تفسير آيات الأحكام [13]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ثمرة الصيام

قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186], الآية, بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى أحكام الصيام, ووجه الخطاب جل وعلا إلى عموم المؤمنين في قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183], ثم ذكر الله عز وجل من خطاب المتوجه إلى الجماعة في قوله جل وعلا: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [البقرة:185]، وَمَنْ كَانَ [البقرة:185]، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184], توجه الله عز وجل بخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بقوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186], وهذا فيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل وإنما جاء ذلك قبل أن يسأل عليه الصلاة والسلام, وذلك أن الله عز وجل يستوي عنده السر والعلن وما في نفوس الناس, فجعل الله ما في نفوس الناس سؤالاً, يعني: أنهم إذا بيتوا السؤال وعزموا على إيراده على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عند الله عز وجل يحتاج إلى جواب, فكما لا يخفى أن الأمر عند الله سبحانه وتعالى على حد سواء, ولما بين الله عز وجل الأحكام الشرعية من جهة فرض الصيام, وكذلك ما جاء فيه من وجوب الإمساك, وبعض أحكام أهل الأعذار من المسافرين والمرضى, وما يلحق في ذلك من أحكام الصيام, أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين ثوابه لمن امتثل أمره, وذلك أن الإنسان إذا أمر بأمر فإنه يتبادر إلى ذهنه ما ثمرته من ذلك الفعل, فإذا أمر بقول أو أمر بفعل ينتظر جزاءه والثمرة من ذلك, سواء كانت الثمرة له بعينه أو الثمرة لغيره, فجعل الله جل وعلا ما في نفوس أولئك الناس من سؤال يحتاج إلى جواب, فبينه الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186], يعني: أن أولئك الناس الذين فرض الله عز وجل عليهم الصيام سيسألونك عن الله جل وعلا وإجابته لعباده, من جهة هل هذا الأمر تعبداً لله سبحانه وتعالى محضاً من غير بيان ثواب مقدر من الله جل وعلا أم أن ثمة ثواباً مقدراً؟ وإن كان ثمة ثواب مقدر فما هو؟ فالله عز وجل بين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما في نفوسهم من استفهام, بين وجوده ثم بين جوابه, وذلك الجواب في قول الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186], وفي قوله جل وعلا: عِبَادِي [البقرة:186], إشارة إلى أن من لا يتحقق فيه وصف العبودية لله سبحانه وتعالى لا يرد عليه الأمر هنا.

وهذا قد يستدل به في مسألة خطاب المشركين بفروع الشريعة, وذلك أن هذا الأمر إنما جاء في سياق المخاطبين بفروع الشريعة وهم أهل الإسلام, فقال الله جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186], والمراد بالعبودية هنا هي عبودية الامتثال والاتباع وليست عبودية التصيير, وما جعله الله عز وجل من قهر على عباده, وأمارة ذلك أنهم يسألون عن إجابتهم لله عز وجل وعن ثمرتها, وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186], وهنا في قوله: (عني), ليس المراد بذلك هو السؤال عن ذات الله سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته, وإنما المراد بذلك ما كان حقاً للعباد جعله الله عز وجل من إجابته لسؤالهم.

سبب نزول قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني ...)

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186], في سبب نزول هذه الآية جاء جملة من الأحاديث ولكن معلولة, من ذلك ما رواه ابن جرير الطبري من حديث الصلت عن أبيه عن جده ( أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, الله قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] ), وجاء ما يعضد هذا أيضاً من المراسيل, جاء من حديث عطاء بن أبي رباح، وجاء أيضاً من حديث الحسن، وكلها مرسلة لا تصح.

والذي يظهر والله أعلم أن هذا الجواب هو على ما تقدم كلامه, أنه يوجد في نفوس المخاطبين سؤال في ثواب المكلف, فأراد الله سبحانه وتعالى أن يبين ذلك للعباد.

وهذا يؤخذ منه معنى أنه ينبغي للإنسان إذا أمر أمراً أن يبين العلة في ذلك إن استطاع, وكذلك أيضاً أن يبين ثواب الفاعل, فإن الله سبحانه وتعالى قال هنا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186], فذكر الله عز وجل هنا الدعاء وذكر الإجابة, وجعل الدعاء رديفاً للسؤال, فقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة:186], فجعل السؤال دعاء وجعل الدعاء سؤالاً, ولهذا نقول: إن السؤال والدعاء بمعنى واحد في مثل هذا الموضع.

أنواع إجابة الدعاء

وأما بالنسبة للإجابة وتنوعها فنقول: إن الإجابة على نوعين:

النوع الأول: هي إجابة إعطاء, وذلك يكون على سؤال ودعاء المسألة.

وأما بالنسبة لقبول العمل, وقبول العمل هذا يتعلق بدعاء العبادة, فالإجابة على دعاء العبادة هو قبول العمل, وقبول العمل لا بد أن يكون فيه الامتثال, ولهذا نقول: إن ظاهر الآية فيها دلالة على وجوب الاتباع والتعبد بما أمر الله عز وجل به, ولهذا قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة:186], هل هو لكل داع يدعو بما شاء؟ بأي عبادة يتعبد بها؟ لا, إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي [البقرة:186], والاستجابة لله سبحانه وتعالى هي: طاعته بما أمر, جاء تفسير ذلك عن غير واحد من المفسرين أن المراد بقول الله عز وجل: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي [البقرة:186], أي: بما أمرتهم به فليطيعوني كما أردت, فسره بذلك عبد الله بن عباس، وكذلك مجاهد بن جبر، وجاء أيضاً عن الربيع، وابن جريج وغيرهم من السلف, أي: أن إجابة الله عز وجل مشروطة بالاستجابة لله كما أراد الله سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: إن من شروط قبول العبادة من الله عز وجل لعبده: أن تكون موافقة لما شرعه الله.

كذلك أيضاً الإخلاص, وذلك يظهر أيضاً في قوله عز وجل: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي [البقرة:186], فالاستجابة لله لا لغيره, فمن تعبد لغير الله فأدى صلاة أو صياماً أو ذكراً لغير الله لم يكن مستجيباً لله وإنما استجاب لغيره, فعلى هذا نقول: إن هذه الآية فيها دلالة على وجوب المتابعة, وكذلك وجوب إخلاص النية لله سبحانه وتعالى في العمل.

أنواع الدعاء

والدعاء في الشريعة على نوعين: دعاء مسألة, ودعاء عبادة, وهذه الآية تشمل هذين المعنيين:

المعنى الأول: هو دعاء العبادة, والمراد بذلك أن الإنسان إذا تعبد لله عز وجل بعبادة على أي نحو كان فهو داع, فالمصلي داع, والصائم, والمزكي, وقارئ القرآن يدعو الله عز وجل, ودعاؤه ذلك له إجابة, وتلك الإجابة إذا توفرت شروط ذلك الدعاء تكون بقبول العمل, فإذا قبل العمل فللقبول أثر؛ وهو: الإثابة عليه, ولهذا جاء في حديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدعاء هو العبادة ), كما جاء في المسند وعند الترمذي وغيرهم.

ولهذا نقول: إن ذات الفعل هو عبادة, وعلى هذا فالمراد بالتعبد هنا والاستجابة لله هو الإتيان بما شرعه الله سبحانه وتعالى من أحكام الصيام على هذه الأمة, فمن تعبد لله ودعاه كما شرع فهو مستحق للإثابة.

النوع الثاني من أنواع الدعاء: دعاء المسألة, وهو: أن يسأل الإنسان الله عز وجل حاجة من حاجات الدنيا والآخرة, وإجابتها هو أن يعطى الإنسان ذلك السؤال.

وهل الإجابة حتمية؟

نقول: الإجابة حتمية من جهة العموم, وذلك أن الله عز وجل قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186], وهذا على الإطلاق, ولكن نقول: إن الإجابة من الله عز وجل لسؤال عبده تكون إما عيناً؛ بعين ما سأل, وإما أن تكون عوضاً عما سأل, والعوض في ذلك إما أن يعطى خيراً أو يكفى شراً, والعوض في ذلك إما أن يكون عاجلاً في الدنيا أو آجلاً في الآخرة فهو يدور في دائرة الإجابة, ولهذا نقول: إن إجابة الله عز وجل لعبده في دعائه قطعية.

وأما بالنسبة لكونها عينية كما سأل فهي مقيدة بمشيئة الله سبحانه وتعالى, وذلك لأمر.

الحكمة من عدم استجابة الله دعوة المشركين بتعجيل العذاب

وثمة أمر لطيف في هذا؛ وهو أن الله سبحانه وتعالى لا يجيب المشركين إذا سألوا الشر استعجالاً, فإذا سألوه أن يخسف بهم أو أن ينزل عليهم كسفاً من السماء, وذلك أن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده حتى على الظالمين, أي: لا يعجل الله عز وجل عليهم الهلاك, فإذا كان هلاكاً فلا يعجله الله؛ فكيف بِشَر يدعوه الإنسان على نفسه بالخير؟ كحال الإنسان يسأل الله عز وجل مالاً, والله عز وجل يعلم أن خلقته في تركيبه مما أعطاه الله من مواهب عقلية ودينية أن هذا المال سيكون وبالاً عليه, وما يكون وبالاً عليه هو قد يكون خيراً لغيره, فإذا كان الخير يؤول إلى شر لم يعطه الله عز وجل إياه, فإذا كان ذلك الأول للمشرك لم يعجله الله له فهو كذلك أيضاً لعبده المؤمن من باب أولى, ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى إذا سأله العبد حاجة من حاجات الدنيا وهو يعلم أن الأمر يؤول بعد عام أو عامين أو ثلاثة إلى أمر يسوء ذلك العبد فإن الله عز وجل لا يعطيه إياه, ولهذا ينبغي للإنسان أن يرضى بما يعطيه الله عز وجل إياه من خير وما يحبسه عنه مما يظنه خيراً, وليعلم أن الله عز وجل قد أعطاه سؤله, والله عز وجل بصير خبير, ولهذا كثير من الناس يتمنى خيراً ويسعى في خير ويحبه ثم إذا تحقق تمنى زوال ذلك الخير؛ لأنه آل إليه بِشر, وذلك يتعلق في أمور الأنعام, والأموال من الذهب والفضة, والزوجة, والمساكن, والأصحاب, فيتمنى قرباً من أحد أو نحو ذلك ثم يكون وبالاً عليه, وهذا إذا أدركه الإنسان بالتجربة علمه الله عز وجل من حال الإنسان من دون أن يقع فيه, فالله عز وجل يرفع بعض الخير عن الإنسان العاجل؛ لأنه يؤدي إلى شر آجل مستديم, وهذا من مواضع عدم إجابة الله لعبده عيناً, وأما الإجابة في ما هو نافع للعبد فهو من الأمور القطعية, ولهذا نقول: إن هذا الإطلاق إنما هو مستثنى بما جاء في حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله بأن الله سبحانه وتعالى إما أن يعجل لعباده، وإما أن يدفع عنه شراً وإما أن يدخرها له يوم القيامة, وهي على ما تقدم تفصيله معنا.

الدعاء عند الفطر

وعلى هذين النوعين يدخل في هذا الباب ما يتعلق بأحكام الصيام, ودعاء العبادة فيدخل في ذلك الصيام وغيره, وأما دعاء المسألة فما محله من أمر الصيام هنا؟ وذلك أن الله عز وجل بعد أن ذكر أمر الصيام قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186], فهل يشرع دعاء للصيام؟ قد ذكر بعض العلماء أن هذه الآية فيها دلالة على مشروعية الدعاء بعد الصيام, يعني: عند الفطر, وقد جاء في ذلك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمفردها ضعيفة ولكن بمجموعها يدل على أن لها أصلاً.

ومن القرائن التي تؤكد ذلك: هذه الآية أنها جاءت بعد مشروعية الصيام ذكر أمر الدعاء.

ومن ذلك أيضاً: أن الله جل وعلا ما ذكر عبادة من العبادات العظيمة إلا وجعل بعدها ذكراً, من ذلك الصلاة, وهي الركن الثاني من أركان الإسلام, وذلك فجعل الله بعدها الاستغفار ثلاثاً, وكذلك التهليل, وغير ذلك من الأذكار المعلومة.

وكذلك الحج, في قول الله عز وجل: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:200], فجعل الله عز وجل بعد انقضاء المناسك من مواضع شكر المنعم سبحانه وتعالى, وفي هذا الموضع وقد اقترن بمجموعة من الأدلة التي جاءت في المسند والسنن في أن للصائم عند فطره دعوة لا ترد, وهذه الأحاديث هي بمجوعها تدل على أن لها أصلاً, وكذلك أن العبادة في ذاتها تحتاج إلى سؤال القبول من الله سبحانه وتعالى, فيحتاج الإنسان إلى الدعاء.

أحوال الدعاء مع العبادة

والدعاء بالنسبة للعبادة على ثلاثة أحوال: سابق, ومصاحب, ولاحق.

أما الدعاء السابق فهو: أن يسأل الإنسان ربه عز وجل التسديد والإعانة على أداء هذه العبادة, وهذا يشرع في كثير من العبادات, أن يسأل الله عز وجل الإنسان الهداية والإعانة والتثبيت وغير ذلك, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـعلي بن أبي طالب : ( قل اللهم اهدني وسددني, وتذكر بالسداد سداد السهم وبالهداية هداية الطريق ), أي: يسأل الله عز وجل أن يعينه ويسأله الثبات, وغير ذلك من الأحاديث كدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على دينك ).

وأما الدعاء المصاحب للعبادة فهو أن يصاحبها الدعاء بالإعانة عليها وإتمامها, ولهذا شرع الله عز وجل في كثير من مواضع العبادة كالصلاة والمناسك في كثير من المواضع أن يسأل الله عز وجل من واسع فضله, وأن يذكره تكبيراً وتهليلاً.

وأما اللاحق فكما تقدمت الإشارة إليه, ولهذا نقول: إنه يستحب للصائم أن يدعو عند فطره لما تقدم من قرائن.

ما ثبت عن النبي من الدعاء عند الفطر

وأما الدعاء بعينه عن النبي صلى الله عليه وسلم وصفته فإنه لم ثبت, بمعنى أنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم دعاء معروف ولا صفة معروفة, بمعنى استقبال القبلة أو رفع اليدين أو إطالة بقدر محدود أو نحو ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء, وإنما هي مجموع الأدلة الواردة في هذا, ولهذا نقول: إن الدعاء عند الفطر مشروع, وإن رفع الإنسان يديه أو استقبل القبلة فالأمر في ذلك على السعة, والأولى أن يأخذ الدعاء على سبيل العموم, وذلك أنه لو اقترن مع الدعاء رفع اليدين والتزمه النبي صلى الله عليه وسلم واستقبل القبلة في هذا من ظهور التكلف من الدعاء أظهر من الدعاء الذي يدعو به الإنسان ارتجالاً, ولو كان كالحالة الأولى فيه نوع من التكلف لنقل؛ كدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في التكلف في عرفة وسؤال الله عز وجل, مع أنه موضع واحد وأطال إلا أنه نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مما يستديم به ولو كان سراً كدعائه في سجوده عليه الصلاة والسلام وما أرشد إليه عليه الصلاة والسلام في قيام الليل, وفي استفتاح الصلاة وغير ذلك, نقل في ذلك, وشهود الصيام والنقل في ذلك ينبغي أن يكون أشهر, وذلك لأن الإنسان إذا كان على موضع طعام فإنه يشاهد وينقل عنه, وجاء في ذلك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء عند الفطر بأدعية معلومة ولا يصح منها شيء؛ من ذلك ما رواه الطبراني في كتابه الدعاء من حديث ثابت عن أنس بن مالك عليه رضوان الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند فطره: اللهم لك صمت, وعلى رزقك أفطرت ), وهذا الحديث لا يصح؛ لأنه جاء من حديث داود بن الزبرقان عن شعبة وقد تفرد به، وحديثه منكر, وجاء حديث آخر من حديث عبد الله بن عباس.

وقد رواه ابن السني وكذلك الطبراني في الدعاء من حديث عبد الملك بن عنترة عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عباس ( اللهم على رزقك أفطرنا ولك صمنا ), وهذا الحديث أيضاً ضعيف؛ لأن في إسناده عبد الملك بن عنترة وهو متروك الحديث.

وقد جاء في مراسيل أبي داود بنحوه أيضاً, ورواه البيهقي عنه من حديث حصين عن معاذ بن زهرة مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا حديث مرسل, جاء عند أبي داود في كتابه السنن من حديث الحسين بن واقد عن مروان بن مقفى عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله أنه ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءه عند الفطر ( ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله ), وهذا أمثل شيء جاء في هذا الباب, مع أن هذا الحديث من مفاريد مروان بن مقفى عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله, وإن دعا الإنسان بهذا الدعاء أو دعا بغيره فنقول: إن الدعاء عند الفطر من الأمور المستفيضة, وقد صح عن جماعة من السلف من التابعين وغيرهم, فإن دعا بهذا النص فالأمر في ذلك حسن, وإن دعا بغيره فهو قد أتى بالمشروع.

المراد بالإيمان في قوله تعالى: (وليؤمنوا بي)

وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَلْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة:186], الإنسان لا يمكن أن يأتي بالعبادة إلا وهو مؤمن على هذا النحو في قوله: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة:186], لأن الاستجابة لله لا بد أن تكون عن إيمان, ولكن المراد بالإيمان هنا في قوله: وَلْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة:186], المراد بذلك هو احتساب الأجر عند الله؛ كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما, قال: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً ), أي: تصديقاً بأمر الله عز وجل عازماً مع يقين تام, وهذا فيه إشارة أيضاً إلى مسألة الثبات على العمل, وأنه ينبغي على الإنسان أن يستديم الدعاء.

والإيمان إذا تحقق في الإنسان فإنه يؤدي إلى استدامة الدعاء, واستدامة الدعاء من أعظم أنواع العبادة, وهذا في مقام الربوبية والألوهية فقط؛ وذلك أن الخلق إذا سئلوا ملوا وكرهوا, والله عز وجل إنما سمى نفسه بخير الرازقين؛ لأنه يحب أن يُسأل ليعطي, وسمى نفسه بخير الرازقين سبحانه وتعالى؛ لأنه يعطي الكافر والمؤمن؛ وثمة علة وهي: أن بعض الناس يسأل ويقول: لماذا الله عز وجل يرزق الكفرة وهم يحاربون دينه ويبقي الناس أحياء ولو كانوا يستهزئون بدينه؟ نقول: إنما ينتقم من يتأذى, وأما من لا يتأذى فالأمر على السواء عنده, فالله عز وجل المحسن والمسيء عنده من جهة ذاته سواء, لا يرفع إليه الخير من المتعبد ولا يصله سوء المسيء, ولهذا الإنسان إذا بلغه أن أحداً أساء إليه وهو لا يتضرر به ولا يأبه به لا ينزل به عقوبة؛ كحال الإنسان مثلاً إذا كان خارجاً من المسجد, ثم مر به صبي عمره سنتين وثلاث, ورمى عليه من الكلام الفاحش, فإنه لا يغضب بل يمضي؛ لأن مثل هذا الصبي لا يؤذيه, لكن لو جاءه جاره وهو رجل كبير وعاقل, ثم رمى عليه كلاماً, فإنه يأتيه دافع بالانتقام الحمية, ومحاولة الانتصار، وإن كان له يد خير عليه قطعها؛ لأنه لو لم يتأذ حساً تأذى معنوياً, ولهذا الله عز وجل خير الرازقين يعطي الكافر ويعطي المؤمن, ولهذا الشر لا يصل إلى الله سبحانه وتعالى حتى تطلب من الله الانتقام من أولئك.

والله عز وجل ينتقم من الكافر نصرة للمؤمن بإيمانه, ولهذا لو كان الكافر بذاته يعاقب لعاقب الله عز وجل الكفرة بذاتهم من غير بلاغ, وذلك للاستدلال على ذلك بأمر الفطرة, فإن الله عز وجل قد أخذ العهد والميثاق على عباده قبل أن يخلقهم.

المراد بالرشاد في قوله تعالى: (لعلهم يرشدون)

وقوله جل وعلا: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186], المراد بالرشاد هو الهداية, وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان كلما استكثر من العبادة وُفِّق إلى التسديد والهداية، فالعبادة تجر عبادة أخرى, والإنسان كلما استكثر عبادة استكثر من الصواب في القول والعمل, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في البخاري من حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام: ( قال الله جل وعلا: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ), وهذا هو الرشاد والتسديد, ( وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينه ), ذكر هنا إجابة الدعاء, وهي مقترنة بهذا, فكلما كان الإنسان أكثر تعبداً كان أقرب إجابة, ولهذا الله عز وجل قطع حبل الإجابة بينه وبين المشركين إلا في أبواب ضيقة كحال ركوبهم في الفلك حينما يدعون الله مخلصين له الدين يجيبهم جل وعلا في مثل هذه الأحوال, وإلا ما عدا ذلك فإن الأبواب منقطعة بينهم وبين ربهم, فالله عز وجل يجري عليهم العقاب والحساب، ولا يجري عليهم الثواب, وذلك لأنهم كفروا بالله سبحانه وتعالى.

ويؤيد هذا أيضاً ما جاء في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من لم يسأل الله يغضب عليه ), أي: كلما أكثر الإنسان من التعبد لله سبحانه وتعالى تعبداً مجرداً من غير سؤال فإن هذا نقص في العبودية, وإذا أكثر الإنسان سؤال الله عز وجل ولو شيئاً قليلاً فيه إظهار الافتقار من الإنسان لربه سبحانه وتعالى, فأنت حينما تعتمد على غيرك بما قل أو كثر ففيه إشارة إلى اعتمادك عليه؛ وأن لا غنى لك عنه؛ كحال الإنسان المقعد فإنه يعتمد على غيره في الشراب والإيواء والطعام والذهاب والمجيء وقضاء الحاجة, فهو في كل شيء يسأل.

فالإنسان إذا سأل الله عز وجل كل شيء فهو يقر بأن الله عز وجل بيده كل شيء, وأنه ضعيف لا يقدر على شيء إلا بحول الله عز وجل وقدرته, ومن لا يسأل الله عز وجل ويكثر من السؤال فإن فيه إشارة إلى استغناء القلب بالأسباب عن مسببها سبحانه وتعالى, ولهذا حتى لو تحقق الخير في يد الإنسان فإنه يسأل الله عز وجل خيراً, ولو شرب الماء يسأل الله عز وجل رزقاً؛ لأن في هذا عبودية لله سبحانه وتعالى، وإظهار الافتقار, ومن أعرض عن الله عز وجل فلا يسأله ولا يدعوه بأي نوع من أنواع الدعاء فإن هذا من أسباب غضب الله سبحانه وتعالى.

قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186], الآية, بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى أحكام الصيام, ووجه الخطاب جل وعلا إلى عموم المؤمنين في قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183], ثم ذكر الله عز وجل من خطاب المتوجه إلى الجماعة في قوله جل وعلا: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [البقرة:185]، وَمَنْ كَانَ [البقرة:185]، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184], توجه الله عز وجل بخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بقوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186], وهذا فيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل وإنما جاء ذلك قبل أن يسأل عليه الصلاة والسلام, وذلك أن الله عز وجل يستوي عنده السر والعلن وما في نفوس الناس, فجعل الله ما في نفوس الناس سؤالاً, يعني: أنهم إذا بيتوا السؤال وعزموا على إيراده على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عند الله عز وجل يحتاج إلى جواب, فكما لا يخفى أن الأمر عند الله سبحانه وتعالى على حد سواء, ولما بين الله عز وجل الأحكام الشرعية من جهة فرض الصيام, وكذلك ما جاء فيه من وجوب الإمساك, وبعض أحكام أهل الأعذار من المسافرين والمرضى, وما يلحق في ذلك من أحكام الصيام, أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين ثوابه لمن امتثل أمره, وذلك أن الإنسان إذا أمر بأمر فإنه يتبادر إلى ذهنه ما ثمرته من ذلك الفعل, فإذا أمر بقول أو أمر بفعل ينتظر جزاءه والثمرة من ذلك, سواء كانت الثمرة له بعينه أو الثمرة لغيره, فجعل الله جل وعلا ما في نفوس أولئك الناس من سؤال يحتاج إلى جواب, فبينه الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186], يعني: أن أولئك الناس الذين فرض الله عز وجل عليهم الصيام سيسألونك عن الله جل وعلا وإجابته لعباده, من جهة هل هذا الأمر تعبداً لله سبحانه وتعالى محضاً من غير بيان ثواب مقدر من الله جل وعلا أم أن ثمة ثواباً مقدراً؟ وإن كان ثمة ثواب مقدر فما هو؟ فالله عز وجل بين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما في نفوسهم من استفهام, بين وجوده ثم بين جوابه, وذلك الجواب في قول الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186], وفي قوله جل وعلا: عِبَادِي [البقرة:186], إشارة إلى أن من لا يتحقق فيه وصف العبودية لله سبحانه وتعالى لا يرد عليه الأمر هنا.

وهذا قد يستدل به في مسألة خطاب المشركين بفروع الشريعة, وذلك أن هذا الأمر إنما جاء في سياق المخاطبين بفروع الشريعة وهم أهل الإسلام, فقال الله جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186], والمراد بالعبودية هنا هي عبودية الامتثال والاتباع وليست عبودية التصيير, وما جعله الله عز وجل من قهر على عباده, وأمارة ذلك أنهم يسألون عن إجابتهم لله عز وجل وعن ثمرتها, وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186], وهنا في قوله: (عني), ليس المراد بذلك هو السؤال عن ذات الله سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته, وإنما المراد بذلك ما كان حقاً للعباد جعله الله عز وجل من إجابته لسؤالهم.

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186], في سبب نزول هذه الآية جاء جملة من الأحاديث ولكن معلولة, من ذلك ما رواه ابن جرير الطبري من حديث الصلت عن أبيه عن جده ( أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, الله قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] ), وجاء ما يعضد هذا أيضاً من المراسيل, جاء من حديث عطاء بن أبي رباح، وجاء أيضاً من حديث الحسن، وكلها مرسلة لا تصح.

والذي يظهر والله أعلم أن هذا الجواب هو على ما تقدم كلامه, أنه يوجد في نفوس المخاطبين سؤال في ثواب المكلف, فأراد الله سبحانه وتعالى أن يبين ذلك للعباد.

وهذا يؤخذ منه معنى أنه ينبغي للإنسان إذا أمر أمراً أن يبين العلة في ذلك إن استطاع, وكذلك أيضاً أن يبين ثواب الفاعل, فإن الله سبحانه وتعالى قال هنا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186], فذكر الله عز وجل هنا الدعاء وذكر الإجابة, وجعل الدعاء رديفاً للسؤال, فقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة:186], فجعل السؤال دعاء وجعل الدعاء سؤالاً, ولهذا نقول: إن السؤال والدعاء بمعنى واحد في مثل هذا الموضع.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير آيات الأحكام [30] 2758 استماع
تفسير آيات الأحكام [48] 2719 استماع
تفسير آيات الأحكام [54] 2520 استماع
تفسير آيات الأحكام [22] 2443 استماع
تفسير آيات الأحكام [58] 2332 استماع
تفسير آيات الأحكام [25] 2313 استماع
تفسير آيات الأحكام [35] 2267 استماع
تفسير آيات الأحكام [5] 2250 استماع
تفسير آيات الأحكام [11] 2212 استماع
تفسير آيات الأحكام [55] 2172 استماع