خطب ومحاضرات
نسيم الحجاز في سيرة ابن باز
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الأحبة: تستنشقون في هذه الجلسة المباركة: نسيم الحجاز في سيرة الإمام عبد العزيز بن باز.
السبب الأول: حتى لا ننسى العظماء
فنحن أمة لها رجال وقادة في الفكر والعلم، ولها رجال ٌوقادةٌ في السياسة والإدارة، ولها رجال وقادة في الحروب والمعارك، وتنشئة الجيل على تعظيم هؤلاء الكبار ضرورة تربوية لا بد منها.
إن المسألة ليست مسألة ابن باز فحسب، بل مسألة كل العظماء والكبار والأئمة والقدوات فبمن يقتدي الجيل؟! وأي شخصية يمكن أن نقدمها لشبابنا، ونربيهم على تقفي آثارها، والسير على خطاها والنسج على منوالها؟! ما بالك إذا نشأ الجيل وهو يشعر بأن الأمة تتنكر لعظمائها، وتتجاهل تاريخهم؟ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ [المدثر:35] إنها لكارثة عظمى.
فإما أن ينساق هذا الجيل مع ذلك التيار فيتنكر للكبار كما تنكر مَن قبله، فيصبح الجيل منسلخاً عن أصوله ومبادئه، بلا تاريخ وماضٍ، فهو مقطوع الصلة بماضيه، مبتوت العلاقة بتاريخه. وكما قال أحمد شوقي:
مَثَلُ القوم نسوا تاريخهم كلقيطٍ عَيَّ في الناس انتسابا |
وإما أن ينظر الجيل إلى هذه الأمة التي تنكرت لعظمائها نظرة انتقاد واعتراض، فينقم على ذلك المجتمع، ويشعر أنه مجتمع فاسد منهار.
وكلا الأمرين خطب عظيم.
إنه ليس من مصلحة الأمة في سابقها، ولا في حاضرها، ومستقبلها أن تتنكر لعظمائها، وفي الوقت الذي ننادي نحن وغيرنا بتبجيل شخصية كشخصية ابن باز، فإننا لا نعني؛ بل لا نقبل أن يكون هذا مصادرة للكبار الآخرين، والعظماء في كل ميدان، فإن الأمة الإسلامية عاشت فترة الاستبداد الذي يعني: اعتبار الفرد وطحن من سواه، سواء على صعيد السياسة، أو المال، أو على صعيد العلم، أو العمل، أو على صعيد التربية، وآن الأوان أن تعي الأمة أن تعظيم فلان لا يعني الحط من غيره، وأن المجال يتسع لأعداد كبيرة من العظماء، والكبراء، والقادة، والأئمة، وهذا المعنى الكبير العظيم لا بد أن نقرره قولاً وفعلاً.
وأنا إذ أتحدث عن شخصية نُكِنُّ لها جميعاً الحب، والتقدير، كشخصية إمامنا ابن باز وأزيد إلى تأكيد هذا المعنى، تأكيد معنى آخر: وهو أن الأمة ينبغي أن تعي وتتعلم أنها في الوقت التي تحتفي وتحتفل فيه برجل كـابن باز، يجب أن يتسع قلبها وصدرها أيضاً لرجال آخرين من أهل العلم، أو الدعوة، أو الإصلاح، أو التعليم، أو التربية، أو سوى ذلك.
فليس الحديث عن شخصية ابن باز مصادرة لشخصية عالم جليل آخر كفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، أو فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، أو فضيلة الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود، أو فضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي أو فضيلة الشيخ عائض بن عبد الله القرني أو غيرهم.
فهذه الأمة فيها عظماء كثيرون، وفيها أئمة، وقدوات، (وكابينة) القيادة تتسع لهم جميعاً لأن كل فرد منهم في ثغرة وميدان لا يملؤه غيره ولا يسده سواه.
بل هم وجوه لعملة واحدة إن صح التعبير، ولا يجوز أن يكون ثناؤنا ثناء مغرضاً، فأنا أثني على فلان لكي أعرض بعلان، كلا. بل أنا أثني على فلان فأتحدث عنه كما لو لم يكن أمام ناظري غيره.
وقد أثني في موضع آخر على شخص آخر ممن يستحق الثناء فأتحدث عنه بالطريقة ذاتها، وليس الثناء مقصوداً لذاته وإنما الثناء كما سبق ثناء للجيل، ثناء لهؤلاء الشباب الذين ينتظرون القدوة التي يمشون وراءها.
السبب الثاني: حتى لا يصبح للجيل قدوة غير العلماء
فإن الإنسان بطبعه لا بد أن يتمثل أمام ناظريه شخصاً يعتبره في موضع الأسوة والقدوة، ويستفيد من علمه وأدبه وخلقه، والله تعالى حينما أنـزل الكتاب بعث الرسول أيضاً، والرسول عليه الصلاة والسلام ربَّى أشخاصاً نقلوا هديه ودينه إلى من بعدهم.
فكان ابن مسعود يربي في العراق، وكان ابن عباس يربي في الحجاز، وكان معاذ وأبو موسى يربيان في اليمن، وكان جابر، وكان فلان، وكان فلان...
فالجيل إذا فقد القدوة في الرجال الذين هم أهلٌ لأن ينظر في هديهم، ويقتدى بهم، فإنه سوف يلتمس القدوة من ذلك الأديب، أو الشاعر، أو المتحدث، أو الناقد الذي قد يكون منحرفاً في فكره، أو في اتجاهه، أو في خلقه، أو في سلوكه، ولكن أجهزة الإعلام نجحت في تقديمه للجيل على أنه نموذج ورمز.
خاصة ونحن نجد أن أرباب الفكر المنحرف يتبادلون ثناءً مغرضاً فيما بينهم، فكل واحد منهم يتحدث عن الآخرين، ويثني، ويطري، ويقدمهم للجيل. يقدم أعمالهم وإنجازاتهم، وكتبهم، وقصائدهم على أنها نموذج للأدب، والثقافة والوطنية، نموذج للقوة والصبر، فينشأ الشاب يقرأ الجريدة فيجد فيها ثناءً على فلان من الناس ذلك الأديب الكبير.
ويطالع المجلة فيجد فيها نقداً للديوان رقم عشرة أو عشرين للشاعر الوطني فلان، ويسمع الإذاعة فيجد فيها مقابلة مع الدبلوماسي الكبير فلان.
وهكذا يصبح الجيل نهباً لمثل هذه الشخصيات.
وقل مثل ذلك في رموز الفن والرياضة الذين مع كثرة الطرق على أشخاصهم، يصبح الصغير والكبير ينام ويصحو على الإعجاب بأشخاصهم، وتقفي سيرهم وخطاهم، وأن يتمنى أن يكون واحداً منهم.
إن هؤلاء الرجال الذين نطريهم رجالٌ برزوا يوم لم يكن في الساحة هذا الزخم الهائل من أولياء الإسلام، ودعاته، وشبابه، ورجاله، بل برزوا في وقت كثرت فيه قالة السوء، وانتشر فيه دعاة الضلالة، وبرزت فيه الدعوات القومية والبعثية وغيرها، وكان الواحد منهم صبوراً دءوباً على رغم قلة الناصر، والمعين، والمتلقي.
وبعض من ذكرت من الأئمة كان يجلس في حلقته فلا يأتي إليه إلا أربعة رجال، فإذا قرأ الواحد منهم نصيبه قام من الحلقة، ليس لديه وقت أن يجلس إلى نهايتها وإنما يقرأ ثم يذهب إلى عمله.
وآخر يجلس في وقت الظهيرة يثني رجليه في شدة الحر يوم لم يكن ثَمَّ مكيفات، فلا يجلس عنده إلا أفراد قلائل ممن لا شأن لهم، ولا وزن لهم في نظر الناس، ومع ذلك صبّروا أنفسهم كما أمر الله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] ودأبوا، وضحوا، واستمروا ثم رأوا طلائع هذه الصحوة المباركة، وهذا الإقبال الكبير، وازدحمت حلقاتهم العلمية بالطلاب، وتكاثر حولهم المتلقون، واحتفلت الأمة بهم فلم يتغير من أمرهم شيء؛ لأن الدعوة التي يحملون هي واحدة يقولونها في حال الإقبال كما يقولونها في حال الإدبار.
وهذه ميزة من أبرز الميزات. فليس الفخر لأولئك الذين ظهرت أصواتهم وارتفعت في وهج الإقبال والاندفاع نحو الإسلام، وإنما العجب من أولئك الذين وفوا، وصبروا، وجاهدوا، وأعرضوا عن الدنيا يوم أن لم يكن في الساحة غيرهم.
فجدير بنا أن نؤدي بعض حقهم الواجب في أعناقنا بعد أن عرفنا ريادتهم وسبقهم في هذا الميدان الواسع الطويل.
السبب الثالث: لأننا لا ندعي عصمة إمام ولا ندعو إلى تقليده
إن الحديث عن هؤلاء الأشخاص يضع الحق في نصابه، فهو معرفة لبعض قدرهم وجهادهم وبلائهم، وإذا كان الحديث عنهم لا ينفعهم، ولا يقدم ولا يؤخر بالنسبة لهم فإنه على الأقل يشعرهم بأن بذلهم يَلقى آذاناً صاغية، وأن جهادهم محل حفاوة الأمة وملء سمعها وبصرها.
ما بالك إذا شعر العالم بأن الأمة التي تحتشد له، وتستمع إليه، وتأكل كل وقته أو جل وقته، وتحاصره في كل لحظة بأسئلتها عبر الهاتف، أو أسئلتها المباشرة، أو طرقها على بابه، أو مراسلتها، أو اتصالاتها، أو موافاته بمشكلاتها.
ما بالك إذا شعر العالم أن هذه الأمة التي تحتشد حوله باستمرار لا تفعل ذلك إلا بقدر ما يخدم مصالحها الشخصية فحسب، ثم لا يعنيها بعد ذلك من أمره شيء أن يصح أو يمرض، يُكرم أو يُهان، يفرح أو يحزن؟! إنها كارثة أخرى أن نتخلى عن أولئك الجهابذة الذين ضحوا من أجلنا، ولو لم يكونوا ينتظرون منا شيئاً، لكن: هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ [الرحمن:60].
إننا نلحظ أهل البدع فنراهم يمنحون رؤساءهم تعظيماً يصل أحياناً إلى درجة القداسة كشيوخ الصوفية مثلاً، أو زعماء الرافضة وسواهم، تَربَّى أتباعهم على معاملتهم عبر طقوس عجيبة لم يطلبها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من أتباعهم، بل ولا يرضون منهم لو فعلوها.
فالمطلوب إذاً لأئمة أهل السنة قدراً معتدلاً من التعظيم، والإجلال اللائق الذي يحفظ لهم قدرهم ومكانتهم، ويربي الجيل على ترسُّم خطاهم.
إن الأمة التي لا حاضر لها لا مستقبل لها.
ونحن لا نعتقد أن الحديث عن رجلٍ كـابن باز يعني: اعتقاد العصمة له في كل ما يقول، أو يفعل، أو يأخذ أو يذر، ولا تقليده في كل اجتهاداته، ولا ارتهان الفكر والعقل في حدود ما وصل إليه. لا؛ بل إن من الوفاء لرجل كـابن باز وأمثاله: أن نكون أوفياء للمبادئ التي يحملونها، والتي من أهمها نبذ التقليد ومحاربته وذمه، وتربية الجيل على الأخذ من المنبع الأول من الكتاب والسنة، كما قال أحمد: لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي وخذ من حيث أخذوا.
إننا نريد أن نقول للناس في الوقت الذي نثني فيه على هذا وذاك من الأئمة الأعلام: إن مخالفة أحدهم للآخر في مسألة، أو عشر، أو مائة لا يعني تنقصه، أو مخالفته في المنهج. كلا. ألم تر أن الواحد من العلماء قد يخالف صحابياً، أو تابعياً، أو إماماً متبوعاً من الأئمة الأربعة، أو العشرة في مسائل قليلة، أو كثيرة فلا يعني هذا شيئاً سوى الوفاء للدليل، ولسان الحال يقول: فلان عزيز والحق أعز منه.
إننا نحتاج أن نرسخ هذا الميزان أيضاً في نفوس الناشئة ليغنيهم عن تساؤلات كثيرة وإحراجات وقلق لا يهدأ إلا بتصحيح التصورات وتعديل النظرات.
فإن بعض الناس لا يفهمون إلا أحد أمرين:
إما أن تكون صادقاً في ثنائك على فلان، وبناءً عليه ينبغي أن توافقه في كل شيء.
وإما أن تخالفه، فيكون معنى ذلك: أنك منابذ له في المنهج، مخالف له في الطريقة، مباعدٌ له في كل شيء.
وهذا خطأ عظيم. بل عادة العلماء الراسخين في العلم أنهم قد يثنون على العالم بما هو أهله، ويطرونه، ويمدحونه، ويدعون له، ولا يمنعهم هذا أن يخالفوه في مسألة أو عشر أو مائة من المسائل التي هي موطن اجتهاد.
السبب الرابع: المدح ليس مذموماً في كل وقت
كما أن الإمام ابن باز ليس ممن يحب المديح، ولا ممن يمدح لرغبة أو رهبة، ولكنني منذ جالسته وقاربته شعرت بأنفاس الصدق تتردد في صدره، وشعرت بعلامات اليقين تلوح في قسماته، ورأيت آيات الجهاد الدءوب تشرق في صفحات حياته، فكان من همي منذ زمن أن أخصص درساً أقول فيه لإخوتي من الشباب: إن جوانب عديدة في شخصية هذا الإمام يجب أن تحتذى، هذا كل ما كنت أريد.
وقبل أن أذكر هذه الجوانب أحب أن أقول: إن المديح ليس مذموماً دائماً، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه من مدح: فخير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالاتنا سلمة، وأبو بكر وعمر هما السمع والبصر، وعلي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وعثمان تستحي منه الملائكة، وحواريي الزبير وهكذا.. وهلم جراً.
وقد صنف العلماء في كتبهم أبواباً خاصة في المناقب، ذكروا فيها ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على رجال من أصحابه كالعشرة المبشرين بالجنة، وأمهات المؤمنين، وأهل الشجرة، أهل بيعة الرضوان، وأهل بدر وغيرهم. ثم صنفوا في مناقب القبائل والبلاد والطوائف وغير ذلك شيئاً كثيراً يطول وصفه.
إذاً: المديح أسلوب تربوي إذا كان في حدود الاعتدال، وإذا كان لغرض صحيح فهو محمود ممدوح.
أما إن كان المديح على سبيل الإطراء المجرد، أو على سبيل التزلف أو الرغبة، أو الرهبة، أو كسب المال والدنيا، أو البحث عن الرزق. فلا شك أن هذا حينئذ مذموم.
ومثله إذا كان الممدوح يخشى عليه أن يوصله المديح إلى شيء لا يرضي الله تعالى. فيدعوه إلى شيء من الغرور، أو بطر الحق، أو غمط الناس، أو ما شابه ذلك.
وهناك أسباب كثيرة دعتني إلى تناول هذا الموضوع وطرحه والحديث عنه:
فنحن أمة لها رجال وقادة في الفكر والعلم، ولها رجال ٌوقادةٌ في السياسة والإدارة، ولها رجال وقادة في الحروب والمعارك، وتنشئة الجيل على تعظيم هؤلاء الكبار ضرورة تربوية لا بد منها.
إن المسألة ليست مسألة ابن باز فحسب، بل مسألة كل العظماء والكبار والأئمة والقدوات فبمن يقتدي الجيل؟! وأي شخصية يمكن أن نقدمها لشبابنا، ونربيهم على تقفي آثارها، والسير على خطاها والنسج على منوالها؟! ما بالك إذا نشأ الجيل وهو يشعر بأن الأمة تتنكر لعظمائها، وتتجاهل تاريخهم؟ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ [المدثر:35] إنها لكارثة عظمى.
فإما أن ينساق هذا الجيل مع ذلك التيار فيتنكر للكبار كما تنكر مَن قبله، فيصبح الجيل منسلخاً عن أصوله ومبادئه، بلا تاريخ وماضٍ، فهو مقطوع الصلة بماضيه، مبتوت العلاقة بتاريخه. وكما قال أحمد شوقي:
مَثَلُ القوم نسوا تاريخهم كلقيطٍ عَيَّ في الناس انتسابا |
وإما أن ينظر الجيل إلى هذه الأمة التي تنكرت لعظمائها نظرة انتقاد واعتراض، فينقم على ذلك المجتمع، ويشعر أنه مجتمع فاسد منهار.
وكلا الأمرين خطب عظيم.
إنه ليس من مصلحة الأمة في سابقها، ولا في حاضرها، ومستقبلها أن تتنكر لعظمائها، وفي الوقت الذي ننادي نحن وغيرنا بتبجيل شخصية كشخصية ابن باز، فإننا لا نعني؛ بل لا نقبل أن يكون هذا مصادرة للكبار الآخرين، والعظماء في كل ميدان، فإن الأمة الإسلامية عاشت فترة الاستبداد الذي يعني: اعتبار الفرد وطحن من سواه، سواء على صعيد السياسة، أو المال، أو على صعيد العلم، أو العمل، أو على صعيد التربية، وآن الأوان أن تعي الأمة أن تعظيم فلان لا يعني الحط من غيره، وأن المجال يتسع لأعداد كبيرة من العظماء، والكبراء، والقادة، والأئمة، وهذا المعنى الكبير العظيم لا بد أن نقرره قولاً وفعلاً.
وأنا إذ أتحدث عن شخصية نُكِنُّ لها جميعاً الحب، والتقدير، كشخصية إمامنا ابن باز وأزيد إلى تأكيد هذا المعنى، تأكيد معنى آخر: وهو أن الأمة ينبغي أن تعي وتتعلم أنها في الوقت التي تحتفي وتحتفل فيه برجل كـابن باز، يجب أن يتسع قلبها وصدرها أيضاً لرجال آخرين من أهل العلم، أو الدعوة، أو الإصلاح، أو التعليم، أو التربية، أو سوى ذلك.
فليس الحديث عن شخصية ابن باز مصادرة لشخصية عالم جليل آخر كفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، أو فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، أو فضيلة الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود، أو فضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي أو فضيلة الشيخ عائض بن عبد الله القرني أو غيرهم.
فهذه الأمة فيها عظماء كثيرون، وفيها أئمة، وقدوات، (وكابينة) القيادة تتسع لهم جميعاً لأن كل فرد منهم في ثغرة وميدان لا يملؤه غيره ولا يسده سواه.
بل هم وجوه لعملة واحدة إن صح التعبير، ولا يجوز أن يكون ثناؤنا ثناء مغرضاً، فأنا أثني على فلان لكي أعرض بعلان، كلا. بل أنا أثني على فلان فأتحدث عنه كما لو لم يكن أمام ناظري غيره.
وقد أثني في موضع آخر على شخص آخر ممن يستحق الثناء فأتحدث عنه بالطريقة ذاتها، وليس الثناء مقصوداً لذاته وإنما الثناء كما سبق ثناء للجيل، ثناء لهؤلاء الشباب الذين ينتظرون القدوة التي يمشون وراءها.
إن تجاهل هؤلاء السادة في أجهزة الإعلام العالمية، والعربية، والمحلية، أمر خطير، لأنه يفسح المجال للثناء على رموز الحداثة، وأساطين العلمنة، ودهاقنة التسول الفكري، ويجعلهم هم القدوة والأسوة للشباب.
فإن الإنسان بطبعه لا بد أن يتمثل أمام ناظريه شخصاً يعتبره في موضع الأسوة والقدوة، ويستفيد من علمه وأدبه وخلقه، والله تعالى حينما أنـزل الكتاب بعث الرسول أيضاً، والرسول عليه الصلاة والسلام ربَّى أشخاصاً نقلوا هديه ودينه إلى من بعدهم.
فكان ابن مسعود يربي في العراق، وكان ابن عباس يربي في الحجاز، وكان معاذ وأبو موسى يربيان في اليمن، وكان جابر، وكان فلان، وكان فلان...
فالجيل إذا فقد القدوة في الرجال الذين هم أهلٌ لأن ينظر في هديهم، ويقتدى بهم، فإنه سوف يلتمس القدوة من ذلك الأديب، أو الشاعر، أو المتحدث، أو الناقد الذي قد يكون منحرفاً في فكره، أو في اتجاهه، أو في خلقه، أو في سلوكه، ولكن أجهزة الإعلام نجحت في تقديمه للجيل على أنه نموذج ورمز.
خاصة ونحن نجد أن أرباب الفكر المنحرف يتبادلون ثناءً مغرضاً فيما بينهم، فكل واحد منهم يتحدث عن الآخرين، ويثني، ويطري، ويقدمهم للجيل. يقدم أعمالهم وإنجازاتهم، وكتبهم، وقصائدهم على أنها نموذج للأدب، والثقافة والوطنية، نموذج للقوة والصبر، فينشأ الشاب يقرأ الجريدة فيجد فيها ثناءً على فلان من الناس ذلك الأديب الكبير.
ويطالع المجلة فيجد فيها نقداً للديوان رقم عشرة أو عشرين للشاعر الوطني فلان، ويسمع الإذاعة فيجد فيها مقابلة مع الدبلوماسي الكبير فلان.
وهكذا يصبح الجيل نهباً لمثل هذه الشخصيات.
وقل مثل ذلك في رموز الفن والرياضة الذين مع كثرة الطرق على أشخاصهم، يصبح الصغير والكبير ينام ويصحو على الإعجاب بأشخاصهم، وتقفي سيرهم وخطاهم، وأن يتمنى أن يكون واحداً منهم.
إن هؤلاء الرجال الذين نطريهم رجالٌ برزوا يوم لم يكن في الساحة هذا الزخم الهائل من أولياء الإسلام، ودعاته، وشبابه، ورجاله، بل برزوا في وقت كثرت فيه قالة السوء، وانتشر فيه دعاة الضلالة، وبرزت فيه الدعوات القومية والبعثية وغيرها، وكان الواحد منهم صبوراً دءوباً على رغم قلة الناصر، والمعين، والمتلقي.
وبعض من ذكرت من الأئمة كان يجلس في حلقته فلا يأتي إليه إلا أربعة رجال، فإذا قرأ الواحد منهم نصيبه قام من الحلقة، ليس لديه وقت أن يجلس إلى نهايتها وإنما يقرأ ثم يذهب إلى عمله.
وآخر يجلس في وقت الظهيرة يثني رجليه في شدة الحر يوم لم يكن ثَمَّ مكيفات، فلا يجلس عنده إلا أفراد قلائل ممن لا شأن لهم، ولا وزن لهم في نظر الناس، ومع ذلك صبّروا أنفسهم كما أمر الله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] ودأبوا، وضحوا، واستمروا ثم رأوا طلائع هذه الصحوة المباركة، وهذا الإقبال الكبير، وازدحمت حلقاتهم العلمية بالطلاب، وتكاثر حولهم المتلقون، واحتفلت الأمة بهم فلم يتغير من أمرهم شيء؛ لأن الدعوة التي يحملون هي واحدة يقولونها في حال الإقبال كما يقولونها في حال الإدبار.
وهذه ميزة من أبرز الميزات. فليس الفخر لأولئك الذين ظهرت أصواتهم وارتفعت في وهج الإقبال والاندفاع نحو الإسلام، وإنما العجب من أولئك الذين وفوا، وصبروا، وجاهدوا، وأعرضوا عن الدنيا يوم أن لم يكن في الساحة غيرهم.
فجدير بنا أن نؤدي بعض حقهم الواجب في أعناقنا بعد أن عرفنا ريادتهم وسبقهم في هذا الميدان الواسع الطويل.
أمر آخر يدعو إلى الحديث عن مثل هذا العلم الإمام وفي مثل هذا الموضوع:
إن الحديث عن هؤلاء الأشخاص يضع الحق في نصابه، فهو معرفة لبعض قدرهم وجهادهم وبلائهم، وإذا كان الحديث عنهم لا ينفعهم، ولا يقدم ولا يؤخر بالنسبة لهم فإنه على الأقل يشعرهم بأن بذلهم يَلقى آذاناً صاغية، وأن جهادهم محل حفاوة الأمة وملء سمعها وبصرها.
ما بالك إذا شعر العالم بأن الأمة التي تحتشد له، وتستمع إليه، وتأكل كل وقته أو جل وقته، وتحاصره في كل لحظة بأسئلتها عبر الهاتف، أو أسئلتها المباشرة، أو طرقها على بابه، أو مراسلتها، أو اتصالاتها، أو موافاته بمشكلاتها.
ما بالك إذا شعر العالم أن هذه الأمة التي تحتشد حوله باستمرار لا تفعل ذلك إلا بقدر ما يخدم مصالحها الشخصية فحسب، ثم لا يعنيها بعد ذلك من أمره شيء أن يصح أو يمرض، يُكرم أو يُهان، يفرح أو يحزن؟! إنها كارثة أخرى أن نتخلى عن أولئك الجهابذة الذين ضحوا من أجلنا، ولو لم يكونوا ينتظرون منا شيئاً، لكن: هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ [الرحمن:60].
إننا نلحظ أهل البدع فنراهم يمنحون رؤساءهم تعظيماً يصل أحياناً إلى درجة القداسة كشيوخ الصوفية مثلاً، أو زعماء الرافضة وسواهم، تَربَّى أتباعهم على معاملتهم عبر طقوس عجيبة لم يطلبها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من أتباعهم، بل ولا يرضون منهم لو فعلوها.
فالمطلوب إذاً لأئمة أهل السنة قدراً معتدلاً من التعظيم، والإجلال اللائق الذي يحفظ لهم قدرهم ومكانتهم، ويربي الجيل على ترسُّم خطاهم.
إن الأمة التي لا حاضر لها لا مستقبل لها.
ونحن لا نعتقد أن الحديث عن رجلٍ كـابن باز يعني: اعتقاد العصمة له في كل ما يقول، أو يفعل، أو يأخذ أو يذر، ولا تقليده في كل اجتهاداته، ولا ارتهان الفكر والعقل في حدود ما وصل إليه. لا؛ بل إن من الوفاء لرجل كـابن باز وأمثاله: أن نكون أوفياء للمبادئ التي يحملونها، والتي من أهمها نبذ التقليد ومحاربته وذمه، وتربية الجيل على الأخذ من المنبع الأول من الكتاب والسنة، كما قال أحمد: لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي وخذ من حيث أخذوا.
إننا نريد أن نقول للناس في الوقت الذي نثني فيه على هذا وذاك من الأئمة الأعلام: إن مخالفة أحدهم للآخر في مسألة، أو عشر، أو مائة لا يعني تنقصه، أو مخالفته في المنهج. كلا. ألم تر أن الواحد من العلماء قد يخالف صحابياً، أو تابعياً، أو إماماً متبوعاً من الأئمة الأربعة، أو العشرة في مسائل قليلة، أو كثيرة فلا يعني هذا شيئاً سوى الوفاء للدليل، ولسان الحال يقول: فلان عزيز والحق أعز منه.
إننا نحتاج أن نرسخ هذا الميزان أيضاً في نفوس الناشئة ليغنيهم عن تساؤلات كثيرة وإحراجات وقلق لا يهدأ إلا بتصحيح التصورات وتعديل النظرات.
فإن بعض الناس لا يفهمون إلا أحد أمرين:
إما أن تكون صادقاً في ثنائك على فلان، وبناءً عليه ينبغي أن توافقه في كل شيء.
وإما أن تخالفه، فيكون معنى ذلك: أنك منابذ له في المنهج، مخالف له في الطريقة، مباعدٌ له في كل شيء.
وهذا خطأ عظيم. بل عادة العلماء الراسخين في العلم أنهم قد يثنون على العالم بما هو أهله، ويطرونه، ويمدحونه، ويدعون له، ولا يمنعهم هذا أن يخالفوه في مسألة أو عشر أو مائة من المسائل التي هي موطن اجتهاد.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5118 استماع |
حديث الهجرة | 5007 استماع |
تلك الرسل | 4155 استماع |
الصومال الجريح | 4146 استماع |
مصير المترفين | 4123 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4052 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3976 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3929 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3872 استماع |
التخريج بواسطة المعجم المفهرس | 3833 استماع |