أرشيف المقالات

الزوجان في مسكن واحد (1)

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
فقه الأسرة
الحلقة (67)
الزوجان في مسكن واحد (1)


الحمدُ لله وحدَه، والصَّلاة والسَّلام على مَن لا نبيَّ بعدَه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أمَّا بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله أيها المستمعون والمستمعات في برنامجكم: فقه الأسرة، وفي هذه الحلقة أعرضُ لكم مستمعيَّ الأفاضل مسألةً تتعلَّق بالعِشرة بين الزوجين، وهي مسألةٌ مُقرَّرة لدى الناس، ولكن يحسُنُ الوقوف عندها، واستحضار بعض الأحكام والأدلَّة الشرعيَّة التي جاءت مُؤيِّدة لها وحاثَّة عليها.
 
مستمعيَّ الأفاضل:
لا شكَّ أنَّ الحياة الزوجيَّة نعمةٌ من نعم الله تعالى التي امتنَّ بها على عباده، ومن لوازم العِشرة بين الزوجين أن يأوي الزوجان إلى بعضهما البعض في بيتٍ واحد وتحت سقف واحد؛ ليستمتعا بالحِكَمِ الربانيَّة والمقاصد العظيمة في تشريع النكاح.
 
والمتأمِّل في الأدلَّة الشرعيَّة من الكتاب والسُّنَّة يلحَظُ عنايةَ الشرع بذلك؛ لما فيه من الأثر الحميد على الحياة الزوجيَّة.
 
فقد سمَّى الله تعالى النكاحَ سكنًا، وامتنَّ على عباده بنعمة السكينة في الزواج، ونعمة السكن والاستقرار في البيوت والمساكن؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ [الأعراف: 189].
 
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله تعالى - في تفسير الآية:
"﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ [الأعراف: 189]؛ أي: ليَألَفها ويسكُن بها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21]، فلا ألفةَ بين زوجين أعظم ممَّا بين الزوجين".
 
وقال تعالى ممتنًّا على عباده بنعمة البيوت والسُّكنى فيها: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ﴾ [النحل: 80].
 
والسَّكَنُ في اللغة يُطلَق على معانٍ؛ منها: السكينة، والوقار، والوداع، والاطمئنان.
 
جاء في "مختار الصحاح":
"سَكَن الشَّيْءُ من باب دَخَل، والسَّكينة: الوَدَاع والوَقَار، وسكَنَ دارَه يَسكُنها بالضم سُكْنَى، والمَسْكِنُ بكسر الكاف: المنزل والبَيْت، وأهْلُ الحِجاز يفتَحون الكافَ، والسَّكَن أيضًا: كُلُّ ما سكنتَ إليه".
 
وقال في "لسان العرب":
"السَّكَن: سُكْنَى الرجل في الدار، يقال: لك فيها سَكَنٌ؛ أي: سُكْنَى، والسَّكَنُ والمَسْكَنُ والمَسْكِن: المنزل...
والسَّكَنُ: كل ما سَكَنْتَ إليه واطمأْنَنت به من أَهلٍ وغيره، وربما قالت العرب: السَّكَنُ، لما يُسْكَنُ إليه، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ﴾ [الأنعام: 96]، والسَّكَنُ: المرأَة؛ لأَنها يُسْكَنُ إليها".
 
ولما في الزواج من سكينةٍ ومودَّة ورحمة، ولما في نعمة المسكن من فائدة ومنَّةٍ لله تعالى - فقد استقرَّ حالُ الناس في القديم والحديث على أنْ يستقلَّ الزوجان بمسكنٍ يأويان إليه، وفيه يُفضِيان إلى بعض، ويكون بينهما ما أباح الله تعالى ممَّا طبيعته الإخفاءُ والسترُ.
 
وسواء كان هذا المسكن بيتًا كاملاً أو جُزءًا من بيت كقسمٍ منه أو جناح، فيَصدُق عليه كونه بيتًا ومسكنًا يسكن الزوجان ويستريحان فيه.
 
ولذا فإنَّ من أهمِّ حُقوق الزوجة توفير المسكن؛ قال تعالى: ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ﴾ [الطلاق: 6]، ومن لوازم المسكن: الاجتماعُ فيه بين الساكنين، والانفِراد عن بقيَّة الناس ممَّن هم خارج المسكن، واجتماع الزوجين في مسكنٍ واحد هو ما تقتَضِيه الأدلَّة الشرعيَّة، وهو المحقِّق لمصالح النِّكاح الكثيرة، ومن ثَمَّ فإنَّ الأصل الجاري لدى الغالب من الناس أنْ يجتمع الزوجان في مسكن واحد، وما عداه فهو استثناءٌ، كما سيأتي ذكره وبيان حكمه لاحقًا - بإذن الله تعالى.
 
ويمكن الاستدلال على أنَّ الأصل المطَّرد اجتماع الزوجين في مسكنٍ واحد بنوعين من الأدلَّة:
1/ أدلَّة على استحقاق الزوجة للمسكن، ولزومه على الزوج.
 
2/ أدلَّة على أنَّ الزوجين يجتمعان في مسكن واحد.
 
أمَّا النوع الأوَّل من الأدلَّة:
فإنَّ إسكان الزوجة واجبٌ على الزوج بدلالة القُرآن الكريم، والسُّنَّة النبويَّة، وإجماع العلماء، والمعقول، ومن الأدلَّة على ذلك:
 
قول الله تعالى: ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ﴾ [الطلاق: 6]، وقد وردت هذه الآية الموجبة للسُّكنى في حقِّ المطلَّقة، وأنَّه يجبُ على زوجها الذي طلَّقها أنْ يُسكِنها حتى تنتهي عدَّتها، وبذلك قال المفسِّرون.
 
وإذا وجبت السُّكنى للمطلَّقة الرجعيَّة، فمن باب أَوْلَى وجوبُ إسكان الزوجة التي لا تَزالُ في عِصمة زوجها.
 
وقول الله تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19]، ومن المعروف أنْ يسكنها في مسكن، ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون، وفي التصرُّف، والاستمتاع، وحِفظ المتاع.
 
وقول الله تعالى: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ﴾ [الطلاق: 7]، وقوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 233]، ووجْه الدَّلالة من الآيتين: أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - فرَض على الزوج النفقةَ والكسوة بالمعروف، ومن تمام ذلك أنْ يُوفِّر لها مسكنًا يكونُ صالحًا لمثْلها.
 
أمَّا من السُّنَّة النبويَّة: فقد ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال في خُطبته في حجَّة الوداع: ((ولهنَّ عليكم رِزقهنَّ وكِسوتهنَّ بالمعروف))، ووجه الدلالة: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بيَّن وجوبَ النفقة والكسوة على الزوج بالمعروف، والمعروف: هو كفايتها، والمسكن من كفايتها.
 
وأجمع أهل العلم - رحمهم الله - على وُجوب إسكان الزوجة على زوجها، لحاجتها للإيواء.
 
والنوع الثاني من أدلَّة هذه المسألة - أعني: اجتماع الزوجين في مسكن واحد -:
ما أخرجه أبو داود وغيره عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، ما حقُّ زوجة أحدِنا عليه؟ قال: ((أنْ تُطعِمها إذا طعمتَ، وتكسوها إذا اكتسَيْتَ أو اكتسبت، ولا تضرب الوجه، ولا تُقبِّح، ولا تهجُر إلا في البيت)).
 
قال في "عون المعبود شرح سنن أبي داود" (ج5 / ص27): "((ولا تهجر إلا في البيت))؛ أي: لا تتحوَّل عنها أو لا تحوِّلها إلى دارٍ أخرى؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ﴾ [النساء: 34]".
 
ويُؤكِّد ذلك ما ذهَب إليه بعضُ الفقهاء (الحنفيَّة والمالكيَّة) من اشتراط إفراد الزوجة بمسكنٍ تختصُّ به، وألا يُشارِكَها في مسكنها شخصٌ آخَر عدا زوجها؛ لأنَّ السكنى من كفايتها، فتجبُ لها كالنفقة، وقد أوجَبَه الله تعالى مقرونًا بالنفقة، وإذا وجب حقًّا لها فليس له أنْ يشرك غيرها فيه؛ لأنها قد تتضرر به، ويمنعها ذلك من المعاشرة مع زوجها ومن الاستمتاع إلا في نطاق ضيِّق، وإن كان بعض العلماء قيَّدوا ذلك (المالكية وبعض الحنفية) بالمرأة شريفة القدر.
 
مستمعيَّ الأفاضل:
إذا تقرَّر هذا، وأنَّ الأصل اجتماع الزوجين في مسكنٍ واحد، فإنَّ الشريعة الإسلاميَّة اعتنَتْ بهذا الأصل، وأوجبت على الزوجين أحكامًا تُؤكِّد ذلك.
 
وسأعرضُ لبعضها - بإذن الله تعالى - في الحلقة القادمة، والله المسؤول أنْ يهب لنا من أزواجنا وذريَّاتنا قرَّة أعيُن، والله تعالى أعلم.
••••

المراجع:
• رسالة الدكتوراه للباحث: (الضوابط الفقهية في العلاقات الزوجية).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢