مقدمات في العلوم الشرعية [44]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمداً وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ما زلنا في مقدمات علم السلوك، وقد ذكرنا ما يتعلق بحده وموضوعه، وذكرنا أن واضعه غير متعين، لكن مع هذا فيكاد أهل التصوف يجمعون على أن الجنيد واضع كثير من هذه القواعد، ولذلك يسمونه شيخ الطائفة، وهذا الاسم يطلقه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وما ذلك إلا لبعض التجارب التربوية التي أنتجها الجنيد، ويروى أن تجربته قد كانت تجربة كبيرة؛ لأنه كان يقسم أصحابه إلى فرقتين، ويربيهما تربية مختلفة، فلذلك اشتهر ذكر الجنيد وفرقتيه، وقد اشتهرت أقواله واعتمد عليها الصوفية في كثير من تحليلاتهم، وبالأخص منهم من كان سنياً، فإن الجنيد كان معتدلاً وكان صاحب سنة، وقد سئل عن الولي أهو الذي يطير في الهواء؟ فقال: الغراب يطير في الهواء وينقل الدبر، فقيل له: أهو الذي يمشى على الماء؟ قال: الحوت يمشي على الماء وتؤكل ميتته، قيل له: أهو الذي يجمع بين المشرق والمغرب في آن واحد؟ قال: إبليس يجمع بين المشرق والمغرب في آن واحد وهو أخس خلق الله، قيل: فما الولي؟ قال: هو من اتفقت أقواله وأفعاله مع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في الظاهر والباطن.

وقد اشتهر الجنيد بقيادة التصوف في المشرق، واشتهر في مقابله سهل التستري في المغرب، وقد كان من نفس الطبقة تقريباً، إلا أن سهلاً كان صاحب حديث وقراءات قد اشتهر بذلك، ولـسهل كذلك كلام مثل كلام الجنيد، فإن سهلاً قال: أصول التصوف ثلاثة: اقتد في الأخلاق والأعمال برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخلص النية لله في كل الأحوال، وكل من الحلال، هذه ثلاثة أصول لديه هي أصول التصوف عنده.

ويمكن أن يقال أيضاً: إن واضع هذا العلم يختلف باختلاف طرائقه فالطرق الصوفية إنما هي مدارس تربوية، شيخ كل طريقة الأول هو واضع تلك الطريقة التربوية، وقد اشتهر في العالم الإسلامي كثير من الطرق تتفاوت اعتدالاً وانحرافاً وغلواً وتسنناً، فمن أشهرها طريقة الشيخ عبد القادر الجيلاني الحنبلي، وقد كان له أسلوب متميز في التربية والتزهيد، وهذا الأسلوب سلكه عدد من الحنابلة، فمن مشاهيرهم القدماء الهروي، وقد اعتنى بهذا المسلك كثيراً ابن الجوزي رحمه الله، فقد كان يعتني بإلقاء الخطب الوعظية المؤثرة، وكان مجلس وعظه يحضره أربعة آلاف، وإذا خطب خطبة الجمعة حضرها أعداد هائلة، قد تتجاوز السبعين ألفاً في بعض الأحيان، وكان يبكي الحاضرين، ولا يأمر بأمر عام إلا تبعه فيه العامة، وكان من شدة تأثيره أنه يمر في طريقه إلى المنبر أو مكان خطبته، بعدد من القراء الفقراء، أي: الصوفية ينتظرونه فليقي عليهم آيات، فإذا جلس قرأ أولئك القراء الآيات التي ألقى عليهم، فيقوم هو فيأتي بتلك الآيات في أثناء خطبته، كل آية في أحسن موضع يختاره لها، فيستشهد بتلك الآيات في المواضع التي يريدها، وكان فعلاً عملاقاً في مجال الخطابة والتأثير.

ولذلك يذكر عنه أن أرقاء الشام أتوه يريدون أن يعظ الناس في العتق ويحببه إليهم، وكان هو إذ ذاك في بيت المقدس ضيفاً، ففي الجمعة الأولى خطب ولم يتعرض للعتق، وفي الثانية كذلك، وفي الثالثة خطب فتعرض للرق، فبكى الناس فحرروا أرقاءهم، وكان أكثر الأرقاء إذ ذاك في الشام من الشراكسة، فهم أكثر أرقاء الشام قديماً، فقالوا: رحمك الله لو عجلت هذا في الخطبة الأولى أو الثانية؟ فقال: إني لم أكن لآمر الناس بأمر لا آتمر به، ولم يكن عندي رقيق إذ ذاك فأنا ضيف، فجمعت مالاً واشتريت رقيقاً واعتقته قبل أن أصعد المنبر، فلما صعدت أمرت الناس بشيء قد فعلته فتأثروا به، والذي يطالع أسلوب الرجل في التربية يجد أن له مدرسة متميزة نبه على بعض الشذرات منها في كتابه صيد الخاطر، ففيه مواضع عجيبة جداً، يظهر فيها أن الحكمة جرت على لسانه في تلك المواضع.

ومن أبلغ ذلك كلمات قالها في صفة بعض السائرين في هذا الطريق، فقد قال رحمه الله:

إن من الصفوة أقواماً منذ استيقظوا ما ناموا، ومنذ ساروا ما وقفوا، كلما قطعوا شوطاً نظروا إلى ما كانوا فيه فتذكروا قصورهم فاستغفروا.

فهذا الكلام مؤثر جداً حتى في طريق الدعوة وفي طريق طلب العلم، ومحفز للهمم، وقد اعتنى هو بصفة خاصة بولده فرباه على هذه الطريقة، وألف له عدداً من الكتب التي تغني عما سواها في تقديره هو، ومنها تفسيره فقد ألفه لولده ليغنيه به عن التعب في قراءة التفاسير المطولة.

كذلك سلك هذه الطريقة ابن القيم رحمه الله، وقبله شيخ الإسلام ابن تيمية، لكنه شغل في كثير من الأمور عن أن تكون له مدرسة تربوية مختصة، أما ابن القيم فقد جهد في هذه التربية، ولكن أكثر تربيته لم تكن بمباشرة الأشخاص وإنما كان بالكتابة، فلذلك خلف ثروة تربوية هائلة في هذا المجال، وكان يعتني عناية عظيمة بالرسائل المختصرة؛ لأنها أبلغ تأثيراً ويقرؤها كل الناس، فمن ذلك قصائده، فقصيدته في وصف الجنة: النونية، وكتابة أيضاً حادي الأرواح في وصف الجنة، وكذلك الرسالة التبوكية على اختصارها، وكذلك رسالة الفروسية وهي شرح كتاب عمر إلى أهل أذربيجان، وهي في التربية البدنية والتربية الذوقية، ونحو ذلك تشهد على تميز الرجل في مجال التربية، ولهذا فإنه رحمه الله أيضاً كان ذا كلمات غاية في التأثير في المجال التربوي، فقد ذكر رحمه الله في المجال التربوي قاعدة عجيبة قال:

قليل من الناس من توجه ثم قليل منهم من أراد، ثم قليل منهم من قصد، ثم قليل منهم من وصل.

فالناس في عمومهم قليل منهم من أراد، أراد طريق الهداية والاستقامة، ثم قليل من المريدين من قصد أي: كان صادقاً في إرادته، ثم قليل من القاصدين من سلك الطريق ووصل.

كذلك من هذه الطرق التي اشتهرت طريقة أبي الحسن الشاذلي، وقد كان أيضاً من الوعاظ المؤثرين، وكان صاحب عبادة وزهد، ومن كلماته المشهورة حين قدم الإسكندرية فاستقبله العلماء، سألهم قال: أتصلون؟ قالوا: سبحان الله أنتركها؟ قال: أفتهلعون وتجزعون؟ قالوا: نعم، قال: فأنتم لا تصلون فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22]، فلو صدقتم في صلاتكم لما هلعتم.

وكذلك فإن طريقته انتشرت بوجود عدد كبير من المشاهير الذين سلكوا هذه الطريق، فمن أولئك أبو عقبة الحضرمي، ومنهم عبد السلام بن مشيش، ومنهم الشيخ زروق، الذي بدأت جدته بتربيته على هذا المنهج الرباني، ثم تربى على يدي الزيتوني بتونس، ثم ذهب إلى مصر فتربى على يدي أبي عقبة الحضرمي، وقد كتب هو عن طريقته التربوية كتاباً سماه الكناش في سيرته الذاتية وهو مطبوع في ليبيا، واشتهر الشيخ أحمد زروق بعنايته بالمجال التربوي المتأثر بالفقه، وذلك كتبه في التصوف فيها النزعة الفقهية واضحة، فمن أهم كتبه كتاب عدة المريد الصادق وشرحه، وكذلك شروحه لحكم ابن عطاء الله الإسكندراني وقد وصل تسعة وثلاثين شرحاً على كتاب واحد، طبع منها واحد، ويوجد عدد منها مخطوطاً.

وكذلك من كتبه المهمة كتاب مختصر النصيحة الكافية لمن خصه الله بالعافية، وكتاب النصيحة ولكنه مفقود، وكتاب مختصر النصيحة مطبوع، كتاب النصيحة أظن أنه مفقود ما رأيته، وكتبه الأخرى مثل كتاب قواعد التصوف، وهذا كتاب مهم جداً من أهم كتب التصوف عموماً، فقد بناه على قواعد عجيبة فافتتحه بالقاعدة الأولى في حد تصوفه قال: مدار التصوف على صدق التوجه إلى الله عز وجل، وختمه بقاعدة عجيبة يقول فيها: قد انعدمت التربية في زماننا إلا لمن أراد الله به الخير، فيا أيها السالك المستقيم! إذا أردت الاستغناء عن الشيخ، فالزم تسعاً هي أصول الحقوق: ثلاثة هي حقوق الله، وثلاثة حقوق النفس، وثلاثة حقوق الغير، فبمراعاتها تستغني عن الشيخ المرشد.

أما حقوق الله: فهي الإيمان به، وبكل ما أخبر به عن نفسه سبحانه وتعالى، ثم الاستسلام لحكمه امتثالاً واجتناباً، ثم الرضا بقدره كلما قدر.

أما حقوق النفس فثلاثة أيضاً: هي أولاً: الإنصاف منها للغير، فتجعلها في قفص الاتهام فتنصف منها للغير دائماً.

الثاني: ترك الانتصاف لها من الغير، ألا تحاول أن تأخذ لها حقوقها من الغير جميعاً.

الثالث: الخوف من غوائلها.

أما حقوق الغير فثلاثة:

أولاً: أداء حقوقهم الشرعية إليهم، محاولة أدائها جميعاً إليهم من غير تطفيف فيها.

الثاني: التعفف عما في أيديهم مطلقاً.

الثالث: عدم إغاظة قلوبهم بما ليس بلازم شرعاً.

وكتابه هذا أي: كتاب قواعد التصوف، قد وضع الله عليه القبول فكثرت شروحه وحتى نظمه عدد من أهل العلم، واشتهر في بلاد كثيرة، وقد طبعه الليبيون طبعة سقيمة، ورأيت له طبعة أخرى قد تكون أحسن من تلك، ولكن مخطوطاته كثيرة جداً متداولة، وقد انتسبت لـزروق نفسه مدرسة مختصة سميت بالطريقة الزروقية.

كذلك من الطرق المشتهرة في ذلك الزمان طريقة ابن عطاء الله الإسكندراني، وقد كان أيضاً فقيهاً فهو تلميذ لـسند بن عنان المالكي، وقد استفاد منه الشيخ أبو بكر العربي القاضي وهو الذي نقل طريقته إلى الأندلس، لكن الواقع أن ابن العربي رحمه الله، وإن كان قد أفاد من بعض المتصوفة وجرت الحكمة على لسانه، وظهر ذلك كثيراً على أسلوبه إلا أنه بقيت لديه شدة تجعل أسلوبه مبايناً لأسلوب أهل التصوف، وهذه الشدة إنما أخذها من ملازمته لمطالعة كتب ابن حزم؛ ولهذا فتجد فيه الغلظة والشدة مع الأئمة، في كتاب القبس أذكر في موضع من المواضع نقل كلام مالك رحمه الله في الموطأ: أنه لا يرى كذا، قال ابن العربي قلت: ثم ماذا إذا كنت أنت لا تراه؟

وفي موضع آخر يقول: وقال الإمام مالك كذا، وأخطأ، وزلات العلماء على قدرهم؛ لأن هذا الخطأ على قدر مالك، وفي كتاب عارضة الأحوذي في شرح صحيح الترمذي ذكر كلاماً للشافعي قال: وقال الشافعي: وهو عند أصحابه سحبان وائل، يتهكم به في العربية، يرى أنه أخطأ في العربية فيتهكم به، فهذا الأسلوب طبعاً مناف لأسلوب المتصوفة.

ثم في زماننا هذا اشتهرت الطرق وكثرت، وأصبحت تنتسب إلى كل من هب ودب، واشتهرت بين الأعاجم خصوصاً بعض الطرق المنتشرة كثيراً مثل النقشبندية والخلوتية، ثم جاءت الطريقة التيجانية التي هي تطوير للتصوف مثلما أن الكاثوليكية تطوير للنصرانية، وهذه سنصل إلى بعض الملحوظات عليها وبعض ما فيها من الخير في نهاية هذا البحث.

الكتاب والسنة وهدي الصحابة والتابعين وأتباعهم

أما مستمد علم السلوك، فهو في الأصل من الكتاب والسنة ومن الهدي النبوي في سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي امتدحه الله في كتابه قال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

ومن هدي أصحابه في طرائقهم في العبادة، فلا شك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يلازمون هدياً واحداً في التعبد، فمنهم من اشتهر بكثرة العبادة، ومنهم من اشتهر بكثرة العلم، ومنهم من اشتهر بكثرة الجهاد، ومنهم من اشتهر بالزهد، والانقطاع عن الدنيا، ومنهم من اشتهر بالغنى والإنفاق، وإذا أردت أن تنظر إلى أحوالهم فخذ مثلاً أنموذجاً من كل نوع، خذ عثمان بن عفان رضي الله عنه فيما يتعلق بالسياسة والمال والإنفاق، وخذ في مقابل هذا المثال أبا ذر رضي الله عنه في الانقطاع عن الدنيا والزهد.. وهكذا.

وكذلك التابعون فقد اشتهر منهم عدد من العباد المنقطعين والزهاد، الذين اشتهرت عباداتهم وكثرت، فمنهم الذين كانوا أصحاب عبادة لا يقوم لها شيء كـإبراهيم النخعي الذي قال لابنته عند موته، وقد كان في غرفة اختفى فيها من الحجاج: أي بنيتي وما يبكيكِ لقد ختمت القرآن في هذه الغرفة أربعة آلاف مرة، وما أقام في تلك الغرفة إلا سنة وأشهراً، ومع هذا ختم فيها القرآن أربعة آلاف مرة.

وكذلك فإن أيوب بن أبي تميمة السختياني وهو شيخ مالك، وصاحب سعيد بن جبير كان يطوف من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، لا يجلس في الطواف إلا قدر جلوسه في ركعتي الطواف.

وكذلك كان عمرو بن عبيد قبل أن يشتغل بعلم الكلام والمعتزلة، كان مشهوراً بالعبادة والنسك، قد كان من النساك المشهود لهم بذلك، وقد كان أيضاً صاحب صدق، فلم يكن يخاف السلطان ولا يرهبه ولا يطمع في شيء مما عنده، ولذلك قدره السلاطين حتى قال فيه المنصور:

كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد

غير عمرو بن عبيد ..

فقد كان صاحب صدق وهمة، كذلك في أتباع التابعين اشتهر عدد من التائبين الذين كان الناس يفدون إليهم للاطلاع على ما هم فيه، مثل: الفضيل بن عياض في الحجاز، وقد كان لصاً في أول حياته، وكان يهجم على الحجاج والمعتمرين في الليل فينهب ما عندهم، وسمع ذات ليلة قارئاً يقرأ من القرآن وهو قد قرر الهجوم عليه ليأخذ ما معه، فسمعه يبكي ويقرأ آية أثرت فيه، فلم يبرح مكانه ذلك حتى أصبح، ثم بدأ توبته واشتهر بالعبادة، ولازم الحرمين الشريفين عبادة ونسكاً، وهكذا من بعدهم.

فهذه الملامح التي ظهرت في الصدر الأول في أيام الصحابة ثم تبلورت أكثر في أيام التابعين وأتباعهم، شكلت بداية هذه المدارس التربوية، ونشهد البون بين النظرات التربوية في كلام عبد الله بن المبارك في أبياته التي أرسل بها إلى الفضيل بن عياض:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

فترى من كلامه مدرستين واضحتين في ذلك العصر، مدرسة جهادية علمية يمثلها ابن المبارك، ومدرسة تعبدية انقطاعية يمثلها الفضيل بن عياض.

قلّما يجمع الإنسان في الأزمنة المتأخرة وبالأخص في زماننا هذا بين أن يصبح مربياً في المجال العلمي وفي المجال العملي، فالمجال التطبيقي له فرسانه، والمجال النظري له فرسانه أيضاً، وقلّ من يجمع بينهما، وبالأخص عندما بدأت التخصصات تتباعد.

ولذلك فقد كان في القرن الماضي أحد العلماء من عندنا اشتهر بالعلم الشرعي، واشتهر أيضاً بالتربية السلوكية هو الشيخ ماء العيون الذي جاهد الفرنسيين وجاهد الأمريكان والأسبان في وقت واحد، فتح ثلاث جبهات، ومن النادر اشتغال المتصوفة بالجهاد، وهو حكم المغرب وجزءاً كبيراً من موريتانيا فترة، هذا الشيخ كانت له مدرستان: إحداهما مثل فرقتي الجنيد، إحداهما لدراسة العلوم، والأخرى للتطبيق والجانب التربوي، وكان طلاب العلم يتنافرون مع طلاب التربية، فتقع بينهما مشاحنة، فإذا جاءه طلاب العلم يشكون من تلاميذ التصوف، يقول: هؤلاء العباد المنقطعون للعبادة والزهد وأنتم لا تستطيعون محاكاتهم ولو صدقتم لسهرتم مثلما يسهرون على قيام الليل وصيام النفل طيلة النهار، وعلى الذكر الدائم لا يفترون عن ذكر الله، وأنتم تلعبون وتمزحون، فينصرف طلاب العلم فإذا أتاه الآخرون أيضاً، قال: ما تعملونه لا يساوي شيئاً من أجر ما هم فيه، يحاول الصلح بين الجانبين بهذا.

فلذلك ربما يحتاج الإنسان إلى أكثر من مرب، بل الهدي الأول الذي كان عليه سلف الأمة، أن الشخص الواحد يكون كلما ازداد عدد أشياخه ازدادت استفادته، فالإمام مالك روى عن تسعمائة شيخ، والإمام أحمد بن حنبل روى عن ثلاثة آلاف وسبعمائة شيخ تقريباً، والطبراني عندما ألف معجمه الصغير جعل فيه ألف شيخ كل شيخ يروي عنه حديثاً فأكثر، ألف شيخ من شيوخه هو رتبهم ترتيب المعاجم.

وكذلك الخطيب البغدادي فأشياخه كثر جداً، مع أنه رحمه الله كان يتزيد فيسمي الشيخ الواحد بأسماء متعددة حتى يوهم أنه أشياخ:

أو كالخطيب يوهم استكثاراً

كما قال العراقي في الألفية، فالإنسان يحتاج إلى أن يأخذ من كل هذه، وقد ألمح إلى ذلك بعض المربين في قوله:

فالنحل لما رعت من كل نابتة أبدت لنا الجوهرين الشمع والعسل

فيحتاج الإنسان إلى أن ينوع معارفه ومآخذه، وأيضاً لا شك أن الإنسان صاحب ملل، فيمكن أن يمل السماع من شخص يمكن أن يمل مجالسته، يمكن أن يجد فيه خلقاً لا يلائمه في بعض الأحيان، أو تصرفاً لا يلائمه، فيستريح منه بشخص آخر يجد فيه ما يسد ذلك الفراغ وهكذا.

الأغلب في الأصول المتأخرة بعد الصدر الأول من بعد القرن الرابع: وجود الشهرة في مجال من هذه المجالات دون غيره، إذا اشتهر الإنسان بالحديث حتى لو كان فقيهاً أو لو كان مربياً في مجال السلوك، طغت صفته كمحدث على صفتيه الأخريين، وكذلك بالعكس إذا كان فقيهاً فطغت عليها هذه الصفة تحجب جوانبه الأخرى، هذا في الأعم الأغلب، ومع هذا فقد يستفيد بعض الناس من بعض في هذه التخصصات.

فمثلاً: البيضاوي لما ألف كتابه في التفسير حمله من شقة بعيدة ليهديه إلى أحد الملوك في أرض الروم في بلاد تركيا الآن، فنزل على شيخ من أهل التصوف، فبات عنده فسأله عن سبب سفره، فقال: ألفت كتاباً في التفسير لا يوجد مثله، وأنا أحمله لأهديه إلى هذا الملك لعله يثيبني عليه بما يعينني على واجباتي، فابتسم الشيخ، فلما كان في الصباح سأله ماذا قلت في تفسير قول الله تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، قال: قلت: تقديم المعمول يفيد الاختصاص فلا نستعين إلا بك، فابتسم الشيخ ثانية، ففهم البيضاوي أنه يعنيه، فقطع رحلته وقرر الرجوع إلى أهله، فعلم الملك بذلك، فأرسل إليه مكافأة عجيبة أضعاف ما كان يتوقعه.

بالنسبة للمراحل التي يمر بها السالك تتفاوت عذوبتها وملاءمتها للطبع، وملاءمتها للفطرة لاختلاف درجاتها، فلا شك أن أول لحظة يهتدي فيها الإنسان إلى منهج الله، ويتضح بين عينيه ستبقى ذات تأثير بالغ فيه، وبالأخص إذا كان مرتمياً في أحضان الضلالة، ولذلك أعرف رجلاً من الناس كان عامياً، ومع ذلك هو يحفظ القرآن، فكان في مجموعة من الناس يتعلقون بامرأة من أهل الصلاح والورع، ولكنهم غلوا فيها فأصبحوا يدعونها من دون الله، نسأل الله السلامة والعافية، وهم عوام، وهذا الرجل كان يحفظ القرآن، فخرج ذات يوم في طلب بعير له، فكان على أثره وهو يقرأ القرآن، ويقطع القرآن بالنداء لهذه المرأة، فبينما هو كذلك إذ قرأ سورة النساء، فوصل إلى قول الله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء:117-118]، فلما قرأ هذه الآية خر مغشياً عليه، ومكث أسبوعاً كاملاً ما استطاع الحركة من ذلك المكان، من شدة الحمى والصداع، فأصيب بردة فعل كبيرة جداً، فأصبح مكفراً للمجتمع الذي كان فيه، وهو إلى الآن على هذا الحال.

فلا شك أن لحظات بداية الطريق أو بدايات الإنسان في التوبة أو في الدعوة أو الالتزام عموماً الحماس الذي يجده فيها يسهل عليه كثيراً من الأمور التي ربما انشغل عنها، إذا تعدى ذلك الطور، فالإنسان في بداية الدعوة سيحاول أن يكون ورده من قيام الليل كبيراً، ومن صيام النفل، ومن قراءة القرآن، ومن قراءة الكتب، فيمكن أن يقرأ في الشهر عدداً كبيراً من الكتب، لكن إذا راجعتم أنفسكم بعد تعدي تلك المرحلة ستجدون عدد الكتب انتقص، بل ربما نقص قيام الليل وصيام النفل وحتى ختم القرآن؛ لأن الحماس الذي كان موجوداً في البداية، وعندما كانت أولويتك هي تكوين نفسك وتربيتها، كان ذلك الوقت خالصاً لك من دون المؤمنين، والآن أصبحت مشروكاً في وقتك وفي جهدك، ولم تعد الأولوية في تكوين شخصك؛ بل أصبحت الأولوية في تكون آخرين، فلذلك يتمنى بعضهم الرجوع إلى ذلك الوقت، والواقع أن لدينا مربعاً تربوياً، هو الفاصل بين الضلالة وبداية الهداية، وهذا الذي أشار إليه الغزالي في كتابة بدايات الهدايات.

هذا المربع يجد فيه الإنسان لذة العبودية لله في الواقع؛ لأن أولويته الحقيقية في ذلك الوقت هي أن يتقن هو العبادة، ولا يبالي في الآخرين في تلك المرحلة، فإذا تجاوز هذه المرحلة تذكر ما عليه من الحقوق للآخرين، فشغلته عن نفسه، إلى حد ما، وهذا نظيره أيضاً لدى المجّانين، فأصحاب المجون أيضاً لديهم مربعات يتمنون الرجوع إليها، كما قال أبو الطيب المتنبي:

وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي

فإذاً: المستمد الأول لعلم السلوك والتصوف هو الكتاب والسنة، وهدي الصحابة والتابعين وأتباعهم.

رهبانية الأمم السابقة وبعض الرياضات الروحية

ومع هذا فلا يستبعد أن يكون من مستمده أيضاً بعض الرهبانية التي كانت في الأمم السابقة، وبعض الرياضات الروحية التي برز فيها السابقون، وبالأخص من الهنود، فإن لتلك الأمم حضارات ولها مؤثرات كثيرة تؤثر على الأرواح، وإذا كان المقصد الأصلي في السلوك تقويم الروح فإن مؤثرات الروح قد تتخذ عقاقير، فتستعمل كما يستعمل الناس الكيف وأنواع الإدمانات المختلفة، كذلك ربما استفادوا من بعض الأمور المؤثرة روحياً، كالغناء والأصوات المطربة ونحو ذلك، فهذه وإن كانت طبائع الناس فيها متباينة، بعضهم إذا سمع صوتاً أطربه، وبعضهم إذا سمعه أغضبه، وهو نفس الصوت؛ لاختلاف حال المزاج، لكن مع ذلك يبقى التأثير موجوداً، فأصوات الحمام في تغريده لا شك أنها لها تأثير روحي، لكن الناس يتفاوتون في ذلك، ولهذا قال الحكيم:

شجا قلب الخلي فقال غنى وبرح بالشجي فقال ناحا

فمن كان خلياً فيقول: هذا يغني؛ لأنه هو لا يحس بألم، ومن كان شجياً محزوناً فيقول: ناح.

ولذلك يقول أبو فراس الحمداني:

أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا هل تشعرين بحالي

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي

فيضحك مأسور وتبكي طليقة ويسكت محزون ويندب سالي

ويقول الآخر:

ألم تسمعي أي دعد في رونق الضحى بكاء حمامات لهن هدير

تجاوبن في عيدانة مرجحنة من السدر رواها المصيف غدير

فهيجن لي أشواق جمل وإنما يهيج هوى جمل علي يسير

وهذه الأبيات تقرأ بالراء وباللام، تقرأ أيضاً:

ألم تسمعي أي دعد في رونق الضحى بكاء حمامات لهن هديل

تجاوبن في عيدانة مرجحنةٍ من السدر رواها المصيف مسيل

فهيجن لي أشواق جمل وإنما يهيج هوى جمل علي قليل

ونحو هذا.

عمل أهل الكتاب وما روي عن الأنبياء السابقين

أما استمداد بعضه من عمل أهل الكتاب، ومما روي عن الأنبياء السابقين، فإن بعض السلف قد كان سبباً في ذلك، فالذين اشتغلوا بجمع آثار الزهد وأحاديثه لم يخلوها من زهد بعض أهل الكتاب وبعض الأنبياء السابقين، فالإمام أحمد رحمه الله لما ألف كتاب الزهد أورد فيه كثيراً من الآثار، والأحاديث المروية عن بعض أنبياء بني إسرائيل، وعقد لها أبواباً مثل: باب زهد عيسى بن مريم.. إلى آخره.

وكذلك هناد بن السري وابن المبارك وغيرهما، وكذلك الذين تكلموا في الرقائق كـابن أبي الدنيا لم تخل كتبه أيضاً من قصص الأنبياء السابقين، بل إن ابن قدامة رحمه الله عندما ألف كتاب التوابين عقد فيه أبواباً لتوبات الأنبياء، باب توبة نوح، باب توبة أيوب، باب توبة إدريس.. إلى آخره، وهذه كلها من الأحاديث السابقين التي هي من جنس الرقائق تؤثر في القلوب، وإن كان كثير منها قد لا يتحقق من صحته وتفصيلاته، لكن لا ينبني عليها حكم، إنما هي مواعظ تقبلها العقول، وهذا هو محل البحث المشهور لدى المحدثين والأصوليين في العمل بالضعيف، والمقصود بالعمل هنا الأخذ به عموماً والتحديث به، فإن كان في جنس الرقائق تساهلوا فيه، وإن كان فيما يتعلق بالأحكام والعقائد تشددوا فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصدقوا بني إسرائيل ولا تكذبوهم: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46] ).

الرؤى والأحلام

كذلك من مستمد هذا العلم المحتمل: الرؤى والأحلام، فكثيراً ما يعتمد عليها، وبالأخص لدى المتأخرين، فقد أصبحت مما يحلو لهم، ويعتمدون عليه كثيراً، ولا يمكن أن نقطع ذلك أيضاً عن عمل بعض السلف، فإن كثيراً منهم عندما ألفوا كتبهم أدرجوا فيها أبواباً للمرائي والأحلام المتعلقة بالرقائق والمواعظ، وكذلك في تراجم الأشخاص عندما ترجموا لهم أوردوا كثيراً من الرؤى والأحلام فيها.

وقد ألف ابن أبي الدنيا كتاباً مختصاً في المرائي، وألف الأئمة أبواباً في كتبهم للرؤى والأحلام، وأوردوا فيها عدداً كبيراً من هذا، وإن كان السابقون لم يكونوا يعتمدون عليها في العمل إلا نادراً، كقصة عمل أبي بكر رضي الله عنه برؤيا الرجل الذي رأى ثابت بن قيس بن شماس وأخبره عن درعه وعن الدين الذي عليه، وعن الأعبد الذين كان أعتقهم إلى آخره، فتلك الرؤيا أعملها الصحابة؛ لأنها أصبحت كالعيان؛ لأنه أراه مكان الدرع وأنها تحت برمة في طرف الجيش، وأن الرجل يجلس على البرمة، فوجد الأمر كما وصف، لكن مع هذا لا شك أن هذا الباب دخله غلو كبير، وبالأخص حين ترجع إلى كتب المتأخرين كـالسيوطي وغيره، فيعتمدون في إثبات كثير من الأمور على مجرد بعض هذه الرؤى والأحلام، هذا مستمد هذا العلم في الجملة.

أما مستمد علم السلوك، فهو في الأصل من الكتاب والسنة ومن الهدي النبوي في سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي امتدحه الله في كتابه قال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

ومن هدي أصحابه في طرائقهم في العبادة، فلا شك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يلازمون هدياً واحداً في التعبد، فمنهم من اشتهر بكثرة العبادة، ومنهم من اشتهر بكثرة العلم، ومنهم من اشتهر بكثرة الجهاد، ومنهم من اشتهر بالزهد، والانقطاع عن الدنيا، ومنهم من اشتهر بالغنى والإنفاق، وإذا أردت أن تنظر إلى أحوالهم فخذ مثلاً أنموذجاً من كل نوع، خذ عثمان بن عفان رضي الله عنه فيما يتعلق بالسياسة والمال والإنفاق، وخذ في مقابل هذا المثال أبا ذر رضي الله عنه في الانقطاع عن الدنيا والزهد.. وهكذا.

وكذلك التابعون فقد اشتهر منهم عدد من العباد المنقطعين والزهاد، الذين اشتهرت عباداتهم وكثرت، فمنهم الذين كانوا أصحاب عبادة لا يقوم لها شيء كـإبراهيم النخعي الذي قال لابنته عند موته، وقد كان في غرفة اختفى فيها من الحجاج: أي بنيتي وما يبكيكِ لقد ختمت القرآن في هذه الغرفة أربعة آلاف مرة، وما أقام في تلك الغرفة إلا سنة وأشهراً، ومع هذا ختم فيها القرآن أربعة آلاف مرة.

وكذلك فإن أيوب بن أبي تميمة السختياني وهو شيخ مالك، وصاحب سعيد بن جبير كان يطوف من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، لا يجلس في الطواف إلا قدر جلوسه في ركعتي الطواف.

وكذلك كان عمرو بن عبيد قبل أن يشتغل بعلم الكلام والمعتزلة، كان مشهوراً بالعبادة والنسك، قد كان من النساك المشهود لهم بذلك، وقد كان أيضاً صاحب صدق، فلم يكن يخاف السلطان ولا يرهبه ولا يطمع في شيء مما عنده، ولذلك قدره السلاطين حتى قال فيه المنصور:

كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد

غير عمرو بن عبيد ..

فقد كان صاحب صدق وهمة، كذلك في أتباع التابعين اشتهر عدد من التائبين الذين كان الناس يفدون إليهم للاطلاع على ما هم فيه، مثل: الفضيل بن عياض في الحجاز، وقد كان لصاً في أول حياته، وكان يهجم على الحجاج والمعتمرين في الليل فينهب ما عندهم، وسمع ذات ليلة قارئاً يقرأ من القرآن وهو قد قرر الهجوم عليه ليأخذ ما معه، فسمعه يبكي ويقرأ آية أثرت فيه، فلم يبرح مكانه ذلك حتى أصبح، ثم بدأ توبته واشتهر بالعبادة، ولازم الحرمين الشريفين عبادة ونسكاً، وهكذا من بعدهم.

فهذه الملامح التي ظهرت في الصدر الأول في أيام الصحابة ثم تبلورت أكثر في أيام التابعين وأتباعهم، شكلت بداية هذه المدارس التربوية، ونشهد البون بين النظرات التربوية في كلام عبد الله بن المبارك في أبياته التي أرسل بها إلى الفضيل بن عياض:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

فترى من كلامه مدرستين واضحتين في ذلك العصر، مدرسة جهادية علمية يمثلها ابن المبارك، ومدرسة تعبدية انقطاعية يمثلها الفضيل بن عياض.

قلّما يجمع الإنسان في الأزمنة المتأخرة وبالأخص في زماننا هذا بين أن يصبح مربياً في المجال العلمي وفي المجال العملي، فالمجال التطبيقي له فرسانه، والمجال النظري له فرسانه أيضاً، وقلّ من يجمع بينهما، وبالأخص عندما بدأت التخصصات تتباعد.

ولذلك فقد كان في القرن الماضي أحد العلماء من عندنا اشتهر بالعلم الشرعي، واشتهر أيضاً بالتربية السلوكية هو الشيخ ماء العيون الذي جاهد الفرنسيين وجاهد الأمريكان والأسبان في وقت واحد، فتح ثلاث جبهات، ومن النادر اشتغال المتصوفة بالجهاد، وهو حكم المغرب وجزءاً كبيراً من موريتانيا فترة، هذا الشيخ كانت له مدرستان: إحداهما مثل فرقتي الجنيد، إحداهما لدراسة العلوم، والأخرى للتطبيق والجانب التربوي، وكان طلاب العلم يتنافرون مع طلاب التربية، فتقع بينهما مشاحنة، فإذا جاءه طلاب العلم يشكون من تلاميذ التصوف، يقول: هؤلاء العباد المنقطعون للعبادة والزهد وأنتم لا تستطيعون محاكاتهم ولو صدقتم لسهرتم مثلما يسهرون على قيام الليل وصيام النفل طيلة النهار، وعلى الذكر الدائم لا يفترون عن ذكر الله، وأنتم تلعبون وتمزحون، فينصرف طلاب العلم فإذا أتاه الآخرون أيضاً، قال: ما تعملونه لا يساوي شيئاً من أجر ما هم فيه، يحاول الصلح بين الجانبين بهذا.

فلذلك ربما يحتاج الإنسان إلى أكثر من مرب، بل الهدي الأول الذي كان عليه سلف الأمة، أن الشخص الواحد يكون كلما ازداد عدد أشياخه ازدادت استفادته، فالإمام مالك روى عن تسعمائة شيخ، والإمام أحمد بن حنبل روى عن ثلاثة آلاف وسبعمائة شيخ تقريباً، والطبراني عندما ألف معجمه الصغير جعل فيه ألف شيخ كل شيخ يروي عنه حديثاً فأكثر، ألف شيخ من شيوخه هو رتبهم ترتيب المعاجم.

وكذلك الخطيب البغدادي فأشياخه كثر جداً، مع أنه رحمه الله كان يتزيد فيسمي الشيخ الواحد بأسماء متعددة حتى يوهم أنه أشياخ:

أو كالخطيب يوهم استكثاراً

كما قال العراقي في الألفية، فالإنسان يحتاج إلى أن يأخذ من كل هذه، وقد ألمح إلى ذلك بعض المربين في قوله:

فالنحل لما رعت من كل نابتة أبدت لنا الجوهرين الشمع والعسل

فيحتاج الإنسان إلى أن ينوع معارفه ومآخذه، وأيضاً لا شك أن الإنسان صاحب ملل، فيمكن أن يمل السماع من شخص يمكن أن يمل مجالسته، يمكن أن يجد فيه خلقاً لا يلائمه في بعض الأحيان، أو تصرفاً لا يلائمه، فيستريح منه بشخص آخر يجد فيه ما يسد ذلك الفراغ وهكذا.

الأغلب في الأصول المتأخرة بعد الصدر الأول من بعد القرن الرابع: وجود الشهرة في مجال من هذه المجالات دون غيره، إذا اشتهر الإنسان بالحديث حتى لو كان فقيهاً أو لو كان مربياً في مجال السلوك، طغت صفته كمحدث على صفتيه الأخريين، وكذلك بالعكس إذا كان فقيهاً فطغت عليها هذه الصفة تحجب جوانبه الأخرى، هذا في الأعم الأغلب، ومع هذا فقد يستفيد بعض الناس من بعض في هذه التخصصات.

فمثلاً: البيضاوي لما ألف كتابه في التفسير حمله من شقة بعيدة ليهديه إلى أحد الملوك في أرض الروم في بلاد تركيا الآن، فنزل على شيخ من أهل التصوف، فبات عنده فسأله عن سبب سفره، فقال: ألفت كتاباً في التفسير لا يوجد مثله، وأنا أحمله لأهديه إلى هذا الملك لعله يثيبني عليه بما يعينني على واجباتي، فابتسم الشيخ، فلما كان في الصباح سأله ماذا قلت في تفسير قول الله تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، قال: قلت: تقديم المعمول يفيد الاختصاص فلا نستعين إلا بك، فابتسم الشيخ ثانية، ففهم البيضاوي أنه يعنيه، فقطع رحلته وقرر الرجوع إلى أهله، فعلم الملك بذلك، فأرسل إليه مكافأة عجيبة أضعاف ما كان يتوقعه.

بالنسبة للمراحل التي يمر بها السالك تتفاوت عذوبتها وملاءمتها للطبع، وملاءمتها للفطرة لاختلاف درجاتها، فلا شك أن أول لحظة يهتدي فيها الإنسان إلى منهج الله، ويتضح بين عينيه ستبقى ذات تأثير بالغ فيه، وبالأخص إذا كان مرتمياً في أحضان الضلالة، ولذلك أعرف رجلاً من الناس كان عامياً، ومع ذلك هو يحفظ القرآن، فكان في مجموعة من الناس يتعلقون بامرأة من أهل الصلاح والورع، ولكنهم غلوا فيها فأصبحوا يدعونها من دون الله، نسأل الله السلامة والعافية، وهم عوام، وهذا الرجل كان يحفظ القرآن، فخرج ذات يوم في طلب بعير له، فكان على أثره وهو يقرأ القرآن، ويقطع القرآن بالنداء لهذه المرأة، فبينما هو كذلك إذ قرأ سورة النساء، فوصل إلى قول الله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء:117-118]، فلما قرأ هذه الآية خر مغشياً عليه، ومكث أسبوعاً كاملاً ما استطاع الحركة من ذلك المكان، من شدة الحمى والصداع، فأصيب بردة فعل كبيرة جداً، فأصبح مكفراً للمجتمع الذي كان فيه، وهو إلى الآن على هذا الحال.

فلا شك أن لحظات بداية الطريق أو بدايات الإنسان في التوبة أو في الدعوة أو الالتزام عموماً الحماس الذي يجده فيها يسهل عليه كثيراً من الأمور التي ربما انشغل عنها، إذا تعدى ذلك الطور، فالإنسان في بداية الدعوة سيحاول أن يكون ورده من قيام الليل كبيراً، ومن صيام النفل، ومن قراءة القرآن، ومن قراءة الكتب، فيمكن أن يقرأ في الشهر عدداً كبيراً من الكتب، لكن إذا راجعتم أنفسكم بعد تعدي تلك المرحلة ستجدون عدد الكتب انتقص، بل ربما نقص قيام الليل وصيام النفل وحتى ختم القرآن؛ لأن الحماس الذي كان موجوداً في البداية، وعندما كانت أولويتك هي تكوين نفسك وتربيتها، كان ذلك الوقت خالصاً لك من دون المؤمنين، والآن أصبحت مشروكاً في وقتك وفي جهدك، ولم تعد الأولوية في تكوين شخصك؛ بل أصبحت الأولوية في تكون آخرين، فلذلك يتمنى بعضهم الرجوع إلى ذلك الوقت، والواقع أن لدينا مربعاً تربوياً، هو الفاصل بين الضلالة وبداية الهداية، وهذا الذي أشار إليه الغزالي في كتابة بدايات الهدايات.

هذا المربع يجد فيه الإنسان لذة العبودية لله في الواقع؛ لأن أولويته الحقيقية في ذلك الوقت هي أن يتقن هو العبادة، ولا يبالي في الآخرين في تلك المرحلة، فإذا تجاوز هذه المرحلة تذكر ما عليه من الحقوق للآخرين، فشغلته عن نفسه، إلى حد ما، وهذا نظيره أيضاً لدى المجّانين، فأصحاب المجون أيضاً لديهم مربعات يتمنون الرجوع إليها، كما قال أبو الطيب المتنبي:

وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي

فإذاً: المستمد الأول لعلم السلوك والتصوف هو الكتاب والسنة، وهدي الصحابة والتابعين وأتباعهم.

ومع هذا فلا يستبعد أن يكون من مستمده أيضاً بعض الرهبانية التي كانت في الأمم السابقة، وبعض الرياضات الروحية التي برز فيها السابقون، وبالأخص من الهنود، فإن لتلك الأمم حضارات ولها مؤثرات كثيرة تؤثر على الأرواح، وإذا كان المقصد الأصلي في السلوك تقويم الروح فإن مؤثرات الروح قد تتخذ عقاقير، فتستعمل كما يستعمل الناس الكيف وأنواع الإدمانات المختلفة، كذلك ربما استفادوا من بعض الأمور المؤثرة روحياً، كالغناء والأصوات المطربة ونحو ذلك، فهذه وإن كانت طبائع الناس فيها متباينة، بعضهم إذا سمع صوتاً أطربه، وبعضهم إذا سمعه أغضبه، وهو نفس الصوت؛ لاختلاف حال المزاج، لكن مع ذلك يبقى التأثير موجوداً، فأصوات الحمام في تغريده لا شك أنها لها تأثير روحي، لكن الناس يتفاوتون في ذلك، ولهذا قال الحكيم:

شجا قلب الخلي فقال غنى وبرح بالشجي فقال ناحا

فمن كان خلياً فيقول: هذا يغني؛ لأنه هو لا يحس بألم، ومن كان شجياً محزوناً فيقول: ناح.

ولذلك يقول أبو فراس الحمداني:

أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا هل تشعرين بحالي

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي

فيضحك مأسور وتبكي طليقة ويسكت محزون ويندب سالي

ويقول الآخر:

ألم تسمعي أي دعد في رونق الضحى بكاء حمامات لهن هدير

تجاوبن في عيدانة مرجحنة من السدر رواها المصيف غدير

فهيجن لي أشواق جمل وإنما يهيج هوى جمل علي يسير

وهذه الأبيات تقرأ بالراء وباللام، تقرأ أيضاً:

ألم تسمعي أي دعد في رونق الضحى بكاء حمامات لهن هديل

تجاوبن في عيدانة مرجحنةٍ من السدر رواها المصيف مسيل

فهيجن لي أشواق جمل وإنما يهيج هوى جمل علي قليل

ونحو هذا.

أما استمداد بعضه من عمل أهل الكتاب، ومما روي عن الأنبياء السابقين، فإن بعض السلف قد كان سبباً في ذلك، فالذين اشتغلوا بجمع آثار الزهد وأحاديثه لم يخلوها من زهد بعض أهل الكتاب وبعض الأنبياء السابقين، فالإمام أحمد رحمه الله لما ألف كتاب الزهد أورد فيه كثيراً من الآثار، والأحاديث المروية عن بعض أنبياء بني إسرائيل، وعقد لها أبواباً مثل: باب زهد عيسى بن مريم.. إلى آخره.

وكذلك هناد بن السري وابن المبارك وغيرهما، وكذلك الذين تكلموا في الرقائق كـابن أبي الدنيا لم تخل كتبه أيضاً من قصص الأنبياء السابقين، بل إن ابن قدامة رحمه الله عندما ألف كتاب التوابين عقد فيه أبواباً لتوبات الأنبياء، باب توبة نوح، باب توبة أيوب، باب توبة إدريس.. إلى آخره، وهذه كلها من الأحاديث السابقين التي هي من جنس الرقائق تؤثر في القلوب، وإن كان كثير منها قد لا يتحقق من صحته وتفصيلاته، لكن لا ينبني عليها حكم، إنما هي مواعظ تقبلها العقول، وهذا هو محل البحث المشهور لدى المحدثين والأصوليين في العمل بالضعيف، والمقصود بالعمل هنا الأخذ به عموماً والتحديث به، فإن كان في جنس الرقائق تساهلوا فيه، وإن كان فيما يتعلق بالأحكام والعقائد تشددوا فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصدقوا بني إسرائيل ولا تكذبوهم: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46] ).

كذلك من مستمد هذا العلم المحتمل: الرؤى والأحلام، فكثيراً ما يعتمد عليها، وبالأخص لدى المتأخرين، فقد أصبحت مما يحلو لهم، ويعتمدون عليه كثيراً، ولا يمكن أن نقطع ذلك أيضاً عن عمل بعض السلف، فإن كثيراً منهم عندما ألفوا كتبهم أدرجوا فيها أبواباً للمرائي والأحلام المتعلقة بالرقائق والمواعظ، وكذلك في تراجم الأشخاص عندما ترجموا لهم أوردوا كثيراً من الرؤى والأحلام فيها.

وقد ألف ابن أبي الدنيا كتاباً مختصاً في المرائي، وألف الأئمة أبواباً في كتبهم للرؤى والأحلام، وأوردوا فيها عدداً كبيراً من هذا، وإن كان السابقون لم يكونوا يعتمدون عليها في العمل إلا نادراً، كقصة عمل أبي بكر رضي الله عنه برؤيا الرجل الذي رأى ثابت بن قيس بن شماس وأخبره عن درعه وعن الدين الذي عليه، وعن الأعبد الذين كان أعتقهم إلى آخره، فتلك الرؤيا أعملها الصحابة؛ لأنها أصبحت كالعيان؛ لأنه أراه مكان الدرع وأنها تحت برمة في طرف الجيش، وأن الرجل يجلس على البرمة، فوجد الأمر كما وصف، لكن مع هذا لا شك أن هذا الباب دخله غلو كبير، وبالأخص حين ترجع إلى كتب المتأخرين كـالسيوطي وغيره، فيعتمدون في إثبات كثير من الأمور على مجرد بعض هذه الرؤى والأحلام، هذا مستمد هذا العلم في الجملة.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمات في العلوم الشرعية [18] 3787 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [39] 3561 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [42] 3511 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [30] 3436 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [16] 3388 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [4] 3368 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [22] 3322 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [13] 3259 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [6] 3250 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [35] 3141 استماع