بكل صراحة
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
بكل صراحةفي قلبي ألف دقَّة تأهب وحَيرة، في عقلي رنّة إلحاح كبيرة، لكن في دمعي منوال الرأفة والحنان لما آل إليه مصير المجرِّبين، وفي قوتي مزيد من الكفاح، ولك يا قلمي أن تُساعدني لأكتب ما أريد ولا تغلق ديواني حتى أنتهي بآخر نقطة من إرادتي.
هذه المرة لست أكفُّ روحي في أن تبوح بما تَشعُر به؛ لأن نصاب التحمُّل مني بلَغ بي مبلَغَ المواجهة الحقة في أني سئمتُ تكاليف أن أبدو أقوى مع كل موقف، أصبحتُ لا أقدر على صدِّ رياح الفضول، أصبحت أستطيع أن أتكلم أكثر وأكثر ولكن بالقلم لا باللسان؛ لأن تصريح القلم أكثر وقعًا على العيون، ولأن ما سأصرِّح به مدوَّن بحفظ وأمان، وبالإمكان إعادة فهمه مرات ومرات، على العكس من الكلام، فقد يَسقُط سهوًا أو عمدًا كلمات الحقيقة، لذا جُدْ عليَّ بأحلى ألوان المِداد صناعةً للنقش الصريح.
فبكلِّ صراحة، نفَد رصيدي من الكلام على ما أرى من تصرُّفات تُريد الزجَّ بي حيث مداراة اللامنطق واللانظام من أركان التطابُق فيما يجب أن نكون عليه.
و أصبحتُ أرى في طباع الوجوه ازدواجية الإقبال على محاور النقاش من خطابي، فاليوم يُقابلني محدثي بوجه وفي الغد بوجه آخر، فأنا في تناقض مع نفسي في فهم طبيعة هذا السلوك وهذا التعامل مع ما يجب أن نكون عليه وفق منهج العقيدة الحقة.
بصراحة أرهقتني ظنون كثيرة ممن لا يُجيدون فهم عبارات الصفاء والحلاوة في العيش، والمراد هنا فواصل من النكد والكآبة، وإني في انصراف عن هذا الطلب المزعج لي بكل متطلباته؛ لأني أتجنَّب ردود الأفعال السلبية حيثما كانت؛ لأني تداولت أخذًا وردًّا مع طبائع كثيرة، فوجدت الميل أكثر للسهل المُمتنع من حدود العطاء، ولو أن طاقة النهضة لا حدود لها فهي في تطور كل يوم وفي ثوب جديد مع كل تشييد لصرح قوي.
بصراحة جرَّبت أناسًا كثر في أثناء ضعفي علِّي أحظى بالدعم المعنوي لحثِّي على عدم الاستسلام لظروف التيئيس، فرُحتُ أثق كثيرًا فيمَن أبدى لي كلامًا معسولاً بشتَّى كلمات الاحتواء المائع، لكني مع الوقت سكبتُ أفكار الثِّقة في دولاب التوقُّف الأبدي لأني أدركت أن ما ابتدأ بالمدح والمغالاة في الثناء من غير فعل يُثبِت ذلك، كله كذب في كذب؛ لأنه مجرد تسكيت لما كنت أتكلم به من حقيقة ما مرَّ عليَّ من أزمات الماضي، لكن إرادتي أزاحت عن فكري كل التباس وكل رغبة في قطف ورود من غير مواضع الثبات الصحيحة لها.
فهل ترغب في صراحة أخرى؟ أم إن ما صارحتك به يَكفي ليُعطي انطباعًا أن لا وجود للأمان والسِّلم، مني أنا يا قارئ أقولها لك بكل صراحة: إن بوادر الخير لا تنتهي، فقط تعلمتُ أن أُحسنَ طلب الخير من حسان الوجوه؛ لأنه الدلالة على صحة الطريق والموضع الثابت من الجرأة في مثل هذا الطلب.
وبصراحة أخرى، تعلمت الكثير والكثير من مثل هذه الصدامات والتعاملات، وطوَّعتُ نفسي في كثير من الرغبات التي كان لي الحق الكثير فيها، ولكن نَيل المطلب من صحة أفعال وأقوال المطلوب منه لا بد أن تُزكيه أرواح طائعة لله وصادقة، فالطالب أصلاً في تجربة مع أصناف الناس ومن يحيطون به، وله أن ينتقي بإحكام مع من يتعامل؛ لأن في ذاك الاندفاع غير مدروس الخطى ملامات كثيرة في ما بعد في نهاية المطاف.
و لذلك كان درسي الأول والمهم ألا أركّز على المظهر كثيرًا، بل أفتّش فيما وقر في الباطن من طيبة وسلامة القلب، فذاك معياري في الاختيار لموضع صراحتي وجرأتي.
لأنه - بصراحة - ما خفي في الصدر أعظم مما يقرّ به اللسان، وما أُغمضت عليه الجفون أعظم مما أبدته الأنامل من تصريح وخط بيد كنت أظن أن فيها الائتمان الكبير، لكني لم أندم على شيء؛ لأنه لولا هذا التجريبُ لما عرفت أصناف الناس وطباعهم، ولما فهمت أن من جرب يَحظى بالكثير من الخبرة والفراسة أكثر ممن اكتفى بالاستماع لتجارب المجرِّبين.
بصراحة أصبحت في قمة الفهم الجيد والمنطقي حينما أمرُّ من أمام الفضوليين والجاهلين، فقط بابتسامة تجاهل مني يكون الجواب؛ لأن كلامي لا يستحق وقعًا على آذانهم، فما جادت به أخلاقُنا يليق له المقام الرفيع لدى أهل الثقة والتقى والإيمان الصادق.
فابتسامتي البسيطة هي خير من ألف شرح وتفسير وألف ردٍّ للسؤال المتكرر؛ لأن المستوى الذي أبحث عنه هو ما يوافق تطلعاتي وطموحي؛ لذلك - وبكل صراحة - تَكفي ابتسامتي لوقف كل تطاول وتطفل؛ ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، وبكثير من الصراحة: لا خير في جواب لا يستدلُّ فيه بآي القرآن أو حديث للرسول صلى الله عليه وسلم.