خطب ومحاضرات
تفسير آيات الأحكام [3]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
في هذا المجلس سنتكلم على بعض الآي من آي الأحكام.
أولها: قول الله جل وعلا: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40].
اتصاف اليهود بنقض العهود
الله سبحانه وتعالى أمر بني إسرائيل بالإيفاء بعهده, وهذا بعد أن بين الله عز وجل جملة من الأوامر، وأشار الله جل وعلا إلى أنهم نقضة للعهود؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ [البقرة:27], فبين الله جل وعلا أن هذا من عادة بني إسرائيل, وأنها من طرائقهم, فكرر الله عز وجل عليهم النداء بوجوب الوفاء بعهد الله والإتيان به, وكرر ذلك في مواضع عديدة على نوعين: بتسمية ذلك بالعهد, وتذكيرهم بالميثاق, والميثاق: هو العهد الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على عباده.
أخذ الله سبحانه وتعالى على نفسه العهد والميثاق
ويذكر الله عز وجل العهد والميثاق بشيء مما يفهم منه صيغة العقود بين طرفين, فتارة يكون ذلك بالشراء, وتارة بالعهد, وتارة بالميثاق, وهذه من جهة اللفظ متباينة, ومن جهة الغاية واحدة, وهي أنه ثمة طرفان: الخالق, والمخلوق, والله سبحانه وتعالى لا يلزمه أحد من خلقه بشيء, وإنما الله عز وجل هو الذي يلزم نفسه ويحرم على نفسه ما شاء, وهذا الذي عليه قول عامة أهل السنة, وذهب بعضهم إلى أن العباد يأخذون على ربهم جل وعلا ميثاقاً, فيرضاه الله سبحانه وتعالى, وقد نص على هذا بعض العلماء كـابن حبان رحمه الله في كتابه الصحيح, ولكن من نظر إلى بعض الآي في كلام الله عز وجل يجد أن الله عز وجل قد أخذ ذلك على نفسه، وسماه تجوزاً بالعهد فنسبه إليهم, وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40], فجعل عهد العباد الذي على الله سبحانه وتعالى هو أن يجازيهم على ما بذلوا إليه من وفاء عهده, وذلك بطاعته جل وعلا بسائر أنواع الطاعات كما سيأتي الإشارة إليه.
وأما ما جاء من عبارات أخرى من الميثاق، فإن الميثاق لا يكون إلا بقبول, فإن الإنسان يعرض على غيره شيئاً ثم يأتي القبول, فإذا جاء القبول سماه الله عز وجل ميثاقاً, وهذا هو الذي أخذه الله عز وجل على بني آدم حينما أخرج من آدم ذريته, وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172], فهذا هو الميثاق.
وأما أن الله عز وجل يحرم عليه العباد شيئاً فيرضاه الله عز وجل؛ فنقول: إن هذا من جهة الأصل لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى, وإنما الله عز وجل عدل لا يظلم أحداً من عباده, فهو الذي يبادر عباده ببيان حقهم عليه إن وفوا بعهده, وهذا ظاهر كما جاء في صحيح الإمام مسلم , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال الله جل وعلا: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ), فالله سبحانه وتعالى بين أنه حرم الظلم على نفسه, والظلم الذي حرمه الله عز وجل على نفسه هو الأمر المتعدي من الله عز وجل لعباده, فلما كان كذلك دل على أن الذي حرم ذلك هو الله وأن الله عز وجل لا يحرم عليه العباد ابتداءً شيئاً, وهذا نأخذ منه جملة من المسائل:
حكم الوفاء بالعهود
أولها: وجوب الوفاء بالعهود, وتسمى العهود, وتسمى المواثيق, وتسمى العقود, على اختلاف أنواعها, وهذا قد جاء الأمر به في كلام الله عز وجل في مواضع عديدة بتسميتها عهوداً, وتسميتها عقوداً وميثاقاً, وتارة تسمى شراء كأنها عقد بيع وشراء, والمراد بذلك هو شراء الأنفس والأموال ببذلها في سبيل الله سبحانه وتعالى, سواء كانت بالعبادة اللازمة مما يفعله الإنسان من صلاة وذكر وغير ذلك, أو المتعدية من الجهاد والزكاة وصلة الأرحام وبر الوالدين وغير ذلك, فهي من العهد الذي أخذه الله عز وجل على عباده.
أنواع العهود
والعهود على نوعين:
النوع الأول: عهود بين الخالق والمخلوق.
والنوع الثاني: عهود بين الخلق فيما بينهم.
فالعهد الذي بين الخالق والمخلوق متنوع, وقد يكون في الأصول, وقد يكون في الفروع, وعلاقته في بابنا تظهر في أبواب الفروع, فمن جهة الأصول: فإن الله جل وعلا قد أخذ على عباده الميثاق, وهذا الميثاق الذي أخذه على عباده هو: أن يؤمنوا به ولا يشركوا معه شيئاً, وهذا يظهر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما في حديث معاذ بن جبل , قال: ( أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ).
فالحقوق المتبادلة بين طرفين لا بد أن يكون ثمة تراض في ذلك، وبيان الحقوق قبل هذا, وهذا أن الله عز وجل لما خلق آدم وأخرج من ظهره ذريته أشهدهم على أنفسهم ببيان حقه سبحانه وتعالى, فلما أقروا بذلك أصبح حقاً لازماً, وغرس فيهم ما يؤيدونه من دافع الفطرة؛ كما في قول الله جل وعلا: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30].
وكذلك أيضاً ما جاء في حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود يولد إلا ويولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ), وهذا متعلق بالأصول, وهذا ليس له علاقة ببابنا.
أما ما يتعلق بالنوع الثاني وهو في أبواب الفروع وهي العهود, والعهود بين الخالق والمخلوق في أبواب الفروع هي ما يتعلق بشرائع الإسلام مما أمر الله سبحانه وتعالى بها من أركان الإسلام عدا التوحيد, كذلك أيضاً ما أمر الله عز وجل الإنسان بالوفاء به مما كان عبادة, وجاء الأمر متوجهاً إليه على سبيل اللزوم بذاته مما يتعلق بأمر الذكر وقراءة القرآن وغير ذلك، والأمور المتعدية مما تقدمت الإشارة إليه, وهذه العبادات كل عبادة فيها عهد, وفيها عقود بين الخالق والمخلوق, وهي ما تسمى بشروط العبادات, فللصلاة شروط، وللزكاة شروط, وللحج شروط, وللصيام شروط يجب الوفاء بها, وهذه التي أمر الله سبحانه وتعالى بها, وجعل الله عز وجل الإثابة عليها مقترنة بوفاء العباد بالواجب عليهم: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40], فجعل الوفاء بالعهد من أحد الطرفين موجباً للوفاء من الجهة الأخرى.
أسباب نقض الإنسان العهود
والله سبحانه وتعالى إنما أمر عباده بالوفاء بالعهد؛ لأن الله جل وعلا لا يتصور منه نقض العهد, فجعل النقض من العباد, قال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40], أي: أن الوفاء من الله جل وعلا آت لا محالة, وإنما النظر إلى وفاء العباد؛ وذلك لورود القصور عليهم من وجهين:
الوجه الأول: هو قصورهم من جهة العوارض الأهلية التي تطرأ على الإنسان, إما بعجزه أو بنسيانه أو بجهله أو بخطئه وغير ذلك, فهذه عوارض أهلية تجعل الإنسان يفرط في شيء من الشروط, وهذا منتف عن الله سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: هو العناد والاستكبار, أو الترك عن عمد من غير عذر, وهذا من جهة الأصل يقال: إن الله جل وعلا كلف عباده سبحانه وتعالى وألزمهم بذلك, وهذا لا يتصور إلا من عابد لمعبود, ومثل هذه العقود تكون من العباد لله سبحانه وتعالى؛ لهذا نقول: إن الإتيان بالعبادة بشروطها واجبة لهذه الآية, وأن الإنسان لا يكتمل عقده مع الله عز وجل إلا بالإتيان بالشروط, وهذا دليل لمن قال من العلماء: إن من ترك شرطاً من شروط العبادات فيما بينه وبين الله أنه ليس ممن يستحق الأجر والإثابة على ذلك؛ لأنه ما أوفى بعهد الله عليه, وعهد الله جل وعلا عليه هو أن يأتي بشروط الصلاة وشروط الصيام والزكاة والحج وغيرها, ومن فرط في شيء من الشروط نقول: لا تخلو حاله من حالين:
الحالة الأولى: أن يكون ذلك بعذر, كأن يطرأ عليه شيء من العوارض الأهلية التي تمنعه من ذلك, وهذه العوارض منها: الجهل، والخطأ، والنسيان, والإكراه, فإنه يعذر, لقول الله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286], جاء في الصحيح ( قال الله جل وعلا: قد فعلت ), وكذلك ما جاء في المسند والسنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ), فما يقع من الإنسان بشيء من العوارض الأهلية فإنه يعذر في ذلك.
ما يلزم من فرط في العبادة لعذر
ثم هل يرتفع عنه الإثم؟ أم يرتفع عنه القضاء إذا أتى بالعبادة؟ نقول: إن العبادة إذا لم يأت الإنسان بشروطها لا تخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن تكون العبادة مما يعاد, فيجب على الإنسان أن يعيدها إن فرط, وذلك كحال الإنسان الذي دخل في الصلاة ولم يأت بشرطها وهو الوضوء أو ستر العورة فنقول: يجب عليه أن يعيد ذلك؛ لأن الصلاة مما شرع الله عز وجل إعادتها في حال بطلانها, وقضائها في حال نسيانها؛ لهذا نقول: إنه يجب عليه أن يعيد إذا ترك شرطاً من الشروط وكانت هذه الصلاة مما تعاد, وإذا كانت العبادة من العبادات التي لا تعاد وإنما تؤسس تأسيساً جديداً؛ وذلك كبعض العبادات التي يؤديها الإنسان لزوماً في زمن معين, أو بحد أو بوصف معين ويفوت هذا الوصف, ويستدركه الإنسان فيما بعد ذلك, وذلك مثلاً فيما يتعلق بالأصول في أبواب الإيمان والتوحيد, إذا فرط الإنسان في الإيمان, فإن استدراكه لما مضى غير متصور, وإنما ينشئ التوحيد من ساعته هذه, بخلاف الصلاة فإنه يقيمها إذا ذكرها, قال الله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14], أي: يجب على الإنسان أن يؤديها في حال ذكره لله سبحانه وتعالى, فإذا نسي, ( فمن نام عن صلاة أو نسيها فليؤديها إذا ذكرها, لا كفارة لها إلا ذلك ) .
وهذا النوع من جهة ما يتعلق بالفروع والوفاء بعهد الله عز وجل وعقده مع عباده فيها نقول: إذا كان متعمداً فليس له أجر وهذا محل اتفاق عند العلماء, وإذا كان ناسياً أو جاهلاً فيؤجر على ذلك, ولكن هل تصح أداء عن تلك العبادة؟ كحال الإنسان إذا صلى صلاة الظهر بغير وضوء أو بغير ستر عورة ناسياً أو جاهلاً؟ نقول: إن في هذا كلاماً عند العلماء, فمنهم من يفرق بين الشروط ويجعل آكدها كالوضوء, والوقت, ويجعل ما عدا ذلك بعدها في المراتب, فإذا صلى الإنسان ناسياً إلى غير القبلة, أو أدى الصلاة بشيء من التقصير من ستر العورة ناسياً؛ فلا يجب عليه الإعادة، أما في الوضوء فيجب عليه الإعادة, وهذا من مواضع الخلاف عند العلماء في مسائل الشروط, ويأتي الكلام عليها في موضعها بإذن الله عز وجل في آية الوضوء في سورة المائدة.
الأجر على العبادة الباطلة إذا لم يعلم فاعلها بالبطلان إلا بعد الفراغ منها
وأما ما يتعلق بأداء الإنسان للعبادة إذا بطلت في حقه فهل يؤجر على الباطل من تلك العبادة؟ فنقول: يؤجر عليها, فالله سبحانه وتعالى لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى, والعمل هنا على وجه العموم ما كان خالصاً لله، وفعله الإنسان بنية صادقة فيؤجر على ذلك, وهذا لا يعني أنه لا يعيد تلك العبادة الباطلة, فلا تنافي بين القولين, ولهذا الإنسان الذي يصلي صلوات بغير طهارة ثم يتذكر بعد ذلك, عليه ألا يتحسر أن جهده ذهب هباءً منثوراً, نقول: إن الأجر قد حصل للإنسان.
كذلك ما لا يحسب للإنسان من صلاته؛ كحال المأموم إذا جاء إلى الصلاة والإمام ساجد لكنها لا تحسب له ركعة, فينبغي له أن يبادر وله أجر السجدة وأجر الدعاء فيها.
العهود بين المخلوقين
النوع الثاني من العقود والشرط: هي التي بين العباد فيما بينهم, بين الخلق, ووجه الاستدلال من هذه الآية على العقود بين العباد هو أن الله جل وعلا يقول في الحديث القدسي كما جاء في الصحيح: ( يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً ), فاستدل بالعقد الذي بينه وبين عباده على العقد الذي بين العباد, فقاس الله سبحانه وتعالى على ما حرمه على نفسه من ظلمه لعباده, فدل على أن العقود بين العباد يجب فيها الوفاء كما يجب الوفاء بين الخالق والمخلوق مما أوجبه الله سبحانه وتعالى على نفسه، ولهذا نقول: إن في قول الله جل وعلا: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40], دليل بقياس الأولى على وجوب الوفاء بالعهود بين العباد, وهذا من قياس الأولى الذي يقول به سائر المذاهب حتى الظاهرية؛ فيجب على العباد أن يفوا بالعهود والعقود فيما بينهم لظاهر هذه الآية.
والعقود متنوعة في هذا الباب, منها ما يقع بين الأفراد كعقود النكاح، وعقود البيع والشراء, ومنها ما يقع بين جماعات وأفراد, وجماعات وجماعات؛ وذلك كالعهد والميثاق الذي يأخذه واحد على قوم, أو يأخذه قوم على قوم, مما يكون بين الدول والقبائل والشعوب والأمم, فإن هذا مما أمر الله عز وجل بالوفاء به, وقد مدح الله عز وجل الموفون بعهدهم إذا عاهدوا.
ولهذا فالوفاء بالعقود واجب على العباد بجميع صوره وأنواعه.
الأسباب التي تبيح عدم الوفاء بالعهود
وما كان من شروط متضمنة للعقد الذي يكون بين الناس؛ إذا اختل شرط من الشروط فإن العقد باطل بقياس الأولى؛ لأن الله عز وجل أمر بالوفاء بعهده, فإذا اختل شرط من شروط الوفاء بعهد الله جل وعلا بطلت العبادة؛ كذلك أيضاً ما كان من العباد فيما بينهم, فإذا كان ثمة عقد بين متبايعين واشترط أحد المتعاقدين شرطاً واتفقا عليه, فأخل بالشرط أحدهما جاز للآخر أن يمضيه وينشئ اتفاقاً جديداً, وجاز له أن يفسخ بتفريط أحدهما بأحد الشروط وهذا محل اتفاق عند العلماء.
كذلك أيضاً في أمور النكاح, إذا خطب الرجل امرأة واشترطت عليه شرطاً, ثم لم يف بهذا الشرط, فله حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون ذلك قبل الدخول بها فإن لها الحق في عدم تمكينه من نفسها.
أما إذا كان ذلك بعد الدخول فنقول: لها الحق أن تطالب بالفسخ من زوجها إذا لم يف بذلك الشرط, وإذا وفى بذلك الشرط فإن العقد بذلك ماض, بخلاف إذا كان محدداً بمدة معينة, فلها الحق في طلب الفسخ من زوجها, وهذا كما أنه في عقود النكاح فهو أيضاً في العهود والمواثيق التي تكون بين أمة الإسلام وبين الأمم الأخرى, فإذا كان بينهم شرط فنقضوا هذا الشرط أو من يمثلهم فإنه حينئذ يكون العهد والميثاق لاغياً؛ وذلك كأن يكون بين اليهود والنصارى وبين المسلمين عهد وميثاق, واشترطوا شروطاً, ومن هذه الشروط: ألا تعينوا الكفرة الفلانيين على المسلمين, فقاموا بإعانتهم عليهم فنقول: إن هذا العهد لاغ باختلال شرط من شروطه, وينقض بمجرد اختلال الشرط, ولو من طرف واحد, ولو وفوا ببقية الشروط, وهذا محل اتفاق عند العلماء.
والله سبحانه وتعالى إنما وجه الخطاب لبني إسرائيل بأمرهم بالوفاء بهذه؛ لأنهم نقضة للعهود.
ضرورة مناصحة من ينقض العهود
وفي هذه الآية دلالة على أن الإنسان إذا كان يعاهد أو يتعامل مع أحد عرف بالنقض للعهد والميثاق فعليه أن يذكره بالله عز وجل, وأن يكرر عليه هذا, لوجوب الوفاء بالعهد والميثاق فيما بينه وبينه, وأن يبين خطورة نقض المواثيق, وأن هذا من صفات الفسقة والكفرة الضالين الخارجين عن عهد الله عز وجل وعهد رسوله.
الله سبحانه وتعالى أمر بني إسرائيل بالإيفاء بعهده, وهذا بعد أن بين الله عز وجل جملة من الأوامر، وأشار الله جل وعلا إلى أنهم نقضة للعهود؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ [البقرة:27], فبين الله جل وعلا أن هذا من عادة بني إسرائيل, وأنها من طرائقهم, فكرر الله عز وجل عليهم النداء بوجوب الوفاء بعهد الله والإتيان به, وكرر ذلك في مواضع عديدة على نوعين: بتسمية ذلك بالعهد, وتذكيرهم بالميثاق, والميثاق: هو العهد الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على عباده.
ويذكر الله عز وجل العهد والميثاق بشيء مما يفهم منه صيغة العقود بين طرفين, فتارة يكون ذلك بالشراء, وتارة بالعهد, وتارة بالميثاق, وهذه من جهة اللفظ متباينة, ومن جهة الغاية واحدة, وهي أنه ثمة طرفان: الخالق, والمخلوق, والله سبحانه وتعالى لا يلزمه أحد من خلقه بشيء, وإنما الله عز وجل هو الذي يلزم نفسه ويحرم على نفسه ما شاء, وهذا الذي عليه قول عامة أهل السنة, وذهب بعضهم إلى أن العباد يأخذون على ربهم جل وعلا ميثاقاً, فيرضاه الله سبحانه وتعالى, وقد نص على هذا بعض العلماء كـابن حبان رحمه الله في كتابه الصحيح, ولكن من نظر إلى بعض الآي في كلام الله عز وجل يجد أن الله عز وجل قد أخذ ذلك على نفسه، وسماه تجوزاً بالعهد فنسبه إليهم, وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40], فجعل عهد العباد الذي على الله سبحانه وتعالى هو أن يجازيهم على ما بذلوا إليه من وفاء عهده, وذلك بطاعته جل وعلا بسائر أنواع الطاعات كما سيأتي الإشارة إليه.
وأما ما جاء من عبارات أخرى من الميثاق، فإن الميثاق لا يكون إلا بقبول, فإن الإنسان يعرض على غيره شيئاً ثم يأتي القبول, فإذا جاء القبول سماه الله عز وجل ميثاقاً, وهذا هو الذي أخذه الله عز وجل على بني آدم حينما أخرج من آدم ذريته, وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172], فهذا هو الميثاق.
وأما أن الله عز وجل يحرم عليه العباد شيئاً فيرضاه الله عز وجل؛ فنقول: إن هذا من جهة الأصل لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى, وإنما الله عز وجل عدل لا يظلم أحداً من عباده, فهو الذي يبادر عباده ببيان حقهم عليه إن وفوا بعهده, وهذا ظاهر كما جاء في صحيح الإمام مسلم , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال الله جل وعلا: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ), فالله سبحانه وتعالى بين أنه حرم الظلم على نفسه, والظلم الذي حرمه الله عز وجل على نفسه هو الأمر المتعدي من الله عز وجل لعباده, فلما كان كذلك دل على أن الذي حرم ذلك هو الله وأن الله عز وجل لا يحرم عليه العباد ابتداءً شيئاً, وهذا نأخذ منه جملة من المسائل:
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير آيات الأحكام [30] | 2761 استماع |
تفسير آيات الأحكام [48] | 2721 استماع |
تفسير آيات الأحكام [54] | 2523 استماع |
تفسير آيات الأحكام [22] | 2449 استماع |
تفسير آيات الأحكام [58] | 2334 استماع |
تفسير آيات الأحكام [25] | 2319 استماع |
تفسير آيات الأحكام [35] | 2269 استماع |
تفسير آيات الأحكام [5] | 2252 استماع |
تفسير آيات الأحكام [11] | 2213 استماع |
تفسير آيات الأحكام [55] | 2178 استماع |