خطب ومحاضرات
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [9]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى: باب: الخوخة والممر في المسجد:
الخوخة: الباب الذي لا يكون على طول قامة إنسان، بل يكون مخرجًا يدخل منه الإنسان، كالكوة التي هي قريبة من الأرض، وقد يكون ذا مصراعين، وقد يكون ذا مصراع واحد، وهو يكون في الجدران الطويلة، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون من دورهم، وهي محيطة بالمسجد في اتجاهات مختلفة، فيتخذون في جدار المسجد فتحات صغيرة يدخلون منها، ويجعلون لها ما يسدها، وتعدد ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوصى- بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- في مرضه أن تسد كلها إلا خوخة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
و(الممر): مفعَل، يأتي للمصدر، ويأتي للزمان، ويأتي للمكان، والمقصود به: مكان المرور في المسجد، والممر لم يذكر في هذا الحديث إلا أنه يتناوله ذكر الخوخة، وقد اختلف في المرور في المسجد إذا كان الإنسان لا يصلي فيه وإنما يمر منه نافذًا إلى وجه ما، فذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك من الإرفاق، والمسجد ملك عام، فيمكن أن ينفذ منه الإنسان إذا كان ذلك أخصر له، إذا كان المسجد كبيرًا، وكان إذا خرج من ورائه فاته بعض شأنه أو تعب، فيمكن أن يمر من داخله لتلك الحاجة، وذهب بعضهم إلى أن من احترام المساجد ألا تتخذ ممرًّا أصلًا، وألا ينفذ منها الإنسان إلى غيرها، بل لا بد أن تقصد هي لذاتها؛ لأنها مقصودة للعبادة، ولم تبنَ لهذا، وإنما بنيت لذكر الله، وإقامة الصلاة، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل هذا القول الأخير أرجح، فإن المساجد لا تتخذ طرقًا إلا من أجل الضرورة، واتخاذها طرقًا يدخل فيها الأوساخ والغبار، وذلك مناف لرفعها الذي أمر الله به، فقد قال الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ[النور:36].
شرح حديث أبي سعيد لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر
قال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله؟ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر، لا تبكِ، إن أمنَّ الناسِ عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)، فهذا الحديث حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، وذلك بعد أن أعلمه الله سبحانه وتعالى بدنو أجله، وانتقاله من هذه الحياة الدنيا، فخطب الناس وهو عاصب رأسه، وقد كان مرضه الصداع، فقال: (إن الله خير عبدًا)؛ أي: قال في أثناء خطبته: (إن الله خير عبدًا)، وهو يلمح إلى نفسه بذلك؛ أي: إن الله خيرني (بين الدنيا)؛ أي: التعمير فيها، (وبين ما عنده)؛ أي: مجاورة الله جل جلاله، (فاختار)؛ أي: اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العبد الملمح عنه هنا، (ما عند الله)، ومعنى هذا: أن حياته في هذه الحياة الدنيا قد انتهت؛ لأنه اختار ما عند الله، ولم يمت نبي قط إلا خير.
(فبكى أبو بكر)، عرف أبو بكر أن العبد المخير هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد اختار ما عند الله، ومعنى ذلك: أنه سينتقل من هذه الحياة الدنيا، (فبكى أبو بكر)، ومعنى ذلك: سالت دمعتاه، و(بكى) تطلق على سيلان الدمع من العين، وعلى الصوت الذي يصدر عند ذلك، ومصدرهما مختلف، فيقال: (بكى بكاءً)؛ أي: بصوت، و(بكى بكًى) بالقصر؛ أي: بدون صوت، والمقصود هنا بالبكاء: الدمع فقط، وربما كان معه النشيج والحنين، كما كان الصحابة يفعلون إذا وعظهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمع لهم حنين، لكن لا يقصد بذلك رفع الصوت بالبكاء، فليس ذلك من الأدب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، (فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقلت)؛ أي: قال أبو سعيد الخدري (في نفسي)؛ أي: لم ينطق بذلك بلسانه، ولكنه فكر فيه، (ما يبكي هذا الشيخ)؛ أي: ما الذي جعل هذا الشيخ يبكي؟! (إن يكن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)، فلم يفهم أن هذا يختص بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك تعجب من بكاء أبي بكر، (فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبدَ)، بعد ذلك فهم أبو سعيد وجه بكاء أبي بكر، ففهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، (العبدَ) هنا منصوبة هي خبر (كان)، أصلحوها في الكتاب، هي خبر (كان)، والضمير الذي قبلها (هو) ضمير فصل، وهو لا يؤثر في إعراب الجزأين، (وكان أبو بكر أعلمنا)، أخبر أبو سعيد أن أبا بكر الصديق كان أعلم الصحابة؛ ولذلك فهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توريته، فهو من بينهم الذي فهم هذا الكلام واستوعبه.
وأبو سعيد من علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهائهم، ولم يستوعب ذلك، ولم يفهمه، فدل هذا على فضل أبي بكر في العلم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أعلمهم كما صرحوا بذلك؛ ولذلك قال أبو سعيد هنا: (وكان أبو بكر أعلمنا)، والمقصود بالعلم هنا: الفهم عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، واستيعاب الوحي، (قال: يا أبا بكر)؛ أي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، (لا تبكِ)، فنهاه عن البكاء، والمقصود: النهي عن سببه، وهو الحزن، معناه: لا تحزن.
(إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر)، أراد أن يزيل عنه الحزن، فبين أن أمنَّ الناس عليه؛ أي: أكثرهم عليه منة؛ أي: فضلًا في صحبته؛ أي: بذاته ونفسه، (وماله- أبو بكر)، فليس أحد أكثر إنفاقًا من وقته وماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر، والامتنان هنا معناه: الفضل، فالمنة بمعنى الفضل، ولا يقصد بذلك أنه يمن عليه ما أحسن به إليه، (بل لله المنة ولرسوله)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، فله الفضل في القبول.
ومعنى (في صحبته)؛ أي: بنفسه، فإنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم، ولم يفارقه في حضر ولا سفر، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يغب عن مشهد منها من الغزوات كلها، (وماله)، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يواسي رسول الله صلى الله عليه وسلم بماله، وكان امرأً تاجرًا في الجاهلية فكان غنيًّا، وبعد ذلك في الإسلام خرج من ماله كله في سبيل الله ثلاثًا، من كل ما لديه من تجارة جاء بها يحملها، وخرج منها في سبيل الله.
ثم زاد في تعزيته وتسليته، فقال: (ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر)، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في مقابل إحسان أبي بكر لو كان متخذًا خليلًا؛ أي: لو صح له أن يتخذ خليلًا من أمته، لاتخذ أبا بكر، والخليل معناه: المحبوب الذي خالط حبه القلب، فلم يترك فيه خللًا لغيره، لم يترك فيه مكانًا لغيره، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن منه ذلك، فهو خليل الله جل جلاله، فلا يمكن أن يصرف حبه لغيره، قال: (ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر)، وقد تكرر ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشاهد شتى، فقال: (لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر، ولكن صاحبكم خليل الله)، وفي الحديث الآخر: (ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، فالرسول صلى الله عليه وسلم أعلمه الله أنه وصل إلى مقام الخلة، فكانت محبته جميعًا لله جل جلاله، وهذا المقام يندر أن يصل إليه العبد، وقد وصل إليه إبراهيم عليه السلام، فقال الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا[النساء:125]، ووصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وهما فقط اللذان ثبتت لهما الخلة، ولم تثبت لمن سواهما من الأنبياء، وإبراهيم يقول يوم القيامة- كما في حديث الشفاعة- (وهل كنت إلا خليلًا من وراء وراء)، ويريد بذلك تشريف النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وإبداء منزلته، فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه.
وقول الصحابة: (أوصاني خليلي)، كما كان أبو هريرة يقول، وكما ورد ذلك عن علي، وورد عن أبي ذر المقصود به: أنه هو محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا؛ فهو أحب إليه من جميع الناس، وليس المقصود العكس، فإذًا لا ينافي ذلك أن يقول الصحابي: (أوصاني خليلي)، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذ خليلًا من الناس، لكن الصحابي يحبه هو حبًّا شديدًا، فلا يترك في قلبه مجالًا لحب غيره من الناس.
(ولكن أخوة الإسلام ومودته)، معناه: ولكن له؛ أي: لـأبي بكر مني أخوة الإسلام، فهو أخوه في الإسلام، وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وبين المهاجرين أنفسهم، وبين الأنصار أنفسهم، وآخى بين أبي بكر ونفسه، فـأبو بكر أخوه في الإسلام، وهذا شرف عظيم جدًّا، ومنزلة سامقة عالية، (ومودته)؛ أي: مع الأخوة الإسلامية أيضًا المودة، وهي من: (ود)؛ أي: تمنى ودادًا، وودادة، فالمقصود بذلك: أنه يتمناه دائمًا، ويتمنى لقاءه، ويتمنى صحبته، وهذا معنى الوداد، فمصدره في الأصل: (الوَد)، و(الوِد)، و(الوُد)، وهو مثلث الواو، ومعناه: أن تشتاق نفس الإنسان إلى صاحبه، فيكون كلما غاب عن عينه تذكره، فهذا معنى المودة، ولوازمها منها النفع؛ ولذلك تطلق المودة على النفع، وقد فسر بذلك قول الله تعالى في سورة الشورى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى[الشورى:23]؛ أي: مودة قرباي، هذا التفسير الأول؛ أي: أن تحبوا آل بيتي، وتحسنوا إليهم، وفي تفسير آخر: إِلَّا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ٌ[الشورى:23]؛ أي: أن تودوني وتحبوني؛ لأنني من قرابتكم، ويكون الخطاب حينئذ لقريش، ليس من سواهم من الأمة.
ثم سلاه بأمر ثالث، وهو ما يشير إلى الخلافة من بعده، فقال: (لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)، يجوز في لفظة (باب) هنا الرفع والنصب؛ لأن الكلام موجب؛ فلذلك قال: (لا يبقين في المسجد)؛ أي: لا تتركوا في المسجد، وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يسدوا الأبواب التي تقابل الدور، وأنتم تعلمون أن حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في جانب المسجد الشرقي والشمالي، وبعضها في الغربي، (حجرتان منها في الجانب الغربي)، وكل حجرة لها باب يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فكذلك الذين يحيطون بالمسجد من أصحابه كانت لهم أبواب يدخلون منها، كما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب، ولكنه أوصى أن تسد هذه الأبواب، فلا يترك منها إلا باب أبي بكر الصديق، وكان باب أبي بكر الصديق إلى جهة الغرب، وأبو بكر رضي الله عنه كان له داران بالمدينة: إحداهما داره الأولى التي نزل فيها لما جاء مهاجرًا، وقد اشتراها من رجل من الأنصار، والدار الثانية هي التي بناها لـأسماء بنت عميس حين تزوج بها بعد غزوة مؤتة، وكانت زوجة لـجعفر بن أبي طالب، وهي أم أولاده الثلاثة، فقتل عنها جعفر، فتزوجها أبو بكر الصديق، فولدت له محمدًا، وأوصى أبو بكر إذا مات أن تغسله أسماء بنت عميس، فهي التي تولت غسل أبي بكر، وله زوجة أخرى إذ ذاك، فدل هذا على أن العدل بين الزوجات لا يشمل ما يتعلق بالوصية وتغسيله، وزوجته الأخرى هي بنت خارجة، ويمكن أن يكون لذلك سبب آخر، وهو أن بنت خارجة كانت حاملًا مقربًا؛ فلذلك لم يوص بغسلها ومشاركتها لـأسماء، فقال لـعائشة عند موته: (قد كنت وهبتك جذاذ خمسين وسقًا من نخلي الذي بالعالية، فلو كنت حزتيه لملكتيه، وأما اليوم فإنما هو مال وارث، وإنما هما أخواك وأختاك، قالت: أما أخواي فـعبد الرحمن ومحمد، وأما أختاي فهذه أسماء، فمن الثانية؟ قال: أُرَى ذا بطن بنت خارجة أنثى)، فأراه الله ببصيرته النافذة وفراسته أن حمل بنت خارجة أنثى، فكانت أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وهي التي تزوجها طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وأعطاها صداقًا لم يعرف الصحابة مثله؛ ولذلك قال البدوي في نظم الأنساب:
بنحلة عن القياس خارجة خص السخي بنت بنت خارجة
وهي حظية وبنت أخرى بنت اللذين بُشِّرا بالأخرى
فوائد حديث أبي سعيد رضي الله عنه
وهذا الحديث يؤخذ منه عدد من الفوائد، منها:
جواز التعمية في الكلام لمصلحة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن عبدًا) بالتنكير، وقد جاء نظير ذلك في القرآن في مواضع، فالإبهام في القرآن والسنة لا يأتي إلا لحكمة؛ لأن الإبهام ليس عن جهل؛ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى[القصص:20]، لو شاء الله لسماه، ولكن من حكمته أن يبهم، وهكذا في كل موضع جاء فيه الإبهام في الكتاب أو في السنة، فذلك لحكمة.
وكذلك أن هذا النوع من الأمور ليس فيه رياء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم أنه اختار الآخرة على الأولى، وأخبر الناس بذلك، فليس في هذا رياء.
وأيضًا فيه فضل أبي بكر الصديق وفهمه على سائر الصحابة رضوان الله عليهم، وفيه منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه كذلك شكر من أحسن إليك، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فكل من أحسن إليك ينبغي أن تشكر له فضله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم شكر لـأبي بكر فضله على الملأ، وفيه أيضًا أن المدح المقتصد إذا كان في الوجه فليس داخلًا في النهي، فقد جاء النهي عن المدح في الوجه، (مدح الإنسان في وجهه)، وجاء: (إذا أتاكم المداحون فاحثوا في وجوههم التراب)، لكن المقصود بذلك: المدح الذي فيه مبالغة، وليس المدح المقتصد، وهنا كان مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر مقتصدًا، ولم يكن فيه تجاوز، وفيه كذلك مشروعية التعزية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك للناس عمومًا على وجه التعزية، وأخذ منه بعض أهل العلم جواز النعي العام، أن يقف الإنسان في حلقة، فيقول: استغفروا لأخيكم فلان، أو يعلم الناس بموت فلان إذا كان ذلك لمصلحة، كما إذا كان عليه دين، أو يترتب على العلم بموته مصالح، وقد كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يعلن موت الزبير في الموسم؛ لأن الزبير كانت عليه ديون كثيرة للناس، وقد أوصى عبد الله بقضائها، وقال: (إذا ضاق عليك شيء منها، فاستعن بمولاي)، فكان عبد الله إذا جاءه أصحاب الدين، يقول: (يا مولى الزبير)، فييسر الله له قضاء ديونهم، وأخَّر قسمة تركة الزبير ثلاث سنين، في كل عام يعلن في الموقف بعرفة: (من له دين على الزبير فليأت)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هنا على المنبر أعلن ما يفهم منه موته، وقد أنزل الله ذلك في كتابه، فقد أنزل الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:1-3]، وقد سأل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الصحابة عن تفسير هذه السورة، وكان كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن أهل بدر يعجبون من أن عمر يأتي بـابن عباس- وهو طفل صغير- فيجعله معهم في منزلتهم ومكانهم، ويستشيره فيما يستشيرهم فيه من أمر الأمة، فلما سألهم عن هذه السورة ما معناها لم يعرفوه، فسأل ابن عباس، فعرفها، قال هو: نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا الذي جعلني أقدمه، وكان عمر يسميه "فتى الكهول".
كذلك في الحديث إثبات الخلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي المنزلة العالية.
وفيه أيضًا الإشارة إلى خلافة أبي بكر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص بالخلافة لأحد، ولكنه قال لـعائشة: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، ولم يعلن ذلك للناس، وقد أشار إلى خلافة أبي بكر في عدد من النصوص، منها: تعيينه للإمامة، قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، متى يقوم مقامك لا يسمع الناس من البكاء)، و(أسيف)؛ أي: رقيق، فقال: (مروا أبا بكر، فليصل بالناس، إنكن صواحب يوسف)، وكذلك هنا في هذا الحديث أمر بسد الأبواب جميعًا إلا باب أبي بكر، وكل ذلك يشير إلى الخلافة، وكذلك في حديث جابر: (أن امرأة وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أن تأتيه فيعطيها مالًا، فقالت: أرأيت إذا أتيت، فلم أجدك؟ فقال: ائتي أبا بكر)، وهذا الحديث أيضًا يدل على أن أبا بكر هو الذي سيتولى الخلافة بعده، لكن ليس شيء من ذلك صريحًا، بل كله كان إشارات، وليست وصية، ولا أمرًا للصحابة بالاستخلاف، وقد كانت بيعة أبي بكر فلتة، كما قال عمر رضي الله عنه؛ أي: حصلت فجأة دون تخطيط، لكنها كانت اختيار الله للمؤمنين، فوفق الله هذه الأمة لاختيار خيرها، فاختاروه وبايعوه، فقادهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقودهم، والذين لم يبايعوه في البداية بايعوه في النهاية إلا سعد بن عبادة، فقد بايعه علي، وإن كان في البداية تأخر في البيعة، ولكنه جاء وبايعه أمام الملأ في المسجد كما في الصحيح، بايعه أمام الناس، وبين أنه ما تأخر عليه حسدًا، ولا أنه ينفسه الخلافة، وإنما كان مشغولًا بأمر آخر من تمريض فاطمة رضي الله عنها حتى توفاها الله.
وفي الحديث ما عقد له البخاري الباب، وهو جواز الارتفاق بفتح الخوخة في جدار المسجد، إذا كان ذلك لا يضر بالجدار، فإذا كان التكسير في الجدار يؤثر عليه أو يضر بالمصلين فإنه لا يفعل، وأيضًا أن الأمر في هذا إلى الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسد تلك الأبواب الأخرى إلا باب أبي بكر، فدل هذا على أنه لا بد من أن يكون ذلك بإذن ولي الأمر الذي يعنيه ذلك.
ثم قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبًا رأسه، أو عاصبٌ رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذًا من الناس خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر)، هذا الحديث هو نفس المعنى في الحديث الأول، إلا أن الحديث الأول ليس فيه التصريح بالخوخة التي عقد لها البخاري الباب، وفي هذا الحديث التصريح بذلك، وقد زاد هذا الحديث فوائد، منها: أن ذلك كان في مرض موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن الإمام قد يخطب، وهو شاك؛ أي: مريض، فرسول الله صلى الله عليه وسلم خطب على المنبر، وهو عاصبٌ رأسه، فـ(عاصب رأسه) هنا: خبر مبتدأ محذوف، إذا رفعت، وإذا نصبت، قلت: (عاصبًا رأسه)، تكون حالًا، (بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله)، قعد على المنبر، ليس معنى هذا أنه خطب، وهو جالس كما توهمه بعض الفقهاء، فقد نص أهل الحديث على أن أول من خطب، وهو جالس معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس قبل الخطبة على المنبر، ثم يقوم ثم يجلس بين الخطبين، ثم يقوم، وكذلك خلفاؤه الراشدون، ولم يخطب أحد منهم جالسًا قبل معاوية رضي الله عنه، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وهذا في بداية خطبته، ثم قال: (إنه ليس من الناس أحد أمن علي)؛ أي: قال في أثناء الخطبة، وقد سبق في حديث أبي سعيد زيادة، وهي (إن الله خير عبدًا)، فلم يذكرها ابن عباس هنا، (إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله)، وجاء هنا التصريح (في نفسه) بدل (في صحبته) التي سبقت في حديث أبي سعيد، وذلك شرح لما سبق، (في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة) فعرفه، ورفع في نسبه، ذكر اسم أبيه لئلا يقع اللبس في هذا، (ولو كنت متخذًا خليلًا من الناس، لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن خلة الإسلام أفضل)، هنا جاء في هذا اللفظ (ولكن خلة الإسلام أفضل)، وقد استشكل ذلك كثير من الشراح، فقالوا: قد نفى الخلة، وما هي إلا خلة الإسلام، فكيف يثبتها مرة أخرى؟ والجواب عن ذلك: أن المقصود بالخلة الثانية: هي الصحبة، فلا يقصد بها الخلة بمعنى تخلل القلب تمامًا، وليست أفضل من الخلة بالمعنى الأول، ولكنها أفضل لـأبي بكر مما قدم، فهي أفضل في مقابل ما قدمه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، (سدوا عني كل خوخة)، ظاهر هذا الحديث أن في ذلك أمرًا بالسد مباشرةً دون تأخر؛ لأنه قال: عني، وهذا يدل على الفورية في الأمر، والحديث الأول لا يدل على الفورية؛ لأنه يدل على الوصية، ولم يرد أنهم سدوا ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما سدوه بعد موته، وقد كانت دار العباس قريبة من المسجد، وكان لها ميزاب يصب في داخل المسجد، فرآه عمر يصب في داخل المسجد، فانتزعه بيده، كان عمر طويلًا، فقال العباس: (والله ما وضعه في هذا الموضع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده)، فبكى عمر، وجلس إلى العباس، وحلف أن يركب عليه حتى يعيد الميزاب إلى مكانه، العباس كبير ضخم، ولكن عمر حلف له أن يركب على كتفيه حتى يعيد الميزاب إلى مكانه.
قال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله؟ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر، لا تبكِ، إن أمنَّ الناسِ عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)، فهذا الحديث حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، وذلك بعد أن أعلمه الله سبحانه وتعالى بدنو أجله، وانتقاله من هذه الحياة الدنيا، فخطب الناس وهو عاصب رأسه، وقد كان مرضه الصداع، فقال: (إن الله خير عبدًا)؛ أي: قال في أثناء خطبته: (إن الله خير عبدًا)، وهو يلمح إلى نفسه بذلك؛ أي: إن الله خيرني (بين الدنيا)؛ أي: التعمير فيها، (وبين ما عنده)؛ أي: مجاورة الله جل جلاله، (فاختار)؛ أي: اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العبد الملمح عنه هنا، (ما عند الله)، ومعنى هذا: أن حياته في هذه الحياة الدنيا قد انتهت؛ لأنه اختار ما عند الله، ولم يمت نبي قط إلا خير.
(فبكى أبو بكر)، عرف أبو بكر أن العبد المخير هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد اختار ما عند الله، ومعنى ذلك: أنه سينتقل من هذه الحياة الدنيا، (فبكى أبو بكر)، ومعنى ذلك: سالت دمعتاه، و(بكى) تطلق على سيلان الدمع من العين، وعلى الصوت الذي يصدر عند ذلك، ومصدرهما مختلف، فيقال: (بكى بكاءً)؛ أي: بصوت، و(بكى بكًى) بالقصر؛ أي: بدون صوت، والمقصود هنا بالبكاء: الدمع فقط، وربما كان معه النشيج والحنين، كما كان الصحابة يفعلون إذا وعظهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمع لهم حنين، لكن لا يقصد بذلك رفع الصوت بالبكاء، فليس ذلك من الأدب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، (فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقلت)؛ أي: قال أبو سعيد الخدري (في نفسي)؛ أي: لم ينطق بذلك بلسانه، ولكنه فكر فيه، (ما يبكي هذا الشيخ)؛ أي: ما الذي جعل هذا الشيخ يبكي؟! (إن يكن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)، فلم يفهم أن هذا يختص بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك تعجب من بكاء أبي بكر، (فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبدَ)، بعد ذلك فهم أبو سعيد وجه بكاء أبي بكر، ففهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، (العبدَ) هنا منصوبة هي خبر (كان)، أصلحوها في الكتاب، هي خبر (كان)، والضمير الذي قبلها (هو) ضمير فصل، وهو لا يؤثر في إعراب الجزأين، (وكان أبو بكر أعلمنا)، أخبر أبو سعيد أن أبا بكر الصديق كان أعلم الصحابة؛ ولذلك فهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توريته، فهو من بينهم الذي فهم هذا الكلام واستوعبه.
وأبو سعيد من علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهائهم، ولم يستوعب ذلك، ولم يفهمه، فدل هذا على فضل أبي بكر في العلم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أعلمهم كما صرحوا بذلك؛ ولذلك قال أبو سعيد هنا: (وكان أبو بكر أعلمنا)، والمقصود بالعلم هنا: الفهم عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، واستيعاب الوحي، (قال: يا أبا بكر)؛ أي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، (لا تبكِ)، فنهاه عن البكاء، والمقصود: النهي عن سببه، وهو الحزن، معناه: لا تحزن.
(إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر)، أراد أن يزيل عنه الحزن، فبين أن أمنَّ الناس عليه؛ أي: أكثرهم عليه منة؛ أي: فضلًا في صحبته؛ أي: بذاته ونفسه، (وماله- أبو بكر)، فليس أحد أكثر إنفاقًا من وقته وماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر، والامتنان هنا معناه: الفضل، فالمنة بمعنى الفضل، ولا يقصد بذلك أنه يمن عليه ما أحسن به إليه، (بل لله المنة ولرسوله)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، فله الفضل في القبول.
ومعنى (في صحبته)؛ أي: بنفسه، فإنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم، ولم يفارقه في حضر ولا سفر، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يغب عن مشهد منها من الغزوات كلها، (وماله)، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يواسي رسول الله صلى الله عليه وسلم بماله، وكان امرأً تاجرًا في الجاهلية فكان غنيًّا، وبعد ذلك في الإسلام خرج من ماله كله في سبيل الله ثلاثًا، من كل ما لديه من تجارة جاء بها يحملها، وخرج منها في سبيل الله.
ثم زاد في تعزيته وتسليته، فقال: (ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر)، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في مقابل إحسان أبي بكر لو كان متخذًا خليلًا؛ أي: لو صح له أن يتخذ خليلًا من أمته، لاتخذ أبا بكر، والخليل معناه: المحبوب الذي خالط حبه القلب، فلم يترك فيه خللًا لغيره، لم يترك فيه مكانًا لغيره، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن منه ذلك، فهو خليل الله جل جلاله، فلا يمكن أن يصرف حبه لغيره، قال: (ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر)، وقد تكرر ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشاهد شتى، فقال: (لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر، ولكن صاحبكم خليل الله)، وفي الحديث الآخر: (ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، فالرسول صلى الله عليه وسلم أعلمه الله أنه وصل إلى مقام الخلة، فكانت محبته جميعًا لله جل جلاله، وهذا المقام يندر أن يصل إليه العبد، وقد وصل إليه إبراهيم عليه السلام، فقال الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا[النساء:125]، ووصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وهما فقط اللذان ثبتت لهما الخلة، ولم تثبت لمن سواهما من الأنبياء، وإبراهيم يقول يوم القيامة- كما في حديث الشفاعة- (وهل كنت إلا خليلًا من وراء وراء)، ويريد بذلك تشريف النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وإبداء منزلته، فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه.
وقول الصحابة: (أوصاني خليلي)، كما كان أبو هريرة يقول، وكما ورد ذلك عن علي، وورد عن أبي ذر المقصود به: أنه هو محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا؛ فهو أحب إليه من جميع الناس، وليس المقصود العكس، فإذًا لا ينافي ذلك أن يقول الصحابي: (أوصاني خليلي)، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذ خليلًا من الناس، لكن الصحابي يحبه هو حبًّا شديدًا، فلا يترك في قلبه مجالًا لحب غيره من الناس.
(ولكن أخوة الإسلام ومودته)، معناه: ولكن له؛ أي: لـأبي بكر مني أخوة الإسلام، فهو أخوه في الإسلام، وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وبين المهاجرين أنفسهم، وبين الأنصار أنفسهم، وآخى بين أبي بكر ونفسه، فـأبو بكر أخوه في الإسلام، وهذا شرف عظيم جدًّا، ومنزلة سامقة عالية، (ومودته)؛ أي: مع الأخوة الإسلامية أيضًا المودة، وهي من: (ود)؛ أي: تمنى ودادًا، وودادة، فالمقصود بذلك: أنه يتمناه دائمًا، ويتمنى لقاءه، ويتمنى صحبته، وهذا معنى الوداد، فمصدره في الأصل: (الوَد)، و(الوِد)، و(الوُد)، وهو مثلث الواو، ومعناه: أن تشتاق نفس الإنسان إلى صاحبه، فيكون كلما غاب عن عينه تذكره، فهذا معنى المودة، ولوازمها منها النفع؛ ولذلك تطلق المودة على النفع، وقد فسر بذلك قول الله تعالى في سورة الشورى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى[الشورى:23]؛ أي: مودة قرباي، هذا التفسير الأول؛ أي: أن تحبوا آل بيتي، وتحسنوا إليهم، وفي تفسير آخر: إِلَّا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ٌ[الشورى:23]؛ أي: أن تودوني وتحبوني؛ لأنني من قرابتكم، ويكون الخطاب حينئذ لقريش، ليس من سواهم من الأمة.
ثم سلاه بأمر ثالث، وهو ما يشير إلى الخلافة من بعده، فقال: (لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)، يجوز في لفظة (باب) هنا الرفع والنصب؛ لأن الكلام موجب؛ فلذلك قال: (لا يبقين في المسجد)؛ أي: لا تتركوا في المسجد، وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يسدوا الأبواب التي تقابل الدور، وأنتم تعلمون أن حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في جانب المسجد الشرقي والشمالي، وبعضها في الغربي، (حجرتان منها في الجانب الغربي)، وكل حجرة لها باب يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فكذلك الذين يحيطون بالمسجد من أصحابه كانت لهم أبواب يدخلون منها، كما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب، ولكنه أوصى أن تسد هذه الأبواب، فلا يترك منها إلا باب أبي بكر الصديق، وكان باب أبي بكر الصديق إلى جهة الغرب، وأبو بكر رضي الله عنه كان له داران بالمدينة: إحداهما داره الأولى التي نزل فيها لما جاء مهاجرًا، وقد اشتراها من رجل من الأنصار، والدار الثانية هي التي بناها لـأسماء بنت عميس حين تزوج بها بعد غزوة مؤتة، وكانت زوجة لـجعفر بن أبي طالب، وهي أم أولاده الثلاثة، فقتل عنها جعفر، فتزوجها أبو بكر الصديق، فولدت له محمدًا، وأوصى أبو بكر إذا مات أن تغسله أسماء بنت عميس، فهي التي تولت غسل أبي بكر، وله زوجة أخرى إذ ذاك، فدل هذا على أن العدل بين الزوجات لا يشمل ما يتعلق بالوصية وتغسيله، وزوجته الأخرى هي بنت خارجة، ويمكن أن يكون لذلك سبب آخر، وهو أن بنت خارجة كانت حاملًا مقربًا؛ فلذلك لم يوص بغسلها ومشاركتها لـأسماء، فقال لـعائشة عند موته: (قد كنت وهبتك جذاذ خمسين وسقًا من نخلي الذي بالعالية، فلو كنت حزتيه لملكتيه، وأما اليوم فإنما هو مال وارث، وإنما هما أخواك وأختاك، قالت: أما أخواي فـعبد الرحمن ومحمد، وأما أختاي فهذه أسماء، فمن الثانية؟ قال: أُرَى ذا بطن بنت خارجة أنثى)، فأراه الله ببصيرته النافذة وفراسته أن حمل بنت خارجة أنثى، فكانت أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وهي التي تزوجها طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وأعطاها صداقًا لم يعرف الصحابة مثله؛ ولذلك قال البدوي في نظم الأنساب:
بنحلة عن القياس خارجة خص السخي بنت بنت خارجة
وهي حظية وبنت أخرى بنت اللذين بُشِّرا بالأخرى
وهذا الحديث يؤخذ منه عدد من الفوائد، منها:
جواز التعمية في الكلام لمصلحة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن عبدًا) بالتنكير، وقد جاء نظير ذلك في القرآن في مواضع، فالإبهام في القرآن والسنة لا يأتي إلا لحكمة؛ لأن الإبهام ليس عن جهل؛ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى[القصص:20]، لو شاء الله لسماه، ولكن من حكمته أن يبهم، وهكذا في كل موضع جاء فيه الإبهام في الكتاب أو في السنة، فذلك لحكمة.
وكذلك أن هذا النوع من الأمور ليس فيه رياء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم أنه اختار الآخرة على الأولى، وأخبر الناس بذلك، فليس في هذا رياء.
وأيضًا فيه فضل أبي بكر الصديق وفهمه على سائر الصحابة رضوان الله عليهم، وفيه منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه كذلك شكر من أحسن إليك، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فكل من أحسن إليك ينبغي أن تشكر له فضله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم شكر لـأبي بكر فضله على الملأ، وفيه أيضًا أن المدح المقتصد إذا كان في الوجه فليس داخلًا في النهي، فقد جاء النهي عن المدح في الوجه، (مدح الإنسان في وجهه)، وجاء: (إذا أتاكم المداحون فاحثوا في وجوههم التراب)، لكن المقصود بذلك: المدح الذي فيه مبالغة، وليس المدح المقتصد، وهنا كان مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر مقتصدًا، ولم يكن فيه تجاوز، وفيه كذلك مشروعية التعزية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك للناس عمومًا على وجه التعزية، وأخذ منه بعض أهل العلم جواز النعي العام، أن يقف الإنسان في حلقة، فيقول: استغفروا لأخيكم فلان، أو يعلم الناس بموت فلان إذا كان ذلك لمصلحة، كما إذا كان عليه دين، أو يترتب على العلم بموته مصالح، وقد كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يعلن موت الزبير في الموسم؛ لأن الزبير كانت عليه ديون كثيرة للناس، وقد أوصى عبد الله بقضائها، وقال: (إذا ضاق عليك شيء منها، فاستعن بمولاي)، فكان عبد الله إذا جاءه أصحاب الدين، يقول: (يا مولى الزبير)، فييسر الله له قضاء ديونهم، وأخَّر قسمة تركة الزبير ثلاث سنين، في كل عام يعلن في الموقف بعرفة: (من له دين على الزبير فليأت)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هنا على المنبر أعلن ما يفهم منه موته، وقد أنزل الله ذلك في كتابه، فقد أنزل الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:1-3]، وقد سأل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الصحابة عن تفسير هذه السورة، وكان كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن أهل بدر يعجبون من أن عمر يأتي بـابن عباس- وهو طفل صغير- فيجعله معهم في منزلتهم ومكانهم، ويستشيره فيما يستشيرهم فيه من أمر الأمة، فلما سألهم عن هذه السورة ما معناها لم يعرفوه، فسأل ابن عباس، فعرفها، قال هو: نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا الذي جعلني أقدمه، وكان عمر يسميه "فتى الكهول".
كذلك في الحديث إثبات الخلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي المنزلة العالية.
وفيه أيضًا الإشارة إلى خلافة أبي بكر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص بالخلافة لأحد، ولكنه قال لـعائشة: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، ولم يعلن ذلك للناس، وقد أشار إلى خلافة أبي بكر في عدد من النصوص، منها: تعيينه للإمامة، قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، متى يقوم مقامك لا يسمع الناس من البكاء)، و(أسيف)؛ أي: رقيق، فقال: (مروا أبا بكر، فليصل بالناس، إنكن صواحب يوسف)، وكذلك هنا في هذا الحديث أمر بسد الأبواب جميعًا إلا باب أبي بكر، وكل ذلك يشير إلى الخلافة، وكذلك في حديث جابر: (أن امرأة وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أن تأتيه فيعطيها مالًا، فقالت: أرأيت إذا أتيت، فلم أجدك؟ فقال: ائتي أبا بكر)، وهذا الحديث أيضًا يدل على أن أبا بكر هو الذي سيتولى الخلافة بعده، لكن ليس شيء من ذلك صريحًا، بل كله كان إشارات، وليست وصية، ولا أمرًا للصحابة بالاستخلاف، وقد كانت بيعة أبي بكر فلتة، كما قال عمر رضي الله عنه؛ أي: حصلت فجأة دون تخطيط، لكنها كانت اختيار الله للمؤمنين، فوفق الله هذه الأمة لاختيار خيرها، فاختاروه وبايعوه، فقادهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقودهم، والذين لم يبايعوه في البداية بايعوه في النهاية إلا سعد بن عبادة، فقد بايعه علي، وإن كان في البداية تأخر في البيعة، ولكنه جاء وبايعه أمام الملأ في المسجد كما في الصحيح، بايعه أمام الناس، وبين أنه ما تأخر عليه حسدًا، ولا أنه ينفسه الخلافة، وإنما كان مشغولًا بأمر آخر من تمريض فاطمة رضي الله عنها حتى توفاها الله.
وفي الحديث ما عقد له البخاري الباب، وهو جواز الارتفاق بفتح الخوخة في جدار المسجد، إذا كان ذلك لا يضر بالجدار، فإذا كان التكسير في الجدار يؤثر عليه أو يضر بالمصلين فإنه لا يفعل، وأيضًا أن الأمر في هذا إلى الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسد تلك الأبواب الأخرى إلا باب أبي بكر، فدل هذا على أنه لا بد من أن يكون ذلك بإذن ولي الأمر الذي يعنيه ذلك.
ثم قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبًا رأسه، أو عاصبٌ رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذًا من الناس خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر)، هذا الحديث هو نفس المعنى في الحديث الأول، إلا أن الحديث الأول ليس فيه التصريح بالخوخة التي عقد لها البخاري الباب، وفي هذا الحديث التصريح بذلك، وقد زاد هذا الحديث فوائد، منها: أن ذلك كان في مرض موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن الإمام قد يخطب، وهو شاك؛ أي: مريض، فرسول الله صلى الله عليه وسلم خطب على المنبر، وهو عاصبٌ رأسه، فـ(عاصب رأسه) هنا: خبر مبتدأ محذوف، إذا رفعت، وإذا نصبت، قلت: (عاصبًا رأسه)، تكون حالًا، (بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله)، قعد على المنبر، ليس معنى هذا أنه خطب، وهو جالس كما توهمه بعض الفقهاء، فقد نص أهل الحديث على أن أول من خطب، وهو جالس معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس قبل الخطبة على المنبر، ثم يقوم ثم يجلس بين الخطبين، ثم يقوم، وكذلك خلفاؤه الراشدون، ولم يخطب أحد منهم جالسًا قبل معاوية رضي الله عنه، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وهذا في بداية خطبته، ثم قال: (إنه ليس من الناس أحد أمن علي)؛ أي: قال في أثناء الخطبة، وقد سبق في حديث أبي سعيد زيادة، وهي (إن الله خير عبدًا)، فلم يذكرها ابن عباس هنا، (إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله)، وجاء هنا التصريح (في نفسه) بدل (في صحبته) التي سبقت في حديث أبي سعيد، وذلك شرح لما سبق، (في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة) فعرفه، ورفع في نسبه، ذكر اسم أبيه لئلا يقع اللبس في هذا، (ولو كنت متخذًا خليلًا من الناس، لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن خلة الإسلام أفضل)، هنا جاء في هذا اللفظ (ولكن خلة الإسلام أفضل)، وقد استشكل ذلك كثير من الشراح، فقالوا: قد نفى الخلة، وما هي إلا خلة الإسلام، فكيف يثبتها مرة أخرى؟ والجواب عن ذلك: أن المقصود بالخلة الثانية: هي الصحبة، فلا يقصد بها الخلة بمعنى تخلل القلب تمامًا، وليست أفضل من الخلة بالمعنى الأول، ولكنها أفضل لـأبي بكر مما قدم، فهي أفضل في مقابل ما قدمه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، (سدوا عني كل خوخة)، ظاهر هذا الحديث أن في ذلك أمرًا بالسد مباشرةً دون تأخر؛ لأنه قال: عني، وهذا يدل على الفورية في الأمر، والحديث الأول لا يدل على الفورية؛ لأنه يدل على الوصية، ولم يرد أنهم سدوا ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما سدوه بعد موته، وقد كانت دار العباس قريبة من المسجد، وكان لها ميزاب يصب في داخل المسجد، فرآه عمر يصب في داخل المسجد، فانتزعه بيده، كان عمر طويلًا، فقال العباس: (والله ما وضعه في هذا الموضع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده)، فبكى عمر، وجلس إلى العباس، وحلف أن يركب عليه حتى يعيد الميزاب إلى مكانه، العباس كبير ضخم، ولكن عمر حلف له أن يركب على كتفيه حتى يعيد الميزاب إلى مكانه.
ثم قال: باب: الأبواب والغلق للكعبة والمساجد:
تجاوز المؤلف رحمه الله تعالى هنا بابين من الصحيح لم يذكرهما اختصارًا؛ لأن أكثر الأحاديث التي فيهما قد سبقت، وأيضًا في هذه الأبواب يحذف بعض الأحاديث؛ لأنه سيوردها بأتم في موضع آخر.
قال: باب: الأبواب والغلق للمساجد.
عقد هذا الباب لاستخدام الأبواب؛ أي: اتخاذها (للمساجد)؛ أي: لمشروعية ذلك، والغلق بالتحريك؛ أي: بفتح الغين واللام هو: ما يسد به الباب، ويمكن أن يقرأ بالإسكان؛ أي: (باب: الأبواب والغلْق للكعبة والمساجد)؛ لأن الحديث فيه ذكر غلق باب الكعبة عليهم حين دخلوها، وعطف (المساجد) على الكعبة للقياس؛ لأن الحديث ليس فيه باب إلا للكعبة، ولم يرد أن للمسجد أبوابًا إلا الممرات، ولم يكن لها غلَقٌ؛ أي: ما يغلقها، ولكن إذا اتخذ للكعبة غلَق، فمن باب أولى أن يتخذ للمساجد الأخرى؛ لأن باب الكعبة مرتفع، وقد يجاب عن ذلك بأن الكعبة لا يحتاج إلى فتحها دائمًا، فمن النادر الدخول فيها الصلاة بداخلها، بينما المساجد يحتاج إلى فتحها في كل الأوقات.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [15] | 3610 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [2] | 3531 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [13] | 3464 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [3] | 3355 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [18] | 3202 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [19] | 3190 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [1] | 3138 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [14] | 3075 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [20] | 2993 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [16] | 2920 استماع |