تفسير آيات الأحكام [43]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد تقدم الكلام معنا على ما يتعلق بجهاد الدفع، وتكلمنا على أحكام الولاية والإمارة في الجهاد، وذلك في قصة النبي من بني إسرائيل لما طلب قوم منه أن يبعث إليهم ملكاً يقاتلون معه في سبيل الله. وتكلمنا أيضاً على أنهم إنما قاتلوا لأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم.

ثمة مسألة تتعلق بتلك الآية السالفة، وهذه المسألة: أن النبي إنما بعث إليهم ملكاً ولم يذهب بنفسه إليهم، مع كونهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم، وما هي العلة في ذلك؟ ولماذا بعث إليهم أميراً يقاتلون معه، ولم يذهب إليهم بنفسه وهو نبي، ومعلوم أنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم؟

الذي يظهر لي في هذه الآية بعد طول تأمل فيها، أن ذلك لأسباب وحكم:

أول هذه الأسباب والحكم: أن أولئك القوم إنما أرادوا من النبي أميراً وهم قادرون على قتال أولئك الجبابرة الذين أخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، وذلك يظهر في طلبهم أميراً وما طلبوا غير ذلك، فأراد أن يسد حاجتهم بتلك الولاية.

ومن الأسباب أيضاً: أن النبي لديه من أمر أمته وإصلاح أحوال الناس وإبلاغ وحي الله سبحانه وتعالى للناس وإنذارهم ما هو أوسع دائرةً وأعظم تكليفاً من القتال مع طائفة من الطوائف في زمنه، فرأى أن التكليف عليه أعظم، ورأى أن بقاءه كذلك أولى من انصرافه معهم.

وذلك يظهر في حال الأنبياء، وفي حال نبينا صلى الله عليه وسلم، قد ذكر غير واحد من المؤرخين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في زمانه أكثر من سبعين غزوة وسرية، شارك النبي صلى الله عليه وسلم في نحو عشرين منها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشارك في البقية لمجموعة من العلل، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشفقاً على من تخلف في المدينة، لعجزهم أن يلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم إما أن يكونوا من العجزة ويودون اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم, وربما بعضهم تكلف، والاتباع للنبي عليه الصلاة والسلام والاقتداء به يختلف عن الاقتداء بغيره، فيلحق في ذلك من المشقة للضعفاء والعاجزين وحماة الأعراض وغيره ذلك، فبقي النبي صلى الله عليه وسلم, ويظهر هذا التعليل كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما.

ومن تلك العلل والأسباب في هذا: أن النبي إنما بعث إلى قومه أميراً يقاتلون معه، ولم يذهب بنفسه مع كونهم يدفعون أنه غلب على ظنه أنهم يخذلونه مع كونهم من أهل الإيمان، وهذا ظاهر في قول الله سبحانه وتعالى: إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]، غلب على ظنه أنهم ربما يخذلونه ويدعون التكليف الذي أوجب الله عز وجل عليهم فيرجعون.

وإذا قيل بالخذلان فكيف لا يذهب وهو نبي، ولو خذلوا فينتصر للحق؟

نقول: إن الهزيمة الظاهرة للنبي تختلف عن الهزيمة الظاهرة لغيره، فإن الناس يتأثرون بهزيمة الوجوه والرءوس بخلاف غيرهم، وهذا يؤثر على الأتباع بالردة والانتكاسة وغير ذلك، وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس:85] .

يقول عبد الله بن عباس و مجاهد بن جبر كما روى ابن جرير الطبري وغيره معناه في قوله جل وعلا: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس:85]، وهذا على لسان قوم موسى، يعني: لا تسلط فرعون وقومه علينا فيغلبونا فتجعلنا فتنة لهم أنهم ما انتصروا علينا إلا للحق الذي عندهم، ولهذا الهزائم المادية لها أثر، وهذا مما ينبغي على أهل الجهاد ألا يقدموا على ثغر إلا وغلب على ظنهم القوة؛ لأن الهزيمة لها أثر، وكم يفتن المشركون، ويفتن من المؤمنين بهزيمة المسلمين أنهم لو كانوا على حق ما هزموا، ولهذا دعوا الله عز وجل وسألوه ألا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين، ومعنى هذا أنهم يفتنون لانتصارهم عليهم، فيقولون: ما انتصرنا عليهم إلا لحقنا بديننا.

وهذا مما ينبغي أن يحترز الإنسان المجاهد في سبيل الله في مسائل القتال، وألا يقتحم ما يغلب على ظنه معه الهزيمة.

ولهذا النبي لم يلحق بأولئك مع أنهم أرادوا وبينوا أنهم إنما يقاتلون لأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم، فبعث إليهم أميراً ولم يذهب بنفسه، فيكون ذلك من جملة تلك العلل التي لم يحضر لذلك القتال ذلك النبي, والعلم عند الله سبحانه وتعالى.

اختلاف العلماء في نسخ قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)

وما يلي ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، هذه الآية ظاهرها المسامحة والملاينة، وكذلك المهادنة والمسالمة، وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذه الآية، هل هي من الآيات المحكمات أم من الآيات المنسوخة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: من العلماء من قال: إن هذه الآية منسوخة بآيات السيف مما أمر الله سبحانه وتعالى بقتال المشركين، والقتال لا بد فيه من إكراه.

وهذا القول بالنسخ ذهب إليه جماعة من المفسرين من السلف، ذهب إلى هذا الضحاك و السدي و زيد بن أسلم وغيرهم وهو قول بعض الفقهاء من المتأخرين.

القول الثاني: هو قول عامة المفسرين: وهو أن هذه الآية محكمة وليست بمنسوخة، وهذا ما يجري عليه تفسير سائر الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وجاء تفسير ذلك عن عبد الله بن عباس وعن عبد الله بن عمر وغيرهم من السلف كـمجاهد بن جبر ، و عامر بن شراحيل الشعبي و أبي وائل و الحسن البصري وغير أولئك الذين يحملون هذه الآية على معنى محكم ولا يقولون بالنسخ.

عموم قوله: (لا إكراه في الدين)

قول الله سبحانه وتعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، ثمة معنى يتكلم فيه بإيراد هذه الآية أن الناس لا يكرهون على الدخول في الإسلام, فهل هذه الآية تؤخذ على عمومها؟

نقول: إن هذه الآية إنما نزلت في أهل الكتاب ولم تنزل في سائر الكفار, وذلك للاختلاف والتباين بين أهل الكتاب وبين غيرهم، ومن نص على أن هذه الآية خاصة بأهل الكتاب لا بعموم المشركين عامة المفسرين, وقد جاء في ذلك حديث عبد الله بن عباس عند أبي داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي الإشارة إليه.

الفرق بين المشركين وبين أهل الكتاب في ذلك: أن المشركين لهم حالتان في ذلك:

الحالة الأولى: القتال. الحالة الثانية: المسالمة والمهادنة.

وأما بالنسبة لأهل الكتاب فإنهم يطلب منهم الإسلام، فإن لم يقبلوا بالإسلام تؤخذ منهم الجزية وهي المرحلة الثانية، وإذا لم يقبلوا الجزية، فيكون حينئذٍ القتال الذي يكون بينهم وبين أهل الإسلام.

إذاً: المشركون لا تؤخذ منهم الجزية، ويأتي الكلام معنا في التفصيل على مسائل الجزية عند قول الله جل وعلا: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].

فقول الله سبحانه وتعالى هنا: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، هذا يتعلق بأهل الكتاب؛ وذلك أنهم لا يؤطرون على الدخول في الإسلام بخلاف المشركين: إما قتال، وإما مسالمة، والمسالمة لا تجوز مع المشركين إلا عند ضعف المؤمنين، كما سالم النبي عليه الصلاة والسلام المشركين، وأما بالنسبة للمسالمة وأخذ الجزية فتجوز مع أهل الكتاب حتى عند قوة المسلمين، فيكون بينهم وبينهم الجزية، فيدفع أهل الكتاب الجزية لأهل الإسلام، ولو كان أهل الإسلام يقدرون على قتالهم ما دفعوا في ذلك الجزية، ثم يدعونهم إلى الإسلام، ويستصلحون أحوالهم بخلاف المشركين، إما مواجهة وقتال، وإذا عجزوا عن القتال فيكون ثمة مسالمة أو معاهدة كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام مع مشركي مكة في الحديبية.

وهذا ظاهر في قول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث أبي هريرة قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة )، هذا الحديث في المشركين، فالنبي أمر بالقتال على سبيل العموم حتى يدخل الناس الإسلام.

قد يقول قائل: هذا عموم، فما الذي يخصصه؟

نقول: يخصصه القرآن, وهذا من المواضع النادرة التي يخصص القرآن السنة، والأصل أن السنة هي التي تخصص القرآن وتبين مجمله، وهذا يخصصه قول الله جل وعلا: من الذين أوتوا الكتاب حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، فيخصص هذا الحديث بالمشركين، ويستثنى من ذلك أهل الكتاب لظاهر الآية، ويأتي مزيد كلام في ذلك.

حمل قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) على الخصوص

والقول الثاني: أن هذه الآية محكمة، وذلك أن الله عز وجل إنما أنزلها على نبيه عليه الصلاة والسلام على حال مخصوصة وتحمل على ذلك الخصوص ولا تحمل على العموم، والنسخ إنما يصار إليه عند معرفة التاريخ، فإذا عرف المتقدم من المتأخر وثمة تعارض من جميع الوجوه، فيقال حينئذٍ بالنسخ، وقد يعرف التاريخ المتقدم من المتأخر وتكون الآية في ذلك لا تعترض مع غيرها، فلا يقال حينئذٍ بالنسخ إلا بالنص.

ومعلوم أن السلف الصالح ربما يقولون بنسخ آية، ولا يريدون بالنسخ الاصطلاحي عند الأصوليين، وإنما يريدون بذلك التخصيص، فيسمون التخصيص نسخاً، والأصل أن هذه الآية محكمة وذلك أنها نزلت في أهل الكتاب، وسبب نزولها ما رواه الإمام أحمد و أبو داود في السنن وكذلك ابن جرير الطبري و ابن أبي حاتم من حديث أبي بشر عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة كانت الأنصار تكون فيهم المرأة مقلاة )، يعني: أنها ما حملت أسقطت جنيناً ميتاً: ( فكانوا يتيمنون باليهود ) .

ومعلوم أن أهل الكتاب إذا ذكروا في المدينة فهم اليهود فلا يوجد فيها نصارى، واليهود الموجودون في المدينة هم على ثلاثة طوائف: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، وهؤلاء الثلاثة هم الذين يوجدون في المدينة وما حولها، فكانوا يتيمنون بأهل الكتاب، وأما بالنسبة للأوس والخزرج فإنهم وثنيون إلا ما ندر، وأهل الكتاب لديهم كتاب، والوثنيون ليس لديهم تفاصيل في العبادة، فلم يدخلوا في اليهودية وذلك لتمسكهم بدين آبائهم، واليهود يأنفون من الدخول فيما هم فيه، لأنهم أهل الكتاب.

ولكنهم يقرون بفضل اليهود عليهم؛ لأن لديهم كتاباً يتلونه، فكانت المرأة من الأنصار تقسم وتنذر لله أنها إن أنجبت جنيناً وسلمه الله إلا أن تجعله رضيعاً عند اليهود، يرضعونه ويبقى عندهم، فكانت المرأة تفعل ذلك ويفتنون بأن المولود لا يموت.

فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام كان من أهل المدينة من الأنصار من لهم أبناء ممن سلف في أمرهم قد بلغ أو شارف البلوغ وكان في بيوت اليهود، وكانوا لا ينكرون على أبنائهم إن تهودوا، وربما أحبوا تهودهم وكتموه، ولما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم اليهود من المدينة قام الأنصار يريدون أبناءهم؛ لأن هؤلاء أبناؤنا وليسوا من اليهود لا من بني قريظة ولا من بني النضير ولا من بني قينقاع فأرادوه, فامتنع اليهود منهم، ومن الأبناء من رجع ومنهم من بقي، فأرادوا أن يكرهوا أبناءهم على الرجوع إلى المدينة؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، يعني: إن أرادوا أن يبقوا على اليهودية يبقون على اليهودية لكن يخرجون، وإذا أرادوا أن يرجعوا فيرجعوا.

وبهذا نعلم أن هذه الآية إنما هي خاصة لأهل الكتاب في الدخول ابتداءً إلى دين الإسلام ولا يجب عليهم في حق المسلمين أن يأمروهم بالدخول إلى الإسلام أمراً، فيطروهم على ذلك وحده، وأما في ذاتهم فيجب عليهم أن يدخلوا في الإسلام، وإن امتنعوا من ذلك فيخضعون لأمر المسلمين وحكمهم في حال أهل الكتاب بحسب الحال.

الاستدلال بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) على حرية الديانات

وبهذا نعلم أن هذه الآية تستعمل في غير موضعها، وربما أوردها بعض الناس أو الكتاب فيرون من ذلك حرية الدين أو حرية الديانات أو التدين أو أن يفعل الإنسان ما شاء، فيوردون قول الله جل وعلا: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، أي: يتدين الإنسان بما شاء من الديانات والشرائع، وهذا من المعاني الخاطئة.

أولاً: لسبب النزول، ثم إن تكملة الآية مبينة لهذا الأمر, وذلك في قول الله سبحانه وتعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، يعني: أن ثمة رشداً وثمة غياً فكيف تخير بالغي؟ والله عز وجل قد بينه لك، ثم تعارض ما استفاض من النصوص في الأمر بالقتال والجهاد، قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة:193]، ما هي الفتنة المراد فيها؟ وكذلك أيضاً في قول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ).

وما جاء في حديث عبد الله بن عباس في الصحيح قال: ( من بدل دينه فاقتلوه )، وغير ذلك مما يدل على وجوب لزوم الإسلام لمن دخل فيه، وأن من لم يدخل فيه ابتداء أنه لا يجب عليه أن يدخله إلا إذا كان من المشركين فيؤمر بذلك، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام ما أخذ الجزية من وثني، وإنما يأخذها عليه الصلاة والسلام من أهل الكتاب.

ومن العلماء من قال: إنما لم يأخذ النبي عليه الصلاة والسلام الجزية من المشركين؛ لأن الجزية ما نزلت على رسول الله إلا بعد انتهاء الوثنية، الوثنية محلها في جزيرة العرب في الحجاز وأطرافها، ونزلت الجزية بعد ذلك، وهذا يأتي الكلام عليه بإذن الله عز وجل معنا في موضعه.

وعامة المفسرين على إحكام هذه الآية، وأن الحكم في ذلك باق، ولم يكن ثمة نسخ؛ لعدم الاعتراض مع بقية الآي.

وما يلي ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، هذه الآية ظاهرها المسامحة والملاينة، وكذلك المهادنة والمسالمة، وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذه الآية، هل هي من الآيات المحكمات أم من الآيات المنسوخة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: من العلماء من قال: إن هذه الآية منسوخة بآيات السيف مما أمر الله سبحانه وتعالى بقتال المشركين، والقتال لا بد فيه من إكراه.

وهذا القول بالنسخ ذهب إليه جماعة من المفسرين من السلف، ذهب إلى هذا الضحاك و السدي و زيد بن أسلم وغيرهم وهو قول بعض الفقهاء من المتأخرين.

القول الثاني: هو قول عامة المفسرين: وهو أن هذه الآية محكمة وليست بمنسوخة، وهذا ما يجري عليه تفسير سائر الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وجاء تفسير ذلك عن عبد الله بن عباس وعن عبد الله بن عمر وغيرهم من السلف كـمجاهد بن جبر ، و عامر بن شراحيل الشعبي و أبي وائل و الحسن البصري وغير أولئك الذين يحملون هذه الآية على معنى محكم ولا يقولون بالنسخ.

قول الله سبحانه وتعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، ثمة معنى يتكلم فيه بإيراد هذه الآية أن الناس لا يكرهون على الدخول في الإسلام, فهل هذه الآية تؤخذ على عمومها؟

نقول: إن هذه الآية إنما نزلت في أهل الكتاب ولم تنزل في سائر الكفار, وذلك للاختلاف والتباين بين أهل الكتاب وبين غيرهم، ومن نص على أن هذه الآية خاصة بأهل الكتاب لا بعموم المشركين عامة المفسرين, وقد جاء في ذلك حديث عبد الله بن عباس عند أبي داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي الإشارة إليه.

الفرق بين المشركين وبين أهل الكتاب في ذلك: أن المشركين لهم حالتان في ذلك:

الحالة الأولى: القتال. الحالة الثانية: المسالمة والمهادنة.

وأما بالنسبة لأهل الكتاب فإنهم يطلب منهم الإسلام، فإن لم يقبلوا بالإسلام تؤخذ منهم الجزية وهي المرحلة الثانية، وإذا لم يقبلوا الجزية، فيكون حينئذٍ القتال الذي يكون بينهم وبين أهل الإسلام.

إذاً: المشركون لا تؤخذ منهم الجزية، ويأتي الكلام معنا في التفصيل على مسائل الجزية عند قول الله جل وعلا: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].

فقول الله سبحانه وتعالى هنا: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، هذا يتعلق بأهل الكتاب؛ وذلك أنهم لا يؤطرون على الدخول في الإسلام بخلاف المشركين: إما قتال، وإما مسالمة، والمسالمة لا تجوز مع المشركين إلا عند ضعف المؤمنين، كما سالم النبي عليه الصلاة والسلام المشركين، وأما بالنسبة للمسالمة وأخذ الجزية فتجوز مع أهل الكتاب حتى عند قوة المسلمين، فيكون بينهم وبينهم الجزية، فيدفع أهل الكتاب الجزية لأهل الإسلام، ولو كان أهل الإسلام يقدرون على قتالهم ما دفعوا في ذلك الجزية، ثم يدعونهم إلى الإسلام، ويستصلحون أحوالهم بخلاف المشركين، إما مواجهة وقتال، وإذا عجزوا عن القتال فيكون ثمة مسالمة أو معاهدة كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام مع مشركي مكة في الحديبية.

وهذا ظاهر في قول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث أبي هريرة قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة )، هذا الحديث في المشركين، فالنبي أمر بالقتال على سبيل العموم حتى يدخل الناس الإسلام.

قد يقول قائل: هذا عموم، فما الذي يخصصه؟

نقول: يخصصه القرآن, وهذا من المواضع النادرة التي يخصص القرآن السنة، والأصل أن السنة هي التي تخصص القرآن وتبين مجمله، وهذا يخصصه قول الله جل وعلا: من الذين أوتوا الكتاب حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، فيخصص هذا الحديث بالمشركين، ويستثنى من ذلك أهل الكتاب لظاهر الآية، ويأتي مزيد كلام في ذلك.