوم صدقتان، وإسناده صحيح، هذا ترغيب بإنظار المعسر، ولو كان صاحب الدين آثماً بأنه لا ينظر المعسر لكان الدلالة والإرشاد في ذلك إلى رفع الحرج والإثم عن نفسه، وإنما أراد من ذلك أن يؤخر حقه في ذلك، وهذا يعضده ما جاء في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان رجل يداين الناس، فقال لفتاه: اذهب فإذا وجدت معسراً فأنظره، قال: ففرج الله عنه )، وهذا فيه إنظار المعسر، وأنه على الاستحباب، ولم يأت نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على الوجوب، وأن من لم ينظر معسراً فإنه آثم، وكذلك الدلالة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من فرج كربة مؤمن فرج الله عنه يوم القيامة )، هذا من تنفيس الكربات وتفريجها، وهي داخلة في عموم الاستحباب.

وقوله جل وعلا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، المعسر هو الذي لا يجد وفاءً لدينه الذي عليه، والوفاء في ذلك ما زاد عن حاجته، وحاجته في ذلك هو مأكل ومشرب ومسكن وملبس، مما يكفيه ويكفي عياله، فإن زاد عن ذلك فإنه واجد بمقدار الدين الذي عليه، وإذا كان الرجل معسراً فهل يجب على الحاكم أن يبيع ماله مما زاد عن كفافه؟

نقول: إذا كان ذلك وفاءً أو يطمع صاحب الحق في ذلك، فنقول: إن له أن يبيع ذلك المال ويبقي له المسكن، والمأكل والمشرب والملبس، وما عدا ذلك فإنه يكون للغرماء، وهذا بالنسبة للديون بخلاف الأمانات، الديون في ذلك لا يجب أن تنزع من الإنسان مما يحتاج إليه الإنسان وذلك في مسكنه، أن يخرج من مسكنه إذا كان عليه دين لا يجوز هذا، كذلك من ملبسه ومأكله ومشربه أن ينزع منه ذلك، ولكن إذا كان أمانة فإن أمانة عينية معروفة فإنها تنتزع منه ولو كانت بيتاً، أو مركباً، أو مطعماً، كإنسان أخذ أمانة من شخص داراً على أن يعيدها إليه بعد عام، فهل يقال: إن هذا دين فلا يجوز أن يخرج الإنسان من داره؟

نقول: فرق بين الدين وبين الأمانة، الأمانة عينية، فيجب على الإنسان أن يعيدها بعينه، ولكن إذا أقرض الإنسان أحداً قرضاً فأعطاه قرضاً مائة ألف أو أكثر من ذلك أو أقل، ثم اشترى بها داراً، ولم يجد وفاءً، فهل يقال: اخرج من بيتك وأعطها فلاناً؟ لا؛ لأن هذا دين وليس بعين، فلا يتحول إلى الأمانة، ومثل ذلك إذا كان الدين الذي في ذمة الإنسان عيناً ولكنه وليس بصورة الدين، ولكنه بيع إلى أجل، كأن يبيع الإنسان أحداً ثوباً، أو يبيعه طعاماً، أو يبيعه داراً، فكان هذا بيعاً وليس بأمانة ووديعة، فلا يجوز إخراجه حينئذٍ، أما إذا كان أمانةً، فيقال: دع عندك هذا الطعام حتى آتيه بعد شهر، أو بعد شهرين لآخذه منك لسفري أو نحو ذلك، فإنه يجب عليه أن يعيده بعينه، ولو ادعى حاجته في ذلك ففرق بين الدين وبين ما كان أمانة، فإن الله عز وجل أمر بأداء الأمانة إلى أهلها.

والله سبحانه وتعالى إنما ذكر هذه الآية بعد أحكام الربا لوجود تعلق من أموال الناس فيهم، فبين الله سبحانه وتعالى أن لهم رءوس الأموال، وما عدا ذلك فإنه لا يجوز أن يستوفوه، وهذه رءوس الأموال هي التي أمر الله عز وجل بالإنظار فيها، والى هذا نص جماعة من العلماء كـعبد الله بن عباس، و عطاء، و ابن جريج ، و شريح القاضي ، وغيرهم من المفسرين، أن الإنظار هنا إنما كان في الدين، وما كان من بقايا الربا من رءوس الأموال، وأما بالنسبة للأمانات فإن الآية ليست بداخلة في هذا الباب.

وقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280] ذكر الله عز وجل الإنظار، وبعد أن ذكر إنظار المعسر ذكر الصدقة عليه، يعني: أن من المعسرين من لا يجد وفاءً، فإنه يستحب حينئذٍ أن يتصدق عليه بالمال، فهي معدودة من جملة الصدقات، ولكن هل تكون هذه الصدقة من جملة الصدقات الفاضلة أو دون ذلك، ومعلوم أن الصدقة التي يخرجها الإنسان من ماله، ثم يعطيها الفقير، فهذه أعظم أجراً من الدين الذي يعطيه الإنسان أحداً، ثم بعد ذلك يريد وفاءً، فإذا أيس منه أسقطه عنه، فإن إسقاط الدين صدقة عن الإنسان يأتي مرتبة بعد الصدقة التي يخرجها الإنسان؛ لأن الصدقة التي يخرجها الإنسان لا يرجو لها وفاءً، ولا تظهر فيها المنة، وهي أظهر بكسر شح النفوس، بخلاف الدين الذي يدفعه الإنسان لغيره ثم يقوم الإنسان بإسقاطه.

ولهذا نقول: إن الشارع إنما ذكر الإنظار ثم ذكر الصدقة بعد ذلك ولم يقدم الصدقة على الإنظار؛ لأن النفوس مجبولة على حب حقها، فذكر الله سبحانه وتعالى الإنظار، ثم بعد ذلك الصدقة حفظاً لحق صاحب المال، وإذا بان للإنسان أن فلاناً عاجز عن الوفاء، فأنظره مراراً ولم يف، وسبر حاله وكان عاجزاً، فإنه يستحب في حقه أن يتصدق عليه.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير آيات الأحكام [30] 2761 استماع
تفسير آيات الأحكام [48] 2721 استماع
تفسير آيات الأحكام [54] 2523 استماع
تفسير آيات الأحكام [22] 2449 استماع
تفسير آيات الأحكام [58] 2334 استماع
تفسير آيات الأحكام [25] 2319 استماع
تفسير آيات الأحكام [35] 2269 استماع
تفسير آيات الأحكام [5] 2252 استماع
تفسير آيات الأحكام [11] 2213 استماع
تفسير آيات الأحكام [55] 2178 استماع