خطب ومحاضرات
القواعد الفقهية [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأذكر في البداية بإخلاص النية لله سبحانه وتعالى، وتذكر عبادته بالطلب؛ فطلب العلم عبادة، وينبغي للإنسان أن لا يهمل نيته فيه، وأن يجهز نيته من بدايته ليكتب له الثواب، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة).
وأخرج مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن حزم: (من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه؛ كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانمًا).
وهذا العلم هو من أفضل القربات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال الإمام مالك لما سئل عن المقرب للقتل الذي لم يبق من عمره إلا ساعة: في أية عبادة يصرفها؟ قال: علم يتعلمه، قيل: يا أبا عبد الله، إنه لا يعمل به، قال: تعلمه أفضل من العمل به.
وقال الشافعي رحمه الله: العلم أفضل من قيام الليل ومن صلاة النافلة.
وقال السيوطي رحمه الله في الكوكب:
والعلم خير من صلاة نافلة فقد غدا الله برزق كافله
وكل علم من العلوم لا يمكن أن يخوض الإنسان غماره، ولا أن يدخل في فجاجه ما لم يأخذ عنه مقدمات يدرك بها شرف العلم وأهميته، ويميزه بها عن غيره من العلوم، وهذه المقدمات حصرها أهل العلم في عشر، هي التي نظمها المقري رحمه الله بقوله:
من رام فنًّا فليقدم أولاً علمًا بحده وموضوع تلا
وواضع ونسبة وما استمد منه وفضله وحكم يعتمد
واسم وما أفاد والمسائل فتلك عشر للمنى وسائل
وبعضهم منها على البعض اقتصر ومن يكن يدري جميعها انتصر
حد علم القواعد الفقهية
فأول هذه المقدمات: حد هذا العلم، والعلم: هو علم القواعد الفقهية، وحده: أن القواعد في اللغة: جمع قاعدة، والقاعدة تطلق على الأساس، فيقال: قواعد البنيان؛ أي: أساسه وأركانه، ومن ذلك قول الله تعالى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ[النحل:26]، (أتى الله بنيانهم من القواعد)؛ أي: من الأساس، أو من الأركان.
ومن ذلك قول الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ[البقرة:127]، فالمقصود هنا: الأركان؛ أي: الأطراف هي التي ترفع.
وتطلق القواعد كذلك على النساء اللواتي تقدم بهن العمر، فأصبحن ملازمات للبيوت، لم يعد لهن نشاط، ومن ذلك قول الله تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ[النور:60].
فالقواعد: هن اللواتي لم يعد لديهن استعداد للزواج، ولم يعد فيهن رغبة للزواج.
والقواعد في الاصطلاح: هي الضوابط والكلمات المختصرة التي تجمع معاني كثيرة بألفاظ قليلة، ونسبتها هنا إلى الفقه، والفقه في اللغة: معناه الفهم، ومن ذلك قول الله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ[هود:91] أي: لا نفهمه.
وهو في الاصطلاح: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
فقولنا: العلم بالأحكام، المقصود بالعلم بها: إدراكها، فيشمل ذلك العلم الذي هو اليقين، ويشمل الظن أيضًا؛ لأن كثيرًا من مسائل الفقه هي ظنية، فكل ما ليس صريحًا في النص الموحى من عند الله، وإنما هو من اجتهادات الرجال واستنباطهم، فهو في الأصل ظني، كما كان مالك رحمه الله يتمثل في مسائل الاجتهاد: إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ[الجاثية:32]، فمعنى العلم هنا: ما يشمل الظن أيضًا، وليس العلم هنا بمعنى اليقين.
(بالأحكام الشرعية) والأحكام: جمع حكم، والحكم في الأصل: هو اسم مصدر، حكم الشيء: إذا أتقنه، ويقال: أحكمه أيضًا: إذا أتقنه، يقال: حكمه: إذا منعه، ومنه الحكم القضائي؛ لأن فيه منعًا للإنسان من التصرف، ويقال: أحكم الفرس: إذا أمسكها، ومنه قول جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
أبني حنيفة إنني إن أهجكم أدع اليمامة لا تواري أرنبا
أحكموا سفهاءكم معناه: أمسكوهم، ومنه حكمات اللجام؛ أي: ما يكون في طرفيه، فيمسك الفرس من الجماح، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
بل اذكرن خير قيس كلها نسبًا وخيرها نائلًا وخيرها خلقاً
القائد الخيل منكوبًا دوابرها قد أحكمت حكمات القدِّ والأبقا
قد أحكمت؛ أي: الخيل، حكمات القد؛ أي: بحكمات القد والأبقا.
والحكم في الاصطلاح: هو إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه، فالحكم لا يكون إلا بإثبات أو نفي، والمثبت النافي أي: الذي يصدر عنه الحكم، أحد ثلاثة أمور:
إما الشرع، وهو الوحي المنزل من عند الله: خطاب الله الموجه إلى المكلفين الذي جاء به الرسل من عند الله، فهذا فيه إثبات ونفي.
وإما العقل، فالعقل أيضًا يحكم بإثبات شيء ونفيه.
وإما العادة؛ أي: التكرار والتجربة، فالعادة تحكم بالإثبات والنفي، فالحكم الشرعي هو خطاب الله الموجه إلى المكلفين من حيث أنهم مكلفون به.
خطاب الله الموجه إلى المكلف؛ أي: المقتضي منه فعلًا أو تركًا، أو المبيح له أداؤهما، هذا معنى توجيه الخطاب إليه، المتعلق بفعل المكلف لا بذاته، فخطاب الله المتعلق بذات المكلف، مثل: (خلقكم)، هذا خطاب متعلق بالذوات، ليس حكمًا شرعيًّا من حيث إنه مكلف به، بخلاف قول الله تعالى: خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[الصافات:96]، هنا قوله: (وما تعملون) هذا خطاب الله المتعلق بفعل المكلف، لكن لا من حيث إنه مكلف به؛ بل من حيث هو مخلوق لله، فهذا لا يدخل في الحكم الشرعي، الحكم الشرعي لا بد أن يكون خطابًا متعلقًا بفعل المكلف، من حيث إنه مكلف به، والحكم العقلي: هو قضية لا تتوقف على شرع ولا عادة، والقضية معناها: الأمر القابل للصدق والكذب، فكل أمر يقبل التصديق والتكذيب هو الذي يسمى قضية في الاصطلاح.
(لا تتوقف على شرع ولا على عادة) معناه: لا يحتاج في إثباتها، ولا في نفيها إلى شرع وهو الوحي، ولا إلى عادة كالتجربة والتكرار، وإنما يرجع في تركيبها إلى العقول، كدلالة التغير على الحدوث، ودلالة صوت الطرق على الطارق، إذا طرق الباب فسمعت صوتًا توقن بأن وراء الباب إنسانًا، هذا الإثبات من أين أتيت به؟ فلا الوحي أتى به، ولا التجربة فقط تقتضيه؛ لأن الصوت يسمع من غير طرق للباب، إنما حكم العقل بذلك.. وهكذا.
أما الحكم العادي: فهو إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه، بواسطة التكرار مع صحة التخلف، فكون هذا العلاج مسكن للحرارة، أو مسكن للألم، من أين عرف ذلك؟ لم ينزل به وحي، ولا العقل يقتضيه؛ وإنما عرف بواسطة التكرر مع صحة التخلف؛ لأنه يمكن أن يستعمل العلاج فلا يقع الأثر، وهكذا في كل الأحكام العادية، دخول النار عادة مقتض للإحراق؛ ولكن مع هذا نعلم أن إبراهيم عليه السلام رمي به في النار ولم يحترق، عدم الشرب والأكل مقتض للموت؛ ولكن مع هذا نعلم أن عزيراً مكث مائة سنة بدون أكل وشرب، وأن أصحاب الكهف مكثوا في نومتهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا، فإذًا الحكم العادي قد يتخلف؛ لكن الحكم الشرعي إذا توافرت شروطه وأسبابه وانتفت موانعه فإنه لا يتخلف، والحكم العقلي كذلك لا يتخلف.
والحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين: إلى موحى، ومكتسب.
فالموحى لا يدخل في الفقه مطلقًا كوجوب الصلاة، ووجوب الصوم، وحرمة القتل، وحرمة الزنا، هذا لا يدخل في مسمى الفقه اصطلاحًا، وليس من مذهب أحد، لا تقول: ومذهب فلان وجوب الصلاة مثلًا، أو حرمة الخمر هذا ليس مذهبًا لأحد، هذا وحي منزل من عند الله، والفقه لا يكون إلا أمرًا دخلته صنعة المكلف واشتغل فيه عقل المكلف فأنتجه.
فلذلك قلنا: (العلم بالأحكام الشرعية العملية)، علم الأحكام الشرعية مخرج للأحكام العقلية وللأحكام العادية وهما القسمان السابقان.
(العملية) معناه: التي فيها عمل للمكلف، بخلاف الأحكام العقدية التي يعتقدها الإنسان، ولا يتعلق بها عمل، فالعلم بها هو علم العقائد، ولا يدخل في مسمى الفقه اصطلاحًا، وإن كان قديمًا يسمى فقهًا، ومنه الفقه الأكبر المنسوب لـأبي حنيفة رحمه الله، لكن لا يسمى فقهًا في الاصطلاح.
(المكتسب) فهذا مخرج للموحى.
(من أدلتها التفصيلية) أي: من أدلة الأحكام التفصيلية.
والأدلة: جمع دليل، والدليل في الأصل: هو المرشد الذي يرشد إلى الشيء، سواء كان حسيًّا أو معنويًّا، فمن المعنوي قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا[الفرقان:45-46]، (جعلنا الشمس عليه دليلًا) معناه: مرشدًا إليه، وهذا إرشاده إليه أمر معنوي لا حسي.
ومن إطلاقه على الحسي، قول الشاعر:
إذا حل دَين اليحصبي فقل له تزود بزاد واستعن بدليل
سيصبح فوقي أقتم الريش واقفًا بِقالي قلا أو من وراء دبيل
تزود بزاد واستعن بدليل؛ أي: مرشد يدلك على الطريق، وهو مرشد حسي، يقول: اخرج من هذا المكان، وادخل من هذا المكان، وهذه هي الدلالة الحسية.
والأدلة في الاصطلاح: هي ما يؤخذ منها الأحكام، ويمكن أن يعرف الدليل تعريفًا أدق فيقال: ما يؤدي صحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري.
فقولنا: (ما يؤدي صحيح النظر فيه) مخرج للنظر السقيم، فالنظر: هو حركة النفس في المعقولات، وضده: التخيل فهو حركة النفس في المحسوسات، تتخيل إنسانًا أو تتخيل دارًا، أو تتخيل أرضًا، أو جبلًا، هذا التخيل: هو حركة النفس في المحسوسات، والنظر: هو حركة النفس في المعقولات، ويسمى فكرًا أيضًا، وهذا النظر ينقسم إلى قسمين: إلى صحيح، وفاسد، فالنظر الصحيح: هو النظر في الماهية من حيث يوصل إلى المطلوب، والنظر الفاسد: هو النظر في الماهية من حيث لا يوصل ذلك النظر إلى المطلوب.
أنت تريد صناعة ماصة من خشب، فأخذت هذه الخشبة، فبحثت فيها من جهة القدم والبقاء مثلًا، أو من جهة ملكها: هل هي مملوكة لفلان، أو ليست مملوكة له، هذا النظر فاسد؛ لأنه ليس من الجهة التي توصل إلى المطلوب، لكن إذا بحثت فيها من جهة الاستقامة والاعوجاج والقساوة واللين، ومن جهة حجمها وشكلها، فهذا النظر موصل إلى المقصود، فهو نظر صحيح.
فإذًا: هذا الفرق بين النظر الصحيح والنظر الفاسد، والدليل إنما يعتنى فيه بالنظر الصحيح لا بالنظر الفاسد.
(ما يؤدي صحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري) المقصود بالعلم هنا: ما يشمل الظن أيضًا مثل ما سبق، فكثير من الأدلة دلالته على مدلوله ظنية لا قطعية، فدلالة الدليل على مدلوله منها ما هو قطعي، ومنها ما هو ظني، والدليل نفسه منه ما هو قطعي، ومنه ما هو ظني، ومن الأدلة ما هو قطعي كالمتواتر الواضح الدلالة مثل: آية صريحة من القرآن، أو حديث متواتر صحيح وواضح الدلالة فهذا دليل قطعي.
والدليل الظني مثل: هذا حديث حسن مثلًا، أو: حديث مختلف في تصحيحه، أو: حديث دلالته غير قطعية مثلًا، أو: آية دلالتها غير قطعية، هذا الدليل ظني؛ لأنه محتمل لأن يكون هذا معناه، ومحتمل ألا يكون هذا معناه أصلًا، ودلالته على مدلوله تكون أيضًا ظنية.
فإذًا: يعتريه الظن من وجهين: من جهة أصل الدليل، ومن جهة دلالته على المدلول، وهذا يدل على العلاقة بين الدليل والمدلول، والعلاقة بينهما وطيدة، والدليل سابق على المدلول لدى الناظر، لاحق للمدلول لدى المناظر.
فالناظر وهو المجتهد الدليل يسبق لديه المدلول؛ لأنه يأخذ المصحف مجرد الذهن من الأحكام، فيقرأ هذه الآية، فينقدح في ذهنه أنها تدل على كذا، فيدون هذا الحكم، يأخذ صحيح البخاري، فيقرأ الحديث مجردًا، ليس له مذهب في هذه المسألة، فيفهم من هذا الحديث كذا.
والدليل لاحق للمدلول لدى المناظر، والمناظر: الذي يريد الإثبات دائمًا، يكون الدليل لديه متأخرًا؛ لأنه هو صاحب مذهب، وهو مقلد في هذا المذهب، وقد اقتنع بهذه المسألة، ثم بعد ذلك أراد أن يثبت مذهب الحنفية في هذه المسألة، أو مذهب الشافعية، فهو يناظر من أجل إثبات أمر قد رسخ لديه، فيبحث له عن الدليل، فهذا الدليل لديه يتكرر، وهذا الفرق بين الناظر والمناظر، الناظر: الدليل لديه واحد ولا يتكرر وقد يكون صحيحًا وقد يكون ضعيفًا، والمناظر: الدليل لديه يمكن أن يتكرر، كمن يحصل لديه عدد من الأدلة.
فتجد ابن القيم مثلًا، يقول: هذه المسألة يدل عليها واحد وعشرون وجهًا، ويجلب الأدلة عليها، وهكذا تجد ابن حزم في المحلى يجلب كثيرًا من الأدلة على المسألة الواحدة، هذا دليل على أن المناظر يمكن أن يتعدد لديه الدليل، وأن الناظر لا يتعدد لديه الدليل، وهذا العلم الذي يحصل كما ذكرناه، ويشمل الظن، لذلك قلنا: العلم بمطلوب.
والمطلوب: ما يكون قبل البحث دعوى، وفي وقت البحث مطلوبًا، وبعد البحث نتيجة، قبل البحث إذا قلت: هذه الصلاة باطلة، هذه دعوى، وفي وقت البحث أنت تريد إثباتًا لدعواك، وهذا يسمى مطلوبًا، وبعد الحصول على النتيجة يكون نتيجة أو نتاجًا لذلك الدليل الذي حصل.
وقولنا: (خبري) مخرج للإيقاعات، فقولك: نكحت أو طلقت أو وهبت أو أعتقت ونحوها، أمور لا تحتاج إلى الدليل؛ لأنها إيقاعات يوقعها الإنسان من نفسه، فكل إنشاء لا يكون بحاجة إلى الدليل، وهذه قاعدة دائمة، والإنشاء هو: إيقاع معنًى بلفظ يقارنه في الوجود، أي: هذا المعنى نشأ عن هذا اللفظ فقارنه في الوجود تمامًا، بخلاف الخبر فهو: إخبار عن أمر قد سبق، فأنا عندما أحدث عن نوح عليه السلام فحديثي متأخر عن الحدث الذي أحدث عنه بما لا يعلمه إلا الله من السنوات، بينما إذا قلت: أعطيك هذا، أمنحك هذا، أهبك هذا، اللفظ والمعنى متقارنان في الوقوع والوجود، فهذا الفرق بين الإنشاء والخبر.
فإذًا: الدليل إنما يطلب في الخبريات، ولا يطلب في الإنشائيات.
والأدلة في الشرع تنقسم إلى قسمين: إلى أدلة إجمالية وأدلة تفصيلية.
فالأدلة الإجمالية: هي أجناس الأدلة، أي: ما يستدل بجنسه، فالكتاب دليل والسنة دليل والإجماع دليل والقياس دليل، والاستصحاب دليل، والاستحسان دليل، والاستصلاح دليل، وعمل أهل المدينة دليل مثلًا عند الذين يرونه، وشرع من قبلنا دليل عند الذين يرونه، وهكذا، فإذًا: هذه أجناس الأدلة تسمى بالأدلة الإجمالية، وهذه هي التي تبحث في أصول الفقه.
أما الأدلة التفصيلية: فهي مثل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ[المائدة:6]، دليل وجوب غسل الوجه في الوضوء مثلًا، فهذا دليل تفصيلي، والأدلة التفصيلية هي التي تؤخذ منها الأحكام في الفقه، وهي التي تبحث في الفقه، أما الأدلة الإجمالية فلا تبحث فيه، لا يبحث في متواتر القرآن وآحاده، ولا يبحث في متواتر السنة وآحادها، ولا يبحث في الإجماعيات، ولا يبحث في طرق انعقاد الإجماع، وهل يشترط له انقراض العصر أو لا، ولا يبحث في القياس، هذه أمور لا تبحث في الفقه وإنما تبحث في الأصول.
والقواعد الفقهية في الاصطلاح: هي ألفاظ مختصرة تجمع فروعًا شتى، إن كانت من باب واحد سميت ضابطًا، وإن كانت من أبواب مختلفة سميت قاعدة كلية، فقد تكون الألفاظ متعلقة بباب واحد، كباب الصلاة مثلًا عند الحنفية: ما غير الفرض في أوله غيره في آخره، هذه قاعدة تختص بالصلاة، ولا تدخل في الأبواب الأخرى، وقد يكون الأمر متعلقًا بأبواب شتى مثل قاعدة: كل تعبد في الغير فلا يحتاج إلى نية، فهذا يشمل فروعًا كثيرة في أبواب شتى، فيشمل في الطهارة :مثل طهارة الخبث، إذا أخذ الغسال ثوبك وفيه نجس فطهره دون أن يعلم أنه نجس، فهذا تطهير من غير نية، وهو صحيح، يطهر الثوب به؛ لأنه تعبد في الغير فلا يحتاج إلى النية، وكذلك إذا وضعته في العراء فأصابه مطر، فهذا المطر مطهر له؛ لأنه تعبد في الغير، فلا يحتاج إلى نية، وكذلك تغسيل الميت هو تعبد في الغير فلا يحتاج إلى نية مخصوصة، وهكذا إنقاذ غريق أو مترد من شاهق أو نحو ذلك، فهذا تعبد في الغير فلا يحتاج إلى نية مخصوصة وهكذا.
فهذه القاعدة لا تختص بباب واحد، بل تدخل أبوابًا متفرقة، وهذا الحد للقواعد الفقهية يعلم به الفرق بينها، وبين القواعد الأصولية؛ لأن هذه القواعد تختص بالفروع كما ذكرنا، أما القواعد الأصولية فتختص بأصول الفقه؛ أي: الأدلة الإجمالية.
القواعد الأصولية مثل: أن الأمر يدل على الوجوب، أو أن الأمر يقتضي الصحة، أو أن النهي يقتضي البطلان، أو أن النهي يقتضي التحريم، أو أن الأمر لا يقتضي التكرار، أو أن الأمر يقتضي الفورية.
أما القواعد الفقهية، فهي مثل ما ذكرنا، الكلمات المختصرة التي تجمع فروعًا كثيرة، إن كانت من باب واحد سميت ضابطًا، وإن كانت من أبواب متفرقة سميت قاعدة عامة، أو قاعدة كلية، وهذه هي المقدمة الأولى وهي الحد؛ أي: تعريف علم القواعد.
موضوع علم القواعد الفقهية
أما موضوع علم القواعد الفقهية: بحث هذه القواعد من ناحية عمومها، واستثناءاتها، ومن قال بها من أهل الاجتهاد، فالبحث لا يتناول الدلالات اللغوية، ولا يتناول كذلك أصل التركيب ما يتعلق به، وإنما يتعلق فقط بما تجمعه هذه القاعدة من الفروع، فيبحث عن دليل للقاعدة الأصلية، ويبحث عن هذه الفروع، ومن قال بها من أهل المذاهب، وهل فيها خلاف أم لا، ويبحث عما يقيد تلك القاعدة من القيود، أو ما فيها من الاستثناءات مثلًا، وما من قاعدة من القواعد الفقهية إلا وفيها استثناءات كثيرة، فإذًا: هذا هو موضوع علم القواعد الفقهية.
واضع علم القواعد الفقهية
أما واضع علم القواعد الفقهية: فهو الدباس من فقهاء الحنفية، وقد كان رجلًا ضريرًا أعمى، وكان له مسجد بالعراق، فكان إذا صلى العشاء وخرج الناس من المسجد أغلق عليه الباب، وجعل يراجع المسائل الفقهية، فيجمعها في كلمات مختصرة، ويدخل تحتها فروعها ولم يكتب ذلك، وذات ليلة جاء ضيف فاختفى في جانب المسجد، فلم يشعر هو به، فأغلق الباب وبدأ يراجع حتى وصل سبع عشرة قاعدة، فأخذت الضيف سعلة فشعر به؛ فأخرجه من المسجد، فخرج الضيف بهذه القواعد السبع عشرة (قواعد الدباس)، ثم كملها النسفي حتى أوصلها إلى أربع وثلاثين قاعدة، ثم بعد ذلك جاء أبو زيد الدبوسي، فوضع قواعده وهي اثنان وثمانون أصلًا في كتابه الذي سماه تأسيس النظر.
فهي إذًا: في الأصل من إنتاج عقول الحنفية، ولكنها انتشرت في المذاهب الأخرى، فاهتم بها أهل المذاهب الأخرى حتى فاقوا فيها الحنفية من ناحية كثرة المؤلفات.
فمثلًا في المذهب المالكي لم تكن العناية بالقواعد في العصور الأول من تدوين المذهب، وإنما بدأت العناية بالقواعد الفقهية بعد ابن الحاجب رحمه الله، بدأ طلابه يجمعون بعض القواعد، ومنهم: الإمام أبو العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي، المشهور بـالقرافي، وقد ألف كتابًا سماه أنوار البروق في أنواء الفروق، وأراد فيه التفريق بين المسائل المتشابهة في الفقه كله، وربما دخلها بعض المسائل الأصولية، وربما دخلها بعض المسائل العقدية، وحتى المسائل العادية، وهو كتاب كبير، وفيه ما يزيد على ألف قاعدة، والفروق التي فيه مائتان وستة وثمانون فرقًا، وقد خدمه عدد من المتأخرين، فمنهم من اختصره، ومنهم من رتبه بتهذيبه، ومنهم من شرحه، ومنهم من نظم قواعده، وقد جمع المؤلف رحمه الله أيضًا بعض القواعد المتعلقة بالطلاق والأيمان في كتابه الذي أراد به الألغاز، وهو كتاب آخر غير الفروق، وجمع ذلك في آخر كتابه الذخيرة في الفقه المالكي.
وبعده جاء المقري فألف كتاب القواعد، وجمع فيه ألفًا ومائتي قاعدة، ولكن القواعد التي ذكر فيه بعضها في الأصل من حكم اليونان، ولكن يمكن أن تجمع فروعًا فقهية؛ فلذلك أدرجها، مثل: من استعجل الشيء قبل إبانه عوقب بحرمانه، هذه جعلها قاعدة فقهية، وأدرج فيها كثيرًا من المسائل، مثل: القتل مانع من الميراث، ومثل كثير من الأمور التي هي فروع فقهية داخلة في هذه القاعدة.
وبعده جاء الونشريسي، فألف كتاب إيضاح المسالك في قواعد مذهب مالك، وأتى فيه بمائة وثلاثين قاعدة، وقد اعتنى المتأخرون من المالكية بكتاب الونشريسي، فمنهم من شرحه، ومنهم من نظمه، ومن الذين نظموه الشيخ محمود المامي رحمة الله عليه، والونشريسي أيضًا في كتابه الفائق في الوثائق ذكر في الجزء الأخير منه عددًا من القواعد الفقهية مسرودة تتعلق بعمل القضاة.
بعده جاء الإمام أبو الحسن علي الزقاق، فنظم نظمًا في قواعد المذهب المالكي، سماه المنهج المنتخب في قواعد المذهب، وصنعته في هذا الكتاب: أن يأتي بالقاعدة على وجه التردد، فيقول: (هل كذا)، إشارة إلى الخلاف الذي فيها، ويذكر معها فروعها بلفظ مختصر جدًا، فمثلًا من قواعده في الطهارة، يقول:
وهل يؤثر انقلاب كعرق ولبن بول وتفصيل أحق
القاعدة وفروعها في بيت واحد.
فالقاعدة: هل يؤثر الانقلاب؟ معناه: إذا تغيرت حقيقة الشيء فانقلب عن أصله إلى أصل آخر، مثل: الخمر إذا تحجرت أو تخللت أو حُجرت أو خُللت فلم تعد خمرًا، وإنما أصبحت خلًا أو حجارة، أو طبخت فأصبحت كيكًا أو حلاءً، فما حكمها، هل تغيرت فتطهر ويجوز بيعها وشراؤها، ويجوز أكلها، أو تبقى على أصلها بالحرمة والتنجس، أو بالتفصيل، وهذا التفصيل هو الذي اختاره، قال: (وتفصيل أحق)، وهو أن ما استحال إلى صلاح يطهر ويتغير حكمه، وما استحال إلى فساد يبقى على أصله، وذكر من أمثلة ذلك قوله:
هل يؤثر انقلاب كعرق ولبن بول وتفصيل أحق
ذكر ثلاثة أمثلة، وهي فيما إذا أكلت الدابة نجسًا تغذت به، وهذه التي تسمى في الفقه بالجلالة، فالنجس قد استحال إلى لحمها ولبنها وعرقها، فما حكمها؟ فبولها يبقى على نجاسته؛ لأنه استحال إلى فساد، وهذا على القول الذي رجحه هو، وكذلك على القول بعدم الاستحالة أصلًا، ولبنها استحال إلى صلاح فيكون طاهرًا، ويحل شربه وبيعه واستعماله على القول باعتبار الاستحالة، وعلى القول أيضًا بأن ما استحال إلى صلاح يطهر، ويبقى التردد في العرق فلم يستحل إلى فساد، ولم يستحل إلى صلاح، ولكن تردد بين الأمرين، ليس مثل ما صار في زيادة اللحم، وليس مثل اللبن، وقد اعتنى المتأخرون بنظم الزقاق عناية كبيرة، فشرحوه وعقبوا عليه، ومن أحسن شروحه (شرح المنشور)، وهو مطبوع في مجلد كبير، وعليه شروح أخرى مختصرة، قد طبع له ثلاثة شروح، وممن اعتنى به الشيخ ميارة الفاسي، وقد استدرك عليه؛ فكمله بنظم هو زيادة على نظم الزقاق، سماه (تكميل المنهج).
كذلك في المذهب الشافعي بدأت العناية بالقواعد الفقهية في بداية القرن السابع الهجري، معاصرة للوقت الذي بدأت فيه العناية بالقواعد الفقهية في المذهب المالكي، ومن أوائل المعتنين بالقواعد في المذهب الشافعي الإمام السبكي، فقد ألف كتاب الأشباه والنظائر، وكذلك العلائي فقد ألف أيضًا الأشباه والنظائر، وعدد من أئمة الشافعية في هذا العصر ألفوا كتبًا في القواعد، ومن أجمع كتب الشافعية في القواعد كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي وهو عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة تسعمائة وإحدى عشرة، وهذا الكتاب أصل من أصول القواعد لجمعه، فهو أجمع كتاب في القواعد الفقهية، قد اعتنى به المتأخرون، ونظمه أحد فقهاء اليمن نظمًا مشهورًا، وقد طبع بشرح الشيخ ياسين الفاداني وعليه حاشيته.
وفي المذهب الحنبلي أيضًا كانت العناية بالقواعد الفقهية في هذا العصر، أو القرن الثامن في بدايته، ومن مشاهير الذين اعتنوا بالقواعد في المذهب الحنبلي ابن رجب فقد ألف كتاب القواعد الفقهية) وهو كتاب مطبوع، وكذلك ابن عبد الهادي، فقد ألف كتاب القواعد الفقهية كذلك، وقد ألف ابن تيمية رحمه الله قبل ذلك قاعدة عامة في العقود، ولكن لم يصغها صياغة القواعد، فإنما هي عبارة عن فلسفة العقود، أو النظرية العامة لها، وكذلك كتابه القواعد النورانية لم يصغه صياغة القواعد الفقهية؛ وإنما يذكر فيه بعض المتشابهات والنظريات العامة.
وليس للحنابلة في القواعد الفقهية شيء يذكر غير كتاب ابن رجب، وكتاب ابن عبد الهادي، نعم من المتأخرين من الحنابلة من كان له محاولات مثل الشيخ السعدي رحمة الله عليه، فقد نظم نظمًا مختصرًا، فيه بعض الأبيات التي فيها انكسار وبعض الأخطاء اللغوية، وفيه نظم ليسير من القواعد جدًّا، وأظن أنه توفي رحمة الله عليه قبل أن يضبط هذا النظم، كان يريد أن ينظم نظمًا في القواعد، ولكنه توفي قبل إتقانه.
أما الحنفية فلم تتقدم عنايتهم بالقواعد، بل توقفت مدة من الزمن بعد أبي زيد الدبوسي، حتى جاء ابن نجيم رحمه الله فألف كتاب الأشباه والنظائر، ورتبه على كتاب السيوطي، ولكنه غيَّر الفروع والأمثلة، فجعلها من المذهب الحنفي، وزاد عليه بعض الأمور المختصة بالمذهب الحنفي، وبعد ذلك جاء المتأخرون من الحنفية، فكان لهم بعض الجمع في القواعد، ومن أهم ذلك: ما جمعه أصحاب مجلة الأحكام العدلية في أيام الخلافة العثمانية، فعندما أكملوا قواعد المجلة، أتوا بحوالي خمسمائة وعشرين أو خمسمائة وواحد وعشرين قاعدة، جعلوها مرجعًا للقضاة فيما لم يدونوه من المسائل، أحالوا القاضي والمفتي إلى هذه القواعد، وقد شرحها الشيخ الزرقا رحمة الله عليه، واعتنى بها؛ أي: بقواعد المجلة، وليس للحنفية كتاب مهم في القواعد الفقهية- إذا ما استثنينا كتاب ابن نجيم فهو كتاب مهم- لكن ليس لهم كتاب سواه، فأكثر كتب القواعد الفقهية في الواقع هي كتب الشافعية، ثم المالكية، وإن كان السبق في هذا الباب في الأصل للحنفية، إذًا: هذا فيما يتعلق بالواضع.
نسبة علم القواعد الفقهية إلى غيره من العلوم
أما نسبة القواعد إلى غيرها من العلوم: فنسبتها إلى الفقه هي نسبة العموم والخصوص الوجهي، فليست القواعد حاوية لكل الفروع الفقهية، إذا درست كل القواعد التي جمعها القواعديون في العالم لم تأت على كل الفروع الفقهية أبدًا، لكن تجد كثيرًا من الفروع، وهي مدروسة في أبوابها في فروع الفقه، ولكن مع ذلك تدرس في علم القواعد، فإذًا: يتوارد القواعديون والفقهاء على دراسة هذه الفروع، فتكون محل اهتمام للطائفتين، وهذا الذي جعل نسبة علم القواعد إلى علم الفقه نسبة العموم إلى الخصوص الوجهي، فهي أخص من وجه؛ لأن الفروع التي تدرس فيها أغلبها موجودة في الفقه، مدروسة فيه، والفقه أعم منها من وجه؛ لأنه يدرس كثيرًا من الفروع الأخرى التي لا يهتم بها القواعديون، والقواعد كذلك تدرس بعض الأمور التي لا يعتني بها الفقهاء، وهي ما يتعلق بالاستثناءات والفروق، فهذه ليس للفقهاء بها كبير عناية، وإنما يدرسها القواعديون، ولهذا أصبح هذا العلم مستقلاً عن الفقه، فليس هو محض تكرار للفروع الفقهية وجمع لها بصياغة مختلفة، بل فيه أمور لا تدرس في الفقه أصلًا، كالفروق، والأشباه والنظائر، ونحو ذلك.
مستمد علم القواعد الفقهية
أما مستمد علم القواعد الفقهية: فهو علم الفقه، هذا المستمد الأساسي لها، وليس لها مآخذ أخرى.
فضل علم القواعد الفقهية
أما فضل هذا العلم: فهو بحسب نتيجته وفائدته، فقد قال المقري رحمه الله:
وكل علم للمزية اكتسب فالفضل من معلومه له انتسب
ففضل كل علم إنما هو راجع إلى فائدة الاشتغال به، ولا شك أن الاشتغال بهذا العلم مقتض لفهم كثير من أسرار الشريعة، ولحفظ كثير من فروعها التي يشق على الإنسان حفظها إذا لم يجمعها سلك واحد، والقواعد سلوك تجمع لك كثيرًا من الفروع.
وكذلك لا شك أن من فضل هذا العلم: أنه أيضًا يؤدي للتفريق بين كثير من المسائل المتشابهة، فكثير من أئمة الاجتهاد يفتون فتاوي متباينة في مسائل متشابهة في ظاهرها، ولا تفرق بينها إلا بالرجوع إلى القواعد، فتعجب كيف قال مالك في هذه المسألة بالإباحة، وفي هذه بالتحريم، وهما مسألتان متشابهتان في المدونة، أو كيف قال الشافعي: بالإيجاب في هذه المسألة، وبالإباحة في هذه، والمسألتان متشابهتان في الأم، لكن برجوعك إلى القواعد يتبين لك الفرق.
فإذًا: هذا فضل كبير للاشتغال به، ولا شك أن المشتغلين به يزول عنهم التعصب المذهبي، وهذه قاعدة مهمة جداً، وبالأخص في زماننا هذا الذي كثر فيه التعصب، وأصبح الناس يريدون أن يجبروا الناس على آرائهم، وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فبين أنه في أيام بين يدي الساعة يعجب كل ذي رأي برأيه، كل من له رأي سيعجب به، وهذا الإعجاب يصل الآن إلى حد الإرهاب الفكري، الذي يقتضي أن يحوز كل إنسان الحق ويحتكره، ويرى أن من سواه على باطل، ويريد أن يجبره على رأيه هو، فنحتاج إلى إزالة التعصب، ومن أهم ما يزيله: معرفة مآخذ المجتهدين، وكيف استنبطوا الأحكام؛ لأنك ستنصفهم جميعًا، وستعلم أنهم جميعًا طلبوا الحق واتجهوا إليه، وأنهم بنوا ما قالوه من الأحكام على أدلة، سواء اقتنعت أنت بتلك الأدلة أو برجحانها، أو لم تقتنع، المهم أنت ستنصفهم جميعًا؛ لأنهم بذلوا جهودهم، وهم غير مكلفين بمقتضى عقلك، بل هم مكلفون على مقتضى عقولهم.
حكم تعلم القواعد الفقهية
أما حكم الاشتغال بالقواعد الفقهية: فهو فرض كفاية، فإذا لم يكن في البلد من له عناية بالقواعد، أثم أهل البلد جميعًا؛ لأنه من العلوم الإسلامية النافعة التي اشتغل بها سلف الأمة الصالح، وجرب نفعها وأثرها في إزالة التعصب، وفي حفظ الشريعة، وهو من وسائل حفظ الشريعة التي يجب على الأمة حفظها، فإذًا: هو كغيره من العلوم الشرعية فرض كفاية، وقد يتعين كما إذا كان في البلد إنسان واحد هو الذي يستطيع استيعاب هذا العلم، فيتعين عليه ويكون فرض عين في حقه.
تسمية علم القواعد الفقهية
أما اسمه فهو: في أغلب الأحيان (القواعد الفقهية) هذا الاسم المنتشر المشتهر، وقد يسمى أيضًا بعلم (الأشباه والنظائر)، وقد يسمى بـ(علم الفروق)، هذه أسماء لمسمى واحد، فالأشباه والنظائر الفقهية والقواعد الفقهية والفروق الفقهية كلها اسم للقواعد.
فوائد علم القواعد الفقهية
أما فوائده وهذه هي المقدمة الأخرى: ففائدة الاشتغال بهذا العلم: عون على الحفظ، فلا شك أن الحفظ جناح من أجنحة العلم، وأن الإنسان لا يكون عالمًاً إلا إذا كان حافظًا لما يحدث به من العلم، وقد قال الشافعي رحمه الله:
علمي معي حيثما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق
وقال أبو محمد علي بن حزم رحمه الله:
فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري
وقال الحكيم الآخر:
ليس بعلم ما حوى القمطر ما العلم إلا ما حواه الصدر
والقمطر: وعاء الكتب.
وحفظ العلم به يقع التفاوت بين الناس في مستواهم في العلم، ولا شك أن الاختصار معين على الحفظ، فإذا كانت القاعدة مختصرة، ويؤخذ منها كثير من الفروع، فإن ذلك يعينك على حفظ تلك الفروع، فهذا معين لك على حفظ الفروع، وميسر لإدراك جزئياتها، فمثلًا إذا حفظت قاعدة: (الشيء مع غيره غيره لا هو مع غيره)، ولها صياغة أخرى وهي: (الشيء مع غيره غيرهما)، فهذه قاعدة ستحفظ كثيرًا من الفروع التي مرجعها إلى هذه القاعدة، وستدرك أن الشيء إذا أضيف إليه غيره أصبح ماهية مستقلة، فله أحكام كثيرة جدًّا بحسب الإضافات والأحوال، فمثلًا في واقعنا المعاصر: الكحول مادة، وهي من المواد الأساسية في تصنيع الخمر، ولكن إذا انفصلت عن المواد الأخرى فكانت في العطور مثلًا، فهذه العطور ليست خمرًا؛ لأن الشيء مع غيره غيره لا هو مع غيره، فهذه المادة إنما تكون نجسة، وتكون محرمة البيع إذا كانت مع المواد الأخرى التي تشكل منها الخمر، أما إذا انفصلت، فالشيء مع غيره غيره، وهكذا.
ونظير ذلك: الواحد بالشخص له جهتان؛ أي: إن الواحد الذي شخصه واحد له جهتان؛ أي: المقصود أكثر من وجه واحد، يمكن أن يكون له وجوه كثيرة، ولكل وجه حكم، فيدخل هذا في: الطهارة والصلاة والزكاة والحج والعقود وغير ذلك، قاعدة تدخل كل أبواب الفقه تقريبًا.
ففي الطهارة مثلًا: كسرقة الماء للوضوء به، السرقة حرام، والوضوء واجب، فإذا توضأت بماء مسروق فالوضوء صحيح؛ لأن الواحد بالشخص له جهتان، الصلاة في الدار المغصوبة كذلك، إلا عند الحنابلة الذين يرون أنه لا انفكاك للجهة، فيبطلون الصلاة في الدار المغصوبة.
كذلك إذا لبس الإنسان خاتمًا من ذهب وصلى به، فقد عصى بلبسه لخاتم الذهب، ولكن الصلاة واجبة، فهل صلاته صحيحة أو لا؟ إذا لبس ساعة من ذهب وصلى فيها، أو لبس ثوبًا من حرير وصلى فيه، إذا كان النهي لا يتجه إلى الصلاة، وهذا مخرج لما لو صلى في ثوب نجس مثلًا، من صلى في ثوب متنجس فالنهي مختص بشأن الصلاة فهي باطلة حينئذ، وهذا محل خلاف بين أهل العلم الذين يختلفون في اشتراط طهارة الخبث في الصلاة، والمسألة فيها أربعة أقوال: فقد قيل: باشتراط طهارة الخبث لصحة الصلاة، وقيل: بوجوبها من غير شرط، وقيل: بسنيتها، وقيل: بندبها، وهذه الأقوال الأربعة هي التي نظمها محمد مولود في الكفاف؛ إذ قال:
ستر المغلظة في الصلاة أربعة الأقوال فيه تأتي
هل واجب مشترط أو واجب لم يشترط أو سنة أو يندب
وهكذا الأقوال الاربعة في طهارة الخبث والشرط اقتُفي
هذه الأقوال الأربعة موجودة في طهارة الخبث، والشرط اقتفي؛ أي: المتبع هو القول بالاشتراط، وهو القول الراجح، ومع هذا فمذهب المالكية: أن الإنسان إذا صلى في ثوب متنجس من غير أن يعلم بذلك حتى انتهت الصلاة فإنه تندب له الإعادة في الوقت ولا تجب عليه، والإعادة إذا قيدت بالوقت دل ذلك على صحة الصلاة؛ لأن الصلاة الباطلة تجب إعادتها مطلقًا، لا يقيد ذلك بوقت، فإذا أمر بالإعادة في الوقت فقد دل ذلك على أن الأصل الصحة.
وكذلك تدخل هذه القاعدة أيضًا في الصلاة على الجنائز، فمثلًا: إذا ماتت نصرانية وهي زوجة لمسلم، أو يهودية وهي زوجة لمسلم، وهي حامل منه، فجنينها من أولاد المسلمين وهي من المسيحيين، فهل تدفن في مقابر المسلمين، أو تدفن في مقابر المسيحيين؟ جمهور أهل العلم: أنها تدفن في مقابر المسلمين؛ قالوا: لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وهذا الجنين مسلم، وهو من أهل الجنة بالإجماع؛ لأن ولد المسلم بإجماع من أهل الجنة، إذا مات قبل بلوغ الحنث، قد نظم ذلك الإجماع السيوطي رحمه الله عندما نظم الخلاف في أولاد الكفار الذين يموتون صغارًا فقال:
والخلف في ذرية الكفار قيل بجنة وقيل النار
وقيل بالبرزخ والمصير تربًا والامتحان عن كثير
وقيل بالوقف وولد المسلم في جنة الخلد بإجماع نُمي
كذلك تدخل هذه القاعدة أيضًا في الزكاة، فمصارف الزكاة كما تعلمون ثمانية، فصلها الله في كتابه، لم يكلها إلى ملك مقرب، ولا إلى نبي مرسل، فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ[التوبة:60]، فإذا جمع إنسان واحد بين عدد من هذه الصفات: فكان فقيرًا، وكان مسكينًا، وكان ابن سبيل، وكان من جباة الزكاة الذين يعملون عليها، فجمع عددًا من الأوصاف، هل يعطى بكل صفة؟ قانون الوظيفة العمومية: أن الإنسان إذا كان يشغل وظيفتين، يأخذ راتب أكبر الوظيفتين، ولا يأخذ راتبًا في مقابل الوظيفة الأخرى.
أما في الفقه فإن الفقير يأخذ بوصفيه: إذا كان متصفًا بالفقر يأخذ به وبوصف آخر يأخذ به.
وكذلك في الحج، إذا حج الإنسان بمال من ربًا، أو من سرقة فالحج واجب، والسرقة أو الربا حرام، لكن الحرمة لا تتعلق بالحج ذاته، فالقاعدة تقتضي صحة الحج بالحرام، كما قال خليل: صح بالحرام وعصى؛ لأن الواحد بالشخص له جهتان، فهذه قاعدة، وهكذا في كثير من الأبواب الفقهية تدخل هذه القاعدة، فإذا حفظت القاعدة المختصرة، وهي: الواحد بالشخص له جهتان، كأنما حفظت هذه الفروع الكثيرة في أبواب شتى، إذًا: هذه هي فائدة هذا العلم.
مسائل علم القواعد الفقهية
المقدمة العاشرة: هي مسائله، والمقصود بمسائل العلم: مفرداته التي تدخل تحت عنوانه؛ أي: جزئيات هذا العلم، وعلم القواعد الفقهية يختلف المؤلفون فيه في ترتيبه فليس هو على هيئة واحدة منضبطة، فمثلًا: كتب الفقه، إذا قرأت في كتاب من كتب الفقه على أي مذهب من المذاهب ستجد الأبواب هي نفس الأبواب: باب الطهارة، باب الصلاة، باب الزكاة، باب الحج، ولو اختلف الترتيب، لكن نفس الأبواب، نفس المفردات ستجدها، أما القواعد الفقهية؛ فقد لا تجد كثيرًا منها في كثير من الأبواب؛ ولذلك فالبحث في المسائل هنا يقتضي أن ننوعها فقط.
فأول هذه المقدمات: حد هذا العلم، والعلم: هو علم القواعد الفقهية، وحده: أن القواعد في اللغة: جمع قاعدة، والقاعدة تطلق على الأساس، فيقال: قواعد البنيان؛ أي: أساسه وأركانه، ومن ذلك قول الله تعالى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ[النحل:26]، (أتى الله بنيانهم من القواعد)؛ أي: من الأساس، أو من الأركان.
ومن ذلك قول الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ[البقرة:127]، فالمقصود هنا: الأركان؛ أي: الأطراف هي التي ترفع.
وتطلق القواعد كذلك على النساء اللواتي تقدم بهن العمر، فأصبحن ملازمات للبيوت، لم يعد لهن نشاط، ومن ذلك قول الله تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ[النور:60].
فالقواعد: هن اللواتي لم يعد لديهن استعداد للزواج، ولم يعد فيهن رغبة للزواج.
والقواعد في الاصطلاح: هي الضوابط والكلمات المختصرة التي تجمع معاني كثيرة بألفاظ قليلة، ونسبتها هنا إلى الفقه، والفقه في اللغة: معناه الفهم، ومن ذلك قول الله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ[هود:91] أي: لا نفهمه.
وهو في الاصطلاح: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
فقولنا: العلم بالأحكام، المقصود بالعلم بها: إدراكها، فيشمل ذلك العلم الذي هو اليقين، ويشمل الظن أيضًا؛ لأن كثيرًا من مسائل الفقه هي ظنية، فكل ما ليس صريحًا في النص الموحى من عند الله، وإنما هو من اجتهادات الرجال واستنباطهم، فهو في الأصل ظني، كما كان مالك رحمه الله يتمثل في مسائل الاجتهاد: إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ[الجاثية:32]، فمعنى العلم هنا: ما يشمل الظن أيضًا، وليس العلم هنا بمعنى اليقين.
(بالأحكام الشرعية) والأحكام: جمع حكم، والحكم في الأصل: هو اسم مصدر، حكم الشيء: إذا أتقنه، ويقال: أحكمه أيضًا: إذا أتقنه، يقال: حكمه: إذا منعه، ومنه الحكم القضائي؛ لأن فيه منعًا للإنسان من التصرف، ويقال: أحكم الفرس: إذا أمسكها، ومنه قول جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
أبني حنيفة إنني إن أهجكم أدع اليمامة لا تواري أرنبا
أحكموا سفهاءكم معناه: أمسكوهم، ومنه حكمات اللجام؛ أي: ما يكون في طرفيه، فيمسك الفرس من الجماح، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
بل اذكرن خير قيس كلها نسبًا وخيرها نائلًا وخيرها خلقاً
القائد الخيل منكوبًا دوابرها قد أحكمت حكمات القدِّ والأبقا
قد أحكمت؛ أي: الخيل، حكمات القد؛ أي: بحكمات القد والأبقا.
والحكم في الاصطلاح: هو إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه، فالحكم لا يكون إلا بإثبات أو نفي، والمثبت النافي أي: الذي يصدر عنه الحكم، أحد ثلاثة أمور:
إما الشرع، وهو الوحي المنزل من عند الله: خطاب الله الموجه إلى المكلفين الذي جاء به الرسل من عند الله، فهذا فيه إثبات ونفي.
وإما العقل، فالعقل أيضًا يحكم بإثبات شيء ونفيه.
وإما العادة؛ أي: التكرار والتجربة، فالعادة تحكم بالإثبات والنفي، فالحكم الشرعي هو خطاب الله الموجه إلى المكلفين من حيث أنهم مكلفون به.
خطاب الله الموجه إلى المكلف؛ أي: المقتضي منه فعلًا أو تركًا، أو المبيح له أداؤهما، هذا معنى توجيه الخطاب إليه، المتعلق بفعل المكلف لا بذاته، فخطاب الله المتعلق بذات المكلف، مثل: (خلقكم)، هذا خطاب متعلق بالذوات، ليس حكمًا شرعيًّا من حيث إنه مكلف به، بخلاف قول الله تعالى: خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[الصافات:96]، هنا قوله: (وما تعملون) هذا خطاب الله المتعلق بفعل المكلف، لكن لا من حيث إنه مكلف به؛ بل من حيث هو مخلوق لله، فهذا لا يدخل في الحكم الشرعي، الحكم الشرعي لا بد أن يكون خطابًا متعلقًا بفعل المكلف، من حيث إنه مكلف به، والحكم العقلي: هو قضية لا تتوقف على شرع ولا عادة، والقضية معناها: الأمر القابل للصدق والكذب، فكل أمر يقبل التصديق والتكذيب هو الذي يسمى قضية في الاصطلاح.
(لا تتوقف على شرع ولا على عادة) معناه: لا يحتاج في إثباتها، ولا في نفيها إلى شرع وهو الوحي، ولا إلى عادة كالتجربة والتكرار، وإنما يرجع في تركيبها إلى العقول، كدلالة التغير على الحدوث، ودلالة صوت الطرق على الطارق، إذا طرق الباب فسمعت صوتًا توقن بأن وراء الباب إنسانًا، هذا الإثبات من أين أتيت به؟ فلا الوحي أتى به، ولا التجربة فقط تقتضيه؛ لأن الصوت يسمع من غير طرق للباب، إنما حكم العقل بذلك.. وهكذا.
أما الحكم العادي: فهو إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه، بواسطة التكرار مع صحة التخلف، فكون هذا العلاج مسكن للحرارة، أو مسكن للألم، من أين عرف ذلك؟ لم ينزل به وحي، ولا العقل يقتضيه؛ وإنما عرف بواسطة التكرر مع صحة التخلف؛ لأنه يمكن أن يستعمل العلاج فلا يقع الأثر، وهكذا في كل الأحكام العادية، دخول النار عادة مقتض للإحراق؛ ولكن مع هذا نعلم أن إبراهيم عليه السلام رمي به في النار ولم يحترق، عدم الشرب والأكل مقتض للموت؛ ولكن مع هذا نعلم أن عزيراً مكث مائة سنة بدون أكل وشرب، وأن أصحاب الكهف مكثوا في نومتهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا، فإذًا الحكم العادي قد يتخلف؛ لكن الحكم الشرعي إذا توافرت شروطه وأسبابه وانتفت موانعه فإنه لا يتخلف، والحكم العقلي كذلك لا يتخلف.
والحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين: إلى موحى، ومكتسب.
فالموحى لا يدخل في الفقه مطلقًا كوجوب الصلاة، ووجوب الصوم، وحرمة القتل، وحرمة الزنا، هذا لا يدخل في مسمى الفقه اصطلاحًا، وليس من مذهب أحد، لا تقول: ومذهب فلان وجوب الصلاة مثلًا، أو حرمة الخمر هذا ليس مذهبًا لأحد، هذا وحي منزل من عند الله، والفقه لا يكون إلا أمرًا دخلته صنعة المكلف واشتغل فيه عقل المكلف فأنتجه.
فلذلك قلنا: (العلم بالأحكام الشرعية العملية)، علم الأحكام الشرعية مخرج للأحكام العقلية وللأحكام العادية وهما القسمان السابقان.
(العملية) معناه: التي فيها عمل للمكلف، بخلاف الأحكام العقدية التي يعتقدها الإنسان، ولا يتعلق بها عمل، فالعلم بها هو علم العقائد، ولا يدخل في مسمى الفقه اصطلاحًا، وإن كان قديمًا يسمى فقهًا، ومنه الفقه الأكبر المنسوب لـأبي حنيفة رحمه الله، لكن لا يسمى فقهًا في الاصطلاح.
(المكتسب) فهذا مخرج للموحى.
(من أدلتها التفصيلية) أي: من أدلة الأحكام التفصيلية.
والأدلة: جمع دليل، والدليل في الأصل: هو المرشد الذي يرشد إلى الشيء، سواء كان حسيًّا أو معنويًّا، فمن المعنوي قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا[الفرقان:45-46]، (جعلنا الشمس عليه دليلًا) معناه: مرشدًا إليه، وهذا إرشاده إليه أمر معنوي لا حسي.
ومن إطلاقه على الحسي، قول الشاعر:
إذا حل دَين اليحصبي فقل له تزود بزاد واستعن بدليل
سيصبح فوقي أقتم الريش واقفًا بِقالي قلا أو من وراء دبيل
تزود بزاد واستعن بدليل؛ أي: مرشد يدلك على الطريق، وهو مرشد حسي، يقول: اخرج من هذا المكان، وادخل من هذا المكان، وهذه هي الدلالة الحسية.
والأدلة في الاصطلاح: هي ما يؤخذ منها الأحكام، ويمكن أن يعرف الدليل تعريفًا أدق فيقال: ما يؤدي صحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري.
فقولنا: (ما يؤدي صحيح النظر فيه) مخرج للنظر السقيم، فالنظر: هو حركة النفس في المعقولات، وضده: التخيل فهو حركة النفس في المحسوسات، تتخيل إنسانًا أو تتخيل دارًا، أو تتخيل أرضًا، أو جبلًا، هذا التخيل: هو حركة النفس في المحسوسات، والنظر: هو حركة النفس في المعقولات، ويسمى فكرًا أيضًا، وهذا النظر ينقسم إلى قسمين: إلى صحيح، وفاسد، فالنظر الصحيح: هو النظر في الماهية من حيث يوصل إلى المطلوب، والنظر الفاسد: هو النظر في الماهية من حيث لا يوصل ذلك النظر إلى المطلوب.
أنت تريد صناعة ماصة من خشب، فأخذت هذه الخشبة، فبحثت فيها من جهة القدم والبقاء مثلًا، أو من جهة ملكها: هل هي مملوكة لفلان، أو ليست مملوكة له، هذا النظر فاسد؛ لأنه ليس من الجهة التي توصل إلى المطلوب، لكن إذا بحثت فيها من جهة الاستقامة والاعوجاج والقساوة واللين، ومن جهة حجمها وشكلها، فهذا النظر موصل إلى المقصود، فهو نظر صحيح.
فإذًا: هذا الفرق بين النظر الصحيح والنظر الفاسد، والدليل إنما يعتنى فيه بالنظر الصحيح لا بالنظر الفاسد.
(ما يؤدي صحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري) المقصود بالعلم هنا: ما يشمل الظن أيضًا مثل ما سبق، فكثير من الأدلة دلالته على مدلوله ظنية لا قطعية، فدلالة الدليل على مدلوله منها ما هو قطعي، ومنها ما هو ظني، والدليل نفسه منه ما هو قطعي، ومنه ما هو ظني، ومن الأدلة ما هو قطعي كالمتواتر الواضح الدلالة مثل: آية صريحة من القرآن، أو حديث متواتر صحيح وواضح الدلالة فهذا دليل قطعي.
والدليل الظني مثل: هذا حديث حسن مثلًا، أو: حديث مختلف في تصحيحه، أو: حديث دلالته غير قطعية مثلًا، أو: آية دلالتها غير قطعية، هذا الدليل ظني؛ لأنه محتمل لأن يكون هذا معناه، ومحتمل ألا يكون هذا معناه أصلًا، ودلالته على مدلوله تكون أيضًا ظنية.
فإذًا: يعتريه الظن من وجهين: من جهة أصل الدليل، ومن جهة دلالته على المدلول، وهذا يدل على العلاقة بين الدليل والمدلول، والعلاقة بينهما وطيدة، والدليل سابق على المدلول لدى الناظر، لاحق للمدلول لدى المناظر.
فالناظر وهو المجتهد الدليل يسبق لديه المدلول؛ لأنه يأخذ المصحف مجرد الذهن من الأحكام، فيقرأ هذه الآية، فينقدح في ذهنه أنها تدل على كذا، فيدون هذا الحكم، يأخذ صحيح البخاري، فيقرأ الحديث مجردًا، ليس له مذهب في هذه المسألة، فيفهم من هذا الحديث كذا.
والدليل لاحق للمدلول لدى المناظر، والمناظر: الذي يريد الإثبات دائمًا، يكون الدليل لديه متأخرًا؛ لأنه هو صاحب مذهب، وهو مقلد في هذا المذهب، وقد اقتنع بهذه المسألة، ثم بعد ذلك أراد أن يثبت مذهب الحنفية في هذه المسألة، أو مذهب الشافعية، فهو يناظر من أجل إثبات أمر قد رسخ لديه، فيبحث له عن الدليل، فهذا الدليل لديه يتكرر، وهذا الفرق بين الناظر والمناظر، الناظر: الدليل لديه واحد ولا يتكرر وقد يكون صحيحًا وقد يكون ضعيفًا، والمناظر: الدليل لديه يمكن أن يتكرر، كمن يحصل لديه عدد من الأدلة.
فتجد ابن القيم مثلًا، يقول: هذه المسألة يدل عليها واحد وعشرون وجهًا، ويجلب الأدلة عليها، وهكذا تجد ابن حزم في المحلى يجلب كثيرًا من الأدلة على المسألة الواحدة، هذا دليل على أن المناظر يمكن أن يتعدد لديه الدليل، وأن الناظر لا يتعدد لديه الدليل، وهذا العلم الذي يحصل كما ذكرناه، ويشمل الظن، لذلك قلنا: العلم بمطلوب.
والمطلوب: ما يكون قبل البحث دعوى، وفي وقت البحث مطلوبًا، وبعد البحث نتيجة، قبل البحث إذا قلت: هذه الصلاة باطلة، هذه دعوى، وفي وقت البحث أنت تريد إثباتًا لدعواك، وهذا يسمى مطلوبًا، وبعد الحصول على النتيجة يكون نتيجة أو نتاجًا لذلك الدليل الذي حصل.
وقولنا: (خبري) مخرج للإيقاعات، فقولك: نكحت أو طلقت أو وهبت أو أعتقت ونحوها، أمور لا تحتاج إلى الدليل؛ لأنها إيقاعات يوقعها الإنسان من نفسه، فكل إنشاء لا يكون بحاجة إلى الدليل، وهذه قاعدة دائمة، والإنشاء هو: إيقاع معنًى بلفظ يقارنه في الوجود، أي: هذا المعنى نشأ عن هذا اللفظ فقارنه في الوجود تمامًا، بخلاف الخبر فهو: إخبار عن أمر قد سبق، فأنا عندما أحدث عن نوح عليه السلام فحديثي متأخر عن الحدث الذي أحدث عنه بما لا يعلمه إلا الله من السنوات، بينما إذا قلت: أعطيك هذا، أمنحك هذا، أهبك هذا، اللفظ والمعنى متقارنان في الوقوع والوجود، فهذا الفرق بين الإنشاء والخبر.
فإذًا: الدليل إنما يطلب في الخبريات، ولا يطلب في الإنشائيات.
والأدلة في الشرع تنقسم إلى قسمين: إلى أدلة إجمالية وأدلة تفصيلية.
فالأدلة الإجمالية: هي أجناس الأدلة، أي: ما يستدل بجنسه، فالكتاب دليل والسنة دليل والإجماع دليل والقياس دليل، والاستصحاب دليل، والاستحسان دليل، والاستصلاح دليل، وعمل أهل المدينة دليل مثلًا عند الذين يرونه، وشرع من قبلنا دليل عند الذين يرونه، وهكذا، فإذًا: هذه أجناس الأدلة تسمى بالأدلة الإجمالية، وهذه هي التي تبحث في أصول الفقه.
أما الأدلة التفصيلية: فهي مثل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ[المائدة:6]، دليل وجوب غسل الوجه في الوضوء مثلًا، فهذا دليل تفصيلي، والأدلة التفصيلية هي التي تؤخذ منها الأحكام في الفقه، وهي التي تبحث في الفقه، أما الأدلة الإجمالية فلا تبحث فيه، لا يبحث في متواتر القرآن وآحاده، ولا يبحث في متواتر السنة وآحادها، ولا يبحث في الإجماعيات، ولا يبحث في طرق انعقاد الإجماع، وهل يشترط له انقراض العصر أو لا، ولا يبحث في القياس، هذه أمور لا تبحث في الفقه وإنما تبحث في الأصول.
والقواعد الفقهية في الاصطلاح: هي ألفاظ مختصرة تجمع فروعًا شتى، إن كانت من باب واحد سميت ضابطًا، وإن كانت من أبواب مختلفة سميت قاعدة كلية، فقد تكون الألفاظ متعلقة بباب واحد، كباب الصلاة مثلًا عند الحنفية: ما غير الفرض في أوله غيره في آخره، هذه قاعدة تختص بالصلاة، ولا تدخل في الأبواب الأخرى، وقد يكون الأمر متعلقًا بأبواب شتى مثل قاعدة: كل تعبد في الغير فلا يحتاج إلى نية، فهذا يشمل فروعًا كثيرة في أبواب شتى، فيشمل في الطهارة :مثل طهارة الخبث، إذا أخذ الغسال ثوبك وفيه نجس فطهره دون أن يعلم أنه نجس، فهذا تطهير من غير نية، وهو صحيح، يطهر الثوب به؛ لأنه تعبد في الغير فلا يحتاج إلى النية، وكذلك إذا وضعته في العراء فأصابه مطر، فهذا المطر مطهر له؛ لأنه تعبد في الغير، فلا يحتاج إلى نية، وكذلك تغسيل الميت هو تعبد في الغير فلا يحتاج إلى نية مخصوصة، وهكذا إنقاذ غريق أو مترد من شاهق أو نحو ذلك، فهذا تعبد في الغير فلا يحتاج إلى نية مخصوصة وهكذا.
فهذه القاعدة لا تختص بباب واحد، بل تدخل أبوابًا متفرقة، وهذا الحد للقواعد الفقهية يعلم به الفرق بينها، وبين القواعد الأصولية؛ لأن هذه القواعد تختص بالفروع كما ذكرنا، أما القواعد الأصولية فتختص بأصول الفقه؛ أي: الأدلة الإجمالية.
القواعد الأصولية مثل: أن الأمر يدل على الوجوب، أو أن الأمر يقتضي الصحة، أو أن النهي يقتضي البطلان، أو أن النهي يقتضي التحريم، أو أن الأمر لا يقتضي التكرار، أو أن الأمر يقتضي الفورية.
أما القواعد الفقهية، فهي مثل ما ذكرنا، الكلمات المختصرة التي تجمع فروعًا كثيرة، إن كانت من باب واحد سميت ضابطًا، وإن كانت من أبواب متفرقة سميت قاعدة عامة، أو قاعدة كلية، وهذه هي المقدمة الأولى وهي الحد؛ أي: تعريف علم القواعد.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
القواعد الفقهية [4] | 3240 استماع |
القواعد الفقهية [2] | 3117 استماع |
القواعد الفقهية [5] | 2298 استماع |
القواعد الفقهية [3] | 1674 استماع |