القواعد الفقهية [5]


الحلقة مفرغة

أمثلة على ضابط القلة

من أمثلة هذا الضابط المخدر اليسير الذي يستعمل في الأدوية إذا كان شيئًا قليلًا، فهو معفو عنه لقلته.

وكذلك أثر الذباب من العذرة أو نحو ذلك، هذا معفو عنه، وأهل العلم ذكروا أمثلة كثيرة.

يقول خليل رحمه الله: [وثوب مرضعة تجتهد، وندب لها ثوب للصلاة، ودون درهم من دم مطلقًا، وقيح وصديد وبول فرس لغاز بأرض حرب، وموضع حجامة مسح، فإذا برئ غسل وإلا أعاد في الوقت، وأول بالنسيان أو بالإطلاق، وكطين مطر، وإن اختلطت العذرة بالمصيب لا إن غلبت، وظاهرها العفو ولا إن أصاب عينها، وذيل امرأة مطال للستر، ورجل بلت يمران بنجس يبس يطهران بما بعده، وخف ونعل من روث دواب وبولها إن دلكا لا غيره، فيخلعه الماسح لا ماء معه ويتيمم، واختار اللخمي إلحاق رِجل الفقير، وفي غيره للمتأخرين قولان، وواقع على مار، وإن سأل صدق المسلم، وكسيف صقيل لإفساده من دم مباح، وأثر دمل لم ينك، وندب إن تفاحش كدم البراغيث إلا في صلاة].

كذلك من فروع هذه المسألة: الدم اليسير الذي يخالط اللبن، فاللبن أخرج مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ[النحل:66]، ولكنه يندر أن يسلم من نقطة قليلة جدًّا، فإذا كانت فوق الرغوة وحذفها الإنسان دون أن تخالط اللبن، فهذا النوع معفو عنه، ومثل ذلك: الفأرة إذا ماتت في السمن، فالقدر الذي يتسرب إليه النجس يؤخذ، وما سواه يبقى طاهرًا.

ومثل ذلك: المائع، مثل الماء، إذا مات فيه ذو نفس سائلة، فإنه ينزح منه بقدره، وتبقى طهارته، وهكذا، فكل ما هو يسير من هذا النوع في حياة الناس هو معفو عنه، ويدخل في هذا التلفزيون تعرض فيه بعض المشاهد التي لا تخلو من صور لا يجوز النظر إليها، لكن إذا كان ذلك في ريبورتاج عن خبر مهم، وأنت لابد أن يقع نظرك على بعض المشاهد التي فيها بعض المحرمات، لكن إذا كانت خفيفة هكذا تمر، مثل: بعض الجثث المقطعة التي فيها كشف عورات، ونحو هذا، فتمر مرورًا سريعًا، فهذا النوع من الخفيف اليسير الذي يعفى عنه للقلة.

وكذلك النظرة الواحدة بالنسبة للأجنبية، (يا علي، لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك النظرة الأولى).

أمثلة على ضابط الكثرة

الضابط الثاني: الكثرة، ومن الأمثلة لذلك جمع الصلاة من أجل المطر، هذا فيه مشقة راجحة؛ لأن الناس يشق عليهم الذهاب والرجوع؛ لذلك يجمعون بين العشاءين ليلة المطر، ومن هذا القبيل من الكثرة مثلًا الذي يسكن في أوروبا، أو في بلاد ينتشر فيها كشف النساء عن شعورهن وأبدانهن، لو غض بصره عن كل ذلك، لما استطاع المشي ولا التحرك، ولا بإنفاذ أي عمل من أعماله، فهذا لكثرته يعفى عنه، فيعاملهن مثلما يعامل الإماء، فتكون النساء الكفار والسافرات مطلقًا إذا كثر السفور، يعاملن مثلما يعامل الإماء؛ لكثرة ذلك.

ومثل ذلك: الزحام في الحج والعمرة، فالشيء الذي لا يستطيع الإنسان التخلص منه، يكون لكثرته معفوًّا عنه.

وكذلك انتشار ما يتعلق باللحوم المستوردة، فأنتم تعرفون أن الله سبحانه وتعالى أباح لنا ذكاة أهل الكتاب، فقال: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ[المائدة:5]، ونزلت هذه الآية بعد أن حرفوا وبدلوا، فيدل هذا على بقاء الحكم حتى مع التحريف والتبديل، نحن نعلم أن أهل الكتاب جميعًا من المشركين، اليهود والنصارى كلهم من المشركين، لكن مع كل تحريفهم وتبديلهم أحل الله نساءهم وذبائحهم للمسلمين، ليس ذلك لشفوف أهل الكتاب، ولا مزيتهم؛ بل هو للتخفيف عن المسلمين، وتفضيل المسلمين، وفي حديث عائشة قالت: (كان أهل الكتاب يزعمون أن لهم شفوفًا على المشركين حتى نزلت سورة البينة، وفيها قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[البينة:6]، فقال أبو بكر: استوت أكتافهم ورب الكعبة).

فهذه الذبائح في الأصل: إذا ذبح اليهودي أو النصراني ذبحًا على الوجه الشرعي، والذبح يبحث فيه من خمسة أوجه:

الوجه الأول: في المذكى، فالمذكى لابد أن يكون من مباح اللحم الذي ينتفع بذكاته، فإذا ذبح حمارًا أهليًّا، أو أسدًا، أو كلبًا، هذا لا ينتفع بذكاته، فلا عبرة بالذكاة حينئذ، لابد من البحث في المذكى نفسه، ما هو؟ فلا يحل كل ذي مخلب من الطير، ولا كل ذي ناب من السباع، ومثل ذلك الحمر الأهلية.

الجهة الثانية التي يبحث فيها هي: المذكي، فالمذكي لابد أن يكون مسلمًا، أو يهوديًّا، أو نصرانيًّا، فلا تحل ذكاة المجوس، ولا ذكاة أهل الديانات الأخرى جميعًا، لكن لا يلزم التزامه، فالمسلم غير الملتزم تؤكل ذكاته، واليهودي غير الملتزم بيهوديته تؤكل ذكاته، والنصراني غير الملتزم بنصرانيته تؤكل ذكاته، والرجال والنساء والأحرار والعبيد منهم، كل ذلك يسري فيه هذا الحكم في الأصل، لكن اليوم في زماننا من المعلوم أن قاعدة النصارى: دعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وما لقيصر غير محدد لديهم، وما لله محدد، وضبطهم الأخير الذي استقر عليه العمل لديهم، أن ما لقيصر هو ما غلبت عليه الدولة فهو من اختصاص قيصر، وليس لله به حكم، هذا الذي جرى به العمل الآن في أوروبا وأمريكا، ولدى النصارى كلهم.

فالأصل كانت صلاحيات الكنيسة كبيرة جدًّا، تتدخل في كل شيء، ثم لم تزل الدولة تضايقها، وتأخذ من صلاحياتها، حتى لم يبق للكنيسة إلا أشياء قليلة محصورة، والذكاة كانت في الأصل من اختصاص الكنيسة، ولكن أخذتها الكانسل الآن فأصبحت تبعًا للبلديات، فلا علاقة للكنيسة الآن بالذكاة، والبابا يأكل الجيف ولا يبالي؛ لأنه يرى أن هذا من مال قيصر، فأخذه قيصر، فأصبحوا لا يبالون بالذكاة؛ فلذلك لم تعد المذكيات التي تأتي منهم على طريقتهم الشرعية، هذا ما يتعلق بالمذكي.

الأمر الثالث: هو ما يتعلق بآلة الذكاة، فآلة الذكاة لابد فيها مما ينفذ في البدن مما له أمور، كالمحدد الذي ينفذ في البدن، سواء كان حديدًا، أو عودًا، أو حجرًا، لكن لابد أن يكون شيئاً يقطع، ينفذ في البدن، (ما أنهر الدم فكلوه، إلا السن والظفر)، فالسن والظفر لا يذكى بهما، وما سوى ذلك من كل ما له ظفر يذكى به، فالآن الصعق الكهربائي أو القتل بالمثقل، الضرب مثلًا بالعصا أو نحو ذلك هذا لا يذكى به في أية ملة؛ فلذلك الذكاة به تعتبر باطلة.

الوجه الرابع من أوجه التذكية هو: ما يتعلق بمقارنات الذكاة، فالذكاة في الأصل من شرطها: ذكر اسم الله؛ لقول الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ[الأنعام:121]، فإذا كان المذكي يذكر اسم الله عند الذكاة، فبها ونعمت، وإلا فعلى المسلم عند أكله أن يذكر اسم الله عليه، كما في حديث عبد الرحمن بن أبزى: (أنه كان يأتيهم نبيط من نبيط الشام بلحمان وقديد، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: إنهم لا يذكرون اسم الله، فقال: اذكروا اسم الله عليه أنتم، وكلوه)، فهذا يقتضي أن يذكر الإنسان اسم الله عليه؛ ليستبيحه بذلك.

الأمر الخامس: هو هيئة الذكاة، فهيئة الذكاة لدى المسلمين أربعة أقسام، هي: النحر والعقر والذبح، وما يموت به نحو الجراد، أربعة أمور هي الذكاة في الشريعة الإسلامية:

النحر هو: الطعن باللبة.

والذبح هو: قطع الودجين والحلقوم من المقدم بلا رفع قبل التمام.

والعقر: هو الذي يموت به الشارد، أو الذي لا يمكن إمساكه باليد، كالغزال مثلًا يضرب بالرصاص أو بالسهم، فإذا أنفذت مقاتله، فذلك عقر له فيستباح به، والرصاص وإن كان في الأصل غير محدد- هو نفس الرصاصة غير محددة- لكن بما أن ضربتها تنفذ بها نفوذًا شديدًا فكأنها كالمحدد، وهذا الذي أفتى به عبد القادر الفاسي؛ وابن غازي في نظمه لنظائر الرسالة يقول:

كل صيد مسلم صحيح الذبح غير مفرط بنحو الرمح

أو جارح مكلب ومرسلِ من يده بصيده مشتغلِ

يصيد مرئيًا أخا امتناع يموت من جرح بلا نزاع

ومحمد بن عبد القادر الفاسي يقول:

وما ببندق الرصاص صيدا جواز أكله قد استفيدا

أفتى به والدنا الأواه وانعقد الإجماع من فتواه

فأصبح اليوم محل إجماع ما يصاد بالرصاص.

الأمر الرابع هو: ما يموت به نحو الجراد، الجراد ميتة، كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر عند ابن ماجه: (أحل لنا ميتتان ودمان)، فبأي شيء يموت فإنه يباح، فإذا مات بقطع رأسه، أو بقطع أطرافه، أو بالحرق، أو بغير ذلك؛ فإنه يستباح بذلك، هذه هي الذكاة لدى المسلمين بأنواعها الأربعة.

الذكاة لدى النصارى، والذكاة لدى اليهود أيضًا محددة، فإذا ذبح اليهودي على غير الطريقة المعروفة للذبح لدى اليهود، أو ذبح النصراني على غير الطريقة المعهودة للذبح لدى النصارى، فلا عبرة بما ذبحه، فهو غير مذكى، إذًا هذه خمسة أمور تبحث.

الآن أصبح كثير من المسلمين يستوردون اللحوم من بلاد النصارى، وكثرت في بلاد المسلمين كثرة فاحشة، أغلب المطاعم لا تستورد إلا هذه، وكثير من الشركات المنتجة للحوم أيضًا الذين يمارسون العمل فيها إما هندوس، أو بوذيون، أو على الأقل فيهم أولئك، أو لا دينيون، فهذه اللحوم هي جيف كلها؛ لأن ما كان منها مذكى على الطريقة الإسلامية وقد ذكاه مسلم قد اختلط بغيره، فغلب عليه غير المذكى، والحكم للأغلب والأكثر.

فاللحوم المستوردة تعتبر كلها جيفًا.

وبالنسبة لوجود لجنة شراء لا يوجد، أنا ذهبت إلى بعض المجازر، ذهبت إلى مجزرة في فرنسا، وأخرى في هولندا، ووجدت أن الرقابة إنما تأتي في وقت مجيء الشراء، ووقت مجيء التفتيش من بلاد المسلمين، يستأجرون أي واحد من المغاربة في الشارع، يقولون له: أنت مسلم تعال راقب على الذكاة هنا، وأد الذكاة على الطرق الشرعية، ويأخذون إفادته فقط، وهم يوظفونه لمدة شهر واحد، وينتهي الأمر.

أمثلة على ضابط المرض

الضابط الثالث من ضوابط المشقة المرض، فهناك فروع في التيسير في المرض، منها قضية الدم، للإنسان المصاب بفقر الدم تغذيته في الوريد بالدم، فهذا محتاج إليه بسبب المرض، ومثل ذلك: ما ذكرنا من زراعة الأعضاء، إذا دبت فيها الحياة، فهو من هذا القبيل، ومثل ذلك: شراء الدم، وشراء الأعضاء، فذكرنا أنه للمشتري جائز، إذا اضطر إليه، وللبائع حرام، البائع لا يجوز له أن يبيعه، هذا ليس مما يجوز بيعه، لكن المشتري يجوز له؛ لأنه مضطر إليه، فلا يكون هذا بمثابة البيع، وإنما يكون بمثابة الفداء، كأنما يفدي هذا العضو الذي هو غير مملوك.

ونظير هذا: بيع الأراضي غير المملوكة التي يحوزها الناس في المدن، وهذا عندنا مثلًا.

فهذه الأراضي غير المملوكة التي يحوزها الإنسان فيبيعها، هذا البيع ليس في الواقع بيعًا، وإنما هو من باب الفداء في الاختصاص فقط، هو مختص بالحيازة، فيفتدى منه الاختصاص.

ومنها الطبيب له أن يترخص في الجمع بين الصلاتين من أجل العملية الجراحية، وكذلك يخفف عنه من الأنجاس؛ لمخالطته، إذا كان جراحًا بالخصوص، ومثل ذلك: ما يتعلق بالقيء أيضًا، تكراره، نعم كذلك ما له علاقة بالمريض.

وكذلك يقابل الأجنبية وهكذا.

أمثلة على ضابط السفر

الضابط الرابع: السفر، ومن الرخص التي تتعلق بالسفر الصلاة في الطائرة أو في القطار، إذا اتجه الإنسان إلى القبلة في البداية في الفريضة، وعرف جهة القبلة وأحرم إليها، هي لا شك أنها تنحرف، وقد لا يشعر الإنسان بالانحراف في أثناء السير، وإذا كان القطار تحت الأرض فإنه لا يحس بانحرافه والتواءاته، وإذا كانت السفينة في البحر كذلك وكان هذا النهار يصعب عليه المراقبة إلا إذا كانت الشمس بادية، أما إذا كان الليل، فهي تمكن المراقبة عن طريق النجوم وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ[النحل:16].

وكان أنس رضي الله عنه إذا صلى في السفينة في البحر، فإذا جرت صلى جالسًا، وإذا رست صلى قائمًا، ويحرم إلى جهة القبلة، فإذا استدارت استدار معها إلى جهة القبلة، يستدير كلما استدارت السفينة.

فإن قيل إن الصلاة في الطائرة تؤدي إلى ترك ركن من أركانها؛ فنقول: لا، لأنك إنما تجب عليك الصلاة بعد دخول وقتها، ولا تجب قبل دخول وقتها، فإذا دخل الوقت صلها كما أنت على القدر الواجب عليك، والحج يجب قبل دخول وقته، الحج واجب مرة في العمر، فيجب قبل دخول وقته؛ لأنه يجب السفر إليه، والصلاة لا تجب إلا بعد دخول الوقت؛ لأنه سبب وجوبها، فالصلاة لا تناقش وجوبها ولا أركانها قبل دخول وقتها، لأنها لا تجب قبل دخول الوقت، والحج يجب قبل دخول وقته، فهذا الفرق.

بعض الناس يتعللون بأنهم إذا سافروا من بلادنا مثلًا للحج، أو من بلاد نائية، سيضطرون للجلوس في الصلاة في بعض الأحيان، هذا ليس دائمًا، وأيضًا فإن الصلاة حينئذ إنما وجبت بعد دخول وقتها، فيجب عليك أداؤها على نحو ما تستطيع، (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، والحج يجب قبل وقته، هذا الفرق، بالإضافة إلى أن الإنسان في كثير من الأحيان يستطيع أداءها قائمًا على الوجه الصحيح، كما قال الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه:

أرى صلاة الفرض فوق الطائر صحيحة ليس بها من ضائر

لأنه في غاية الإمكان توفر الشروط والأركان

فصل ما سمعته وشاهد فليس من يسمع مثل الشاهد

(وحيث ما كنتم فولوا) الآية نص به أو ظاهر في الغاية

ولفظ الارض في الحدود مدرجًا ليس لفقيد ولكن خرجا

لغالب كالوصف للربائب بكونهن في الحجور الغالب

فكان عندي قائما مكان مقام من يقوم أين كان

فذاك عندي حاصل النصوص على العموم وعلى الخصوص

فالعبرة بوقت الأداء في الصلاة.

وهنا بالنسبة للحج لا يكون نفلًا، الحج دائمًا إما أن تؤديه بنية الفرض العيني، وإما أن تؤديه بنية الفرض الكفائي؛ لأن الله تعالى يقول: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[آل عمران:97]، فـ (مَن) باختلاف إعرابها يكون الحكم، إما فرض عين أو فرض كفاية.

وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[آل عمران:97]، إذا كانت بدلاً من الناس، يكون هذا فرض عين، وإذا كانت فاعل (حج البيت) فاعل لمصدر، يكون هذا فرض كفاية، فـ(من) إما أن تكون مجرورة؛ أي: في محل جر، وإما أن تكون في محل رفع، فإن كانت في محل رفع، فهي فاعل (حج البيت)، وإن كانت في محل جر، فهي بدل لقوله: (على الناس)، واختلاف الإعراب يختلف به الحكم.

وقد ذكر لي أحد الأشخاص أنه سافر من أمريكا لليابان، وسافر من الناحية الثانية؛ فضاع عليه يوم، يسأل هل عليه أن يقضي صلواته؟ نقول: لا، ليس عليه أن يقضيه، وهذا نظيره: الذين يسكنون في الدول الإسكندنافية فليس لديهم وقت لصلاة العشاء في بعض الأحيان، أنا أتيت هناك فوجدت أن الشمس تغرب ويبقى الشفق أحمر إلى أن يطلع الفجر، شفق أحمر شديد الحمرة حتى يطلع الفجر من جهة الشرق، وهكذا بعض الدول، الشمس لا تغيب ستة أشهر، وتغيب ستة أشهر.

أي أن الشمس تمكث ستة أشهر ما تظهر، حينئذ يقدرون مثل أيام المسيح الدجال، ومثل الأيام الثلاثة التي قبل طلوع الشمس من مغربها، يقدرون لها قدرها، وبعض أهل العلم يرى أنها تسقط عنهم صلاة العشاء دائمًا؛ لأن السبب هو للوجوب، ولم يدخل السبب أصلًا، وهذا الذي أفتى به عدد من المشايخ في هذا العصر، والذي أراه أنهم يجزئون الليل ولو كان ساعة واحدة، فيأخذون ثلث الليل، فيصلون صلاة العشاء عند ذهاب الثلث، ولو كان ساعة واحدة.

ولو ذهب أحد من أمريكا لليابان فلا عبرة بذلك اليوم الذي ذهب فيه، فهذا اليوم ذهب في فرق التوقيت، فلا عبرة به، هو في الواقع ليس يومًا كاملًا، الذي يذهب هو فرق التوقيت، أربع عشرة ساعة، وبعض الأحيان يقع الأشياء من نظير هذا.

أنا أذكر مرة كنت في الأسكا، وأحد الإخوة كان معي، أرجعني من صلاة الفجر إلى البيت، قال لي: سأسافر اليوم إلى المشرق، وأعود إليك صلاة الظهر، يسافر إلى اليابان ويعود، لكنه يسافر من المشرق إلى المغرب، يذهب مغربًا في المغرب، ثم يعود إلى جهة اليابان، وهذه المسألة منها الأمر الحاصل الآن في سان فرانسيسكو، ففيها ثلاثة مساجد كبيرة: أحد المساجد: أهله يصلون إلى جهة الغرب، وأحد المساجد: أهله يصلون إلى الجنوب الشرقي، وأحد المساجد: أهله يصلون إلى الشمال الشرقي.

وأنا سألت الجميع، فالذين يصلون إلى الغرب يقولون: مكة من هذه الجهة أقرب إلينا، والذين يصلون إلى الجنوب الشرقي يقولون: نحن نصلي على الخريطة المسطحة، لو وضعنا خريطة مسطحة، كانت هذه جهة مكة منا، والذين يصلون إلى الشمال الشرقي يقولون: نحن نصلي على الخريطة المكورة، لو أخذنا خريطة على شكل بيضوي أو كروي، لكانت خطوط العرض كلها مائلة، وكانت هذه جهة مكة منا، وكل له وجه في الاجتهاد، وأنا أردت أن أجمع بينهم فقلت: أريد أن تشكلوا مجلسًا من بين المساجد الثلاثة للمسلمين، فيتفقون على جهة واحدة من هذه الجهات، فتصبح هي جهة الصلاة في هذا البلد، تكون إجماع الموجودين من المسلمين، فيمضي على بقيتهم؛ لأنها مثل جماعة المسلمين، إذا رأت أي أمر فهي تنوب مقام السلطان عند فقده، كما قال القاضي عياض: أجمع المسلمون أنه إذا كان الإمام غير عدل، أو يضيع الحدود، أو كان البلد ليس فيه إمام، فإن الجماعة التي تسند إليها الأمور تقوم مقام السلطان في كل شيء.

وكذلك عن أبي عمران الفاسي رحمه الله، سئل عن بلد المصامدة ليس لهم إمام، فقال: إن جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين تقوم مقام السلطان في رعاية أموال اليتامى والغيّب، وغير ذلك من كل ما يمضي فيه أمر السلطان إجماعًا.

وذكر هذا الإجماع أيضًا ابن الهمام في فتح القدير، وابن الحنفية، فهذا إجماع أن جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين في البلد الذي لا سلطان فيه، أو السلطان غير عدل، أو يضيع الحدود، فأمر جماعة المسلمين نافذ في كل ما ينفذ فيه أمر السلطان، وتنوب منابه، وهم جميعًا حكوا الإجماع على هذا دون مخالف.

أمثلة على ضابط الفقر

الضابط الخامس: الفقر.

ومن أمثلة التخفيف بسبب الفقر إسقاط الحج عن العاجز؛ فإن الله شرط فيه الاستطاعة، فقال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[آل عمران:97]، فالاستطاعة شرط، وهي: الزاد والراحلة والسبيل السابلة، فإذا عجز الإنسان عن الزاد والراحلة، لم يجب عليه الحج.

كذلك النفقات على من تجب النفقة عليه، كالنفقة على الزوجة، والنفقة على الأولاد، وعلى الوالدين، وعلى الرقيق، وعلى الدواب والبهائم.

وكذلك الكفارات، كل هذا من هذا القبيل، إلا الكفارات التي لها بديل؛ لأن الكفارات منها ما يكون واجبًا مخيرًا، فالواجب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

ينقسم باعتبار نفسه إلى: واجب معين، وواجب مخير.

وينقسم باعتبار فاعله إلى: فرض عين، وفرض كفاية.

وينقسم باعتبار وقته إلى: موسع، ومضيق.

فإذًا: الواجب له ثلاثة تقسيمات لدى الأصوليين، باعتبار الوقت ينقسم الواجب إلى: موسع ومضيق، فالموسع: هو الذي قدر له الشارع وقتًا أكثر منه، والمضيق هو الذي قدر له الشارع وقتًا على قدره، وينقسم باعتبار فاعله إلى: عيني وكفائي، فالعيني: هو الذي طلب الشارع حصوله من كل أحد، والكفائي: هو الذي طلب الشارع حصوله، بغض النظر عمن حصل منه.

وينقسم باعتبار ذاته إلى: معين، ومبهم، وهو المخير، مثل: كفارة اليمين، فقد ذكر الله ثلاثة أنواع للتخيير، ثم ذكر نوعًا آخر للترتيب، قال: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ[المائدة:89]، فيكون الواجب المتعين بالنسبة للفقر هو صيام ثلاثة أيام، لكن من هذه المسائل أيضًا قضية الصداق في النكاح، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (التمس ولو خاتمًا من حديد، فلم يجد، فقال: لم أجد إلا إزاري، فقال: إن أصدقتها إياه جلست بلا إزار، فقال: هل تحفظ شيئًا من القرآن؟ وفي رواية: هل معك شيء من القرآن؟ فقال: نعم، لسور جعل يعددها، فقال: أنكحتكها على ما معك من القرآن)، فهذا النوع يعتبر أيضًا فيما يتعلق بالفقر، وإلا فالأصل أن النكاح لا يصح إلا بالمال؛ لقول الله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ[النساء:24]، ولقوله: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ[النساء:34].

أمثلة على ضابط النقص

النقص، مثل نقص الأطراف، نقص الكمال، نقص الذمة، النقص أنواع مختلفة، نحن ذكرنا منه نقص الأطراف، ونقص الحواس، لكن مثله أيضًا نقص العقل وهو إدراك التكليف كله؛ لأن الإنسان أقصد غير العاقل يسقط عنه التكليف جملة.

كذلك في النطق، الإنسان الذي لا يستطيع النطق ببعض الحروف تسقط عنه القراءة، مثلًا الذي لا ينطق بالكاف في التكبير، فقد رأى بعض أهل العلم أنه يقتصر على آخر الكلمة؛ لأن لها معنًى، فيقول: (الله بر) فقط؛ لأن هذا المقدور عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، وذلك إذا كان ما يقدر عليه له معنى، أما إذا كان الذي يقدر عليه لا معنى له، مثل الذي لا ينطق بالراء أصلًا، لا يجب عليه أن يقول: (أك) فقط، أو (أكب) فقط.

والألثغ الذي يبدل الراء حرفًا آخر، كالذي يبدلها غينًا، أو نحو ذلك، فإنه ينطقها على نحو ما ينطقها في كلامه، هذا الذي يخاطب به.

وكذلك العجز في قراءة الفاتحة، فالذي هو في أول إسلامه ولا يحفظ الفاتحة، يجب عليه أن يكون مأمومًا دائمًا إن استطاع؛ لأن قراءة الإمام قراءة لمن خلفه، وكثير من أهل العلم يرى أن الفاتحة تسقط عن المأموم خلف الإمام.

وكذلك في النقص، من هو أصم وأعمى لا تصح صلاته مأمومًا، وتصح صلاته إمامًا، وتصح صلاته فذًا، فصلاته فذًا ما فيها إشكال، وتصح صلاته إمامًا كذلك، لكن لا تصح صلاته مأمومًا؛ لأنه لا يمكن أن يسمع شيئًا من صلاة الإمام ولا يراه، وشهادته مردودة في كل شيء، ولو كان مبرزًا، لو كان أعدل الناس لا تقبل شهادته، وقد خاطبني جدي رحمة الله عليه بالصبا باللغز في هذه المسألة، يقول:

أحاجيك من شخص تصح صلاته إمامًا وفذًّا لا إذا أُمَّ فاعلما

فكملت أنا اللغز، فقلت:

شهادته مردودة لو مبرزًا وذلك شخص ضم للصمم العمى

فإذا كان أصم وأعمى، فتصح صلاته إمامًا وفذًّا، ولا تصح صلاته مأمومًا، ولا تقبل شهادته بشيء؛ لأن الشهادة لا يمكن أن يشهد إلا على شيء تلقاه عن طريق السمع، أو عن طريق البصر، فقد فقدهما معًا، وإذا كان الإنسان أعمى فقط، فقد اختلف في إمامته، فقال بعض أهل العلم: إمامته أفضل من إمامة المبصر؛ لأنه لا يتلهى ولا ينشغل عن الصلاة.

وقالت طائفة أخرى: بل المبصر أفضل؛ لأنه كامل تام، والحنفية يبالغون في التمام في هذه المسألة حتى يرون حسن الصورة وتمام الخلقة، وأشياء أخرى.

والمالكية أيضًا يرون حسن الملابس إذا كان من زيادة الكمال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم سنًّا- وفي رواية: أقدمهم هجرة- فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًّا أو سلمًا).

وهذا الخلاف ذكره أحد الفقهاء بقوله:

وجاز أعمى والبصير أفضل وقيل: سيان وقيل: الأول

أي: قيل: الأعمى أفضل، وقيل: هما سيان، هذا إذا كانوا جميعًا حفاظًا لكتاب الله، يقرءون، و(أقرؤهم) المقصود به: أحسنهم أداء وقراءة وأحفظهم، وليس المقصود به أحسنهم صوتًا، وقد جاء في حديث: (أنه في آخر الزمان يقدم القوم الرجل ليس بأفقههم، ولا بأفضلهم، ما قدموه إلا ليغني لهم)، الناس يتأثرون بالأصوات الجميلة، فيقدمون الشخص من أجل جمال صوته فقط، ولا يراعون أي شيء آخر من المعايير الشرعية المنصوصة.

وإذا تعارض الأقرأ والأفقه، فالعبرة بالأفقه؛ لأنه هو الأقرأ في الواقع، إذا كان الفقه معناه إحسان الأداء، والفهم لما يقرؤه؛ لأن الإنسان إذا كان يقرأ شيئًا ولا يفهمه (فرب حامل فقه ليس بفقيه)، و(رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).

من أمثلة هذا الضابط المخدر اليسير الذي يستعمل في الأدوية إذا كان شيئًا قليلًا، فهو معفو عنه لقلته.

وكذلك أثر الذباب من العذرة أو نحو ذلك، هذا معفو عنه، وأهل العلم ذكروا أمثلة كثيرة.

يقول خليل رحمه الله: [وثوب مرضعة تجتهد، وندب لها ثوب للصلاة، ودون درهم من دم مطلقًا، وقيح وصديد وبول فرس لغاز بأرض حرب، وموضع حجامة مسح، فإذا برئ غسل وإلا أعاد في الوقت، وأول بالنسيان أو بالإطلاق، وكطين مطر، وإن اختلطت العذرة بالمصيب لا إن غلبت، وظاهرها العفو ولا إن أصاب عينها، وذيل امرأة مطال للستر، ورجل بلت يمران بنجس يبس يطهران بما بعده، وخف ونعل من روث دواب وبولها إن دلكا لا غيره، فيخلعه الماسح لا ماء معه ويتيمم، واختار اللخمي إلحاق رِجل الفقير، وفي غيره للمتأخرين قولان، وواقع على مار، وإن سأل صدق المسلم، وكسيف صقيل لإفساده من دم مباح، وأثر دمل لم ينك، وندب إن تفاحش كدم البراغيث إلا في صلاة].

كذلك من فروع هذه المسألة: الدم اليسير الذي يخالط اللبن، فاللبن أخرج مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ[النحل:66]، ولكنه يندر أن يسلم من نقطة قليلة جدًّا، فإذا كانت فوق الرغوة وحذفها الإنسان دون أن تخالط اللبن، فهذا النوع معفو عنه، ومثل ذلك: الفأرة إذا ماتت في السمن، فالقدر الذي يتسرب إليه النجس يؤخذ، وما سواه يبقى طاهرًا.

ومثل ذلك: المائع، مثل الماء، إذا مات فيه ذو نفس سائلة، فإنه ينزح منه بقدره، وتبقى طهارته، وهكذا، فكل ما هو يسير من هذا النوع في حياة الناس هو معفو عنه، ويدخل في هذا التلفزيون تعرض فيه بعض المشاهد التي لا تخلو من صور لا يجوز النظر إليها، لكن إذا كان ذلك في ريبورتاج عن خبر مهم، وأنت لابد أن يقع نظرك على بعض المشاهد التي فيها بعض المحرمات، لكن إذا كانت خفيفة هكذا تمر، مثل: بعض الجثث المقطعة التي فيها كشف عورات، ونحو هذا، فتمر مرورًا سريعًا، فهذا النوع من الخفيف اليسير الذي يعفى عنه للقلة.

وكذلك النظرة الواحدة بالنسبة للأجنبية، (يا علي، لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك النظرة الأولى).


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
القواعد الفقهية [4] 3238 استماع
القواعد الفقهية [2] 3115 استماع
القواعد الفقهية [1] 3005 استماع
القواعد الفقهية [3] 1673 استماع