شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 10-12


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ننتقل إلى الأحاديث الموجودة عندنا، فعندنا الآن حديث ابن عباس بروايتيه وحديث أبي هريرة رضي الله عنه.

أما الحديث الأول وهو حديث ابن عباس رضي الله عنه فقد سبق شرحه؛ لأنه دليل لمن قالوا بجواز اغتسال الرجل بفضل المرأة، حيث اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم بفضل ميمونة .

وقوله: ( كان يغتسل ) يدل على تكرر هذا الفعل، وأنه لم يقع منه صلى الله عليه وسلم مرة واحدة.

أما الرواية الثانية للحديث وهي رواية أصحاب السنن الأربعة، وقد رواها معهم كما سبق أيضاً الإمام أحمد والحاكم في مستدركه وهي: ( أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اغتسلت في جفنة -والجفنة هي إناء كبير أكبر من القصعة- فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل منها، فقالت: يا رسول الله! إني كنت جنباً، قال: إن الماء لا يجنب )، كلمة (لا يجنب) في ضبطها ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: (لا يجنب) بفتح الياء وضم النون، من هاهنا تكون مثل قولنا: كرم يكرم، فهي مشتقة من جنب يجنب، فهذا وجه بضم النون.

الوجه الثاني: بفتح النون: ( إن الماء لا يجنب ) فهي مشتقة من جنب يجنب.

الوجه الثالث: بكسر النون وضم الياء: (إن الماء لا يجنب). وهاهنا تكون مشتقة من فعل رباعي وهو أجنب، أجنب يجنب.

قول المصنف رحمه الله: (صححه الترمذي وابن خزيمة ) أيضاً صححه الحاكم، حيث رواه في مستدركه وقال: لا يحفظ له علة. أما فيما يتعلق بمتن الحديث فقد سبق فيما مضى.

عندنا الحديث الثالث من هذه الأحاديث وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب ) رواه مسلم .

وفي لفظ له: (فليرقه)، وللترمذي : ( أخراهن أو أولاهن ).

معاني ألفاظ حديث أبي هريرة في غسل الإناء سبعاً إذا ولغ فيه الكلب

قوله: (طهور) سبق في أول هذه الدروس بيان معنى كلمة (طُهور) بضم الطاء والفرق بينها وبين (طَهور) بفتح الطاء، فما الفرق بينهما؟

الطُّهور: بضم الطاء هو ما يتطهر به من ماء أو غيره، والطَّهور: هو فعل الطهارة نفسها، مثل الوَضوء والوُضوء والسَحور والسُحور وما أشبه ذلك، فقوله: (طهور) يجوز فيها الوجهان، يجوز أن تكون بمعنى الشيء الذي يطهر إناء أحدكم هو ما ذكر في الحديث، ويجوز أن يكون المعنى: تطهير إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات.

( إذا ولغ فيه الكلب ) الولوغ: من ولغ يلغ، وهو أن يدخل الكلب لسانه في الماء فيحركه فيه، سواء شرب أم لم يشرب من هذا الماء، فهذا يسمى ولوغاً، وقد يسمى أيضاً من غير الكلب ولوغاً، أما إذا كان ما في الإناء ليس من المائعات فإنه يقال له: لعق، فيقال: لعقه الكلب، أما إن كان الإناء فارغاً فيقال: لحسه، فهذا الفرق بين اللحس واللعق والولوغ .

قوله في رواية مسلم: (فليرقه) ما معناها؟ وفي لفظ له: (فليرقه)؟ يهريق، يهريق هي يريق، يعني نفس الفعل، يسكبه أو ينثره أو يصبه في الأرض.

مسألة: هل الكلب طاهر أم نجس؟

الحديث فيه ثمان مسائل، لعل الوقت إن شاء الله يكون كافياً للمرور عليها.

المسألة الأولى: هي: هل الكلب طاهر أم نجس؟ هذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال:

الأول: قالوا: إن الكلب طاهر كله حتى ريقه، وهذه رواية مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله، واستدلوا بأدلة منها: قول الله تبارك وتعالى: مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4]، قالوا: فكون صيد الكلب يجوز أكله، ولم يرد نص في وجوب غسله مع أنه يصيبه شيء من لعاب الكلب، هذا دليل على أنه ليس بنجس.

واستدلوا أيضاً بدليل آخر، وهو ما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يرشون شيئاً من ذلك)، فهذا دليل عندهم على طهارة لعابه.

قالوا: وأما ما ورد من الأمر بالغسل والتسبيع فهو يحمل عند المالكية على أحد وجهين: إما أن يكون هذا الأمر للتعبد، والتعبد هو أن تكون العلة غير معقولة المعنى، لا يدرى ما هي، لا ندري لماذا أمرنا الله؛ لأن الله عز وجل يحكم ما يشاء ولا معقب لحكمه، والعبيد يمتثلون أمر الله تبارك وتعالى ولو لم يعقلوا العلة أو يعرفوها، فقالوا: إن العلة في الأمر بالغسل للتعبد وليست للنجاسة، بدليل أن هناك أشياء أشد نجاسة من لعاب الكلب، بل حتى بول الكلب قالوا: لم يرد الأمر بالتسبيع في غسله.

وبعض المالكية -وهذا نقله ابن رشد صاحب بداية المجتهد عن جده- زعم أن الأمر بالغسل سبعاً مخصوص بالكلب الكَلِبْ، وما هو الكلب الكَلِبْ؟

هو الكلب المسعور؛ وذلك لأنه يؤثر في الإنسان إذا شرب من سؤره، وينقل عدوى السعار إلى الإنسان نفسه، ولكن هذا ليس عليه دليل، فهذا هو القول الأول: أن الكلب طاهر كله حتى لعابه.

القول الثاني: أن الكلب نجس كله حتى شعره، وهذا مذهب الإمام الشافعي ورواية عن الإمام أحمد رحمهما الله، أنه نجس كله حتى شعره، واستدلوا بحديث الباب.

القول الثالث: التفصيل، فقالوا: لعاب الكلب نجس وشعره طاهر، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد واختارها بعض أصحابه، وقال ابن تيمية رحمه الله: وهذا أصح الأقوال.

فأما كون اللعاب نجساً فلحديث الباب، ومن أصرح الألفاظ فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( طهور إناء أحدكم ) فهذا دليل على أن الإناء ماذا حدث له بالولوغ؟ حدث له نجاسة، فإزالة هذه النجاسة وتطهيرها يكون بالغسل، فهذا دليل على أن سؤر الكلب ينجس بالولوغ، أي: أن لعاب الكلب نجس.

أما شعره؛ فقد قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله: إن القول الراجح من أقوال أهل العلم أن جميع الشعر والريش والوبر والصوف طاهر، سواء كان على جلد ما يؤكل لحمه أو على جلد ما لا يؤكل لحمه، وسواء كان على حي أو على ميت، فالشعر والريش والصوف والوبر طاهر أبداً على الحيوان المأكول وغير المأكول، الحي والميت؛ وذلك لأنه ليس فيه نصوص تدل على نجاسته، ولو كان نجساً لنقل ذلك، ولكان من شأن الصحابة رضي الله عنهم التوقي والحذر منه، مع أن هذه الأشياء يستوي فيها أن تكون على حي أو ميت؛ لأن ليس فيها حياة حقيقية، فهي ليست كاللحم مثلاً أو الدم، بل وليست كالعظام والأسنان التي تختلف في حال الموت عنها في حال الحياة.

فهذا القول الوسط هو أقوى الأقوال وأقربها أن يقال بالتفصيل، وأن شعر الكلب وغيره من الحيوانات طاهر.

أما ريقه ولعابه فهو نجس للنص الصريح في ذلك، هذه هي المسألة الأولى.

حكم إراقة ما ولغ فيه الكلب

المسألة الثانية: هي حكم الإراقة، فقد مر خلال القراءة أن مسلماً رحمه الله روى في صحيحه زيادة: (فليرقه) وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم بإراقة الماء، فهل يدل هذا على وجوب إراقة ما ولغ فيه الكلب أم لا؟

ذهب جمهور العلماء ومنهم أكثر الشافعية إلى أن الأمر بالإراقة للاستحباب، وأنه لا يجب إراقة الماء على الفور وذلك قياساً على سائر النجاسات، قالوا: وإنما يريقه إذا أراد أن يستعمل الإناء الذي ولغ فيه الكلب؛ فإنه يريقه ثم يغسله كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو أبقاه قبل أن يستعمله لم يأثم بذلك، وهذا كما سبق قياساً منهم على سائر النجاسات، وبعضهم أعلوا زيادة: (فليرقه) فقالوا: إن ابن منده والنسائي وغيرهم قالوا: إن هذه الزيادة تفرد بها علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح وأبي رزين عن أبي هريرة، ولم يوافقه عليها بقية الرواة، فكأنهم يحكمون عليها بالشذوذ حينئذ؛ لأن علي بن مسهر تفرد بها عن الأعمش عن أبي رزين وأبي صالح عن أبي هريرة، وقد قال بهذا النسائي وحمزة الكناني وابن منده والدارقطني وغيره، ولكن الرواية ثابتة وهي زيادة ثقة ولذلك خرجها الإمام مسلم في صحيحه .

أما القول الثاني في حكم الإراقة فهو قول بعض الشافعية والظاهرية بأن الإراقة تجب فوراً، وذلك لظاهر الحديث وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإراقة، ولو تأملت المسألة لوجدت أن كلا الطرفين قد عمل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فحتى الذين تركوا الإناء ثم أراقوا الماء قبل استعماله -أراقوه ليغسلوه سبعاً- قد امثلوا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالإراقة، ولذلك فالقولان ليسا بعيدين من بعضهما، ولو أخر إراقته فلعل ذلك واسعاً إن شاء الله، ولو أراقه في الحال لكان هذا أقوى في متابعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

حكم الغسلات السبع للإناء الذي ولغ فيه الكلب

المسألة الثالثة: هي حكم الغسلات السبع، وقد سبق في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فليغسله سبعاً ) وهذا المعنى ورد في أحاديث أخرى كحديث عبد الله بن عمر الذي رواه ابن ماجه ؛ الأمر بالغسل سبعاً، وورد أيضاً في حديث عن علي عند الدارقطني ولكنه ضعيف جداً، فيه الجارود بن أبي يزيد وهو متروك الحديث .

المهم أن الأمر بالغسل سبعاً ثابت في الصحيحين وغيرهما ثبوتاً لا شك فيه، وقد رواه البخاري أيضاً من حديث أبي هريرة : ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً )، ورواه مالك في الموطأ وغيره، فما حكم الغسلات السبع؟

ذهب أكثر أهل العلم؛ المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية إلى وجوب الغسلات السبع كلها عملاً بظاهر الحديث، وذهب الحنفية إلى أن الأمر للاستحباب لا للوجوب، قالوا: فلو غسله أقل من سبع؛ غسلتين أو ثلاثاً أو أكثر من ذلك أو أقل من ذلك فإن هذا كاف في التطهير، ولا يجب أن يغسله سبع مرات.

وبم استدل الأحناف على قولهم هذا؟ وكيف أجابوا عن الحديث؟

استدلوا بأدلة وقياسات، قالوا: أولاً قياساً على سائر النجاسات؛ لأن من المعروف أن التسبيع -يعني: الغسل سبعاً- لا يجب في سائر النجاسات، لا في البول ولا في الغائط ولا في غيرهما، قالوا: فلعاب الكلب وإن كان نجساً إلا أنه ليس أغلظ نجاسة منها فيقاس عليها، وماذا يمكن أن يقال في هذا القياس؟ ماذا نقول في هذا القياس؟

هذا القياس يسمى عند الأصوليين قياساً فاسد الاعتبار، فالقياس فاسد الاعتبار عند الأصوليين هو القياس في مقابلة النص، فهذا قياس في مقابلة النص فهو فاسد الاعتبار، وقد سبق له أمثلة غير هذا.

واحتج الأحناف أيضاً على القول بعدم وجوب التسبيع؛ بما رواه الطحاوي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه سئل عن الإناء الذي ولغ فيه الكلب، فأفتى بغسله ثلاثاً، وصحح العلماء هذه الرواية، قال الأحناف: فحسن الظن بـأبي هريرة رضي الله عنه يقتضي أن نقول: إن الأمر بالغسل سبعاً ليس بواجب، ولذلك أفتى أبو هريرة بالغسل ثلاثاً، فكأنهم يقدمون ما رأى على ما روى، وما معنى كونهم يقدمون ما رأى على ما روى؟

يعني: قدموا رأيه على روايته، والراجح عند عامة العلماء والأصوليين تقديم الرواية على الرأي؛ لأن الرأي يخطئ ويصيب، أما الرواية فهي نقل عن المعصوم، فالراجح أن تقدم الرواية على الرأي، فهذا جواب على استدلالهم بفتوى أبي هريرة أن يقال: إن الحجة فيما روى لا فيما رأى.

والجواب الثاني على استدلالهم بذلك أيضاً أن يقال: ثبت عن أبي هريرة أنه أفتى بالغسل سبعاً في روايات عديدة صحيحة، وهذه الروايات الثابتة عن أبي هريرة بالغسل سبعاً أرجح من رواية الغسل ثلاثاً، من وجهين:

أحدهما: أنها توافق ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والثاني: أنها أثبت وأصح من حيث الإسناد، فالأخذ بها أولى وأرجح.

الجواب الثالث أن يقال: على فرض ثبوت ذلك وصحته عن أبي هريرة، وعدم وجود ما يعارضه، فلعل أبا هريرة رضي الله عنه نسي ما روى، أو لعله رأى أن الأمر في ذلك للاستحباب لا للوجوب، وهذا كله لا يبطل ما رواه رضي الله عنه.

الوجه الرابع في الجواب على استدلالهم هو أن يقال: إن الأمر بالتسبيع ورد عن غير طريق أبي هريرة، فهبوا أن حديث أبي هريرة لم يعمل به؛ لأنه أفتى بخلافه، فما ظنكم بغيره من الأحاديث مثل حديث ابن عمر وقد سبق، وسيأتي حديث عبد الله بن مغفل في المسألة التي بعد هذه، فعلى فرض أن حديث أبي هريرة لم يعمل به لأنه خالفه، تبقى الأحاديث الأخرى لم يوجد ما يمنع من العمل بها. هذا هو الوجه الثاني أو الدليل الثاني للأحناف: أن أبا هريرة أفتى بغير ما روى.

الدليل الثالث عندهم وهو أقرب أن يكون جواباً على استدلال الجمهور، قالوا: إن الأمر بالتسبيع كان عند الأمر بقتل الكلاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة أمر بقتل الكلاب، قالوا: فكان الأمر بغسل الإناء سبعاً إذا ولغ فيها الكلب عند الأمر بقتل الكلاب، فلما نسخ الأمر بقتل الكلاب نسخ الأمر بالتسبيع، وهذا يجاب عليه أيضاً من وجوه:

منها: أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب كان له سبب، وهو أن جبريل تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الوحي عليه، ثم جاءه فسأله فقال: إنه يمنعني أن آتيك جرو كلب ميت تحت سريرك، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجرو ثم أمر بقتل الكلاب، فالأمر بقتل الكلاب ليس له علاقة ظاهرة بموضوع نجاستها أو غيره.

الجواب الثاني وهو قوي، أن يقال: إن حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه؛ الذي رواه مسلم في صحيحه يدل على عدم صحة ما ادعوه، وحديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: ( أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب، ثم قال: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً، وعفروه الثامنة بالتراب )، فهذا دليل صريح على أن الأمر بالتسبيع كان بعد نسخ الأمر بقتل الكلاب. والحديث في مسلم، وهو نص في محل النزاع كما يقال.

هذه أهم أدلة الأحناف في عدم القول بالتسبيع، وبذلك تبين أن القول الصحيح ما عليه الجمهور من وجوب غسل الإناء سبعاً إذا ولغ فيه الكلب.

حكم الغسلة الثامنة للإناء الذي ولغ فيه الكلب

المسألة الرابعة: هي حكم الغسلة الثامنة، فقد ورد في حديث ابن مغفل السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وعفروه الثامنة بالتراب )، وهذا مخالف لحديث ابن عمر وأبي هريرة في الاقتصار على سبع غسلات إحداهن بالتراب، فذهب الحسن البصري والإمام أحمد في رواية حرب الكرماني عنه إلى وجوب الغسلة الثامنة، وذهب جمهور العلماء إلى جواز الاقتصار على سبع غسلات إحداهن بالتراب، وما ذهب إليه جمهور العلماء قول قوي، خاصة إذا تصورنا أنه يمكن أن يعفر الإناء بالتراب بغير ماء في البداية، فهذه تعفير بالتراب وتصديق لحديث ابن مغفل : ( وعفروه الثامنة بالتراب )، ثم نغسله سبعاً بالماء، ويكون هذا تصديقاً لحديث أبي هريرة وابن عمر في الغسل سبعاً, فبذلك يكون في هذا العمل جمع بين حديث ابن مغفل وحديث ابن عمر وأبي هريرة، يعني: يكون فيه جمع بين الأمر بالغسل سبعاً وبين التعفير الثامنة بالتراب، ولا يلزم أن يقال: يجب أن يغسل ثمان غسلات بالماء. إذاً: ذهب جماهير أهل العلم إلى وجوب الغسل سبعاً، لحديث أبي هريرة وابن عمر وسبقا: ( فليغسله سبعاً )، وذهب الحسن البصري والإمام أحمد في رواية حرب الكرماني عنه إلى أنه يجب أن يغسل الإناء ثمان غسلات إحداهن بالتراب. ما دليلهم؟ قالوا: الدليل حديث ابن مغفل في صحيح مسلم : ( فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب )، فهذا دليل على عدم الاقتصار على سبع، بل على ثمان، قالوا: وحديث ابن مغفل فيه زيادة غسله، فيجب الأخذ بها؛ لأننا إذا غسلنا الإناء ثمان غسلات نكون أخذنا بحديث ابن مغفل، كذا؟ ونكون أخذنا بحديث ابن عمر وأبي هريرة في الغسل سبعاً، فيكون في هذا عمل بكلا الحديثين، كيف نجمع بين هاتين الروايتين؟

يمكن الجمع بينهما بأن يقال: إن الأصل الاقتصار على سبع، والتعفير بالتراب واقع، ويتصور هذا في المثال التالي: لو ولغ كلب في إناء فأهرقنا هذا الماء الموجود في الإناء، ثم أتينا بتراب فعفرنا فيه الإناء وفركناه على جوانبه، ثم أزلنا التراب، نكون الآن عفرنا الإناء بالتراب أم لا؟

عفرناه بالتراب، ثم غسلنا الإناء سبع غسلات بالماء، بذلك نكون عملنا بكلا الحديثين، عفرناه بالتراب، وغسلناه سبع غسلات بالماء، وأظن هذا ظاهراً.

فهذا المثال الذي ضربته يوضح حديث عبد الله بن مغفل، وأنه يمكن أن يعفر بالتراب مرة بدون ماء ثم يغسل بالماء سبعاً، فيكون عفر بالتراب وغسل بالماء، فإذا كان هذا كافياً ومجزئاً، فلو عفر بالتراب ثم وضع معه الماء قبل أن يزال من الإناء مثلاً صار تعفيراً بالتراب وسبع غسلات، وكل الأحاديث معمول بها في مثل هذه الحال، ففي مثل هذا الأمر يتبين أنه ليس هناك فرق كبير بين هذه الروايات.

حكم التتريب للإناء الذي ولغ فيه الكلب

المسألة الخامسة: هي حكم التتريب، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تكون إحدى الغسلات بالتراب، كما في حديث ابن عمر وأبي هريرة، وأمر أن يعفر الثامنة بالتراب كما في حديث عبد الله بن مغفل، فهل يجب التتريب أم لا؟

في هذه المسألة رأيان للفقهاء:

ذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب التتريب، عملاً بالأدلة والأحاديث السابقة وهي صريحة في ذلك.

وذهب المالكية والأحناف إلى عدم وجوب التتريب، فأما الأحناف فقد سبق أنهم حملوا الأمر كله على الندب والاستحباب لا على الوجوب؛ للأدلة السابقة. أما المالكية فقد علمتم أنهم يرون وجوب التسبيع.. وجوب الغسل سبعاً، ولكنهم لا يرون وجوب التتريب؛ وذلك لأن الإمام مالكاً لم يرو زيادة التتريب في موطئه، فروايته كرواية الإمام البخاري : ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً )، ولم يذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بأن يكون شيئاً منها بالتراب، ولذلك لم يقل الإمام مالك بوجوب التتريب، كما أن بعض من قالوا بعدم وجوب التتريب قالوا: إن رواية التتريب مضطربة. كيف تكون الرواية مضطربة؟ رواية التتريب لماذا هي مضطربة؟

قالوا: لأن في بعض الروايات: (أولاهن)، وفي بعضها: (أخراهن)، وفي بعضها: (إحداهن) وفي بعضها: (الثامنة)، وفي بعضها: (أولاهن أو إحداهن) وما أشبه ذلك، قالوا: فهذا الاضطراب يوجب طرح رواية التتريب وعدم الأخذ بها. وكيف نجيب على هذا؟

يجاب عليه أولاً أن يقال: إن القول بوجوب التتريب أقوى؛ لصراحة الأحاديث في ذلك، ثم يقال: إن ما ورد من الاضطراب في موضع التتريب يمكن الجواب عليه، فأما قوله: (إحداهن) فهي رواية مجملة أو مطلقة تحمل على أحد الروايات المقيدة، تحمل على قوله: (الأولى) أو (أولاهن) أليست أولاهن هي إحداهن؟

هي إحداهن، فتحمل رواية إحداهن على أولاهن، أما رواية أولاهن أو أخراهن أو غيرها فترجح رواية أولاهن أيضاً عليها.

رواية أولاهن من وجهين، ترجح رواية: (أولاهن) من وجهين:

الوجه الأول: لأنها أصح وأقوى إسناداً وأكثر رواة، فهي أثبت من حيث النقل، رواية (أولاهن).

الوجه الثاني ما هو؟ نعم يا أخي.

مداخلة: أن التتريب بالتراب يجب أن يتبعه غسل بالماء.

الشيخ: نعم. أن الغسل بالتراب لو كانت هي الأخيرة هي السابعة أو الثامنة لكان ينبغي أن تتبعها غسلة بعدها لإزالة التراب. فهذا الوجه يدل أيضاً من جهة النظر على أن رواية: (أولاهن) هي الأقوى، وبذلك يزول الإشكال والاضطراب عن موضع التتريب، ويكون التتريب مطلوباً في الغسلة الأولى أو في المرة الأولى.

حكم الماء الذي ولغ فيه الكلب

المسألة السادسة: هي حكم الماء الذي ولغ فيه الكلب.

عندنا ماء في إناء كبير وقعت فيه نجاسة، فما حكم هذا الماء؟

صورة هذه المسألة: أن عندنا ماء ولغ فيه كلب، فما حكم الماء الذي ولغ فيه الكلب؟ هل نقول: إن هذا ماء لاقته نجاسة فينجس إن تغير؟ أم نقول: إن الأمر ورد بنجاسته في قوله: ( طهور إناء أحدكم ) والأمر بإراقته، فينبغي إراقته واعتباره نجساً؟

المسألة فيها أقوال، فقيل: إنه نجس، وهذا مذهب كثير من أهل العلم، قالوا: إنه نجس، ولا يجوز رفع الحدث به بعدما ولغ فيه الكلب، وحجتهم الأمر بإراقته، والأمر بغسل الإناء بعد ولوغ الكلب.

القول الثاني: أنه طاهر وليس بنجس، وهذا قول الإمام مالك؛ لأنه سبق أن الإمام مالكاً يقول: إن الكلب كله طاهر حتى ريقه، فبناءً على ذلك ما الذي نجس هذا الماء؟ لم ينجسه شيء، قالوا: وأما الأمر بالإراقة والأمر بالغسل فهو للتعبد كما سبق، وهذه الرواية المشهورة عن الإمام مالك.

القول الثالث: هو التفصيل، وكيف يكون التفصيل؟ التفصيل يكون بأن تجعل هذه المسألة نظيرة للمسألة السابقة، فيقال: سؤر الكلب نجس كما سبق أنه هو الراجح، فهذه نجاسة لاقت الماء، فإن تغير بها الماء تنجس، وهل يتغير الماء من لعاب الكلب؟ من نعمة الله علينا أننا لا نقرب الكلاب ولا نعرف شأنها، لكن الذي ذكره عدد من أهل العلم: أن لعاب الكلب فيه لزوجة يظهر أثرها في الماء.

وذكر بعض العلماء: أن لفم الكلب رائحة قد تظهر في الإناء أو في الماء، وقد يكون في فم الكلب بقايا وفضلات وأشياء أيضاً تظهر في الماء.

فهذه أمثلة تدل على أنه قد يتغير الماء من ولوغ الكلب فيه، فإذا تغير فنجاسته ظاهرة حينئذ؛ لأنه ماء تغير بنجاسة، سواءً كان قليلاً أم كثيراً، أما إذا لم يتغير فالقول بنجاسته مشكل.

ولكن لو تأملنا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه قيد الحديث بقوله: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم )، إناء أحدنا غالباً إناء صغير، يستعمله الواحد منا للشرب أو للوضوء أو لما أشبه ذلك، وهو في الغالب إناء صغير، ومثل هذا الإناء الماء الذي فيه أيضاً قليل، فإذا ولغ الكلب فيه فالغالب عليه أن يتغير بالولوغ، وربما كان الأمر بإراقته في مثل هذه الحال أيسر على المكلفين من أن يقال: انظروا، فإن تغير فأريقوه، وإن لم يتغير فلا تريقوه، لماذا؟ ؟ لأنه كما سبق أن لعاب الكلب التغير فيه ليس ظاهراً كغيره من النجاسات، فربما يحتاج الأمر إلى معرفة التغير إلى اجتهاد من الإنسان وربما يشق عليه ذلك، وقد يؤدي إلى نوع من الوسوسة، فإغلاق الباب في مثل هذه الحال والأمر بإراقة الماء وغسل الإناء -إذا كان إناء أحدنا والغالب أنه صغير والماء الذي فيه قليل- هذا الفعل أولى من أن يقال: انظر فيه فإن تغير فأرقه، وإن لم يتغير فلا ترقه.

والحجة في ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً )، وفي لفظ: ( فليرقه ) كما سبق. فهذا القول والله أعلم فيه اعتدال، وفيه اطراد أيضاً، فيه اطراد مع القاعدة التي سبق تقريرها، وهي: أن ما تغير بالنجاسة فهو نجس، وما لم يتغير فهو باق على أصله، وفي الوقت نفسه فيها عمل بحديث الباب وليس فيها طرح له، هذا ما يظهر في موضوع حكم الماء الذي ولغ فيه الكلب.

هل تقاس سائر النجاسات على لعاب الكلب؟

المسألة السابعة: هل تقاس سائر النجاسات على لعاب الكلب؟

أكثر أهل العلم على عدم القياس، فقالوا في سائر النجاسات: أنه يجزئ فيها ذهاب أثرها وغسل محلها، ولا يلزم من ذلك التعدد، وذهب الإمام أحمد في رواية عنه إلى وجوب الغسل سبعاً لكل نجاسة، سواء كانت على الثوب أو غيره، سواء كانت بولاً أو غيره.

وهذه المسألة مرت معكم في درس الفقه، والظاهر أن الأقرب هو قول الجمهور في عدم اشتراط عدد معين لإزالة النجاسة، بل كل ما أزال النجاسة وطهر المحل كفى، إلا أنه قد ورد النص الصريح الصحيح في موضوع الاستجمار، أنه لا يجزئ فيه أقل من ثلاثة أحجار، فقد روى مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: ( أن مشركاً قال له: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة -يعني: حتى طريقة قضاء الحاجة- قال سلمان رضي الله عنه: أجل، لقد أمرنا ألا نستنجي برجيع ولا عظم، وألا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار )، وهذا الشاهد: ( وألا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ) .

قياس الخنزير على الكلب من حيث النجاسة وتطهيرها

المسألة الأخيرة: هل يقاس الخنزير على الكلب في هذه الأحكام أم لا؟ أيضاً أكثر أهل العلم على عدم القياس، وقالوا: إن النص ورد في الكلب خاصة، فلا يقاس عليه غيره، بدليل أن هناك نجاسات مغلظة ولا تقاس على الكلب.

إذاً القول الأول: عدم القياس، وهو مذهب أكثر أهل العلم. وذهب بعض الشافعية إلى قياس الخنزير على الكلب، قالوا: لأن نجاسة الخنزير مغلظة، وهي عندهم -عند من قال بذلك- أغلظ من نجاسة الكلب، وأيضا قالوا: إنه قد وصف في القرآن بأنه رجس: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145].

ويجاب عن هذا بأن وصفه بأنه رجس ورد في مورد تحريم أكله، قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145]، وقد ورد في الصحيحين -كما سيأتي إن شاء الله في درس قادم- : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وقال: إنها رجس )، ومع ذلك لم يقتض هذا أن يكون سؤرها نجساً، وأن يؤمر بغسل الإناء وتسبيعه وتتريبه منها، فدل على أن كونه رجساً لا يعني أنه يقاس على الكلب في وجوب الغسل سبعاً.

قوله: (طهور) سبق في أول هذه الدروس بيان معنى كلمة (طُهور) بضم الطاء والفرق بينها وبين (طَهور) بفتح الطاء، فما الفرق بينهما؟

الطُّهور: بضم الطاء هو ما يتطهر به من ماء أو غيره، والطَّهور: هو فعل الطهارة نفسها، مثل الوَضوء والوُضوء والسَحور والسُحور وما أشبه ذلك، فقوله: (طهور) يجوز فيها الوجهان، يجوز أن تكون بمعنى الشيء الذي يطهر إناء أحدكم هو ما ذكر في الحديث، ويجوز أن يكون المعنى: تطهير إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات.

( إذا ولغ فيه الكلب ) الولوغ: من ولغ يلغ، وهو أن يدخل الكلب لسانه في الماء فيحركه فيه، سواء شرب أم لم يشرب من هذا الماء، فهذا يسمى ولوغاً، وقد يسمى أيضاً من غير الكلب ولوغاً، أما إذا كان ما في الإناء ليس من المائعات فإنه يقال له: لعق، فيقال: لعقه الكلب، أما إن كان الإناء فارغاً فيقال: لحسه، فهذا الفرق بين اللحس واللعق والولوغ .

قوله في رواية مسلم: (فليرقه) ما معناها؟ وفي لفظ له: (فليرقه)؟ يهريق، يهريق هي يريق، يعني نفس الفعل، يسكبه أو ينثره أو يصبه في الأرض.