عرض كتاب الإتقان (52) - النوع الثاني والخمسون في حقيقته ومجازه


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

طرح السيوطي رحمه الله تعالى في النوع الثاني والخمسين شيئاً مما يتعلق بالحقيقة والمجاز، وهو من مباحث علم البلاغة، وكما قلنا في هذه المباحث التي ستأتي كلها: إنها مرتبطة بمباحث علم البلاغة.

الاختلاف في وقوع المجاز في القرآن

وقوع الحقيقة لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في المجاز هل هو واقع في القرآن أو لا؟

وحكى أن المجاز هو قول الجمهور أي: إن المجاز واقع في القرآن، والخلاف في كونه واقع في اللغة هذا خلاف ضعيف، وإلا فالأصل وقوعه في اللغة، لكن هل وقع في القرآن أم لم يقع؟ هذا الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء.

ومن باب الفائدة ننتبه إلى أنه لا يلزم أن كل أسلوب عربي أن يكون موجوداً في القرآن. بخلاف العكس فكل أسلوب في القرآن فهو عربي.

فالخلاف هنا ليس في كون المجاز موجوداً في اللغة أو ليس بموجود في اللغة، فالأصل أنه موجود في اللغة، والمخالفة في كونه موجوداً في اللغة مكابرة.

تعريف المجاز

ونحن نحتاج إلى أن نعرف ماهية المجاز، أي: كيف نحكم على هذا بأنه مجاز أو ليس بمجاز، وهذه قضية مرتبطة بالاصطلاح.

لنأخذ مثالاً في ذلك: عندما نقول: اقرأ الكتاب. هل يتجه الذهن إلى غير الكتاب المعروف الذي يقرأ فيه الإنسان أياً كان نوع الكتاب؟ لا يتجه الذهن إلى غير ذلك، إذاً فالكتاب هو حقيقة في المكتوب الذي يكون إما في ورق وإما بين دفتين، فهذا هو الكتاب.

هذا متعارف عليه وصار حقيقة، لا يمكن أن يأتي أحد ويقول: إن قولنا: اقرأ الكتاب. ليس هذا هو المراد به، فهذا نعده حقيقة.

لو استعير لفظ الكتاب لأمر آخر، فسيكون فيه نقل؛ ولهذا فالنقل من شيء إلى شيء آخر هو الذي يعتبر مجازاً، فهذه قضية مهمة ننتبه لها؛ لكي نعرف ما هي المشكلة الحادثة بين القائلين بالمجاز والقائلين بنفي المجاز، أي: هل يوجد نقل للألفاظ من حقيقتها المعروفة إلى كناية أو استعارة في أمر آخر أم لا يوجد؟

إذا تأملنا الكلام الدارج بيننا نجد بأنه كثير جداً، فهو متعاهد بيننا ومتعارف عليه أن كذا المراد به كذا، فأي نقل له إلى أمر آخر فهذا يعتبر مجازاً.

مثال ذلك: عندما نقول: الثلاجة. إلى أين يتجه الذهن عندما تقول: عندي ثلاجة؟ إلى تلك الآلة المعروفة، هل يمكن أن ينتقل الذهن إلى أنك تريد صاحباً بليداً أو ولداً بليداً؟ لا يمكن أن يتجه، فعندما تقول: عندي ثلاجة. لا يتجه الذهن إلا إلى هذه الآلة المعروفة، فهي أول ما يتبادر إلى الذهن.

فإذا قال قائل: ثلّج فيها لحماً. قال: لا. لا أقصد هذا، فهنا يكون خلل عند المتكلم بأنه لم يبين الواسطة للنقل من الحقيقة إلى المجاز.

ففي الكلام الدارج، الأصل فيه أن يؤخذ على ظاهره، وظاهره هو الحقيقة المرادة به.

في كثير من هذا الكلام ليس فيه مشكلة كبيرة، إنما المشكلة في الكلام القديم، أي: في كلام العرب، إذ كيف يمكن أن نثبت حقيقة الأمر من مجازه؟

وهنا نقول: الاختلاف في أمثلة الحقيقة والمجاز لا يكسر قاعدة وجود المجاز. وهذه قاعدة ينتبه لها.

فالاختلاف في الأمثلة لا يؤثر على الأصل، فنحن لا نريد أن نناقش: هل المجاز موجود أصلاً أو غير موجود؟ إذا كنا نقول: إن هذا النقل مجاز، فهذا اصطلاح، أي: أن نقل الكلمة من الأصل المتعارف عليه إلى أمر آخر فهو مجاز، إذاً المجاز موجود في اللغة وهو كثير، لكن ليس كثير على رأي ابن جني؛ لأن ابن جني جعل أغلب اللغة مجازاً، فنقول: المجاز كثير، لكن ليس إلى حد كبير جداً، بحيث أنه يجعل أغلب اللغة كما ذهب إليه ابن جني ، وهذا مذهب فاسد القول: بأن أغلب اللغة مجاز.

الأصل في اللغة من حيث التوقيف والاجتهاد

نأتي إلى مسألة مهمة جداً في هذا الأمر، وهي من القضايا التي يقال: إنها من عقد المجاز: من الذي يستطيع أن يقول: إن هذا الأمر هو الحقيقة الأولى؟

نقول: هذا مرتبط بمسألة مهمة جداً وخطيرة، وهي: هل اللغة بتوقيف أو اللغة باستنباط واجتهاد؟ أي: هل وقّف الله سبحانه وتعالى آدم وبنيه على اللغة وهذه مسألة طويلة جداً، لكن لعلي أقتصر الفكرة اقتصاراً فيما بحثته ووصلت إليه: أن أصل اللغة توقيف قطعاً، وهذا يدل عليه الكتاب والسنة، ثم دخل بعد ذلك الاستعمال مع التوقيف.

وهذا هو مشاهد عندنا الآن، أي: أن اللغة التي نتكلم بها حتى الدارجة، عندما نردها إلى الأصول الأولى سترجع إلى نفس الأصل.

فمن باب الفائدة عندما تتأمل: اسأل أحد الأجداد ودعه يقص لك قصة، سيذكر أسماء وأشياء أنت لا تفقهها، فتقول له: يا جد! ما معنى كذا؟ هذه الآلة التي ذكرتها ما هي؟ ذكرت أنك شربت بكذا ما هو هذا؟ فيبدأ يصف لك ويصور؛ وليس عنده هذه الآلة ليريكها، لكن لو كانت الآلة موجودة ما احتاج هذا الوصف؛ لأنه متعارف فيما بيننا عليها.

إذاً: إذا رجعنا إلى الأصل الأول، فأول من تكلم من البشر هو آدم عليه السلام، فمن الذي علم آدم وألهمه الكلام؟ الله سبحانه وتعالى، إذاً: أصل اللغة من هنا بدأ بالتوقيف، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]، إذاً: فهذه هي بداية التعليم بتوقيف.

وأيضاً فالرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبرنا في الصحيح عن خبر قصة آدم وخلق آدم، وأن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم، فإن أول فعل حصل من آدم هو أنه عطس، فألهمه الله قوله: الحمد لله. فهذا إلهامات باللغة.

أيضاً: ( الله سبحانه وتعالى قال له: اذهب وسلّم على أولئك النفر من الملائكة؛ فإنها تحيتك وتحية بنيك من بعدك، فقال آدم: السلام عليكم. قالوا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ).

إذاً: هذه التحية الأصل أنها موجودة في بني آدم، كيف تعرف هذه التحية؟ بطريقين: إما بطريق النقل المتصل إلى آدم عليه السلام، وإما بطريق الوحي.

فطريق النقل واضح عندنا أنه منقطع؛ لأن كثيراً من بني آدم نسوا هذه التحية التي قال عنها الله: ( إنها تحيتك وتحية بنيك من بعدك )، فانقطع عند كثير من بني آدم، لكن الوحي موجود، وكمال الوحي يظهر فيما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهي التحية التي تكلم بها آدم لما خلقه الله سبحانه وتعالى، وهي التي يحي بها المسلمون بعضهم بعضاً.

واليهود لا زال عندهم جزء من هذه التحية، ومن باب الفائدة: اليهود يشينون السين شين، أي: يجعلون السين شيناً، فإذا جاء يقول: السلام. يقول: شلم. فهذا مما اتفقت فيه الشرائع، وهي التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: ( إنها تحيتك وتحية بنيك من بعدك )، فأبناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام كلهم أهل سلام، ولهذا لما دخل الملائكة عليه قالوا: (السلام).

فالسلام تحية موجودة عند الأنبياء، مأخوذة بطريق الوحي، وهي التي قال عنها الله سبحانه وتعالى لآدم: ( تحيتك وتحية بنيك من بعدك )، واقرأ في القرآن تجد لفظة: (السلام) متكررة مع الأنبياء.

فأصل اللغات التوقيف، هذه اللغة التي تكلم بها آدم عليه السلام لغة تحمل صفة مهمة جداً يجب أن ينتبه لها وهي المرونة في الاشتقاق؛ لأنا نعلم أن الأصل في الأسماء أنها لا تتغير، قد تتحور لكنها لا تتغير، فأحياناً نقول مثلاً: (طوني) وأحياناً نقول: توني. وهو علم واحد، لكن يتحور النطق هل ننطقها بالطاء أو بالتاء. الأسماء لا تتغير، لكن قد يصيبها شيء من التحوير فقط لا غير.

وأهم اسم من الأسماء عندنا التي نطق بها آدم اسمه هو، وآدم عريق في العربية؛ لأنه إما أن يكون من الأدمة وهي الحرمة المائلة للسواد أو أن يكون من أديم الشيء الذي هو المختلط، وقد أخذ من أديم الأرض أي: من خلط من تراب الأرض. فهذا في النهاية هو مشتق.

مثله كذلك لفظ الجلالة؛ لأن الله سبحانه وتعالى ألهمه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال له عندما عطس: ( الحمد لله )، والأسماء لا تتغير وإن كان يصيبها التحور، فاسم الجلالة نطق به آدم وهو الذي ننطق به اليوم كما هو.

فهذه اللغة الشريفة التي عُلِّمها آدم لغة قابلة للاشتقاق، استمرت هذه اللغة في بنيه ونشز عنها بعض بنيه لأسباب ليس هذا مجال ذكرها، لكن المقصد أن هذه اللغة التي كان يتكلم بها آدم، وهي لغة قابلة للاشتقاق والتطور، استمرت هذه اللغة بالاشتقاق والتطور، واحتفظت ببعض الأصول والكلام الذي قاله آدم عليه السلام في السماء وفي الأرض، وزاد عليها أشياء كثيرة جداً، حتى نزل القرآن، وعندما نزل القرآن توقفت اللغة فترة من الزمن، وهي اللغة التي تسمى المعيارية.. اللغة التي يحتكم إليها ويوزن بها لغة القرآن، هذه اللغة تسمى عند اللغويين اللغة المعيارية، أي: التي يوزن بها الكلام.

فإذا أردنا أن نقول: لهجة بني فلان ينطقون بكذا، وهذه لها أصل في العربية، هو كلامهم عربي لكننا نقول: نزنها باللغة المعيارية التي نزل بها القرآن، فصارت هذه اللغة المعيارية هي مجال الوزن لما بعدها مما جاء من اللهجات، ولما قبلها مما هو من اللهجات القديمة.

ولو كنا نتصور أن القرآن لم ينزل فاللغة تبقى بنفس التصور، لكن في نفس البنية الاشتقاقية الموجودة، والبنية الاشتقاقية لا زالت موجودة إلى اليوم، ولكن صيغ الاشتقاق قد تختلف عن اللغة المعيارية، أي: صيغ الاشتقاق عند العامة سواءً العامة في جزيرة العرب بجميع أطيافها -اليمن والبحرين وقطر وعمان والسعودية، وكذلك في العراق والشام وفي مصر وفي المغرب العربي كله-، كلهم يتكلمون باللغة العربية، واللهجات الدارجة عندهم لهجات فيها اشتقاق، بعضها يكون مبني على اشتقاقات من أصول عربية وبعضها قد يكون من غير أصول عربية، ونحن نتكلم عما يكون من أصول عربية.

وقوع الحقيقة لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في المجاز هل هو واقع في القرآن أو لا؟

وحكى أن المجاز هو قول الجمهور أي: إن المجاز واقع في القرآن، والخلاف في كونه واقع في اللغة هذا خلاف ضعيف، وإلا فالأصل وقوعه في اللغة، لكن هل وقع في القرآن أم لم يقع؟ هذا الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء.

ومن باب الفائدة ننتبه إلى أنه لا يلزم أن كل أسلوب عربي أن يكون موجوداً في القرآن. بخلاف العكس فكل أسلوب في القرآن فهو عربي.

فالخلاف هنا ليس في كون المجاز موجوداً في اللغة أو ليس بموجود في اللغة، فالأصل أنه موجود في اللغة، والمخالفة في كونه موجوداً في اللغة مكابرة.

ونحن نحتاج إلى أن نعرف ماهية المجاز، أي: كيف نحكم على هذا بأنه مجاز أو ليس بمجاز، وهذه قضية مرتبطة بالاصطلاح.

لنأخذ مثالاً في ذلك: عندما نقول: اقرأ الكتاب. هل يتجه الذهن إلى غير الكتاب المعروف الذي يقرأ فيه الإنسان أياً كان نوع الكتاب؟ لا يتجه الذهن إلى غير ذلك، إذاً فالكتاب هو حقيقة في المكتوب الذي يكون إما في ورق وإما بين دفتين، فهذا هو الكتاب.

هذا متعارف عليه وصار حقيقة، لا يمكن أن يأتي أحد ويقول: إن قولنا: اقرأ الكتاب. ليس هذا هو المراد به، فهذا نعده حقيقة.

لو استعير لفظ الكتاب لأمر آخر، فسيكون فيه نقل؛ ولهذا فالنقل من شيء إلى شيء آخر هو الذي يعتبر مجازاً، فهذه قضية مهمة ننتبه لها؛ لكي نعرف ما هي المشكلة الحادثة بين القائلين بالمجاز والقائلين بنفي المجاز، أي: هل يوجد نقل للألفاظ من حقيقتها المعروفة إلى كناية أو استعارة في أمر آخر أم لا يوجد؟

إذا تأملنا الكلام الدارج بيننا نجد بأنه كثير جداً، فهو متعاهد بيننا ومتعارف عليه أن كذا المراد به كذا، فأي نقل له إلى أمر آخر فهذا يعتبر مجازاً.

مثال ذلك: عندما نقول: الثلاجة. إلى أين يتجه الذهن عندما تقول: عندي ثلاجة؟ إلى تلك الآلة المعروفة، هل يمكن أن ينتقل الذهن إلى أنك تريد صاحباً بليداً أو ولداً بليداً؟ لا يمكن أن يتجه، فعندما تقول: عندي ثلاجة. لا يتجه الذهن إلا إلى هذه الآلة المعروفة، فهي أول ما يتبادر إلى الذهن.

فإذا قال قائل: ثلّج فيها لحماً. قال: لا. لا أقصد هذا، فهنا يكون خلل عند المتكلم بأنه لم يبين الواسطة للنقل من الحقيقة إلى المجاز.

ففي الكلام الدارج، الأصل فيه أن يؤخذ على ظاهره، وظاهره هو الحقيقة المرادة به.

في كثير من هذا الكلام ليس فيه مشكلة كبيرة، إنما المشكلة في الكلام القديم، أي: في كلام العرب، إذ كيف يمكن أن نثبت حقيقة الأمر من مجازه؟

وهنا نقول: الاختلاف في أمثلة الحقيقة والمجاز لا يكسر قاعدة وجود المجاز. وهذه قاعدة ينتبه لها.

فالاختلاف في الأمثلة لا يؤثر على الأصل، فنحن لا نريد أن نناقش: هل المجاز موجود أصلاً أو غير موجود؟ إذا كنا نقول: إن هذا النقل مجاز، فهذا اصطلاح، أي: أن نقل الكلمة من الأصل المتعارف عليه إلى أمر آخر فهو مجاز، إذاً المجاز موجود في اللغة وهو كثير، لكن ليس كثير على رأي ابن جني؛ لأن ابن جني جعل أغلب اللغة مجازاً، فنقول: المجاز كثير، لكن ليس إلى حد كبير جداً، بحيث أنه يجعل أغلب اللغة كما ذهب إليه ابن جني ، وهذا مذهب فاسد القول: بأن أغلب اللغة مجاز.




استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
عرض كتاب الإتقان (45) - النوع الخامس والأربعون في عامه وخاصه 3931 استماع
عرض كتاب الإتقان (77) - النوع السادس والسبعون في مرسوم الخط وآداب كتابته [1] 3814 استماع
عرض كتاب الإتقان (47) - النوع السابع والأربعون في ناسخه ومنسوخه 3593 استماع
عرض كتاب الإتقان (79) - النوع السابع والسبعون في معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفه والحاجة إليه 3585 استماع
عرض كتاب الإتقان (69) - النوع السابع والستون في أقسام القرآن 3541 استماع
عرض كتاب الإتقان (49) - النوع التاسع والأربعون في مطلقه ومقيده 3537 استماع
عرض كتاب الإتقان (74) - النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفاضله 3481 استماع
عرض كتاب الإتقان (34) - النوع السادس والثلاثون في معرفة غريبه [1] 3477 استماع
عرض كتاب الإتقان (7) - النوع الرابع - النوع الخامس - النوع السادس 3442 استماع
عرض كتاب الإتقان (53) - النوع الثالث والخمسون في تشبيهه واستعاراته 3418 استماع