أرشيف المقالات

صلاة أهل الأعذار

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
مواضع صفة الصلاة
صلاة أهل الأعذار
المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع

قوله: (ولمريض الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام؛ لمداواة بقول طبيب مسلم ثقة، وله الفطر بقوله: إن الصوم مما يُمكِّن العلة)[1].
 
قال في "الشرح الكبير":
"مسألة: وإذا قال ثقات من العلماء بالطب للمريض: إن صليت مستلقياً أمكن مداواتك، فله ذلك، وهذا قول جابر بن زيد والثوري وأبي حنيفة[2]، قال القاضي: وهو قياس المذهب[3]، وكرهه عبيد الله بن عبدالله بن عتبة وأبو وائل.
 
وقال مالك[4] والأوزاعي: لا يجوز؛ لما روي عن ابن عباس: أنه لما كف بصره أتاه رجل فقال: لو صبرت علي سبعة أيام لم تصل إلا مستلقياً داويت عينك ورجوت [137أ] أن تبرأ، فأرسل في ذلك إلى عائشة وأبي هريرة وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلهم قال له: إن مت في هذه الأيام، ما الذي تصنع بالصلاة؟! فترك معالجة عينه[5].
ولنا[6]: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالساً لما جحش شقه[7]، والظاهر أنه لم يكن يعجز عن القيام، لكن كان عليه فيه مشقة أو خوف ضرر، وأيهما قدر فهو حجة على الجواز ههنا؛ ولأنا أبحنا له ترك الوضوء إذا لم يجد الماء إلا بزيادة على ثمن المثل؛ صونا لجزء من ماله، وترك الصوم لأجل المرض والرمد، ودلت الأخبار على جواز ترك القيام في صلاة الفرض على الراحلة خوفاً من ضرر الطين في ثيابه وبدنه، وجاز ترك القيام اتباعاً لإمام الحي، والصلاة على جنبه ومستلقياً في حالة الخوف من العدو، ولا ينقص الضرر بفوات البصر عن الضرر في هذه الأحوال، وحديث ابن عباس - إن صح - فيحتمل أن المخبر لم يخبر عن يقين، وإنما قال: أرجو، أو لأنه لم يقبل خبره لكونه واحداً أو مجهول الحال، بخلاف مسألتنا"[8].
 
وقال الحافظ في كتاب الطب:
"والطب نوعان: طب جسد، وهو المراد هنا، وطب قلب، ومعالجته خاصة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه وتعالى، وأما طب الجسد: فمنه ما جاء في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم، ومنه ما جاء عن غيره، وغالبه راجع إلى التجربة، ثم هو نوعان:
• نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر؛ بل فطر الله على معرفته الحيوانات، مثل: ما يدفع الجوع والعطش.
 
• ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر؛ كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال، وهو إما إلى حرارة أو برودة، وكل منهما إما إلى رطوبة أو يبوسة، أو إلى ما يتركب منهما، وغالب ما يقاوم الواحد منهما بضده والدفع قد يقع من خارج البدن، وقد [137ب] يقع من داخله، وهو أعسرهما والطريق إلى معرفته بتحقق السبب والعلامة، فالطيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضر بالبدن جمعه أو عسكه، وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه، ومدارك ذلك على ثلاثة أشياء: حفظ الصحة، والاحتماء عن المؤذي، واستفراغ المادة الفاسدة، وقد أشير إلى الثلاثة في القرآن.
 
فالأول من قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 185]، وذلك أن السفر مظنة النصب، وهو من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد؛ فأبيح الفطر إبقاء على الجسد.
 
وكذا القول في المرض الثاني، وهو الحمية من قوله تعالى:  ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء:29]، فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد.
 
والثالث من قوله تعالى: ﴿ أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ﴾ [البقرة: 196]، فإنه أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم؛ لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس.
 
وأخرج مالك في "الموطأ": عن زيد بن أسلم مرسلاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجُلين: (أيكما أطب؟)، فقالا: يا رسول الله، وفي الطب خير؟ قال: (أنزل الداء الذي أنزل الدواء)[9] "[10].
 
وقال البخاري:
"باب: هل يداوي الرجلُ المرأةَ والمرأةُ الرجلَ؟ وذكر حديث رُبيع بنت معوذ ابن عفراء، قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسقي القوم ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة[11]".
 
قال الحافظ:
"قوله: (باب: هل يُداوي الرجل المرأة أو المرأةُ الرجل؟)، ذكر فيه حديث الربيع: كنا نغزو ونسقي القوم ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة، وليس في هذا السياق تعرض للمداواة إلا إن كان يدخل في عموم قولها: (نخدمهم)، نعم ورد الحديث المذكور بلفظ: (ونداوي الجرحى [138أ] ونرد القتلى)، وقد تقدم كذلك في باب: مداواة النساء الجرحى في الغزو من كتاب الجهاد، فجرى البخاري على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض ألفاظ الحديث، ويؤخذ حكم مداواة الرجل المرأة منه بالقياس، وإنما لم يجزم بالحكم لاحتمال أن يكون ذلك قبل الحجاب، أو كانت المرأة تصنع ذلك بمن يكون زوجاً لها أو محرماً، وأما حكم المسألة: فتجوز مداواة الأجانب عند الضرورة، وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك"[12].
 
وقال أيضاً في باب: (مداواة النساء الجرحى في الغزو): "قال ابن المنير: الفرق بين حال المداواة وتغسيل الميت: أن الغُسل عبادة والمداواة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات"[13].
 
وقال الشيخ ابن سعدي:
"سؤال: ما هي الحالة التي يسقط فيها شيء من الأركان في الصلاة مع القدرة؟
الجواب: يسقط القيام عن المأمومين إذا صلى بهم الإمام الراتب جالساً؛ لعجزه عن القيام، فيُشرع لهم الجلوس، وهو أولى من القيام إلا إذا ابتدأ بهم الصلاة قائماً.
 
• ويسقط بالمداواة إذا كان القيام يمنع حصول المقصود.
• ويسقط أيضاً إذا خاف عدواً ينظر إليه إذا قام.
• وتسقط الفاتحة عن المأموم إذا جهر إمامه فيتحملها الإمام عنه.
 
ويسقط القيام أيضاً للعريان على المذهب[14]، والصحيح عدم السقوط؛ لعدم الدليل على سقوطه، وكذلك - على المذهب - إذا قدر أن يصلي في غير الجماعة قائماً، وإذا حضر الجماعة لم يقدر على القيام فالمذهب أنه يخير[15]، وقيل: يقدم القيام، وقيل: يقدم صلاة الجماعة وهو أولى؛ لأن القيام في حقه يصير غير ركن؛ لعجزه عنه، ويدرك الجماعة التي لا تعد مصالحها"[16] [138أ].



[1] الروض المربع ص115.


[2] فتح القدير 1/376، وحاشية ابن عابدين 2/ 103 - 104.


[3] كشاف القناع 3/256، وشرح منتهى الإرادات 1/595.


[4] الشرح الصغير 1/130 - 131، وحاشية الدسوقي 1/261- 262.


[5] أخرجه ابن أبي شيبة 2/45.


[6] كشاف القناع 3/256، وشرح منتهى الإرادات 1/595 - 596.


[7] أخرجه البخاري 689، ومسلم 411 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.


[8] الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 5/17 - 19.


[9] الموطأ 2/943.


[10] فتح الباري 10/134.


[11] البخاري 5679.


[12] فتح الباري 10/136.


[13] فتح الباري 6/80.


[14] شرح منتهى الإرادات 1/442، وكشاف القناع 2/445.


[15] شرح منتهى الإرادات 1/595، وكشاف القناع 3/255.


[16] الإرشاد ص454.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣