خطب ومحاضرات
التعريف بكتب التفسير [4]
الحلقة مفرغة
تفسير أبي منصور الماتريدي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول أبو منصور الماتريدي في قوله سبحانه وتعالى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] (أجمع أهل التفسير والكلام على صرف الأيام المعدودة المذكورة في هذه الآية إلى أيام عبادة العجل, ويقدرونها بأربعين يوماً وذلك لا معنى له لوجهين:
أحدها: أن هؤلاء المخاطبين لم يعبدوا العجل, وإنما عبده آباؤهم، فلا معنى لصرف ذلك إلى هؤلاء, صرف ذلك يعني: العذاب إلى هؤلاء الذين لم يحضروا.
والثاني: لو صرف ذلك إلى آبائهم الذين عبدوا العجل لم يحتمل أيضاً؛ لأنهم قد تابوا ورجعوا عن ذلك، فلا معنى للتعذيب على عبادة العجل بعد التوبة والرجوع إلى عبادة الله لقوله تعالى: إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]).
من خلال ما سبق نلاحظ أن جميع استدلالاته عقلية, فهو يحكي الإجماع, فيقول: (أجمع أهل التفسير) ثم يعترض على هذا الاجماع, ونحن نحاكمه إلى قوله, مع أنه لا يوجد إجماع كما سيأتي بعد قليل.
فهذا الإجماع الذي زعم أنه وارد في الآية منتقض بما رواه الطبري عن ابن عباس عن مجاهد : أن اليهود قالوا: إنهم يعذبون سبعة أيام, ولهم رواية أخرى: غير أنهم يعذبون أربعين يوماً, ففي معنى الأيام المعدودة عند السلف قولان:
القول الأول: أنها أربعون يوماً.
والقول الثاني: أنها سبعة أيام, فهذا الإجماع منتقض، ومع أنه حكى الإجماع إلا أنه رده؛ لأن الاعتماد عنده على العقل.
والقول الذي زعم أنه إجماع هو قول الجمهور, منهم: ابن عباس و قتادة و السدي و أبو العالية و عكرمة و الضحاك و زيد بن أسلم, وكما أشرت فإن عنوان الكتاب في قضية التأويلات؛ لهذا يكثر عنده التأويلات الباطلة والضعيفة, بسبب اعتماده مبدأ إدخال المحتملات، بغير ضابط لما يدخل وما لا يدخل من هذه المحتملات؛ ومن أمثلة ذلك: قوله: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3], في أول سورة البقرة المعروف أن المراد بالصلاة، الصلاة المعروفة التي هي ذات الأفعال والأقوال المخصوصة, وإذا جاءت: (يقيمون) مع (الصلاة), فإن المراد به الصلاة الشرعية.
لكن المؤلف سيذكر من هذه المحتملات فيقول: يحتمل وجهين: يحتمل الصلاة المعروفة يقيمونها بتمام ركوعها وسجودها والخشوع والخضوع له فيها, وإخلاص القلب في النية على ما جاء في الخبر.
ويحتمل الحمد والثناء, فإن كان المراد هذا فلا يحتمل النسخ ولا الرفع في الدنيا والآخرة, يعني: إن كان مراده الحمد فإنه لا يحتمل النسخ ولا الرفع في الدنيا والآخرة.
وهذا الوجه الآخر الذي ذكره وجه غريب, لم يذكره عن قائل, فقد يكون ذكره احتمالاً من ذاته, وقد يكون نقله, وسواء كان ناقلاً أو كان ذاكراً فهذا القول الذي أورده ضعيف وغير صحيح.
ويلاحظ أنه يكثر من الرد على المعتزلة, كما أنه ذهب في المسائل الفقهية مذهب أبي حنيفة, ولا يظهر من الكتاب الوجهة التامة له، لكنه واضح أنه حنفي المذهب ويستدل له.
ويقل في تفسيره الاستشهاد بالشعر؛ لأن العمدة عنده على القضايا العقلية.
وينقل عن أهل الكلام ويعتمد تفسيرهم ويقدمه على تفسير السلف, ومن أمثلة ذلك: قال: (ثم اختلف أهل التفسير في (العالمين) -في قوله: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]- فمنهم من رده إلى كل ذي روح ودب على الأرض, ومنهم من رده إلى كل ذي روح في الأرض وغيرها. ومنهم من قال: لله كذا وكذا عالم).
وطبعاً هذه أقوال للمفسرين من السلف, قال: (والتأويل عندنا ما أجمع عليه أهل الكلام أن (العالمين): اسم لجميع الأنام والخلق جميعاً, وقول أهل التفسير يرجع إلى مثله, إلا أنهم ذكروا اسماء أعلام، وأهل الكلام على ما يجمع ذلك وغيره), فكأنه اعتمد قول أهل الكلام, وأدخل فيه في النهاية قول أهل التفسير.
ومن الآثار المرتبطة بالاعتقاد عنده مفهوم الإيمان, وهو نفس ما عند الأشاعرة، وهو أن الإيمان هو التصديق، فيقول: وإن كان في أهل الكتاب ففيه الأمر بالإيمان الذي هو إيمان وهو التصديق, قال: (والإيمان عندنا هو التصديق بالقلب، ودليله قول جميع أهل التأويل والأدب: فإنهم فسروا (آمنوا) بصدقوا, في جميع القرآن).
فهم يزعمون أن (آمنوا) بمعنى: صدقوا في جميع القرآن هذا قول أهل التأويل والأدب, ويقصد بأهل الأدب أهل العربية.
وقال في قوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:25]: (تنقض قول من جعل جميع الطاعات إيماناً, لما أثبت له اسم الإيمان دون الأعمال الصالحات, غير أن البشارة لهم وذهاب الخوف عنهم إنما أثبت بالأعمال الصالحات).
قال رحمه الله: (ويحتمل الأعمال الصالحات عمل القلب: وهو أن يأتي بإيمان خالص لله لا كإيمان المنافق بالقول دون القلب), وهو هنا يريد أن يرد على المعتزلة, حيث يرون أن الأعمال غير الإيمان.
وهنا نلاحظ أنه ادعى الإجماع على أن المراد بالإيمان: التصديق فيقول: (أجمع عليه قول جميع أهل التأويل والأدب).
وعندما نقرأ في تفسير الطبري في تفسير قوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3], نجد أن ابن مسعود يقول: الإيمان التصديق, وقال ابن عباس : يؤمنون يصدقون, وقال الربيع بن أنس : يؤمنون يخشون, وقال الزهري : الإيمان العمل, فهذا رد على مثل قول الماتريدي.
يقول الطبري معلقاً على ذلك: (ومعنى الإيمان عند العرب التصديق, فيدعى المصدق بالشيء قولاً مؤمناً به, ويدعى المصدق قوله بفعله مؤمناً, ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17], يعني: وما أنت بمصدق لنا في قولنا.
وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل, والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل, وإذا كان ذلك كذلك فالذي هو أولى بتأويل الآية وأشبه بصفة القوم أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغيب قولاً واعتقاداً وعملاً, إذ كان جل ثناؤه لم يحصرهم معنىً من معنى الإيمان على معنى دون معنى، بل أجمل وصفهم به من غير خصوص شيء من معانيه أخرجه من صفتهم بخبر ولا عقل).
فهذا كلام الطبري يفند ما يزعمه الماتريدي رحمه الله من الإجماع على أن الإيمان هو التصديق فقط, وأن العمل لا يدخل في الإيمان.
فالخلاصة أن السلف يرون أن العمل من الإيمان.
وأيضاً يلاحظ أن له عناية بالاستدلال والاستنباط من الآيات, وقد تكون هذه الاستنباطات عقدية تتناسب مع ما يذهب إليه, وقد تكون غير ذلك, ومن أمثلة ذلك: في قوله سبحانه وتعالى: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24], يقول: في الآية دلالة على أنها لم تعدّ لغير الكافرين, وهو يريد من هذا أن يرد على المعتزلة الذين يرون خلود صاحب الكبيرة في النار, فيقول: في الآية دلالة على أنها لم تعد لغير الكافرين, كأنه يقول: يلزم من قول المعتزلة بخلود صاحب الكبيرة أن يكون كافراً وهم لا يقولون بأنه كافر, بل يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين.
وأيضاً في قوله سبحانه وتعالى: قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32], يقول: وفي الآية منع التكلم بالشيء إلا بعد العلم به, والفزع به إلى الله عن القول به إلا بعلم, وهذا هو الحق الذي يلزم كل من عرف الله, وبه أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام، فقال: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، فهذه من الاستنباطات اللطيفة عنده.
فهذا بعض ما يتعلق بمنهج أبي منصور الماتريدي .
والكتاب كما ذكرت قليل الوجود, ولا يستفيد منه إلا المتخصصون, ولكن أردت أن نتعرف على المطبوع من هذه الكتب من خلال القرن الثاني والثالث، والكتاب الذي يمكن أن يقتنى ويحرص عليه هو كتاب: ابن جرير الطبري لما سبق من تميزه واعتنائه بآثار السلف والترجيح بينها, وكذلك كتاب ابن أبي حاتم لعنايته أيضاً بالآثار, ولمن أراد أن يعرف قول السلف في الآية ويستفيد من هذا الكتاب الذي هو تفسير ابن أبي حاتم.
أنموذج من تفسير الطبري
قال المؤلف رحمه الله:
(وقوله: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص:57], يقول تعالى ذكره: هذا حميم، وهو الذي قد أغلي حتى انتهى حره, وغساق فليذوقوه، فالحميم مرفوع بهذا, وقوله: (فليذوقوه) معناه: التأخير؛ لأن معنى الكلام ما ذكرت: وهو هذا حميم وغساق فليذوقوه, وقد يتجه إلى أن يكون هذا مكتفياً بقول: فليذوقوه, ثم يبتدأ فيقال: حميم وغساق، بمعنى: منه حميم ومنه غساق.
كما قال الشاعر:
حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس وغودر البقل ملوي ومحصود
وإذا وجه إلى هذا المعنى جاز في هذا النصب والرفع. النصب: على أن يضمر قبلها لها ناصب، كما قال الشاعر:
زيادتنا نعمان لا تحرمنّنا تق الله فينا والكتاب الذي تتلو
والرفع بالهاء في قوله: (فليذوقوه) كما يقال: الليل فبادروه، والليل فبادروه ..).
ذكر المعنى الجملي، وإن كان لم يفسر معنى الغساق، والغساق فيه خلاف, ثم ذكر ما يرتبط بالإعراب وجواز الوقف على قوله: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ [ص:57], ثم تبتدئ: حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص:57], يعني: على التفصيل: منه حميم، ومنه غساق, وواضح الاستدلالات الشعرية، لهذه القضية النحوية.
ثم قال: (حدثنا محمد بن الحسين، عن السدي هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص:57], قال: الحميم: الذي قد انتهى حره.
حدثني يونس عن ابن زيد : الحميم دموع أعينهم، تجمع في حياض النار فيسقونه).
ونلاحظ في روايته عن السلف في معنى الحميم: الذي انتهى حره, ثم هو نفسه فسر بهذا, وابن زيد فسر الحميم فقال: دموع أعينهم تجمع في حياض النار فيسقونه, فهنا المعنى زائد القدر و الطبري لم يعترض, فالمعنى محتمل.
لكنها قضية غيبية, تحتاج إلى نص يبين أن هذا النوع من الحميم هو الذي يكون من دموع أعينهم؛ فـالطبري في مثل هذه المرويات يسكت عنها، فلا يشير إلى الموافقة ولا إلى المخالفة.
ثم قال: (وقوله: (وغساق) اختلفت القراء في قراءته، فقرأته عامة قراء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين والشام بالتخفيف: (وغساق) وقالوا: هو اسم موضع. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة: (وغسّاق) مشددة، ووجهوه إلى أنه صفة من قولهم: غسق يغسق غسوقاً: إذا سال، وقالوا: إنما معناه: أنهم يسقون الحميم، وما يسيل من صديدهم.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وإن كان التشديد في السين أتم عندنا في ذلك؛ لأن المعروف ذلك في الكلام، وإن كان الآخر غير مدفوعة صحته).
فهنا يظهر تحليله للقراءات، فيقول: ورد في (غساق) قراءتان: الأولى: بتشديد السين، والثانية: بتخفيفها, يعني: (غساق) و(غسّاق).
وذكر أن أهل القراءة الأولى وجهوه إلى أنه موضع, اسمه غساق في النار, وذكر القول الأخير وأنه من السيلان, غسق الوادي إذا سال, وغسق الجرح أيضاً إذا سال صديده, ثم نبه على أن القراءتين كلاهما صحيحة, قال: (فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب), ولكنه ذكر أن أحبها إليه التشديد, لكونها أتم من جهة المعنى، والمعروف من كلام العرب, فهذه إحدى الطرائق في الترجيح بين القراءات عنده.
ثم قال: (واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: هو ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر عن قتادة : هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص:57], قال: كنا نحدَّث أن الغساق: ما يسيل من بين جلده ولحمه.
حدثنا محمد عن السدي قال: (الغساق): الذي يسيل من أعينهم من دموعهم، يسقونه مع الحميم.
حدثنا ابن حميد عن إبراهيم قال: (الغساق): ما يسيل من سُرمهم، وما يسقط من جلودهم.
حدثني يونس , قال ابن زيد (الغساق): الصديد الذي يجمع من جلودهم مما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه.
حدثني يحيى بن عثمان, حدثني أبو قبيل أنه سمع أبا هبيرة الزيادي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: أي شيء الغساق؟ قال: الله أعلم، فقال عبد الله بن عمرو : هو القيح الغليظ، لو أن قطرة منه تهراق في المغرب لأنتنت أهل المشرق، ولو تهراق في المشرق لأنتنت أهل المغرب.
قال يحيى بن عثمان : فقال: حدثنا أبو قبيل عن عبد الله بن هبيرة، ولم يذكر لنا أبا هبيرة .
حدثنا ابن عوف , قال: حدثنا أبو يحيى عطية الكلاعي، أن كعباً كان يقول: (هل تدرون ما غساق؟ قالوا: لا والله، قال: عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية أو عقرب أو غيرها، فيستنقع فيؤتى بالآدمي، فيغمس فيها غمسة واحدة، فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام. حتى يتعلق جلده في كعبيه وعقبيه، وينجر لحمه كجر الرجل ثوبه).
كلام كعب يوافق القراءة هذه في الموضع, ويحتاج أن نراجعه هل هو اسم موضع؟ كلامه إشارة إلى أنه عين، يعني: اسم موضع, لكن يراجع.
ثم قال: (وقال آخرون: هو البارد الذي لا يستطاع من برده.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن يحيى بن أبي زائدة، عن مجاهد (وغساق) قال: بارد لا يستطاع، أو قال: برد لا يستطاع.
حدثني علي بن عبد الأعلى، عن الضحاك : هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص:57], قال: يقال: الغساق: أبرد البرد، ويقول آخرون: لا بل هو أنتن النتن.
وقال آخرون: بل هو المنتن.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن المسيب، عن أبيه، عن عبد الله بن بريدة، قال: الغساق: المنتن، وهو بالطخارية.
حدثني يونس، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو أن دلواً من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ).
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو ما يسيل من صديدهم؛ لأن ذلك هو الأغلب من معنى الغسوق، وإن كان للآخر وجه صحيح).
فنلاحظ أنه أورد الروايات في الاختلاف ثم رجح, والمعتمد في الترجيح أن الأغلب من معنى الغساق في اللغة هو ما يسيل, يعني: فهو راجع إلى مادة السيلان, فهو يدل على أن الحديث الذي أورده فيه ضعف, ولو كان الحديث صحيحاً لما اعترض عليه, لكن من منهجه أنه يورد ما يتصل من الآثار بتفسير الآية.
فاعتمد المعنى الأول؛ لأنه الأغلب, قال: وإن كان للآخر وجه صحيح, ووجه صحته أن الغسق يطلق في اللغة على الشيء البارد فمنهم يسميه الغسق؛ لأنه وقت برودة في الجو, غسق الليل يعني: الوقت البارد منه, فأطلق عليه غسق.
نكتفي بهذا النقل من تفسير الطبري ؛ لأن منهجه واضح ونلاحظ أن هذا التفسير فيه تكامل من جهة إيراد القراءات، ومعاني القراءات، والاستشهاد بالشواهد الشعرية، وذكر آثار السلف، والترجيح بينها, وبيان مدلولات لغوية، فهو كتاب متكامل, فمن أراد أن يقرأ فيه فليقرأ بعناية وتؤدة، ليستفيد كثيراً من هذا الكتاب.
أنموذج من تفسير ابن أبي حاتم
الكتاب الآخر لـابن أبي حاتم يقول رحمه الله في قوله تعالى: فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ [هود:43].
(حدثنا أبي حدثنا سهل بن غياث، عن مجاهد قال: لما أصاب قوم نوح الغرق قال: قام الماء على رأس كل جبل خمسة عشرة رأساً، قال: فأصاب الغرق امرأة فيمن أصاب لها صبي فوضعته على صدرها، فلما بلغها الماء وضعته على منكبيها، فلما بلغها الماء وضعته على يديها، قال: فقال تبارك وتعالى: لو رحمت أحداً من أهل الأرض لرحمتها.
حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، عن عون بن أبي شداد قال: غرق الماء الجبال فوقها ثمانين ميلاً.
قوله تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ [هود:44].
حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عباد المزني، عن أبي سعيد، (وغيض) قال: خرجت أريد أن أشرب ماء فمررت بالفرات فإذا الحسن و الحسين فقالا: يا أبا سعيد، أين تريد؟ قلت: أشرب ماء المر، قال: لا تشرب ماء المر، فإنه لما كان زمن الطوفان أمر الله الأرض أن تبلع ماءها، وأمر السماء أن تقلع، فاستعصى على بعض البقاع فلعنه فصار ماؤه مراً وترابه سبخاً لا ينبت شيئاً.
أخبرنا أبو عبد الله الطهراني بسنده إلى وهب بن منبه أنه سمع: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ [هود:44], يقول بالحبشية: ازرديه).
بالحبشية: ازرديه, من ازدرد الطعام يعني: أكله كأنه يقول: مادة بلع هذه حبشية.
وعلى العموم فهذا من باب الفائدة الاستطرادية، لغة الحبشة أصلها عربية؛ لأن العرب انتقلوا إلى الحبشة فقد تكون فيه موافقة بين الأصل والفرع, وهذا الموضوع ليس هنا محله، لكن المقصود التنبه إلى هذا.
ثم قال: (حدثنا أبي، حدثنا هشام بن خالد، بسنده عن قتادة، قوله: يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ [هود:44], يقول: ابلعي ما كان عليك.
حدثنا أبي, بسنده عن ابن عباس قوله: وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي [هود:44], يقول: اسكني، وروي عن قتادة، نحو ذلك).
فمنهج ابن أبي حاتم على هذه الطريقة, غيض الماء يقول: ذهب الماء، وروي عن قتادة نحو ذلك, فهذا الكتاب ليس فيه إلا آثار.
فيستفاد منه في حال البحث عن أثر من آثار السلف, ويعتبر مرجعاً يرجع إليه, وليس صالحاً للقراءة فليس كتاباً متكاملاً في التفسير، بخلاف تفسير الطبري.
أنموذج آخر من تفسير أبي منصور الماتريدي
قال المؤلف رحمه الله:
(وقوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40], إلى قوله: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47].
يحتمل: فضّل أوائلهم.
وفي الآية وجهان على المعتزلة:
أحدهما: قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40], وعندهم: أن جميع ما فعل مما عليه الفعل، ولو فعل غيره لكان يكون به جائزاً، فإذا كان تركه بفعله جائزاً ففعله حق عليه).
للأسف قضية هذه التأويلات لما دخلت في كتب التفسير أفسدتها, تلاحظ الفرق بين كلام ابن جرير الطبري وطريقته في التفسير، فتشعر أنك تستفيد، فهو علم واضح جداً ما فيه غموض, بخلاف مثل هذه الكتب فتجد فيها مثل هذا الكلام البعيد عن التفسير, كذلك تفسير ابن أبي حاتم واضح، لأنه آثار سلفية التفسير.
يقول: (ولا أحد يكون بفعل ما لا يجوز له الترك منعماً على أحد؛ فثبت أن كان ثم منه معنى زائد خصهم به، وأن ليس التخصيص محاباة كما زعمت المعتزلة، ولا ترك الإنعام بخل كما قالوا.
والثاني: قوله: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47], فلو لم يكن منه إليهم فضل معنى، لم يكن لهم تفضيل على غيرهم؛ فثبت أن كان فيهم ذلك.
ومن قول المعتزلة: أن ليس لله أن يخص أحداً بشيء إلا باستحقاق بفعله، وبذلك هم فضلوا أنفسهم على العالمين، لا هو، فكيف يمن عليهم بذلك؟! ولا قوة إلا بالله.
مع ما لا يخلو تفضيله إياهم على غيرهم من أن يكون لهم الفضل في الدين أولاً، فإن لم يكن فليس ذلك بتفضيل، وإن كان ثبث أن ليس من الحق عليه التسوية بين الجميع في أسباب الدين).
كل هذا الكلام يعود إلى تفضيل الله سبحانه وتعالى، يقول: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47], فهو فضل من الله عليهم, ولم يفضلوا هم أنفسهم؛ وقضية نسبة الفعل للعبد أو إلى الرب, هذا راجع إلى أفعال العباد.
ثم قال: (وقوله عز وجل: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [البقرة:48].
الآية - والله أعلم - كأنها مؤخرة في المعنى وإن كانت في الذكر مقدمة؛ لأنه قال: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47], ثم ذكر الأفضال والمنن، فقال: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49], الآية، وقوله: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ [البقرة:50], وقوله: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة:50].
ذكرهم عز وجل عظيم نعمه ومننه عليهم؛ ليشكروا له، وليعرفوا أنها منة، وأنه فضل منه.
ثم حذرهم جل وعز فقال: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [البقرة:48], الآية؛ ليكونوا على حذر؛ لئلا يصيبهم ما أصاب الأمم السالفة من الهلاك وأنواع العذاب بعد الأمن، والتوسع عليهم، كقوله: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا [الأنعام:43], إلى قوله: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ [الأنعام:44], الآية.
ثم في الآية دليل لقول أبي حنيفة وأصحابه: إن الولد يصير مشتوماً مقذوفاً بشتم والديه؛ لما عيرهم جل وعز بصنع آبائهم بقوله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ [البقرة:51], وهم لم يتخذوا العجل، وإنما اتخذ ذلك آباؤهم، وكذلك ذكر عز وجل صنعه ومننه عليهم).
هذا أيضاً فيه إشارة إلى أنه كان على مذهب أبي حنيفة ، فهو يورد الاستدلالات الخفية في مثل هذا؛ نصرة لـأبي حنيفة وأصحابه, وهذا مثال آخر من كتاب تأويلات أهل السنة لـأبي منصور الماتريدي, ولا شك أنه يظهر من الكتاب هذا الأسلوب, ففيه تفسير، لكن فيه أشياء كثيرة جداً من هذه التأويلات, وبهذه النماذج يظهر لنا بالموازنة الفرق بين مناهج هذه الكتب, وأيها أنفع بالنسبة لطالب العلم, وإنما ذكرته لأني أردت أن أستقصي قدر الإمكان ما في هذ القرن, وهو يعتبر أيضاً مرجعاً لمن أراد أن يرجع إلى أقوال أهل التأويل المنحرفة في التفسير، لكنه لا يعد كتاباً صالحاً للقراءة.
تفسير السمرقندي المسمى ببحر العلوم
تفسير أبي الليث نصر بن محمد بن أحمد السمرقندي المتوفى سنة (375) يسمى بحر العلوم, وقد طبع كاملاً, و أبو الليث السمرقندي كان معروفاً بالوعظ، وله في ذلك كتاب بستان العارفين, وكما أشرت سابقاً إلى أن تخصص العالم يؤثر على تفسيره، ولهذا ستجد وأنت تقرأ في تفسير أبي الليث بعض القضايا الوعظية, فمن ذلك مثلاً في قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا [البقرة:38], قال: (يعني: آدم وحواء وإبليس والحية, وفي الآية دليل على أن المعصية تزيل النعمة عن صاحبها؛ لأن آدم قد أخرج من الجنة بمعصيته، كما قال الشاعر:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله فإن الإله شديد النقم)
وقال في قوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45], يقول: (ذكر في هذه الآية الطاعة الظاهرة والطاعة الباطنة, فأمر بالصبر والصلاة؛ لأنه ليس شيء من الطاعات الظاهرة أشد من الصلاة على الجسد؛ لأنه يجتمع فيها أنواع الطاعات: الخضوع, والإقبال, والسكون, والتسبيح, والقراءة, فإذا تيسرت عليه الصلاة تيسر عليه ما سوى ذلك, وليس شيء من الطاعات الباطنة أشد من الصبر على البدن, فأمر الله بالصبر والصلاة؛ لأنه حسن, ثم قال: إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153], فالله تعالى مع كل أحد، ولكن خص الصابرين؛ لكي يعلموا أن الله سبحانه وتعالى يفرج عنهم) انتهى كلامه.
فهذا التفسير يلاحظ فيه العناية بمفردات القرآن, والحرص على بيان معاني الألفاظ.
من ذلك في قوله: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:117], يقول: (أي خلقهما, والإبداع في اللغة: إنشاء لم يسبق إليه على غير مثال ولا مشورة, وإنما قيل لمن خالف السنة: مبتدع؛ لأنه أتى بشيء لم يسبقه إليه الصحابة ولا التابعون, ومعناه: خالق السموات والأرض).
ففي هذا الكتاب تجد عناية ببيان المدلولات, ولا يخلو كتاب من كتب التفسير من بيان الألفاظ, لكن محاولة التحرير بهذه الطريقة ليس كل تفسير ينحو إليها.
وأيضاً لا يخلو هذا الكتاب من القصص والأخبار الإسرائيلية, وقد كان يروي هذه القصص والأخبار عن مفسري السلف: كـابن عباس , و السدي و الكلبي , و مقاتل وغيرهم, وهو مكثر من الرواية عن مقاتل و الكلبي , كما أنه يروي تفسير السلف بلا إسناد وإنما يعلقه على قائله, ومن ذلك قال: ( فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17], يعني: بينا لهم الحق من الباطل والكفر من الإيمان, وقال مجاهد : فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17]، أي: دعوناهم, وقال قتادة و مقاتل : بينا لهم, وقال القتبي : دعوناهم ودللناهم), و القتبي هو ابن قتيبة , وهو أيضاً مكثر من النقل عنه, فيكاد يكون كتاب تفسير غريب القرآن موجوداً في كتاب بحر العلوم.
وفي قوله تعالى: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16], يقول: (أي: جعل في الأرض علامات من الجبال وغيرها، تهتدون به الطرق في حال السفر, قال: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16], أي: بالجدي والفرقدين تعرفون الطرق في البر والبحر, وروى عبد الرزاق عن معمر في قوله: وَعَلامَاتٍ [النحل:16], قال: قال الكلبي الجبال, وقال
استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
التعريف بكتب التفسير [5] | 3345 استماع |
التعريف بكتب التفسير [6] | 2492 استماع |
التعريف بكتب التفسير [3] | 2163 استماع |
التعريف بكتب التفسير [2] | 2137 استماع |