الأحاديث المعلة في الطهارة [27]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأول حديث في هذا اليوم هو حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )، هذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري، وهذا الحديث قد اختلف في وصله وإرساله، رواه جماعة من الحفاظ، رواه سفيان بن عيينة وسفيان الثوري وغيرهم عن عمرو به مرسلاً، ولم يذكروا أبا سعيد الخدري عليه رضوان الله.

وقد رواه غيرهم فرواه عبد العزيز بن محمد الدراوردي وحماد بن سلمة ومحمد بن إسحاق وغيرهم، يروونه عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوه موصولاً.

أوجه إرسال حديث: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)

والصواب في ذلك الإرسال، وهذا من وجوه:

منها: أن هذا الحديث قد أرسله الأئمة من الحفاظ كـسفيان بن عيينة والثوري، وكذلك من رواه موصولاً قد جاء عنه من طرق أخرى الإرسال، فجاء الإرسال عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي وحماد بن سلمة وكذلك محمد بن إسحاق، فوافقوا فيه السفيانين، وعلى هذا ترجيح الحفاظ، فقد رجح ذلك الترمذي والنسائي والدارقطني وغيرهم، وهو الصواب.

وثمة قرينة أيضاً تؤيد عدم ثبوت الوصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في المتن، وذلك أن الحمام لا يعرف في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عرف بعد ذلك، ولم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حماماً قط، وما كان ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا له ولا لأصحابه، وهذا يدل على أن الحكم إذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء لم يكن في عصره أن ذلك اللفظ إما أن يكون روي بالمعنى، أو أن ذلك الحديث خطأ، يعني لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما وهم وغلط، وهذا هو ظاهر في هذا الحديث.

ورود حديث: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) من طرق أخرى وحكمها

وقد جاء في حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الحمام، جاء هذا من حديث زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن نافع عن عبد الله بن عمر، ووقع في هذا الحديث اختلاف على نافع، تارة يجعل من حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارة يجعل من حديث عبد الله بن عمر عن عمر، فرواه عبد الله بن صالح أبو صالح كاتب الليث عن الليث بن سعد عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر، فجعله من مسند عمر، والصواب أنه من مسند عبد الله بن عمر، والحديث في كلا الطريقين واه كما نص على ذلك غير واحد من الحفاظ كـأبي حاتم وغيره.

وهذا الحديث حديث عبد الله بن عمر فيه النهي عن الصلاة في سبعة مواضع، وذكر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمام، وهو ضعيف في الوجهين:

الوجه الأول الذي تفرد بروايته زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين، وزيد بن جبيرة ضعيف الحديث بل هو مطروح، وأما الطريق الثانية وهي التي يرويها عبد الله بن صالح عن الليث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر فيها علل:

أول هذه العلل: عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف.

ثانيها: عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف أيضاً.

وكما تقدم فإن الحديث على ترجيح الطريق الأولى أو الثانية فهو معلول بالوجهين.

وجاء الحديث أيضاً من وجوه أخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير حديث عبد الله بن عمر ولا يصح منها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء في هذا عن عبد الله بن عباس من حديث عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس، وجاء مرسلاً من حديث عبد الله بن طاوس عن أبيه طاوس بن كيسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب كما رواه البزار في كتابه المسند.

علة حديث: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) بالنظر إلى الآثار الواردة في بابه

وهذا الحديث أعني حديث أبي سعيد الخدري مع نكارة متنه فإننا إذا أردنا أن ننظر في الأحاديث التي وردت والآثار في أحكام الحمام نجد أن الحمام لم يأت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه يثبت لا قولاً ولا فعلاً، ولا في كلام العلية أيضاً من الصحابة كـأبي بكر وعمر مما يدل على أن الحمام وكذلك أحكامه أن ذلك من الأمور الحادثة التي نشأت بعد اتساع رقعة الإسلام، وهذا من القرائن التي ينبغي أن تفهم وتضبط أن الألفاظ التي تأتي في كلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعلم أن هذه اللفظ لم تأت في سياق ألفاظ النبي عليه الصلاة والسلام في المواضع الأخرى، فهذا من علامات الإعلال.

كذلك أيضاً إذا ورد ذكر شيء في حديث من الأحاديث، وهذا الشيء لم يكن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام فهذا من علامات الضعف، من ذلك الأحاديث التي يرد فيها ذكر الأرز، والأرز لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان بعد ذلك في متأخري الصحابة عليهم رضوان الله، فوجدوه في الفتوحات كما جاء في بعض كتب التاريخ، وعلى هذا ما يأتي في بعض الألفاظ في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر زكاة الفطر، وذكر الأرز فيها ليس بمحفوظ، وهذا يجعلنا نتكلم على قضية مهمة وهي من مسائل العلل أن الناقد في أبواب العلل ينبغي له أن يكون من أهل الإحاطة بأحوال الزمن الأول في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الصحابة، فإنه إن كان عالماً بذلك استطاع أن ينقد الأحوال التي هم فيها، ويأتي ربما إشارة إلى شيء من ذلك بإذن الله تعالى.

وأن يكون من أهل المعرفة بالتاريخ، فإذا كان من أهل المعرفة بالتاريخ عرف أحوال النبي عليه الصلاة والسلام والمتغيرات في زمنه في كلام الصحابة، وكذلك أيضاً في أفعالهم.

والصواب في ذلك الإرسال، وهذا من وجوه:

منها: أن هذا الحديث قد أرسله الأئمة من الحفاظ كـسفيان بن عيينة والثوري، وكذلك من رواه موصولاً قد جاء عنه من طرق أخرى الإرسال، فجاء الإرسال عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي وحماد بن سلمة وكذلك محمد بن إسحاق، فوافقوا فيه السفيانين، وعلى هذا ترجيح الحفاظ، فقد رجح ذلك الترمذي والنسائي والدارقطني وغيرهم، وهو الصواب.

وثمة قرينة أيضاً تؤيد عدم ثبوت الوصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في المتن، وذلك أن الحمام لا يعرف في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عرف بعد ذلك، ولم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حماماً قط، وما كان ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا له ولا لأصحابه، وهذا يدل على أن الحكم إذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء لم يكن في عصره أن ذلك اللفظ إما أن يكون روي بالمعنى، أو أن ذلك الحديث خطأ، يعني لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما وهم وغلط، وهذا هو ظاهر في هذا الحديث.

وقد جاء في حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الحمام، جاء هذا من حديث زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن نافع عن عبد الله بن عمر، ووقع في هذا الحديث اختلاف على نافع، تارة يجعل من حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارة يجعل من حديث عبد الله بن عمر عن عمر، فرواه عبد الله بن صالح أبو صالح كاتب الليث عن الليث بن سعد عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر، فجعله من مسند عمر، والصواب أنه من مسند عبد الله بن عمر، والحديث في كلا الطريقين واه كما نص على ذلك غير واحد من الحفاظ كـأبي حاتم وغيره.

وهذا الحديث حديث عبد الله بن عمر فيه النهي عن الصلاة في سبعة مواضع، وذكر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمام، وهو ضعيف في الوجهين:

الوجه الأول الذي تفرد بروايته زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين، وزيد بن جبيرة ضعيف الحديث بل هو مطروح، وأما الطريق الثانية وهي التي يرويها عبد الله بن صالح عن الليث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر فيها علل:

أول هذه العلل: عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف.

ثانيها: عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف أيضاً.

وكما تقدم فإن الحديث على ترجيح الطريق الأولى أو الثانية فهو معلول بالوجهين.

وجاء الحديث أيضاً من وجوه أخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير حديث عبد الله بن عمر ولا يصح منها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء في هذا عن عبد الله بن عباس من حديث عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس، وجاء مرسلاً من حديث عبد الله بن طاوس عن أبيه طاوس بن كيسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب كما رواه البزار في كتابه المسند.

وهذا الحديث أعني حديث أبي سعيد الخدري مع نكارة متنه فإننا إذا أردنا أن ننظر في الأحاديث التي وردت والآثار في أحكام الحمام نجد أن الحمام لم يأت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه يثبت لا قولاً ولا فعلاً، ولا في كلام العلية أيضاً من الصحابة كـأبي بكر وعمر مما يدل على أن الحمام وكذلك أحكامه أن ذلك من الأمور الحادثة التي نشأت بعد اتساع رقعة الإسلام، وهذا من القرائن التي ينبغي أن تفهم وتضبط أن الألفاظ التي تأتي في كلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعلم أن هذه اللفظ لم تأت في سياق ألفاظ النبي عليه الصلاة والسلام في المواضع الأخرى، فهذا من علامات الإعلال.

كذلك أيضاً إذا ورد ذكر شيء في حديث من الأحاديث، وهذا الشيء لم يكن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام فهذا من علامات الضعف، من ذلك الأحاديث التي يرد فيها ذكر الأرز، والأرز لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان بعد ذلك في متأخري الصحابة عليهم رضوان الله، فوجدوه في الفتوحات كما جاء في بعض كتب التاريخ، وعلى هذا ما يأتي في بعض الألفاظ في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر زكاة الفطر، وذكر الأرز فيها ليس بمحفوظ، وهذا يجعلنا نتكلم على قضية مهمة وهي من مسائل العلل أن الناقد في أبواب العلل ينبغي له أن يكون من أهل الإحاطة بأحوال الزمن الأول في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الصحابة، فإنه إن كان عالماً بذلك استطاع أن ينقد الأحوال التي هم فيها، ويأتي ربما إشارة إلى شيء من ذلك بإذن الله تعالى.

وأن يكون من أهل المعرفة بالتاريخ، فإذا كان من أهل المعرفة بالتاريخ عرف أحوال النبي عليه الصلاة والسلام والمتغيرات في زمنه في كلام الصحابة، وكذلك أيضاً في أفعالهم.

الحديث الثاني من أحاديث اليوم: حديث عبد الله بن عباس أنه قال: ( إنهم يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، ولكن هل مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المائدة أم بعدها؟ )، المائدة نزل فيها حكم الوضوء والطهارة، فقال بعض من قال بعدم المسح على الخفين أن ما جاء في آية الوضوء فإنه ناسخ للمسح على الخفين، ويستدلون بهذا الحديث.

حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله جاء عنه من طرق متعددة، جاء عنه من حديث عتاب بن بشير عن خصيف عن سعيد بن جبير وعكرمة مولى عبد الله بن عباس عن عبد الله بن عباس بهذا الخبر، وهذا الخبر معلول بعلل، وذلك أنه قد تفرد به من هذا الوجه خصيف، وهو ضعيف الحديث، وكذلك قد اختلف فيه على خصيف، فقد رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف، ورواه عنه الإمام أحمد والبيهقي وغيرهم عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن خصيف عن مقسم عن عبد الله بن عباس، فجعله من حديث مقسم عن عبد الله بن عباس، وفيه حينئذ علل:

أولها: خصيف وقد تقدم الكلام عليه.

ثانيها: أنه من حديث مقسم عن عبد الله بن عباس، ومقسم مضعف أيضاً، فالحديث حينئذ ضعيف من هذه الوجوه كلها.

وأيضاً من الوجوه التي يعل بها الحديث أن ما جاء في حديث عبد الله بن عباس يشعر أن عبد الله بن عباس يقول بعدم المسح على الخفين، ويرويه عنه سعيد بن جبير، وإذا أردنا أن ننظر في الفقه المروي عن عبد الله بن عباس نجد أنه يثبت عنه بأصح الأسانيد القول بالمسح على الخفين، وذلك فيما رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث فطر عن عطاء بن أبي رباح أن رجلاً قال له أن عكرمة مولى عبد الله بن عباس يحدث عن عبد الله بن عباس أن الكتاب سبق الخفين، فقال: كذب عكرمة، رأيت عبد الله بن عباس يمسح على خفيه، وعطاء بن أبي رباح هو من أوثق أصحاب عبد الله بن عباس عليه رضوان الله.

وبهذا نعلم أن ما جاء عن عبد الله بن عباس في الأصح من ذلك أنه يقول بالمسح على الخفين، وقد جاء عن عبد الله بن عباس القول أيضاً بعدم المسح من وجه آخر، فلعله كان قولاً له ثم رجع عنه، فقد جاء عند ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث ضرار عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس بنحوه.

وجاء الحديث المرفوع عن عبد الله بن عباس عند الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث أبي عوانة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس بنحو لفظ مقسم عن عبد الله بن عباس، وبنحو اللفظ السابق الذي يرويه عكرمة عن عبد الله بن عباس، وهذا الحديث معلول أيضاً بعلل:

أولها: أن عطاء بن السائب الذي يرويه عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قد اختلط وتغير، وهو في ذاته يهم ويلغط، وقد روى عنه أبو عوانة كما نص على ذلك يحيى بن معين قبل وبعد الاختلاط مما ينبغي أن نحذر من حديثه، والراوي إذا اختلط ينبغي أن يميَّز حديثه الذي قد وقع فيه اختلاط والذي لم يقع فيه اختلاط، فيميز هذا عن هذا، فيقبل ما حدث فيه قبل الاختلاط، وما حدث عنه بعد الاختلاط لا يقبل، وثمة طبقة تلتبس عند النقد، وهي التي تروي عنه قبل الاختلاط وبعده، فهذه يحترز فيها، فما وافق فيه الثقات فيقبل ويمر وما لم يوافق فيه الثقات فيرد.

وهنا أبو عوانة قد روى عن عطاء بن السائب بعد الاختلاط وقبله مما يلزم معه الاحتراز، والمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه كان يمسح على الخفين، وقد استفاض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين في أحاديث كثيرة، وهذا الحديث لو جاء بإسناد صحيح ولم يكن فيه راو يغلط ويهم أو اختلط فإنه يجب رده للأحاديث المتكاثرة في المسح على الخفين بعد نزول آية المائدة، وذلك أنه قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث المغيرة بن شعبة: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه ) كما في غزوة تبوك، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مسح على خفيه في فتح مكة، وفتح مكة كان بعد نزول المائدة، وجاء أيضاً في حديث همام عن جرير: ( أنه بال فتوضأ ومسح على خفيه، فقيل له في ذلك، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على خفيه )، قال الأعمش عن إبراهيم النخعي: يعجبهم حديث جرير، وذلك أن جرير إنما أسلم بعد نزول المائدة، فهذا حاسم في هذه القضية ويعل الحديث، وهو إعلال صريح لحديث عبد الله بن عباس؛ لأنه ذكر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين.

وثمة صرف لهذه العلة قد يقول بها البعض، وهي أن الصحابي قد يروي الحديث عن غيره، ومرسل الصحابي مقبول، لكن نقول هذا مدفوع بأن جرير يقول: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يدفع ذلك التعليل.

وأيضاً فإن سعيد بن جبير الذي يروي هذا الخبر، وقد تقدم معنا أن من وجوه الإعلال أنه يرى جواز المسح، وسعيد بن جبير الذي يروي عن عبد الله بن عباس جاء عنه القول بالمسح، بل جاء عنه أنه مسح كما رواه البخاري من حديث علي بن هاشم عن أيوب بن نجيح النجراني قال: رأيت سعيد بن جبير يمسح على خفيه. رواه البخاري في كتابه التاريخ، وأيوب النجيح النجراني، وإن كان لا يعرف إلا أنه كوفي، والذي يروي عنه علي بن هاشم، وهو فقيه كوفي، وهو أعلم بأحاديث الكوفيين.

والقرينة أيضاً من قرائن الإعلال ورد حديث عبد الله بن عباس أيضاً: أن الذي يروى في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرويه صحابي من الصحابة، وهذا الصحابي من الفقهاء ينبغي أن يعمل بحديثه أصحابه، عبد الله بن عباس فقيه، وفقهه في ذلك شائع ذائع، وله أصحاب كثر يروون عنه حديثه، فلم يفت أحد من أصحاب عبد الله بن عباس بعدم المسح على الخفين، وهذا من قرائن رد الحديث المرفوع.

وينبغي أن يعلم أيضاً أن السلف الصالح من الصدر الأول، وهذا أشرنا إليه مراراً أنه في مسائل العلل أن الحديث المرفوع الذي يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعل به الموقوف، فكيف إذا جاء مع موقوف مقطوع، وهذا المقطوع هو عن ذات الصحابي أو عن ذات التابعي الذي يروي عن ذلك الصحابي، فـعبد الله بن عباس راوي الخبر جاء عنه ما يخالف المرفوع، وسعيد بن جبير الذي يروي عن عبد الله بن عباس هذا الحديث المرفوع جاء عنه ما يخالف ذلك الحديث، والعلماء يعلون حتى من التابعين يعلون الحديث المرفوع بالموقوف، والدليل على ذلك ما جاء عند العقيلي في الضعفاء وهذه ينبغي أن تقيد أن العلل إعلال الأحاديث المرفوعة بالموقوفة كان نفساً عند التابعين، ذلك أنه قد جاء عند العقيلي في الضعفاء من حديث ابن أبي قريم أنه قال: أخرج لنا الليث بن سعد كتاباً جاءه من عبد الله بن نافع مولى عبد الله بن عمر قال: بلغني أنك تحدث عن أبي نافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة في سبعة مواضع، وذكر منها المقبرة، والحمام، والمجزرة، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر البيت الحرام، قال: جاء عن عبد الله بن عمر روى نافع عن عبد الله بن عمر أنه صلى على رافع بن خديج في المقبرة، وهو إمام المسلمين حينئذ. فهذا الحديث المرفوع الذي يرويه الليث بن سعد وبلغ عبد الله بن نافع أنه يرويه عن نافع عن عبد الله بن عمر ما تقدم معنا من حديث عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن عبد الله بن عمر على خلاف هل هو من حديث عبد الله بن عمر أو عن عمر بن الخطاب برواية ابنه عنه، هذا الحديث لم يكن ثمة إثبات عند عبد الله بن نافع أنه ليس من حديث عبد الله بن عمر إلا أن عبد الله بن عمر خالف ذلك الحديث المرفوع، وأعل الحديث أيضاً قال: وقد حدثني أبي نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يبرك بعيره ويصلي إليه، يعني كيف ينهى الصلاة في معاطن الإبل وهو يبرك بعيره ويصلي إليه، فأعل المرفوع بالموقوف، وهذا أعلى شيء في هذه العلل في هذا الباب، يعني في مسألة إعلال المرفوع بالموقوف.

وهذا الحديث هو حديث الباب في مسألة المسح على الخفين، والأحاديث في ذلك جاءت كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يقبل هذا الحديث، ولو كان الإسناد مستقيماً وتفرد به الراوي، بل لو ثبت أن الذي يروي عن عطاء بن السائب في هذا الحديث عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس الذي يروي عنه قد حدث عنه قبل اختلاطه، وكان سماعه في ذلك سماعاً صحيحاً، لا نقبل لأنه قد استفاض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح على الخفين كما جاء في فتح مكة وفي غزوة تبوك، وكذلك أيضاً في حديث جرير بن عبد الله البجلي وغيرها من الأحاديث، وهذا نقطع به بعدم ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أيضاً طرق أخرى عن عبد الله بن عباس وفيها ضعف.

الحديث الثالث في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حديث المغيرة بن شعبة: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والجوربين )، وجاء في لفظ ( على الجوربين والنعلين )، وجاء في لفظ ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين )، هذا الحديث وهو حديث المغيرة بن شعبة رواه الإمام أحمد في كتابه المسند، ورواه أبو داود والترمذي وكذلك أيضاً النسائي وابن ماجه من حديث أبي قيس عبد الرحمن بن ثروان عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث المغيرة بن شعبة حديث مشهور في وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث تفرد به أبو قيس عبد الرحمن عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة، وهذا التفرد ظاهره الحسن والجودة، وذلك أن الرواة ممن وثقهم العلماء، فـأبو قيس وثقه غير واحد من العلماء وهو صالح ومستقيم الحديث، وهزيل كذلك أيضاً، والمغيرة هو الصحابي الجليل المعروف، ولا مجال للمطعن ولا لتوهيمه، ولكن هذا الحديث معلول بعلل:

علل حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والجوربين)

منها: أن هذا الحديث تفرد به أبو قيس عن سائر من يروي هذا الحديث عن المغيرة بن شعبة، قد يقول قائل: لماذا هذا الحديث هو علة بـأبي قيس عبد الرحمن، ولم يعل بـهزيل الذي يرويه عن المغيرة بن شعبة، ومن جهة الحقيقة الذي خالف في هذه الطبقة هو هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة، أما أبو قيس فقد جاء بعد ذلك؟ نقول: إن العلماء في أبواب الإعلال بالتفرد ينظرون إلى الراوي الذي يقع منه الوهم والغلط، فإذا جاء منه الوهم والغلط أكثر من غيره ألحقوا الوهم به ولو كان متأخراً، والأليق أن تلحق المخالفة بالطبقة التي سبقت ذلك الراوي لوجود احتمال أن يكون ذلك الراوي الذي يرويه عن المغيرة قد رواه على وجهه، والذي يرويه عن ذلك الراوي الذي رواه عن المغيرة وهو أبو قيس قد رواه على غير وجهه، فتفرد بروايته من هذا الوجه.

إذا أردنا أن ننظر لحديث المغيرة بن شعبة وجدنا أن الرواة قد رووه من سائر البلدان من أهل المدينة والكوفة والبصرة والشام وغيرها كلهم رووه عن المغيرة بن شعبة ولم يذكروا الجوارب فيه.

الجوارب هي ما يستر القدمين من الأقمشة، وأما الخفاف فهي من الجلود.

رواه عن المغيرة بن شعبة جماعة، رواه عروة بن المغيرة بن شعبة، ورواه حمزة بن المغيرة بن شعبة، ورواه مسروق بن الأجدع عن المغيرة بن شعبة، ورواه كذلك محمد بن سيرين عن المغيرة بن شعبة، وكذلك رواه مسلم بن صبيح عن المغيرة بن شعبة، ورواه كذلك الأسود بن هلال عن المغيرة بن شعبة، وكذلك رواه أبو سفيان عن المغيرة بن شعبة، ورواه خلق من سائر البلدان عن المغيرة بن شعبة كـقتادة عن المغيرة والحسن البصري عن المغيرة وغيرهم، كلهم يروونه عن المغيرة بن شعبة لا يذكرون فيه الجوارب، وإنما يذكرون فيه الخفاف.

ولكن هذا الحديث قد جاء عند الإسماعيلي في كتابه المعجم من حديث يزيد بن هارون عن داود بن أبي هند عن أبي العالية رفيع بن مهران عن فضالة بن عمرو الزهراني عن المغيرة بن شعبة، فذكر الجوارب فيه.

وهذا الحديث الذي أخرجه الإسماعيلي في كتابه المعجم وهم وغلط، وقد وهم الراوي في متنه، ومحتمل أن يكون الذي وهم في ذلك هو فضالة بن عمرو الذي يرويه عن المغيرة، وذلك أنه مقل للحديث، وقد وثقه بعضهم كـالعجلي وابن حبان وغيره، ويحتمل أن يكون ممن جاء بعده، وذلك أن هذا الحديث قد رواه الطبراني في كتابه المعجم من حديث داود بن أبي هند عن أبي العالية رفيع بن مهران عن فضالة بن عمرو الزهراني عن المغيرة، ولم يذكر الجوارب وذكر الخفاف من ذات الطريق.

وثمة قرينة من قرائن الإعلال هنا: أن الطبقة التي يكون فيها الإسماعيلي فيروي في معجمه الغالب أنه لا يتفرد بمسند صحيح، وكلما تأخر المسند رواية زاد احتمال الغلط في مرويه، والسبب في ذلك أن السنة قد دونت، والإسماعيلي هو في القرن الرابع، والقرن الرابع زمن متأخر جداً عن زمن التدوين؛ لأن زمن التدوين كان في القرن الثاني، واستكمل في القرن الثالث، ولم يبق من السنة التي تحتاج إليها الأمة أصولاً وفروعاً إلا وقد دونه الأئمة وحرضوا عليه، وحينما يتأخر أحد المسندين ممن جاء بعد ذلك من الأئمة فإن الأئمة يتحفظون في مثل هذا؛ لهذا ينبغي أن نعلم أنما كان بعد عصر التدوين من المسانيد والمعاجم وكذلك السنن ينبغي ألا يلتفت عما تتفرد به من الأحاديث كـالإسماعيلي هذا في معجمه وغيره.

وهذا الحديث حديث المغيرة في تفرد أبي قيس عن ابن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة إنما حمّلنا فيه أبا قيس؛ لأنه أكثر خطأ من ابن شرحبيل، ظاهر كلام علي بن المديني أنه يحمل هزيل في هذا الحديث كما جاء عنه في كتابه في العلل أنه قال: رواه أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة ولا يذكرون فيه الجوارب، وتفرد به ابن شرحبيل عن المغيرة، ولكن الإمام مسلم رحمه الله قال في كتابه التمييز قال: إنما حملناه أبا قيس عبد الرحمن ثروان لأنه أكثر خطأ من ابن شرحبيل؛ لهذا ينبغي لطالب العلم في أبواب العلل إذا وقف على إسناد وفيه علة، ولم يترجح لديه موضع العلة أن يسبر الرواة، وأن ينظر في أيهم أكثر غلطاً، ولو كان متأخراً، والقرينة تلحق بالمخالف، وهذا من مواضع الخلاف، وأكثر الأئمة على إعلال هذا الخبر، بل إن الأئمة المتقدمين يكادون يطبقون على ضعف هذا الحديث، وهو حديث المغيرة في ذكر الجوارب، نص على نكارته عبد الرحمن بن مهدي، وسفيان الثوري ويحيى بن سعيد القطان كما نص على ذلك البخاري في كتابه التاريخ، وأعله أبو حاتم وأحمد بن حنبل، وأعله كذلك أيضاً البخاري والنسائي وأبو داود والدارقطني وجماعة، ومال إلى تصحيحه غير واحد من الأئمة من المتأخرين، وأول من حكي عنه التصحيح لهذا الحديث هو الترمذي رحمه الله في كتابه السنن في بعض المواضع يحسن في بعض النسخ، وفي بعضها يقول: حسن صحيح.

إعلال حديث المغيرة بعدم وجود الجوارب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

والحديث هذا حديث المغيرة في ذكر الجوارب حديث منكر؛ للعلة الإسنادية التي تقدمت في المخالفة، وللعلة الأخرى أيضاً أن الجوارب لم تكن معروفة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما المعروف الخفاف، ولم يلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم جورباً قط، وما كان ذلك أيضاً للصحابة في حياته أمراً معروفاً؛ ولهذا لم يأت فيه قول ولا فعل لا عن أبي بكر ولا عن عمر، وأعلى ما جاء في ذلك عن علي بن أبي طالب، وذلك أنهم لا يجدون من الأقمشة والصوف والقطن ما يكسون به أجسادهم فضلاً عن أن يضعوه على أقدامهم، وإنما يضعون الجلود على أقدامهم، وإنما وضع الخفاف كان لما وسع الله عز وجل على المسلمين، وذلك أن الجوارب تتشقق تشققاً سريعاً أكثر من الخفاف، فلم يكونوا يلبسونها، وكانوا أحوج إلى ستر عوراتهم وأجسادهم بالصوف والقطن وغير ذلك بأكثر من حاجتهم إلى ستر الأقدام، وهذا من وجوه النكارة في هذا الحديث.

ما جاء عن الصحابة والسلف في مسألة المسح على الجوارب

ومسألة الجوارب جاء فيها عن تسعة من الصحابة، بل قد جاء عن عشرة كما نص على ذلك غير واحد كما نسبه إليهم غير واحد كـالإمام أحمد والترمذي وابن المنذر وابن عبد البر وغيرهم، جاء هذا عن علي بن أبي طالب والبراء وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر وأبي أمامة وبلال وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أيضاً في المسح على الجوارب عن جماعة من السلف جاء عن سعيد وعن الحسن وعطاء وغيرهم، وهو الذي عليه العمل على خلاف في بعض هذه المسائل عند بعض الفقهاء كما جاء عن أبي حنيفة أنه لا يجوز المسح على الجوارب إلا إذا كان الأسفل من الجلد، وما جاء أيضاً في بعض الأقوال المنسوبة عن الإمام مالك رحمه الله في هذه المسألة.

الموقوفات هل تقوي المرفوع أم لا؟ نقول: لو كان الحديث المرفوع فرداً، ولم يخالف فيه الراوي من وجوه أخر لأمكنت التقوية، ولو كان حديث المغيرة لم يرد إلا من حديث أبي قيس عن ابن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة فقط، ولم تقع هذه المخالفة العريضة في مخالفة سائر الرواة لأمكن أن نقول: إن الموقوفات تعضد المرفوع، ولكن هذه الوفرة والكثرة المتكاثرة من الرواة عن المغيرة بن شعبة في عدم ذكر الجوارب دليل على عدم ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من قرائن الإعلال في هذا أن الحديث قد رواه عنه جماعة في سائر البلدان، وهذا يشير إلى أن الحديث أخذ عنه في مجالس متعددة، وفي أزمنة متفاوتة، فإذا كان كذلك لم يروه إلا على وجه واحد.

ولا يمكن أن يحمل إلا ابن داود فما بعد؛ لأنه رواه جماعة عن داود بن أبي هند رواه خالد ويزيد بن هارون، وأقربهم إلى هذا فضالة، الراوي قد يروي الحديث حسب فهمه أو حسب الحاجة لديه، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام كما يتلفظ أحياناً بعض العامة يقولون: النبي عليه الصلاة والسلام كان يمسح على الشراب. أليس هذا تجوز؟ لكنه من جهة المعنى والمؤدى صحيح، فإذا نقل على هذا اللفظ النقاد يعلون الحديث، لا يتكلمون على الحكم المنقول، بل يعلون هذا الحديث بهذا اللفظ، وهذا ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار أن الراوي ربما يروي الحديث بالمعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والراوي إذا كان فقيهاً في تفرده في الحديث وكان مدنياً لأمكن القبول.