تفسير آيات الأحكام [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

تكلمنا في المجلس السابق في قول الله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].

واليوم سنتحدث عن قول الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54].

تشديد العقوبة على من ظهرت له البينة أو كان حديث عهد بها ثم خالف

في قوله سبحانه وتعالى: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:54], أمر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل أن يقوموا بقتل أنفسهم, وهذا حكم من الله سبحانه وتعالى تأديباً لهم, وذلك باتخاذهم العجل؛ أن عبدوه من دون الله سبحانه وتعالى, وهذه العقوبة التي أمر الله عز وجل بإنزالها ببني إسرائيل لم يأمر الله موسى أن ينزلها ببني إسرائيل, وإنما أمر بني إسرائيل أن يقوموا بإنزالها بأنفسهم, وهذا إما أن يكون حداً من حدود الله عز وجل عليهم عقوبة, وإما أن يكون تعزيراً لهم على فعلهم ذلك, ويدخل هذا في أبواب الحدود والتعزيرات, فهي داخلة في أبواب القضاء, ومسألة إقامة الحدود مردها إلى ولي الأمر.

وإنما أنزل الله سبحانه وتعالى هذه العقوبة على بني إسرائيل؛ حتى يتوب الله عز وجل عليهم ويرى صدقهم, وذلك أنهم لما وقعوا في جرم عظيم؛ وهو الكفر بالله سبحانه وتعالى، مع ظهور البينة والحجة, وهذا نأخذ منه حكماً وهو: أن البينة كلما ظهرت للإنسان فخالف فعقوبته عند الله عز وجل أشد, وإذا كان حديث عهد ببينة ثم خالف فإن العقوبة عليه كذلك أشد, بخلاف البينة إذا كانت بعيدة, أو كانت البينة ضعيفة, فإن العقاب عليه يكون أدنى, وموسى عليه السلام لما ذهب إلى ميعاد ربه؛ أخذ السامري من حلي بني إسرائيل من نسائهم ورجالهم من الذهب والفضة وصنع منه عجلاً له جسد, فعبد من دون الله سبحانه وتعالى؛ لما قيل: إن الله عز وجل جعل فيه خصلة أن الهواء يأتيه ثم ينطق, فيكون له خوار, وهذا مما يجعلهم يتعلقون به, وقيل: إن الله عز وجل قلبه عجلاً على الحقيقة, لما قبض قبضة فرمى بها عليه, وهذا من ابتلاء الله عز وجل لبعض عباده, وذلك أن بعض العباد يبتليهم الله عز وجل بضعف يقينهم, حتى يختبر ما فيهم من إيمان وتعلق بالله سبحانه وتعالى, فالإنسان يكون لديه يقين بالله عز وجل مع ضعف علم, ويكون لديه علم مع ضعف يقين, وأعظم ما ينجي الإنسان اليقين ولو لم يكن ثمة كثير علم, ولهذا العلم المقصود منه هو الخشية, فإذا وجدت الخشية -وهي ثمرة لليقين- فإن الإنسان يكون من أهل رسوخ الإيمان, ولهذا لما ذكر معروف -وهو من العباد- عند الإمام أحمد , قيل: إنه قليل الفقه, فقال الإمام أحمد رحمه الله: مه, وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف , يعني: أن العلماء يتعلمون ويريدون أن يصلوا إلى ما وصل إليه معروف رحمه الله, وذلك من التعبد لله عز وجل, والله سبحانه وتعالى قد يعطي عبده بعلم يسير يقيناً عظيماً, وقد يعطي عبده يقيناً يسيراً بعلم كثير, ولهذا نقول: إن العلم في ذاته لا يقي الإنسان, واليقين بذاته إذا وجد في قلب الإنسان رسخ الإنسان وقوي, والغالب أن اليقين لا يرسخ إلا مع علم, ورسوخ اليقين بدون علم فهذا متعذر, ولكن يقال: إن اليقين يوجد مع الإنسان مع وجود العلم, ولكن قد يوجد كثير اليقين مع علم قليل, وهذا معلوم في أحوال كثير من الناس.

ومن أراد اليقين التام فلا بد له من أمرين: العلم, والعمل, فهو الذي يورث الإنسان اليقين التام, فمن رسخ بهذين الجانبين فإنه من أهل التمكن والثبات على دين الله سبحانه وتعالى وقلما ينتكس, ولما كان موسى عليه السلام حديث عهد بقومه فاتخذوا العجل من بعده لما ذهب إلى ميقات ربه كانت العقوبة في ذلك أشد, وهذا سر تشديد عقوبة الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل؛ أن أمرهم بقتل أنفسهم.

كيفية قتل بني إسرائيل أنفسهم

أما كيفية القتل فقد جاء ذلك عن غير واحد من المفسرين, من ذلك: ما جاء كما عند ابن جرير الطبري وغيره من حديث مجاهد بن جبر , وكذلك جاء عن سعيد بن جبير رواه عنهما القاسم بن أبي بزة أنهما قالا: إن الله عز وجل أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم, فأخذوا السكاكين والخناجر, فأخذ بعضهم يضرب بعضاً لا يلوون على أحد, لا يعرفون أباً ولا راحماً, حتى أومأ موسى عليه السلام بثوبه، ثم نظروا وقد قتل منهم سبعون ألفاً, فقال الله عز وجل: حسبي, يعني: أن الله عز وجل أنزل عليهم العقوبة تلك, وإن لم تقع على أعيانهم فإن الإنسان تنزل عليه العقوبة بموت أخ أو بموت قريب, فأنزل الله عز وجل عليهم ذلك البلاء أن قاموا بذلك بأنفسهم.

وهذه العقوبة من جهة الأصل فالله سبحانه وتعالى جعلها موكولة إليهم في قوله: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54].

الحكمة من أمر الله عز وجل بني إسرائيل بقتل أنفسهم مع أن مرد إقامة الحدود والتعزير إلى ولي الأمر

والأصل أن القتل إذا أمر الله عز وجل به إما أن يكون حداً, وإما أن يكون تعزيراً, ومرده في ذلك إلى ولي أمر المسلمين, وولي الأمر هو موسى عليه السلام, ولكن الله عز وجل توجه بالخطاب إلى بني إسرائيل أن يقوموا بقتل أنفسهم, والعلة في ذلك أن القتل فيهم كثير, والعلة الأخرى: أن موسى لو قام بهذا الأمر فيهم واحداً واحداً لحملوا عليه, ولو كان ذلك على سبيل التدرج, لو قتل واحداً أو اثنين فرأوا الدماء قد استفاضت فيهم ربما حملوا عليه, وربما ارتدوا عن الدين بالكلية, ولم يكن ثمة أوبة, ولكن الله عز وجل جعل الأمر فيهم حتى تضيع دماء كثير من الناس فيما بينهم, ويكفر الله عز وجل عنهم ما وقعوا فيه, وهذا من العلة, وإلا فالأصل أن الأمر يتوجه إلى ولي أمر المسلمين, وهذا محل اتفاق عند العلماء, لا خلاف عندهم فيه, ولهذا قال الله عز وجل في كتابه العظيم: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2], قال غير واحد من المفسرين المخاطب المتوجه بالأمر بالجلد هنا هو إلى ولي الأمر, قال ابن العربي رحمه الله في كتابه أحكام القرآن: ولا خلاف, يعني: أن الأمر هنا متوجه إلى ولي أمر المسلمين وليس إلى غيره, وهذا ما يقول به جماعة من الأئمة، كما روى ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث عبدة عن عاصم عن الحسن البصري أنه قال: أربعة إلى السلطان: الزكاة, والصلاة, والحدود, والقصاص, وهذه الأربعة إنما تكون إلى السلطان فهو الذي يتولى أمرها, وليس لأحد أن ينازع في ذلك, ولا خلاف عند العلماء في هذه المسألة أن الأمر إلى السلطان.

إقامة غير السلطان الحد إذا تعذر على السلطان أن يقيمه

ولكن ثمة جملة من المسائل؛ وهي أن الله عز وجل حينما توجه بهذا الأمر إلى بني إسرائيل، فهل يقال: إن إقامة الحدود قد تنصرف إلى الناس إذا تعذر ذلك في ولي الأمر؛ بأن يكون تعذر ذلك قدراً بعدم وجود ولي أمر, أو تعذر ذلك من جهة عدم إقامة الحدود؛ لعدم إقامة الحدود؟

أولاً: ينبغي أن نحرر المسألة ونقول: إن العلماء اتفقوا على أن مرد ذلك إلى السلطان, وهذا لا خلاف فيه, ولا أعلم من خالف في هذا, إلا ما يتعلق بإقامة الحد على العبد من سيده, على خلاف عند العلماء في هذه المسألة على أقوال يأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.

وأما إذا تعذر إقامة الحد من ولي الأمر فإن ثمة مفسدتين:

المفسدة الأولى: هو تعطيل الحد.

المفسدة الثانية: هي الافتئات على ولي الأمر.

أما المفسدة الأولى فهي تتعلق بالتوحيد, وهو تعطيل الحد, فالله عز وجل قد جعل الحدود إليه, ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40], ويقول الله جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65], ويقول الله جل وعلا: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45], فأطلق الله عز وجل هذه الأوصاف: الظلم والكفر والفسق, على من لم يحكم بما أنزل الله, وهذا الأمر من الله سبحانه وتعالى بتحكيم شرعه من عباده, والعبادة من جهة الأصل لا يخالفها الإنسان أو يصرفها لغير الله إلا وقد أشرك مع الله عز وجل غيره, وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40], وظاهر أيضاً في قول الله جل وعلا: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65], إشارة إلى أن الأمر يتعلق بأمر ظن, والعبادة إذا تعلقت بأمر ظن من جهة ثبوت الإيمان وعدمه دل على أن هذا الأمر يتعلق بالتوحيد.

الفرق بين الحكم والتحكيم

ولدينا في مسألة الحدود وإقامتها أمران: حكم, وتحكيم, فالحكم ينصرف إلى ولي الأمر, والتحكيم ينصرف إلى المحكومين, فالحكم هو: التشريع والتقنين وإقامة الحدود على الناس, وأما التحكيم: فهذا الذي يكون من الناس للحاكم, أي: يختارون أحداً يقيم عليهم حكم الله جل وعلا, فالله سبحانه وتعالى قال في الحكم: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40], فجعله متعلقاً بالله سبحانه وتعالى, وأما التحكيم فقال الله جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

التحاكم إلى الأنظمة الوضعية في حكم مطابق للشرع

وهذا يتفرع عنه جملة من المسائل فيما يتعلق بمن أراد أن يتحاكم إلى غير نظام شرعي, وكان هذا النظام غير الشرعي يأتي بحكم الله عز وجل مطابقاً فهل له أن يتحاكم إليه, كالذي يريد أن يعيد ماله الذي سلب منه, إما بغصب أو كان عارية فجحدت, فإن الأنظمة الوضعية تقوم بإعادة الحق إلى صاحبه, فهل مثل ذلك يجوز للإنسان أن يتحاكم؟ الحكم في ذلك باطل, أما بالنسبة للتحاكم فهل يجوز ذلك أم لا؟ الذي يظهر لي والله أعلم أن الشريعة إذا جاءت مطابقة لشريعة الإسلام من جهة التحكيم جاز للإنسان أن يتحاكم إليها, فإذا كانت مطابقة أو دون ذلك إذا رضي ببعض الحق مع لزوم الكراهة القلبية, وأما مع الرضا القلبي فإن ذلك محرم, وهو مناف للإيمان؛ كما هو ظاهر في قول الله جل وعلا: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65],, وهذا فيما يتعلق بمسألة الحكم والتحكيم والكلام عليها يطول, ولا علاقة لها بمسألتنا هنا.

تابع إقامة غير السلطان الحد

وما يتعلق بإقامة حدود الله عز وجل من غير الوالي؛ ذكرنا أن ثمة مفاسد, المفسدة الأولى تقدمت الإشارة إليها, وهي الافتئات على ولي الأمر, المفسدة الثانية: هي تعطيل الحكم الشرعي.

نقول: إن المسألة إذا تعطل الحكم الشرعي الواحد فتلك مفسدة عينية, وأما المفسدة العامة هي التي تقع بين الناس في مسألة الافتئات على ولي الأمر, وذلك أن الناس يتداعون على إقامة الحدود بأنفسهم حتى يشيع الأمر عند الناس فيقتل بعضهم بعضاً, وذلك أن النفوس تتشوف إلى الزيادة بالبغي, فالنفوس مجبولة على الظلم, وقليل من النفوس من تعدل, ولهذا وجه الله عز وجل الولي بقوله: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الإسراء:33], يعني: لا يتعد بتنفيذ حكم الله عز وجل على من سلطه الله عليه, لهذا نقول: إن الحكم إذا تعطل من ولي الأمر ولم يقمه فهل للرعية أن تقيمه؟ نقول: بالنسبة لقضايا الأعيان مثل: أن يملك الإنسان أن يقيم حكم الله عز وجل من غير الرجوع إلى ولي الأمر من غير مفسدة جاز له ذلك, وإذا كانت المفسدة ولو يسيرة محتملة فإنه يحرم عليه ولو تعطل حكماً عينياً, ومن العلماء من يحكي الاتفاق على أنه لو عطل ولي الأمر الحدود ولم يدفع تحقيق المصلحة إلا بأن يقيم الناس الحدود فيما بينهم من غير مفاسد متعدية قالوا: وجب عليهم أن يقيموا الحدود فيما بينهم, قالوا: وذلك أن الأصل في أنه للسلطان إقامة الحدود والصلاة والزكاة وما يتعلق أيضاً بالقصاص, فلما جعلها الله عز وجل في بني إسرائيل وذلك لعذر ظاهر لموسى عليه السلام, فإن الأمر دليل على أنه ليس على الاطراد, وأن إقامة حكم الله عز وجل أولى من إناطته بولي الأمر, فإن المصلحة إذا تحققت بحكم الله عز وجل وإقامته في الناس وجب إقامتها من غير مفسدة ظاهرة.

اتفاق أناس على تنصيب أحدهم لإقامة الحدود إذا عطلها الولي العام

وهذا ينبغي للإنسان أن ينظر فيه بعين البصيرة, بالنظر إلى الأحوال, وإذا تعذر على الإنسان أن يقيم الحد بنفسه فهل له أن يستدعي غيره؛ بأن ينصبه والياً ونحو ذلك، وأن يقيمه في حال تعطيل الحدود؟ نقول: هذا حكمه على ما تقدم, من جهة الأصل هو المنع, والعلماء يتفقون على أن مرد ذلك إلى ولي الأمر, وهذا ربما يحتاجه من يتعلق بمسائل تطبيق أحكام الشريعة في العقود وغيرها في الأقليات في بلدان المسلمين, وذلك أنه يكون لديهم الحاجة بإقامة أحكام الله, بالتراضي فيما بينهم, وأما من غير تراض فإن المفسدة في ذلك ظاهرة, ولكن من الناس من يريد تطهيراً, ويعلم أنه لو ذهب مثلاً إلى ولي الأمر أو الحاكم في ذلك البلد أنه لن يقيم الحدود, وهذا يريد أن يطهر, أو يتداعى اثنان ثم عرف أحدهما وأقر بالحق؛ فهل لأحد أن يقيم الحد عليه؟ نقول: يجوز له, بل يجب عليه على قول جماعة من العلماء, وحكي الاتفاق على هذا إذا لم يكن ثمة مفسدة, خاصة في حال الإقرار؛ كشخص قذف شخص بزنا, ثم قال: إني قد أقررت بأني قذفتك بباطل، وأريد أن يقام علي الحد, وهم في بلد لا يقام فيه الحد, أو لو أراد أن يرفعه إلى السلطان لم يقم حكم الله عز وجل عليه؛ جاز أن يقيم حكم الله عز وجل عليه آحاد الناس, وهذا حكي الاتفاق عليه؛ لأن مثل هذا لا تظهر فيه المفسدة, وأما أن يفتح هذا الباب للناس بأن يقيموا الحدود من غير ولي أمر فإن في مثل ذلك مدعاة لفتح أبواب البغي فيما بينهم, ولهذا نقول: إن مثل هذا يدفع, ولهذا للإنسان أن يقيم حكم الله, وأن يزجر أهل الباطل ممن أصابوا حداً أو تعزيراً ولو لم يرفعه إلى ولي الأمر إذا غلب على ظنه أن ولي الأمر لا يقيم حكم الله عز وجل عليه.

سأل رجل الأمام أحمد قال: إني وجدت رجلاً شرب الخمر ولو رفعته إلى السلطان لم يقم الحد عليه؟ قال: اضربه أنت, يعني: تؤدبه إذا غلب على ظنك أنه لا يقيم حكم الله, شريطة ألا يوجد مفسدة في هذا, فلا ينصب الإنسان نفسه جلاداً في إقامة حدود الله عز وجل في الأرض, فإن المفسدة في هذا تظهر, ولكن نقول: الإنسان إذا غلب على ظنه وجود مفسدة وقامت عليه البينة عنده فإنه يجوز له أن يضربه، أو يقيم حد الله عز وجل عليه إذا لم تكن ثمة مفسدة ظاهرة, وهذا يحكم فيه في قضايا الأعيان, وليس هو الأصل, والأصل في ذلك أن يرجع في هذا إلى ولي الأمر.

الحالات التي يقام فيها الحد دون الرجوع إلى السلطان

وفي مثل هذا وهو إيكال الحدود والقصاص إلى ولي الأمر هل ثمة استثناء من هذا؟ نقول: منه ما تقدم الإشارة إليه, ومنه ما يتعلق بالإماء والعبيد إذا أصابوا حداً, فالإماء والعبيد إذا أصابوا حداً من حدود الله عز وجل فإن للسيد أن يقيم الحد عليه, حكي اتفاق السلف على هذا, أعني: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد روى ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت أشياخاً من الأنصار يجلدون إماءهم إذا زنين, وهذا أيضاً جاء عن غير واحد, كما جاء عن ابن شهاب الزهري فيما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف من حديث معمر أن الزهري قال: مضت السنة أن يقيم على الإماء والعبيد الحد، يعني: يقيمون عليهم الحدود, وهذا فيما بينهم.

وقد جاء ذلك أيضاً عن جماعة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى, روي هذا -وفي إسناده انقطاع- عن عمر بن الخطاب , وجاء هذا عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله, و عبد الله بن عمر بإسناد صحيح, كما روى ذلك ابن أبي شيبة و عبد الرزاق في كتابه المصنف من حديث أيوب عن سالم عن عبد الله بن عمر أنه جلد عبداً الحد, وجاء أيضاً عن حفصة أنها قتلت جارية لها ساحرة ولم ترفع ذلك إلى السلطان, فنقول: إذا أصاب العبد حداً سواء شرب الخمر أو كانت الأمة أو العبد زانياً فإنه يقام عليه الحد على قول أكثر الأئمة, وهو قول الجماهير. ذهب إلى هذا الإمام مالك و الشافعي و الإمام أحمد رحمه الله.

وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن مرد ذلك إلى ولي أمر المسلمين سواء كان عبداً أو حراً, وثمة قول في مذهب أبي حنيفة رحمه الله وهو: أن الأمة إذا كانت ذات زوج حر فإن أمرها إلى السلطان, وكذلك العبد إذا كان متزوجاً فإن أمره إلى السلطان, وأما إذا كان العبد والأمة ليسا بمتزوجين فإن الأمر إلى السيد, وروي هذا أيضاً عن عبد الله بن عمر في التفريق بين هذين الحالين, وعن ابن شهاب الزهري , ونستطيع أن نقول: إن الأمر في مسألة الإماء على أحوال:

الحالة الأولى: أن ما كان من الإماء من غير زوج, فهذا شبه إجماع عند الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أن الأمر إلى السيد أن يقيم الحد عليهم.

الحالة الثانية: إذا كان العبد والأمة متزوجين، فنقول حينئذ: إن الأمر إلى السلطان, وإذا لم يكونا كذلك فإن الأمر إلى السيد على قول عامة العلماء خلافاً لـأبي حنيفة , وثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث عمرو عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى أنه سأله رجل عن أمته التي زنت, فقال: أقم عليها الحد, يعني: أنت, وهذا ظاهر كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما, قال: ( إذا زنت أمة أحدكم فلتجلد الحد ولا يثرب, فإذا زنت الثانية فاجلدوها الحد ولا تثرب, ثم ذكر الثالثة قال: فإذا زنت في الرابعة فبعها ولو بحبل شعر ).

كون بيع الأمة الزانية من إقامة الحد

وبيع الأمة في هذه الحالة بعد الزنا في الرابعة هل هو من الحدود أم لا؟ نقول: فيما يظهر أنه من أمور التعزير, والبيع هنا أن الإنسان إذا فارق مكاناً أو بلدة وباعه فإنه شبيه بالنفي, والإنسان إذا فارق أهله ومن تربى فيهم ونحو ذلك نوع تأديب له أن ينفى عنه, وكذلك فيه نوع تأديب أن ينفى عن مواضع معارفه مما يعرفه من أحوال الناس وأقوالهم وأفعالهم ولغتهم, وكذلك في قضاء حاجته إذا أراد أن يركن إليهم ونحو ذلك, وفي هذا من التأديب النفسي كما لا يخفى, ولهذا شرع الله عز وجل على من وقع في الزنا وليس بمحصن أن يغرب, وهذا التغريب القصد منه هذا, ولكن يظهر أنه ليس بحد, والدليل على ذلك أن هذا يأتي في بعض الروايات، وفي بعضها يشك هل هو في الثالثة أم في الرابعة؟ وعدم وضعه وتحديده في موضع معين دليل على عدم ضبط الرواة له على أنه من وجوه التعزير, فمن وجوه الحدود البينة وإنما هو من أمور التعزيرات, وهذا إذا كان في أمر الحدود.

الفرق بين الحدود والتعزيرات

وأما ما كان من أمور التعزيرات فأمرها إلى ولي الأمر كذلك, ولكن التعزيرات تختلف عن الحدود في كلام العلماء, وذلك أن الحدود هي واجبة على ولي الأمر أن يقيمها وليست من حقوقه, ومعنى أنها ليست من حقوقه: أنه لا يملك الصفح والعفو فيها, فلا يملك العفو والصفح فيها, فإن عفا وصفح عُد ظالماً باغياً, ولهذا يقول العلماء: إن إقامة الحدود واجبة على السلطان وليست حقاً له, وأما التعزيرات فهل هي حق عليه أم حق له؟ جمهور العلماء وهو قول الإمام مالك وقول أبي حنيفة والإمام أحمد رحمهم الله أنها واجبة عليه, وله أن يعفو للصالح العام لا لصالح نفسه, وأما الإمام الشافعي رحمه الله فيرى أنها حق للإمام, لا واجبة عليه, والفرق بينهما أن الإمام الشافعي رحمه الله يرى أن الأمر موكول إلى الإمام أو نائبه ومن ينصبه, فله أن يعفو وله أن يقيم الحد من غير سؤال, وجماهير العلماء إلى أن الأمر ليس إلى ولي الأمر, وأنه واجب عليه, وأن العفو في ذلك يتعلق بالمصلحة العامة لا بمصلحته هو, والفرق بين هذا وهذا أن العلماء يقولون: إن ولي الأمر ليس له أن يعفو في أمور التعزير إلا للمصلحة العامة لا المصلحة الخاصة, فإذا لم تقم المصلحة العامة بإقامة حد التعزير وقامت المصلحة في العفو عنه جاز له أن يعفو عنه؛ لأن المصلحة العامة ليست بظاهرة, وأما العفو من غير مصلحة عامة فلا تجوز, ويكون هذا من التعدي والظلم بإسقاط حكم الله سبحانه وتعالى.

الحدود كفارة لأصحابها

وفي قول الله عز وجل: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [البقرة:54], دليل على ما تقدمت الإشارة إليه أن إقامة الحدود كفارة لأصحابها, كفارة لتلك الذنوب التي وقعوا فيها, وهذه المسألة خلافية, وعامة العلماء على أنها كفارة, ويستدلون بحديث عبادة بن الصامت عليه رضوان الله تعالى وهو الصحيح, قال: ( من أصاب من هذه حداً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ), وجاء عند الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة قال: لا أدري أيغفر له أم لا, أو إلى الله, إن شاء غفر له وإن شاء عذبه, يعني: أن مرده إلى الله عز وجل ولا يغفر له ذلك الذنب, ويظهر والله أعلم أن حديث عبادة ناسخ لحديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى.

في قوله سبحانه وتعالى: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:54], أمر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل أن يقوموا بقتل أنفسهم, وهذا حكم من الله سبحانه وتعالى تأديباً لهم, وذلك باتخاذهم العجل؛ أن عبدوه من دون الله سبحانه وتعالى, وهذه العقوبة التي أمر الله عز وجل بإنزالها ببني إسرائيل لم يأمر الله موسى أن ينزلها ببني إسرائيل, وإنما أمر بني إسرائيل أن يقوموا بإنزالها بأنفسهم, وهذا إما أن يكون حداً من حدود الله عز وجل عليهم عقوبة, وإما أن يكون تعزيراً لهم على فعلهم ذلك, ويدخل هذا في أبواب الحدود والتعزيرات, فهي داخلة في أبواب القضاء, ومسألة إقامة الحدود مردها إلى ولي الأمر.

وإنما أنزل الله سبحانه وتعالى هذه العقوبة على بني إسرائيل؛ حتى يتوب الله عز وجل عليهم ويرى صدقهم, وذلك أنهم لما وقعوا في جرم عظيم؛ وهو الكفر بالله سبحانه وتعالى، مع ظهور البينة والحجة, وهذا نأخذ منه حكماً وهو: أن البينة كلما ظهرت للإنسان فخالف فعقوبته عند الله عز وجل أشد, وإذا كان حديث عهد ببينة ثم خالف فإن العقوبة عليه كذلك أشد, بخلاف البينة إذا كانت بعيدة, أو كانت البينة ضعيفة, فإن العقاب عليه يكون أدنى, وموسى عليه السلام لما ذهب إلى ميعاد ربه؛ أخذ السامري من حلي بني إسرائيل من نسائهم ورجالهم من الذهب والفضة وصنع منه عجلاً له جسد, فعبد من دون الله سبحانه وتعالى؛ لما قيل: إن الله عز وجل جعل فيه خصلة أن الهواء يأتيه ثم ينطق, فيكون له خوار, وهذا مما يجعلهم يتعلقون به, وقيل: إن الله عز وجل قلبه عجلاً على الحقيقة, لما قبض قبضة فرمى بها عليه, وهذا من ابتلاء الله عز وجل لبعض عباده, وذلك أن بعض العباد يبتليهم الله عز وجل بضعف يقينهم, حتى يختبر ما فيهم من إيمان وتعلق بالله سبحانه وتعالى, فالإنسان يكون لديه يقين بالله عز وجل مع ضعف علم, ويكون لديه علم مع ضعف يقين, وأعظم ما ينجي الإنسان اليقين ولو لم يكن ثمة كثير علم, ولهذا العلم المقصود منه هو الخشية, فإذا وجدت الخشية -وهي ثمرة لليقين- فإن الإنسان يكون من أهل رسوخ الإيمان, ولهذا لما ذكر معروف -وهو من العباد- عند الإمام أحمد , قيل: إنه قليل الفقه, فقال الإمام أحمد رحمه الله: مه, وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف , يعني: أن العلماء يتعلمون ويريدون أن يصلوا إلى ما وصل إليه معروف رحمه الله, وذلك من التعبد لله عز وجل, والله سبحانه وتعالى قد يعطي عبده بعلم يسير يقيناً عظيماً, وقد يعطي عبده يقيناً يسيراً بعلم كثير, ولهذا نقول: إن العلم في ذاته لا يقي الإنسان, واليقين بذاته إذا وجد في قلب الإنسان رسخ الإنسان وقوي, والغالب أن اليقين لا يرسخ إلا مع علم, ورسوخ اليقين بدون علم فهذا متعذر, ولكن يقال: إن اليقين يوجد مع الإنسان مع وجود العلم, ولكن قد يوجد كثير اليقين مع علم قليل, وهذا معلوم في أحوال كثير من الناس.

ومن أراد اليقين التام فلا بد له من أمرين: العلم, والعمل, فهو الذي يورث الإنسان اليقين التام, فمن رسخ بهذين الجانبين فإنه من أهل التمكن والثبات على دين الله سبحانه وتعالى وقلما ينتكس, ولما كان موسى عليه السلام حديث عهد بقومه فاتخذوا العجل من بعده لما ذهب إلى ميقات ربه كانت العقوبة في ذلك أشد, وهذا سر تشديد عقوبة الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل؛ أن أمرهم بقتل أنفسهم.

أما كيفية القتل فقد جاء ذلك عن غير واحد من المفسرين, من ذلك: ما جاء كما عند ابن جرير الطبري وغيره من حديث مجاهد بن جبر , وكذلك جاء عن سعيد بن جبير رواه عنهما القاسم بن أبي بزة أنهما قالا: إن الله عز وجل أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم, فأخذوا السكاكين والخناجر, فأخذ بعضهم يضرب بعضاً لا يلوون على أحد, لا يعرفون أباً ولا راحماً, حتى أومأ موسى عليه السلام بثوبه، ثم نظروا وقد قتل منهم سبعون ألفاً, فقال الله عز وجل: حسبي, يعني: أن الله عز وجل أنزل عليهم العقوبة تلك, وإن لم تقع على أعيانهم فإن الإنسان تنزل عليه العقوبة بموت أخ أو بموت قريب, فأنزل الله عز وجل عليهم ذلك البلاء أن قاموا بذلك بأنفسهم.

وهذه العقوبة من جهة الأصل فالله سبحانه وتعالى جعلها موكولة إليهم في قوله: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54].

والأصل أن القتل إذا أمر الله عز وجل به إما أن يكون حداً, وإما أن يكون تعزيراً, ومرده في ذلك إلى ولي أمر المسلمين, وولي الأمر هو موسى عليه السلام, ولكن الله عز وجل توجه بالخطاب إلى بني إسرائيل أن يقوموا بقتل أنفسهم, والعلة في ذلك أن القتل فيهم كثير, والعلة الأخرى: أن موسى لو قام بهذا الأمر فيهم واحداً واحداً لحملوا عليه, ولو كان ذلك على سبيل التدرج, لو قتل واحداً أو اثنين فرأوا الدماء قد استفاضت فيهم ربما حملوا عليه, وربما ارتدوا عن الدين بالكلية, ولم يكن ثمة أوبة, ولكن الله عز وجل جعل الأمر فيهم حتى تضيع دماء كثير من الناس فيما بينهم, ويكفر الله عز وجل عنهم ما وقعوا فيه, وهذا من العلة, وإلا فالأصل أن الأمر يتوجه إلى ولي أمر المسلمين, وهذا محل اتفاق عند العلماء, لا خلاف عندهم فيه, ولهذا قال الله عز وجل في كتابه العظيم: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2], قال غير واحد من المفسرين المخاطب المتوجه بالأمر بالجلد هنا هو إلى ولي الأمر, قال ابن العربي رحمه الله في كتابه أحكام القرآن: ولا خلاف, يعني: أن الأمر هنا متوجه إلى ولي أمر المسلمين وليس إلى غيره, وهذا ما يقول به جماعة من الأئمة، كما روى ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث عبدة عن عاصم عن الحسن البصري أنه قال: أربعة إلى السلطان: الزكاة, والصلاة, والحدود, والقصاص, وهذه الأربعة إنما تكون إلى السلطان فهو الذي يتولى أمرها, وليس لأحد أن ينازع في ذلك, ولا خلاف عند العلماء في هذه المسألة أن الأمر إلى السلطان.