أرشيف المقالات

أحاديث التلاميذ المصريين

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
يوم العودة إلى المدارس (لكاتب كبير) في أكثر البلاد الأوربية والأمريكية يكون (يوم العودة إلى المدارس) يوماً خفيف الظل، لطيف الروح، وهو عند تلاميذ تلك البلاد أجمل أيام العام الدراسي الجديد، ولكن ما سر الجمال في ذلك اليوم؟ أيكون في تنسم أرواح المدرسة من جديد، ولها في قلوب أكثر التلاميذ مكان؟ أيكون في تسلم الكتب الجديدة، ولها جاذبية يتشوق إليها عقلاء التلاميذ؟ لا هذا ولا ذاك، فهنالك عذوبة تفوق هذين المعنيين الكريمين، وهي عذوبة الأحاديث التي يتجاذبها التلاميذ، وهم يقصون أخبار الصيف وما وقع لهم فيه من نوادر وطرائف، وما شاهدوا فيه من غرائب وأعاجيب.

إي ولله، فهنالك لذة طبيعية، هي لذة الحديث عما رأينا وسمعنا في أيام الراحة من متاعب الدروس، وهي لذة لم نذقها ولم يذقها أبناؤنا ولا تلاميذنا، ولن يلتفت إليها المربون المصريون إلا يوم يؤمنون بأنها تصنع في خلق الحيوية الذوقية والروحية ما تعجز عنه المدارس والمعاهد والكليات. فماذا يقول التلاميذ المصريون بعضهم لبعض يوم يلتقون في مطلع العام الراسي الجديد؟ وما هي موضوعات الأحاديث التي يتجاذبونها في ذلك اليوم؟ الواقع يشهد بأننا لم نبذل جهداً قوياً أو ضعيفاً في تلوين البلاد المصرية؛ فلم ننشئ فيها غابات، ولم نلتفت إلى ما بها من بحيرات، ولم نحاول تشويق أبناءنا وتلاميذنا إلى درس ما فيها من نبات وحيوان، ولا فكر جماعة منا في إعداد المناهج لأيام الصيف، وهي في مصر أطيب الأيام، وإن تعرضت لوهج القيظ من حين إلى حين الحق أننا لا نفكر في حقوق الأبناء والتلاميذ.

وهل نفكر في أنفسنا حتى نفكر فيهم؟ إن عيشنا رتيب رتيب، وأكثرنا يقضي أيام الإجازة على النحو الذي يقضي به أوقات الفراغ في موسم الأعمال، فلا ينتقل من بلد إلى بلد، ولا يتيح لعينيه فرصة التطلع إلى منظر جديد، وكذلك نحبس أبناءنا في بيوتنا أيام الصيف.
إلا أن نتلطف فنسمح لهم بالتجول في رحاب تلك البيوت، ثم تكون النتيجة أن يلقوا رفاقهم يوم افتتاح العام الدراسي وليس عندهم ما يتحدثون به غير المغامرات الصبيانية، وهي لا تخرج عن التغزل المزيف أو بخادمات الجيران! أنا أريد أن يلقى التلميذ رفاقه في مطلع الخريف وعنده أشياء يحدث بها أولئك الرفاق؛ كأن يقول إنه قضي أياما أو أسابيع في رحلات طريفة تعرف بها إلى بعض خصائص هذه البلاد، وكأن يقول إن (بحيرة قارون) لها تاريخ لم تظفر بمثله (بحيرة التمساح)، وكأن يقول إنه عجب من الأقدار التي فكرت منذ الأزل في تهيئة الوسائل لإقامة خزائن أسوان، وكأن يقول إنه عرف بالضبط مواطن اللولبيين، وكان لهم تاريخ في مناوشة قدماء المصريين، وكأن يقول إنه عرف المسجد الثاني، وهو المسجد الذي بني بعد المسجد الجامع بمدينة الفسطاط، وكأن يقول إنه عرف الموجب الذي قضى بأن تكون هناك منافسات ظاهرة أو خفية بين أهل الشمال وأهل الجنوب أريد وأريد، ولكن المدرسين والآباء يصدونني عما أريد فإن اعتذر الآباء بشواغلهم اليومية، فما أعذار المدرسين ولهم مواسم يرون بها مع تلاميذهم ما يشاءون، ولو كانت لهم عيون؟! وهل لحاضرات المدرسين عيون وأكثرهم يقضي الإجازات في رحاب القهوات؟ وما قيمة المدرس الذي لا يجد ما يحدث به تلاميذه عن مشاهداته في أيام الصيف؟ ما قيمة العيون البليدة التي لا تتطلع إلى الجديد من مشاهد الوجود؟ ولكن ما الوجوب لإيذاء المدرسين بهذا الهجوم العنيف وهو عضو في الأسرة المصرية، وهي أسرة لا تفكر في إعداد ميزانية لأيام الإجازات؟ أيام العمل مرجعها إلى البيت، وأيام الراحة مرجعها إلى البيت، وأيام المرض مرجعها إلى البيت، ولو أبيح لهؤلاء أن يقبروا في بيوتهم لعدوا ذلك من دلائل التوفيق؟ فيا بني آدم، من أهل هذه البلاد، تذكروا إن المثل المصري يقول: (الحركة بركة) وتذكروا أن لأبنائكم منافع من التعرف إلى أقاليم النيل السعيد، إن كانت لكم غاية في تثقيف أولئك الأبناء؟ ماذا يقول المدرس لتلاميذه يوم العودة المدرسية، وماذا يقول التلاميذ بعضهم لبعض في ذلك اليوم؟ ضرب حجاب الغفلة على أولئك وهؤلاء، فلن يجدوا غير الحديث عن صفارات الإنذار وأسعار القطن وغلاء الأقوات وهو حديث معاد لا تنشرح لسرده القلوب لأولئك وهؤلاء أن يعتذروا بعجزهم المادي عن مشاهدة بعض الأقطار الشرقية أو الغربية، فما عذرهم في العجز عن مشاهدة الأقاليم المصرية؟ أيريدون أن تقوم وزارة المعارف بتكاليف تلك الرحلات؟ كنت أرجو أن يكون في أنفس المدرسين والتلاميذ ما يوجب جوب الأقاليم المصرية مشياً على الأقدام ليعرفوا كيف يكون (طولها شهرا وعرضها عشر)، كما قال عمرو بن العاص، ولكن.

ولكن أبناء هذه البلاد مصريون لا أعراب! تحركوا قليلاً، يا أبناء مصر، فالحركة في أسوأ أحوالها أفضل من السكون، لأن الحركة حياة والسكون موت، أعانني الله وإياكم على التخلق بأخلاق الأحياء كاتب

شارك الخبر

المرئيات-١