القواعد الفقهية [4]


الحلقة مفرغة

قد كان الحديث بالأمس في القاعدة الكبرى: (الأمور بمقاصدها)، ولعلنا نعرج اليوم على القاعدة الأخرى: (المشقة تجلب التيسير).

وهذه القاعدة من القواعد الخمس الكبرى التي يتبع لها كثير من القواعد، منها ما يقيدها، ومنها ما يوضحها، ومنها ما هو استثناء منها، وكلها في إطار تسهيل هذه الشريعة، وأخذ الشارع للناس بالأسهل والأخف، والله سبحانه وتعالى قد بين الحكمة التي من أجلها خلق عباده، فبين حكمة خلق الجن والإنس بقوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56].

قيام الشريعة على التيسير ونفي الحرج

وقد نفى الحرج عن هذه الأمة، فقال: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج:78]، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث بالحنيفية السمحة، وأمر بالتيسير، ونهى عن التعسير، فقال: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)، وقال لـأبي موسى ومعاوية حين أرسلهما إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)، فكان لكل واحد منهما فسطاط يزوره فيه صاحبه.

وكذلك أخرج البخاري في الصحيح، قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر، قال: حدثنا عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة).

وفي رواية: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه) بالرفع، فيشاد: يفاعل، وهي من الأفعال المشتركة التي فيها تقابل، مثل تقاتل القوم، وكذلك شاده فهو فعل مشترك بين الطرفين، وفاعله: الطرفان معًا، فكل واحد منهما فاعل؛ فلذلك يمكن أن يعتبر الدين فاعلًا، ويمكن أن يكون الإنسان فاعلًا؛ فلهذا يقال: (لن يشاد الدينُ إلا غلبه)، وفي الرواية الأخرى: (لن يشاد الدينَ إلا غلبه)، ففي الرواية الأخرى إثبات (أحد) (لن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة).

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن التكلف والتعسف، وقد نهاه الله عن ذلك، فقد قال الله تعالى: وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ[ص:86].

(والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنده قوم من أصحابه جاءوا يسألون عن عبادته، فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنا فأقوم وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

وكذلك في حديث عائشة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها الحولاء بنت تويت- وهي امرأة من بني تيم بن مرة، ابنة عم عائشة- فسأل: من هذه؟ فعرفته عائشة بها، تذكر من صلاتها وصيامها، فقال: مه، اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)، وقد فسر أهل العلم قوله: (حتى تملوا) أن معناه: لا يمل حين تملون؛ لأن الملل لم يرد إثباته صفة لله سبحانه وتعالى، وإنما جاء منفيًا فقط، والإثبات بمفهوم المخالفة في الصفات لا يمكن اعتباره؛ فلذلك يكون المعنى: لا يمل حين تملون، ونظير هذا من لغة العرب: قول الشنفرى:

صليت مني هذيل بخرق لا يمل الشر حتى يملوا

معناه: لا يمل الشر حين يملونه؛ لأنه لو كان يمل إذا ملوا، فلا مزية له عليهم، فالمقصود إذًا: أنه صابر على الشر والحرب، مستمر على ذلك حتى لو ملوا ذلك.

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر، فأوغلوا فيه برفق)، ونهى كذلك عن المبالغة، فقال: (فإن المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى).

ولا شك أن كل فضيلة هي بين رذيلتين، فالشجاعة فضيلة، وهي بين الجبن والتهور، والكرم فضيلة، وهو بين البخل والتبذير، وكذلك الاقتصاد في العمل فضيلة، وهو بين الإفراط والتفريط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67].

من هنا جاءت هذه الشريعة المطهرة بالتسهيل والتخفيف، فقد امتدح الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليه بما يجري على يديه من التخفيف من إصر ما كان قبلنا من الشرائع، فقد قال الله تعالى في جوابه لـموسى عليه السلام لما قال: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ[الأعراف:155-157].

تخفيف التكليف عن الأمة ومضاعفة الأجر لها

ومن أجل هذا زاد الله ثواب هذه الأمة، وخفف تكاليفها، وهذا من فضله ورحمته، فقد علم قصر أعمار هذه الأمة وضعفها وعجزها، وعلم -أيضًا- ما يتقلب به الزمان في أخريات عهد الدنيا، فهذه الحياة الدنيا الآن.

قد وقفت بثنية الوداع وهم قبليُّ مزنها بالإقلاع

وهي مودعة، وقد أقبلت الآخرة مقبلة، فيقع كثير من التقلبات بين يدي الساعة، وهذه التقلبات منها: الفتن المضلة التي هي كقطع الليل المظلم، ومنها كذلك كثير من العجز، وكثير من التقصير، فبطء عهد أهل الأرض بالسماء، وانقطاع الوحي من السماء، وقدم عهد الرسالات، كل ذلك يؤدي إلى كثير من الانحرافات، وإلى فشوِّ كثير من البدع المضلات؛ فلهذا سهل الشارع فما كان لا يغتفر للسابقين من التقصير، اغتفر لهذه الأمة، فقد أخرج الترمذي في السنن، من حديث نعيم بن حماد، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم في زمان من ترك فيه عشر ما أمر به هلك، وسيأتي على الناس زمان من أتى منهم بعشر ما أمر به نجا)، وهذه بشارة عظيمة، وتخفيف كريم من ربنا جل جلاله.

ونظير هذا: ما في حديث المعراج أيضًا في تخفيف الصلاة، فقد قال الله تعالى: (هن خمس، وهن خمسون، ما يبدل القول لدي)، فالثواب الذي رتبه على الخمسين أبقاه، والعمل نقصه حتى بقيت خمس صلوات فقط، ونظير ذلك في كل التكاليف، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثلكم ومثل من قبلكم كمثل رجل دعا قومًا؛ ليعملوا له من الضحى إلى صلاة الظهر على قيراط، ثم دعا آخرين ليعملوا له من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط، ثم دعا آخرين ليعملوا له من صلاة العصر إلى صلاة المغرب على قيراطين).

فاليهود عملوا من الصباح إلى صلاة الظهر على قيراط واحد، والنصارى من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط واحد، وهذه الأمة من صلاة العصر فقط إلى الغروب على قيراطين، فالعمل يسير، والأجر مضاعف، (فقالت اليهود والنصارى: أعطيتهم أكثر مما أعطيتنا، فقال: هل ظلمتكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: ذلك فضلي أخص به من أشاء)، فهذا فضل الله سبحانه وتعالى، وقد خص به هذه الأمة، فجعلها خير أمة أخرجت للناس، فلها من الأجور ما ليس للأمم من قبلها، ومع هذا فنحن نعلم أن المقربين من أهل الجنة قليل منهم من هو من هذه الأمة، ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ[الواقعة:13-14]، ولكن كل ذلك نسبي، فهو بالمقارنة؛ فالأولون مثلًا، إذا أتينا إلى الرسل، هذه الأمة ليس فيها إلا رسول واحد، وكم في بني إسرائيل من الرسل؟ وهكذا، فكذلك كان بنو إسرائيل تسوسهم الرسل، وهذه الأمة إنما يسوسها علماؤها، وهذا الأجر العظيم والتخفيف الكريم في العمل من هبات الله سبحانه وتعالى وامتنانه، وهو مقتض للمبالغة في العبادة لشكر النعمة، وليس مقتضيًا للتقصير فيها، (فالنبي صلى الله عليه وسلم قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟)، فالتخفيف وزيادة الأجر مما يقتضي زيادة العبادة؛ لأن الإنسان إذا أحسن إليه، من المفروض أن يقابل ذلك بإحسان، ولا أحد أكرم ولا أمن من الله جل جلاله، فهو الذي أنعم علينا بأنواع النعم التي لا نحصيها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، فينبغي أن يكون عبده كريمًا معه في التعامل، فيقرض الله قرضًا حسنًا، ويأخذ منه ما أعطاه، والله يحب أن يرى آثار نعمته على عباده، فمن ذلك: الأخذ بالرخصة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه)، فينبغي للإنسان إذا كان في حال ترخص أن لا يتورع عن الأرخص، وإذا كان في حال قوة أن يأخذ بالعزائم، والجميع يثيب الله عليه، والتورع عن الأخذ بالرخص في وقتها هو من التشدد والتنطع، وكذلك التساهل والأخذ بالرخص في وقت القوة هو أيضًا من الانحدار الذي هو مذموم، فلابد أن يكون الإنسان متوسطًا في الحال دائمًا، وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الحياة مسرحًا، فالإنسان فيها دائمًا بين الرجاء والخوف، وهو بينهما كجناحي الطائر، إلى أن يقبل على الله في ساعة الموت، فحينئذ يحسِّن ظنه بالله، ويزيد منسوب الرجاء لديه، ومن هنا كان على الإنسان أن يراقب سيره دائمًا بين هذين السورين -سوري الشريعة- وهما: الرخصة والعزيمة، وهذان السوران يحفان بالشريعة كلها، فإذا رأيتم أية مسألة فيها خلاف بين أهل العلم بالإباحة والتحريم، أو بالوجوب والندب، أو نحو ذلك، فاعلموا أن الذي يقول: بالوجوب، أو الذي يقول: بالتحريم قد اتجه إلى جهة العزيمة، والذي يقول بالإباحة أو الندب اتجه إلى جهة الرخصة، والجميع ما زال بين سوري الشريعة، فهو ما زال في هذه الشريعة، وفي داخل إطارها وحدودها.

وقد نفى الحرج عن هذه الأمة، فقال: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج:78]، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث بالحنيفية السمحة، وأمر بالتيسير، ونهى عن التعسير، فقال: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)، وقال لـأبي موسى ومعاوية حين أرسلهما إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)، فكان لكل واحد منهما فسطاط يزوره فيه صاحبه.

وكذلك أخرج البخاري في الصحيح، قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر، قال: حدثنا عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة).

وفي رواية: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه) بالرفع، فيشاد: يفاعل، وهي من الأفعال المشتركة التي فيها تقابل، مثل تقاتل القوم، وكذلك شاده فهو فعل مشترك بين الطرفين، وفاعله: الطرفان معًا، فكل واحد منهما فاعل؛ فلذلك يمكن أن يعتبر الدين فاعلًا، ويمكن أن يكون الإنسان فاعلًا؛ فلهذا يقال: (لن يشاد الدينُ إلا غلبه)، وفي الرواية الأخرى: (لن يشاد الدينَ إلا غلبه)، ففي الرواية الأخرى إثبات (أحد) (لن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة).

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن التكلف والتعسف، وقد نهاه الله عن ذلك، فقد قال الله تعالى: وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ[ص:86].

(والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنده قوم من أصحابه جاءوا يسألون عن عبادته، فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنا فأقوم وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

وكذلك في حديث عائشة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها الحولاء بنت تويت- وهي امرأة من بني تيم بن مرة، ابنة عم عائشة- فسأل: من هذه؟ فعرفته عائشة بها، تذكر من صلاتها وصيامها، فقال: مه، اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)، وقد فسر أهل العلم قوله: (حتى تملوا) أن معناه: لا يمل حين تملون؛ لأن الملل لم يرد إثباته صفة لله سبحانه وتعالى، وإنما جاء منفيًا فقط، والإثبات بمفهوم المخالفة في الصفات لا يمكن اعتباره؛ فلذلك يكون المعنى: لا يمل حين تملون، ونظير هذا من لغة العرب: قول الشنفرى:

صليت مني هذيل بخرق لا يمل الشر حتى يملوا

معناه: لا يمل الشر حين يملونه؛ لأنه لو كان يمل إذا ملوا، فلا مزية له عليهم، فالمقصود إذًا: أنه صابر على الشر والحرب، مستمر على ذلك حتى لو ملوا ذلك.

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر، فأوغلوا فيه برفق)، ونهى كذلك عن المبالغة، فقال: (فإن المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى).

ولا شك أن كل فضيلة هي بين رذيلتين، فالشجاعة فضيلة، وهي بين الجبن والتهور، والكرم فضيلة، وهو بين البخل والتبذير، وكذلك الاقتصاد في العمل فضيلة، وهو بين الإفراط والتفريط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67].

من هنا جاءت هذه الشريعة المطهرة بالتسهيل والتخفيف، فقد امتدح الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليه بما يجري على يديه من التخفيف من إصر ما كان قبلنا من الشرائع، فقد قال الله تعالى في جوابه لـموسى عليه السلام لما قال: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ[الأعراف:155-157].


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
القواعد الفقهية [2] 3117 استماع
القواعد الفقهية [1] 3007 استماع
القواعد الفقهية [5] 2299 استماع
القواعد الفقهية [3] 1675 استماع