تفسير آيات الأحكام [29]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فتكلمنا في المجلس السابق عن اللغو في الأيمان، وتكلمنا على شيء من أحكامها، وخلاف العلماء في ذلك، وقبل ذلك تكلمنا على التساهل بجعل الله عز وجل عرضة للأيمان بحيث يكون حائلاً عن الإنسان أن يبادر بعمل الخير فيكسب صالحاً، أو يمسك عن عمل سوء.

واليوم نتكلم على قوله سبحانه وتعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:226].

في هذه الآية جملة من المسائل والأحكام نتكلم عليها وعلى ما يليها.

ما يلزم من آلى من زوجته

بالنسبة للإيلاء, الإيلاء في لغة العرب هو الحلف وهو اليمين، (يؤلون) أي: يحلفون، والله سبحانه وتعالى إنما أنزل هذه الآية خاصة بالذين يؤلون من نسائهم، أي: ليست لغيرهم، أي: هذه الأحكام التي أنزلها الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم لبيان حكم الذين يحلفون ألا يقربوا أزواجهم بشيء من الوطء، وهذا فيه دفع لظلم أهل الجاهلية لنسائهم، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا أراد الرجل أن يظلم المرأة آلى منها، فحلف ألا يقربها سنة أو سنتين، ثم ينصرف إلى زوجة أخرى، ويتمسك بيمينه، أي: أنه يمنعني من قربها تلك اليمين، فيجعل تلك اليمين حائلاً بينه وبينها وبينه وبين أهلها إذا طلبوا منه أن يفيء إليها، فيجعلون ذلك سبباً لظلم النساء.

فبين الله سبحانه وتعالى حكماً في ذلك وفيصلاً يفصل الله عز وجل به بين الرجال والنساء؛ حتى لا يبغي الرجل على المرأة، ويتحقق للرجل مراده المشروع، فليس كل إيلاء من ذلك ممنوعاً، فإن الرجال يقصدون بالإيلاء مقاصد, ومن هذه المقاصد الإضرار بالزوجة وهذا أولها.

والمراد بالإضرار: أن الرجل لا يريد القرب من الزوجة فيريد أن يعلقها، لا هي زوجة له، ولا هي لغيره، فإذا قيل له: ارجع إلى زوجتك؟ قال: إني آليت أن لا أقربها سنة أو سنتين، فيجعل ذلك حائلاً عن دنوها منه.

الثاني: أن يكون ذلك للتأديب، أن يظهر من الزوجة شيء من النشوز أو الانحراف أو الخطأ في حقه فيريد أن يهجرها، فيقوم بالحلف ألا يقربها، وهذا لا يرجع إلى ذهن الإنسان وتقديره في ذاته فربما أضر بزوجته، فيكون الإيلاء في ذاته نوع حق للرجل من باب التأديب، وفيه أمر نهاهن الله عز وجل عنه وهو رد أهل الجاهلية أن يسرفوا بظلم نسائهم، فأراد الله عز وجل أن يبين حكم ذلك, وأن يفصل الله عز وجل فيه، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226] .

وهذا بيان من الله سبحانه وتعالى للذين يحلفون ألا يقربوا أزواجهم، أن تربصهم في ذلك أربعة أشهر، وأنه لا يجوز للإنسان أن يزيد على ذلك، سواء كان بإيلاء بحلف ومن باب أولى أن يكون بلا حلف.

فإذا حلف الرجل ألا يقرب زوجته خمسة أشهر فمن باب أولى إذا تركها بلا حلف، فإذا أبطلنا يمينه -واليمين في ذلك مؤكدة؛ لأن الإنسان يلزم عليه أن يفي بيمينه- فلما أسقطها الشارع عنه فإن ترك الزوجة من غير إيلاء أكثر من أربعة أشهر لا يجوز.

وأما ما كان من باب الهجر وهو التأديب فيأتي الكلام عليه في سورة النساء، نتكلم على مسألة هجر الزوجة ومقدار ذلك، ومعنى النشوز والحد الذي جعله الله سبحانه وتعالى في ذلك عدلاً وإنصافاً، وأما المراد به هنا فهو الكلام على الإيلاء المتعلق بالإضرار، أما جانب التأديب وإن كان يسمى إيلاءً في لغة العرب وفي اصطلاح الشارع، فالذي يحلف ألا يقرب زوجته لشهر أو شهرين أو نحو ذلك فيسمى إيلاء باعتبار أنه أكد ذلك باليمين.

أما مسألة هجر الإنسان بغير يمين فلا يسمى إيلاء؛ لأنه لم يحلف، فنقول: إن الرجل قد يترك زوجته ثلاثة أشهر هجراً ولا يسمى إيلاءً، وقد يتركها أسبوعاً أو عشرة أيام وهي دون ذلك بالحلف ويسمى إيلاء، ولهذا نقول: إن الإيلاء إذا كان بالحلف على أي زمن كان فيسمى إيلاء.

أقسام الإيلاء

ولهذا نستطيع أن نقسم الإيلاء على نوعين: إيلاء مشروع، وإيلاء ممنوع.

أما بالنسبة للإيلاء المشروع: فهو الإيلاء الذي يقصد منه الإنسان تأديب زوجته هذا أولاً.

وثانياً: لا يزيد ذلك عن أربعة أشهر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد آلى من نسائه شهراً، يعني: حلف ألا يقربهن، وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم لهن تعليماً وتأديباً.

وأما بالنسبة للإيلاء الممنوع: فهو الذي يزيد عن أربعة أشهر على أي نحو كان، سواء قصد منه التأديب أو قصد منه الإضرار فإنه لا يجوز؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل للإيلاء أمداً، والأمد في ذلك أربعة أشهر فإن زاد عن ذلك فهو محرم، وذلك حق للزوجة لا حق للزوج، فالله عز وجل أجاز وأباح للرجل أن يتزوج وأن يقضي وطره في زوجات أربع أو يقضي وطره في التسري, بخلاف المرأة فلا يجوز لها أن تقضي وطرها في غير زوجها لا من الأحرار ولا من عبيدها، وهذا حكم الله عز وجل فجعل الله سبحانه وتعالى ذلك حقاً للمرأة وإنصافاً لها من أن يبغي عليها زوجها.

ما يحصل به الإيلاء

وفي قول الله سبحانه وتعالى: يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [البقرة:226]، هنا أطلق الإيلاء وهو الحلف، فهو يشمل جميع صيغ الحلف وأنواعه وألفاظه، وهذا لا خلاف عند العلماء في ذلك، وإنما اختلفوا بالمحلوف به، إذا حلف الإنسان بغير الله هل يعد ذلك إيلاءً أم لا؟

هذا من مواضع الخلاف عند العلماء، ذهب جمهور العلماء إلى أنه يعد إيلاءً، فكل ما أكده الإنسان بصيغة اليمين والقسم ولو كان بغير الله فإنه يعد يميناً وإيلاءً، وذهب إلى هذا جمهور العلماء وهو قول الشافعية والحنابلة، وهو قول للإمام مالك عليه رحمة الله.

والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، قال: إن الإيلاء لا يكون إلا بالحلف بالله سبحانه وتعالى، أو باسم من أسمائه جل وعلا، وأما إذا كان بغير ذلك فإنه لا يكون الإنسان مولياً من زوجته، وتكون تلك العبارة من جملة العبارات التي يطلقها ولا يلتزم الإنسان بشيء من ذلك.

وهذا قول للإمام مالك رجحه جماعة من فقهاء المالكية, وهذا الذي قال به خليل عليه رحمة الله، وجرى على ذلك شراح مختصر خليل من المتأخرين.

والأظهر -والله أعلم- أن اليمين في ذلك تنعقد, وأن جوازها هو أمر آخر وأما انعقادها ووجوب العمل بها والكفارة فهذا الذي عليه جماهير العلماء.

الحكمة من ذكر النساء في قوله: (يؤلون من نسائهم)

وفي قول الله سبحانه وتعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [البقرة:226]، ذكر الله سبحانه وتعالى النساء هنا والنساء باعتبار أن الطلاق والعدة تتعلق بهن، وباعتبار أن الضرر يلحق النساء في مسألة الإيلاء.

وقد اتفق العلماء عليهم رحمة الله على أن المراد بالنساء هنا الأزواج، وليس المراد بذلك الإماء، فالأمة حقها على زوجها أن يكفيها مئونتها، والمئونة في ذلك من الطعام والشراب والكساء، وما عدا ذلك فلا يجب عليها في ذلك لزوجها، فسواء آلى أو لم يول الحق في ذلك لا يجب بخلاف الزوجة.

إذاً: يتوجه إلى الأزواج، سواء كانت هذه الزوجة حرة أو أمة، فإذا تزوج الحر العبدة أو تزوج العبد الحرة، فيتوجه الأمر للمرأة التي صدر الإيلاء من زوجها عليها، لا الإيلاء الذي يصدر من السيد على سريته، وهذا لا خلاف عند العلماء منه وقد نص على الإجماع غير واحد من العلماء كـابن حزم الأندلسي في كتابه مراتب الإجماع وغيرهم من الأئمة.

وجه تحديد التربص من الإيلاء بأربعة أشهر

في قوله سبحانه وتعالى: يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226]، أمر الله جل وعلا بالتربص وهو الانتظار، أنهم ينتظرون في الأجل إلى أربعة أشهر، وإنما ذكر الله عز وجل التربص في هذا باعتبار أن الآية إنما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يؤلون من نسائهم الحول والحولين، فجعل الله عز وجل الأمد في ذلك إلى أربعة أشهر، وهذا هو الظاهر في قوله: (تربص أربعة أشهر)، ولم يقل الله سبحانه وتعالى في ظاهر هذا أن الإنسان لو آلى من امرأته دون ذلك كالذي يحلف ألا يقرب من زوجته شهراً أو شهرين، نقول له: انتظر أربعة أشهر، باعتبار أن سبب النزول في ذلك ومعرفة حال العرب فيصل في بيان معنى الآية.

ولا قائل من العلماء أن الإنسان إذا حلف ألا يدنو من زوجته شهراً أنه يجب عليه أن يجعلها أربعاً، وإنما المراد بذلك أن هذه الآية نزلت على حال كانت فيه العرب على جاهلية يضرون بالمرأة السنة والسنتين، فجعل الله عز وجل غاية ذلك إلى أربعة أشهر.

وتقدم معنا أن مسألة الإيلاء فيما دون الأربعة أشهر جائز بشرطيه على ما تقدم.

والذي يولي من امرأته ويقسم أن لا يقربها حولاً أو أكثر من أربعة أشهر، سواء كان خمسة أشهر أو أكثر من ذلك، سواء سمى عدداً أو لم يسم؛ فإنه يجب عليه أن يتربص أربعة أشهر.

ولكن نقول: إن التربص بأربعة أشهر مشروط بعدم الإضرار، وأما إذا نوى الإنسان إضراراً بالمرأة ولو كان دون أربعة أشهر فهذا ليس بجائز على ما تقدم معنا في مسألة الإيلاء.

فلوا آلى الرجل من امرأته شهراً وأراد بها إضراراً، فهو آثم في ذلك ولو كان دون تلك المدة.

إذاً: الشارع إنما حدد الأمر في ذلك إذا كان الإنسان لا يقصد الإضرار، وإذا قصد الإضرار فإنه يتربص أربعة أشهر مع إثمه على قصده، ولكن هذا لا يبطل الإيلاء، باعتبار أن أصل الإيلاء في هذه الآية إنما جاء لمن قصد الإضرار.

ولهذا اختلف العلماء عليهم رحمة الله في تحقق الإيلاء فيمن حلف ألا يقرب زوجته ولا يقصد في ذلك إضراراً.

ذهب جمهور العلماء إلى أن الإيلاءً لا يكون إيلاء من جهة الأصل ويلزم على الإنسان الوفاء به إلا وقد قصد الإضرار، ويشترطون في ذلك الغضب والإضرار، قالوا: لأن الإنسان إذا حلف ألا يقرب زوجته ولا يقصد من ذلك الإضرار والغضب فهو يولي على زوجته لمصلحتها لحضها، إذا كان لا يريد بذلك الإضرار ولم يكن ناشئه غضباً فإنه يريد من ذلك مصلحة الزوجة، وذلك لصور، منها: أن تكون المرأة مريضة وأراد عدم قربها، ومن ذلك: أن تكون المرأة مرضعاً فأراد ألا يقربها في حال رضاعها، فأراد أن يحقق رغبتها بمنع نفسه من دنوها، والآية نزلت بدفع الضرر عن المرأة أن يقصدها الرجل بالإضرار.

وجمهور العلماء من المفسرين والفقهاء قد قيدوا ذلك بالإضرار والغضب، قالوا: وما عدا ذلك فهو لحض المرأة، والآية إنما نزلت لدفع الضرر عنها، وإذا كانت المرأة غير ممانعة في هذا فلو كان ذلك من غير إيلاء أو كان بإيلاء إذا كانت مسقطة لحقها فلا يلزمه من ذلك أن يفيء إليها؛ لأنها لا ترغب وهو لا يريد باعتبار أنه أقسم على نفسه، فلا يلزم على ذلك بشيء.

وهذا الذي ذهب إليه جمهور العلماء قد ذهب إليه علي بن أبي طالب و عبد الله بن عباس و عطاء بن أبي رباح و ابن شهاب الزهري من المدنيين، وذهب إلى هذا غيرهم من الفقهاء.

وذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الإيلاء على أي وجه كان سواء قصد به الإضرار أو قصد به الغضب ما كان الإنسان في ذلك حالفاً، وسواء كان لحض المرأة أو لحض الزوج، وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء من أهل الرأي إبراهيم النخعي و الحكم وغيرهم.

والصوب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى إنما أنزل هذه الآية، رفعاً لظلم الزوجة, وأراد عدم إضرار الزوج بها، وإذا كان ذلك لحضها كأن تكون مريضة أو مرضعاً ولا تريد أن يدنو منها زوجها، فأراد زوجها أن يحول بينه وبينها ولو أضر بنفسه، فهذه رغبة منها.

إذاً: هو آلى على امرأته للإضرار بنفسه لا للإضرار بزوجه.

فهذا الأمر إنما هو مقيد بهذين القيدين باعتبار الإضرار والغضب، وأما ما عدا ذلك فيكون هذا من جملة الأيمان على الإنسان، الذي يرجع الإنسان فيها إلى مسألة مصلحته في ذلك.

والله سبحانه وتعالى إنما أراد في بيان الحكم في هذه الآية، أن يرفع الضر الذي يقصده أهل الجاهلية على النساء.

إيلاء الرجل من الأمة

وكذلك من المسائل المتعلقة في مسألة النساء في قوله جل وعلا: يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [البقرة:226]، اختلف العلماء في إيلاء الرجل على زوجه من غير الحرائر، هل يكون في ذلك الإيلاء على أربعة أشهر أم يكون على النصف؟

هذا من موضع الخلاف عند العلماء، قد ذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن ذلك يلحق بمسألة الحدود والطلاق, وهي على النصف من أمر الحر، وقد قال بقوله بعض الفقهاء كـابن شهاب الزهري من السلف, وذهب أبو حنيفة عليه رحمة الله إلى أن الأمر يتعلق بالمرأة لا بالزوج، يعني: ينظر إلى حرية المرأة وعدم حريتها.

قال: ولأن هذا يتعلق بالعددـ، والعدد تتعلق بالنساء، وأما إذا كان الزوج في ذلك حراً أو عبداً فإنه لا ينظر إليه، وإنما يتوجه الخطاب إلى الزوجة، أما بالنسبة للإمام مالك رحمه الله فإنه وجه الخطاب إلى الرجل الذي يحلف، والأظهر في ذلك أن الزوجة سواء كانت أمة أو حرة، والزوج سواء كان عبداً أو حراً أنهما، يستويان من جهة الأمر فيتربصون أربعة أشهر.

وذلك أن القياس الذي جاء الإمام مالك رحمه الله في مسألة الحدود، أن الحدود هي عقوبات وحقها لله سبحانه وتعالى، وهذا من حق الزوجة، فالله سبحانه وتعالى حينما ينزل على عبد من العبيد والموالي حداً في مسألة الحدود كالزنا والقذف وشرب الخمر في تنصيف العبد بحد من حد الحر هذا من حق الله سبحانه وتعالى، وأما بالنسبة لمسألة الإيلاء هنا هو حق للزوجة، والإضرار في ذلك تشترك فيه الحرة مع العبدة في ذلك، ففي هذا نقول: يستويان.

ولهذا نقول: إن في كلام الفقهاء في مسألة العنة التي تكون في الزوج، إذا كان الزوج لا يستطيع أن يأتي زوجته سواء كان الزوج حراً أو عبداً أو كانت الزوجة حرة أو عبدة أنهم يستوون في مسألة الأنظار، ولهذا نقيسها على هذه المسألة للاشتراك في مسألة الضرر، وكذلك في العدة، فهي أقرب إليها من هذا الوجه، ولهذا نقول: إن الحر وغير الحر في ذلك من جهة الإيلاء في الحكم سواء.

الحكمة من ختم آية التربص في الإيلاء من النساء باسمي الغفور والرحيم

في قوله سبحانه وتعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:226]، الله سبحانه وتعالى بعد أمر التربص ذكر الفيء، وهو فيء الزوج، يعني: عودته، والمراد بالفيء هنا في قوله: فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226]، أي: عاد الرجل بعد إيلائه من زوجته، فإن عاد إلى جماع امرأته ( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )، ومغفرة الله سبحانه وتعالى في ذلك على عبده أن الله جل وعلا خفف على العباد في ذلك، خفف على الزوجة ألا يجعل أمرها لأمر الزوج فيولي منها ما شاء من الأزمنة، فالله سبحانه وتعالى خفف في ذلك ورحمها من أن يبغى وأن يظلم وأن تظلم.

وكذلك فإن الله عز وجل قد رحم الزوج من أن يغلظ عليه ذلك، فإن هذا الأمر من جهة أصله فإنه عظيم, والله عز وجل إذا ذكر اسم الغفور والرحيم بعد ذكر فعل لعبد من عباده أو مخالفة من المخالفات، فإن هذا دليل على أنه ارتكب ذنباً، والله سبحانه وتعالى قد عفا عن عبده ذلك.

ما يلزم من آلى من زوجته أربعة أشهر فعاد قبل انتهائها

واختلف العلماء في لحوق الكفارة على من آلى أكثر من أربعة أشهر ثم فاء بعدها، منهم من قال بعدم الكفارة، لأن الله عز وجل بعدما ذكر الفيء قال: فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226]، يعني: لم يكملوا المدة والتزموا بأمر الله جل علا والأربعة أشهر فعادوا إلى أزواجهم: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:226]، أي: غفر لهم ما بقي ولو ألزمناهم بالكفارة فإنه يلزم من ذلك ورود معنى تام لذكر المغفرة والرحمة من الله سبحانه وتعالى.

وذهب إلى هذا بعض الفقهاء كـإبراهيم النخعي وغيره من المفسرين، وأكثر المفسرين على وورود الكفارة, وأن معنى المغفرة والرحمة من الله سبحانه وتعالى لعباده في مثل هذا الموضع شامل للمرأة والرجل، أما بالنسبة للمرأة أن الله عز وجل رحمها من أن يُبغى عليها وأن يتسلط الزوج عليها بالحلف أن لا يقربها فيلحقها من ذلك الضرر، وبالنسبة للزوج، أن لا يغلظ الله عز وجل عليه ذلك، كذلك رحمه الله من أن يلزمه بالوفاء بتلك اليمين، فأسقطها الله عز وجل عنه ولم تكن ملزمة، فكان عليه في ذلك أن يكفر، وهذا الذي ذهب إليه أكثر المفسرين من السلف، فقد جاء عن عبد الله بن عباس وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء من المفسرين وغيرهم.

وهذا هو فرع عن مسألة تقدم الإشارة إليها في مسألة الأصل في الأيمان فيمن رأى يمين خير من فعل أو ترك هل يكفر في ذلك إذا ترك ما حلف عليه أم لا؟

هذا من مواضع الخلاف، وتقدم الإشارة في هذا المعنى.

ما يحصل به الفيء من الإيلاء

وأما الفيء الذي تتحقق فيه الرجعة، فلا خلاف عند المفسرين أن المراد بذلك الجماع في قول الله جل وعلا: فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226]، أي: رجعوا وهم حفلوا على عدم قرب الزوجة وعدم جماعها، فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226]، يعني: رجعوا عما صدوا عنه وحلفوا عليه، وهم صدوا عن قرب الزوجة، فهي باقية في العصمة ولم يطلق، ولم يهجرها، وهي باقية في بيته، إلا أنه هجر قربها: فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226]، يعني: رجعوا عما حلفوا وأقسموا عليه.

ولهذا يتفق الفقهاء عليهم رحمة الله على أن المراد بالفيئة هنا الجماع، أنه لا يتحقق الفيء هنا إلا بالجماع، قالوا: وإن لم يجامع فهل يتحقق منه الرجوع في ذلك بالعودة بلسانه؟ كأن يقول الإنسان: رجعت عن يميني أو حلفي بعد أربعة أشهر، هل يكفي من ذلك أم لا؟

أولاً: هذا من مواضع الخلاف، وجماهير العلماء على أنه لا يكفي، وحكي الإجماع في هذه المسألة كما حكاه ابن عبد البر رحمه الله: أن الفيء في ذلك هو الجماع، وإنما اختلفوا في حال تعذره، وفي مسألة الجماع أنه يتحقق في ذلك، عليه عامة المفسرين من السلف والفقهاء، ولكن اختلفوا في مقدار العذر في ذلك وبعض الصور.

وعلة ذلك أننا نقول: إنه لا يكون الفيء إلا بالجماع أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يمنع الزوج من ظلم زوجته بتلك اليمين التي حلفها: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226]، يعني: يجب عليهم أن يتربصوا أربعة أشهر، ويسقط ما عداها، وأراد الله عز وجل بذلك رفع الظلم عن زوجته. وإذا قلنا: إن الله عز وجل بيَّن هذا الحكم لهذه العلة، فيلزم من ذلك أن الرجل إذا قضى هذه المدة وقضى الأجل، وقال: أرجعت زوجتي كلاماً، ارتفع الضرر أو لم يرتفع؟

لم يرتفع، ولهذا ربما يبقى خمسة أشهر أو ستة أشهر، ولهذا لا بد من الفيئة لما أراد الله عز وجل رفعه على وجه الحقيقة، وهو الإضرار بعدم الجماع، ولكن ثمة صور عند الفقهاء في هذا، كالرجل المحبوس الذي يولي من زوجته هل يكون من أهل الأعذار أم لا؟

هذا من أهل الأعذار، وظواهر النصوص في ذلك، لأن الله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها، كذلك المريض سواء كان المرض فيه أو في زوجته مما يمنعه من قربها، أو من الأعذار الشرعية كالذي يولي من امرأته وهي تكون تمام الأربعة أشهر على زوجته وهي نفساء أو حائض، هل يكفي في أن يقول: رجعت؟

نقول: يكفي ذلك حتى يتمكن من ذلك شرعاً، وذلك أنه امتنع عن الفيئة وهو مريد لها؛ لأن الله عز وجل منعه من قرب زوجته، فهو امتنع امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى.

وإذا أرجعها بلسانه وذلك لعذره هل يجب عليه الإشهاد؟

أولاً: إذا جامع لا يجب عليه الإشهاد، وهذا الذي تعضده ظواهر الأدلة في كلام الله عز وجل، وفي أقوال المفسرين من السلف، أنه لا يجب على ذلك الإشهاد، سواء كان الإيلاء في ذلك دون الأربعة أشهر أو كان أكثر منها.

وأما إذا كان عاجزاً أو حيل بينه وبين قرب زوجته كالمحبوس والمسافر أو نحو ذلك، وأعادها بلسانه نص غير واحد من العلماء على الإشهاد، وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء، كأصحاب عبد الله بن مسعود كـعلقمة و الأسود و سعيد بن المسيب و إبراهيم النخعي و مسروق بن الأجدع و الشعبي و الحكم و الحسن البصري وغيرهم من الفقهاء، أنه يشهد على ذلك إذا أرجعها بلسانه، أو كان ذلك بوثيقة؛ لأن الزوج إذا كان معذوراً وخاصة في الأعذار التي يكون الرجل بعيداً عن زوجته في بلد، وهي في بلد أو كان محبوساً وانقضى ذلك الأجل؛ لأنه إذا لم يوعدها على قول بعض الفقهاء تطلق منه، فيجعل بعض الفقهاء بمجرد انقضاء مدة الإيلاء أن هذه طلقة، يعني: أربعة أشهر اكتملت فإن لم يرجع فإنها تعد طلقة ولا تحتاج إلى طلاق منه.

وهذا من مواضع الخلاف عند الفقهاء: هل الرجل يوقف حتى يفيء أو يطلق؟ ومعنى يوقف في ذلك أنه يؤتى به عند حاكم أو يوقفه الأولياء أو يحكم في ذلك حكم في ذلك، فيوقفه إما أن يفيء وإما أن يطلق؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن انقضاء المدة ليست طلاقاً، وأنه لابد من تطليقه؛ لأنه ربما يحول بينه وبين الفيئة عذر من الأعذار، إما عذر قائم في الزوجة، أو عذر قائم فيه، أو عذر قائم فيهما.

ولهذا نقول: قد تؤخذ الفيئة من لسانه ولا يلزم من ذلك الجماع، فلا تطلق بمجرد انقضاء المدة إذا لم يجامعها.

وذهب أبو حنيفة عليه رحمة الله إلى أن انقضاء المدة طلاق ولو لم يطلق، وفي هذا نظر، لأن الله سبحانه وتعالى بعدما ذكر التربص قال: فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [البقرة:226-227]، هذا كله يكون بعد التربص وبعد انقضاء الأربعة أشهر، ولو كان الطلاق في ذلك ينزل بمجرد الانقضاء ما ذكر الله عز وجل الأمرين معاً، فذكر الله عز وجل الحكمين: الفيء والطلاق دليل على أنه يخير بينهما، وهذا هو الأظهر أن الإنسان يخير في هذا إما أن يفيء ويرجع إلى زوجته أو يطلق.

وإن امتنع من هذا ومن الطلاق فإن الزوجة يفسخها في ذلك القاضي، وإذا لم يكن ثمة قاضٍ فإنه يشهد على عدم فيئة الزوج إلى زوجته بعد انقضائها وتطلق بعدم رغبته بالفيئة، حينئذ نقول: إنه امتثل أمر الله جل وعلا في ذلك: فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [البقرة:226-227]، وذلك أنه يرجع إليه بتخييره بالطلاق.

ولهذا ما جعل الله عز وجل الطلقة تنزل في ذلك، وإنما قال الله عز وجل: وَإِنْ عَزَمُوا [البقرة:227]، يعني: أنها لا بد أن تكون خارجة من الزوج باختياره، وإذا لم تخرج منه باختياره فإنها تخرج منه على سبيل الإكراه، وإذا لم تخرج منه في ذلك فإنها تطلق منه بالإشهاد على ذلك حتى لا ينزل الإضرار بالزوجة.

وأما ما يتمسك به أهل الرأي بورود الطلاق في ذلك لمجرد انقضاء الأجل، فهذا لا يعضده شيء من الأدلة، وكثرة الخلاف في هذه الآية ومسائل الإيلاء، لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأويل هذه الآية شيء.

ولهذا يقول الشافعي رحمه الله في كتابه الرسالة: لم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي هو شيء، يعني من تفسير هذه الآية وأحكامها، ولهذا وقع خلاف عند الفقهاء, وآيات الأحكام عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها قل ما يرد شيء من آي الأحكام إلا وفي ذلك بيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كانت تلك الأحاديث صحيحة أو كان فيها شيء من الإعلال.

فهذا من مواضع الاشتهار، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا تخلو آيات الأحكام من تفسير عنه، ومن المواضع النادرة هذه الآية أنه لا يحفظ في ذلك شيء عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا.

وأما ما جاء في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام آلى من نسائه، فإن ذلك ليس هو المقصود في هذا، وهو الإيلاء على ما تقدم المشروع، الذي يقصد به الزوج تأديب الزوجة، بل هو خارج عن مسألتنا، وهو ضرب من ضروب الهجر، إلا أنه اقترن بشيء من اليمين ألا يقرب الرجل زوجته، وهذا يأتي الكلام عليه بإذن الله عز وجل في مسألة الهجر في سورة النساء.

وإنما قلنا بالتخيير بذلك؛ لأن الله عز وجل قال: فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226]، والفاء هنا محلها أنها تكون جواباً للشرط، وظاهر في ذلك أنها تكون بعد انقضاء تلك المدة، أي: بعد تربصهم فإنه يكون حينئذ هذه الأحكام: إما الفيء في ذلك هو الرجعة, وإما أن يكون في ذلك الطلاق.

وهذا في الزوج الذي يرغب طلاقاً، وأما الذي يقصد من ذلك عدم قرب الزوجة ابتداءً وأراد بالإيلاء الإضرار، فهذا محرم ولا خلاف في ذلك، ولهذا نقول: إن العلماء عليهم رحمة الله حينما يجمعون على هذا المعنى لا يجوز الواحد منهم أن الزوج يريد بهذا الإيلاء الإضرار بالمرأة، وكالرجل الذي يعزم على تطليق الزوجة، ولكنه يجعل هذه الأربعة أشهر عتبة لتطليقها حتى تطول المدة فلا تنكح زوجاً غيره، وذلك أنه يريد الطلاق فيولي منها أربعة أشهر، ثم يقول: إذا انقضت الأربعة أشهر أوقع عليها طلاقاً آخر، حينئذ تقوم بالعدة بعد ذلك، فيريد من ذلك الإضرار بالزوجة.

ولهذا نقول: في مثل هذه الحال هو أمر محرم، وهذا مما لا خلاف فيه عند الفقهاء، سواء كان الإنسان قصد ذلك ابتداءً؛ لأن الله عز وجل يقول: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [البقرة:227]، يعني: بعد انقضاء المدة، دليل على أن العزيمة غير موجودة في الأصل، والله سبحانه وتعالى إنما شرع الإيلاء حتى لا يجسر الناس على الطلاق، فربما يريد الرجل عدم قرب الزوجة، فإذا لم يكن ثمة إيلاء ولو يوماً أو شهراً أو أكثر من ذلك أو أقل، ويريد مفارقتها فإنه يتوجه إلى الطلاق، ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى ذلك رحمة للأزواج، فيكون ذلك مرحلة لا انفصالِ تام ولا اجتماعِ تام.

ونقول: إن الله سبحانه وتعالى لحكمة ما جعل الرجل يجد حلاً لبعد زوجته عنه إلا الطلاق فيتوجه إليه، فجعل الله عز وجل قدراً في ذلك يكون بين عمل الجاهلية وبين الحلال المضاف في ذلك، وهو جسارته على الطلاق من غير ما سبب، فجعل الله عز وجل من ذلك قدراً.

الإيلاء بغير ترك الجماع

ومن المسائل المهمة في هذا الباب: أن الإيلاء إنما قيد بظاهر الدليل، وكذلك بكلام جماهير المفسرين، هو بعدم الجماع، كالذي يحلف بعدم قرب زوجته، ولكن الذي يحلف بغير ذلك، يحلف ألا يكلم زوجته أو ألا يأكل معها هل يعد ذلك إيلاء أم لا ويجب في ذلك الفيئة؟

جمهور العلماء قيدوا ذلك بالجماع وما في حكمه، قالوا: لأن هذا هو الذي يتحقق به الضرر المقصود.

ولكن قالوا: لو حلف ألا يكلم زوجته أو ألا يأكل معها، فهل هذا يعد إيلاءً أم لا ويجب عليه أن يتربص أربعة أشهر؟

هناك من الفقهاء من توسع في هذا وقال: كل حلف يكون من الزوج للإضرار بزوجته فهو من هذا النوع الذي يدل على عدم قربه منها، كمن يحلف ألا يجتمع هو وإياها في دار، أو لا يأكلان على طعام, أو لا يحدثها, أو لا يجتمعان في فراش أو في لحاف أو غير ذلك من الألفاظ، فهو داخل في هذا الإيلاء.

وظاهر النصوص أن المراد بذلك هو الجماع, للإجماع في قوله: فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226].

التربص أربعة أشهر لمن حلف ألا ينفق على زوجته

وإن حلف على شيء آخر، كأن يحلف الإنسان على عدم النفقة على زوجته، يقول: والله لا أنفق عليك خمسة أشهر أو ستة أشهر أو أكثر من ذلك، فهل يجب عليه أن يتربص في ذلك أربعة أشهر أم لا؟

نقول: هذه مسألة أخرى، وحلفه في ذلك لا يتعلق به إيلاء، باعتبار تعلقه بمسألة الجماع، وإضرارها في ذلك هو إضرار في مسألة الطعام والشراب أو الكساء أو السكن أو غير ذلك.

ولهذا نقول: هو ليس من مسائل الإيلاء، ويدخل في ذلك في مسألة النفقة على الزوجة ويجب عليه أن ينفق عليها، فإن اشتكت فلها الحق بالنفقة، وإن صبرت وقالت: لا أريد نفقه، لا يقال في ذلك: إنه يلزم أربعة أشهر وإلا فيطلق، كالمرأة التي تقول: لا أحتاج إلى نفقته فلدي من المال ما يكفيني، وهذه المسألة ليست داخلة في مسألة الإيلاء.

إلحاق ترك الجماع من غير إيلاء بالإيلاء

ومن المسائل المتعلقة في ذلك، الذي يترك زوجته من غير إيلاء، يترك قربها وجماعها من غير إيلاء، فهل يدخل في هذا الباب أم لا؟ بأن هجرها ولم يحلف على ذلك، فهل يوقف عند أربعة أشهر ويؤمر بالفيئة أو الرجوع؟

العلة في الآية هو عدم الإضرار بالزوجة سواء كان ذلك بيمين أو بغير يمين، وإنما ذكر الله عز وجل الإيلاء وهو الحلف والقسم؛ لأنه هو الغالب الذي يلزم الإنسان به نفسه ويدفع المعرة عند غيره، كما كان الجاهليون في ذلك، حيث يدفعون اللوم من الناس في الإضرار بأزواجهم أنهم حلفوا وملزمون بالوفاء بذلك.

ولهذا نقول: إن الإنسان إذا هجر زوجته ولو كان من غير إيلاء فإنه يؤمر بالفيئة عند الأربعة أشهر، والنص له علة، والعلة في ذلك هي دفع الإضرار, ويتحقق ذلك سواء كان بيمين أو بغيرها.

وإنما ذكر الله عز وجل الإيلاء وهو اليمين؛ لأن هذا هو الأصل الذي كان عليه الناس بالإضرار بالزوجات فيمتنعون عن قربهن لسنة وسنتين, ويجعلون ذلك حائلاً بينهم.

ولهذا نقول: إن النصوص الشرعية إذا نزلت على حال فلا يقيد بذلك الحال وإنما العبرة بعموم المعنى الذي ارتبطت به تلك العلة، والعلة التي لأجلها أنزل الله عز وجل ذلك الحكم هو عدم الإضرار بالزوجة.

ولهذا نقول: إن من ترك زوجته ولو من غير حلف لأكثر من أربعة أشهر فإنه يؤمر بالفيئة, وإذا لم يرجع يؤمر بالطلاق، وإذا امتنع عن الطلاق فيفسخ الحاكم عقده في ذلك إلا إذا أسقطت الزوجة حقها، أو قام عذر الزوج في ذلك من زوجته، كأن تكون الزوجة في ذلك مريضة أو يكون الزوج حبيساً أو مسافراً لنفقة زوجته ونحو ذلك، وهي ممتنعة عن اللحاق بزوجها.

ولهذا نقول: إن الزوجة إذا امتنع زوجها عن الإتيان إليها لكونها وكونه في بلدين مختلفين، فإنه لا يؤمر بالفيئة أو الطلاق؛ لأن الزوجة مأمورة بالخروج مع زوجها في البلد الذي يتقوت ويتكسب منه، وإذا امتنعت عن اللحاق به فهي أسقطت حقها الذي عليه، وذلك بالحق المتعلق بها، أما الحق الغير المتعلق بها كسفر الرجل إلى نزهة أو سفر الرجل لفضول التجارة أو نحو ذلك، فإن هذا يكون من حق الزوجة في ذلك وهي بالخيار بعد أربعة أشهر على الصحيح من أقوال الفقهاء.

ومن الفقهاء من يقول: إن الأجل مرتبط بالإيلاء وما عدا ذلك فإن حكمه حكم آخر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث أقواماً، وكذلك الصحابة في الغزو، وبعضهم يذهب عن أهله أشهراً وربما عاماً أو نحو ذلك، ولم يجعلوا ذلك من أحكام الإيلاء فيؤمرون بالفيئة.

ولكن نقول: هذا من الأمور الواجبة التي قام العذر فيها في مسائل الجهاد، وحاجة الثغور، إلا أن الإضرار بالزوجة في ذلك، إن طلبت في ذلك رجوع زوجها لحاجتها إليه ولم يرجع، فإن لها الحق في ذلك أن تفسخ طلاقها ويقضي في ذلك الحاكم وكل حالة بحسبها.

أسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق والسداد والإعانة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.