مقدمات في العلوم الشرعية [29]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وصلنا إلى الكتب الفقهية المقارنة بين المذاهب, وأغلبها تنطلق من مذهب واحد هو مذهب صاحب الكتاب, ثم تقارن به المذاهب الأخرى مع الاستدلال, والغالب أن يبدأ بمذهب صاحب الكتاب والاستدلال له.

كتب الفقه المقارن الغير منطلقة من مذهب

لكن منها ما لا ينطلق من هذه المبدأ، فمثلاً: كتب ابن المنذر لم ينطلق فيها صاحبها من مذهب, حتى إن الناس اختلفوا هل هو مقلد شافعي فعلاً أم هو مستقل, ومن كتبه: الأوسط, والإشراف وغيرهما, وبالنسبة للأوسط فلم تكمل طباعته بعد.

وكذلك: كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لـأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الحفيد، وهو من علماء المالكية, ومن الأطباء المشاهير, والفلاسفة الأندلسيين من أهل قرطبة, وقد ألف هذا الكتاب لأسباب الخلاف؛ ففكرة الكتاب ليست فكرةً فقهيةً، بل هي في الأصل فكرة أصولية، فهو يبين فيها أسباب خلاف الفقه, ولذلك فكل المسائل التي لا خلاف فيها لم يتعرض لها, بل يذكر في الباب رءوس المسائل المختلف فيها فقط, ويذكر أسباب خلاف أهل العلم فيها, ويرجع أسباب الخلاف إلى اختلاف في الدليل أو اختلاف في الدلالة, فكل أسباب الخلاف عنده إما اختلاف في الدلالة أو اختلاف في الدليل.

والاختلاف في الدليل أنواع: إما اختلاف في صحته, وإما اختلاف في أصل الاستدلال به, وإما اختلاف في معارضته وترجيحه, وإما اختلاف في فهمه.

والاختلاف في الدلالة أنواع: إما أن يرجع إلى أن دلالة العام قطعية أم ظنية, أو أن الأمر للوجوب, أو أن الأمر يقتضي الصحة, أو أن النهي يقتضي الفساد, أو النهي للتحريم.. وهكذا.

وكتابه في أصل فكرته يمنع التعصب؛ لأنه يبين مآخذ أهل العلم من المسائل، وإن كان غير مستوعب لجميع أبواب الفقه، فقد سقط منه بعض الأبواب التي لم يذكر فيها شيئاً، كباب الوقف, فهذا الباب لم يعقد له باباً في كتابه ولم يذكره, لكن أغلب الأبواب الفقهية الأخرى مغطاة في الكتاب.

وباب الوقف يمكن ألا يكون فيه اختلافات كبيرة مثل ما يراه هو في اجتهاده، وإلا ففيه بعض المسائل الخلافية, فمثلاً: مسألة الخلاف في وقف المنقولات, فجمهور العلماء على أن المنقول يوقف كالعقار، وفي مسائل كثيرة الخلاف فيها كبير, وأسباب الخلاف واضحة, لكن لعله رأى أن أكثر المسائل فيه محصور بالأدلة أو نحو هذا.

لكن منها ما لا ينطلق من هذه المبدأ، فمثلاً: كتب ابن المنذر لم ينطلق فيها صاحبها من مذهب, حتى إن الناس اختلفوا هل هو مقلد شافعي فعلاً أم هو مستقل, ومن كتبه: الأوسط, والإشراف وغيرهما, وبالنسبة للأوسط فلم تكمل طباعته بعد.

وكذلك: كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لـأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الحفيد، وهو من علماء المالكية, ومن الأطباء المشاهير, والفلاسفة الأندلسيين من أهل قرطبة, وقد ألف هذا الكتاب لأسباب الخلاف؛ ففكرة الكتاب ليست فكرةً فقهيةً، بل هي في الأصل فكرة أصولية، فهو يبين فيها أسباب خلاف الفقه, ولذلك فكل المسائل التي لا خلاف فيها لم يتعرض لها, بل يذكر في الباب رءوس المسائل المختلف فيها فقط, ويذكر أسباب خلاف أهل العلم فيها, ويرجع أسباب الخلاف إلى اختلاف في الدليل أو اختلاف في الدلالة, فكل أسباب الخلاف عنده إما اختلاف في الدلالة أو اختلاف في الدليل.

والاختلاف في الدليل أنواع: إما اختلاف في صحته, وإما اختلاف في أصل الاستدلال به, وإما اختلاف في معارضته وترجيحه, وإما اختلاف في فهمه.

والاختلاف في الدلالة أنواع: إما أن يرجع إلى أن دلالة العام قطعية أم ظنية, أو أن الأمر للوجوب, أو أن الأمر يقتضي الصحة, أو أن النهي يقتضي الفساد, أو النهي للتحريم.. وهكذا.

وكتابه في أصل فكرته يمنع التعصب؛ لأنه يبين مآخذ أهل العلم من المسائل، وإن كان غير مستوعب لجميع أبواب الفقه، فقد سقط منه بعض الأبواب التي لم يذكر فيها شيئاً، كباب الوقف, فهذا الباب لم يعقد له باباً في كتابه ولم يذكره, لكن أغلب الأبواب الفقهية الأخرى مغطاة في الكتاب.

وباب الوقف يمكن ألا يكون فيه اختلافات كبيرة مثل ما يراه هو في اجتهاده، وإلا ففيه بعض المسائل الخلافية, فمثلاً: مسألة الخلاف في وقف المنقولات, فجمهور العلماء على أن المنقول يوقف كالعقار، وفي مسائل كثيرة الخلاف فيها كبير, وأسباب الخلاف واضحة, لكن لعله رأى أن أكثر المسائل فيه محصور بالأدلة أو نحو هذا.

أما الكتب التي تنطلق من المذاهب فمنها في المذهب الحنفي: كتاب الحجة على أهل المدينة لـمحمد بن الحسن, وكذلك: كتاب المبسوط للسرخسي؛ فإنه يقارن فيه المذاهب الأخرى بمذهب الحنفية, ويستدل لها ويناقش.

ثم في المذهب المالكي: كتاب الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي, وكذلك بعض كتبه الأخرى مثل: المعونة في فقه مالك.

ومثل: كتاب أبي عمر بن عبد البر؛ لكن هذا الكتاب يمكن أن نلحقه بالقسم الأول الذي لا ينطلق من مذهب، وإن كان هو في الغالب يرجح مذهب مالك ويذكر أدلته, وكتابه الاستذكار سماه: الاستذكار لمذاهب أئمة الأمصار في جميع الأعصار وأدلتها من الآيات والأخبار والآثار, فأراد بهذا أن يكون جامعاً لمذاهب أئمة الأمصار في جميع الأعصار إلى عصره هو, وأن يجمع معها أدلتها من القرآن والسنة وعمل السلف, وهذا الكتاب في الواقع من كتب الدنيا الأربعة التي كان الأقدمون يقولون: لا يمكن أن يتمكن في الفقه إلا من قرأها, ويذكرون منها كتابين لـابن عبد البر هما: التمهيد, والاستذكار, لكن الواقع أن أحدهما يغني عن الآخر, فمثلاً: التمهيد تغلب الصنعة الحديثية فيه, والاستذكار يغلب الفقه فيه؛ لكنه يحيل في الاستذكار على بعض المسائل التي استقصاصها في التمهيد, والعكس أيضاً فيضيف مسائل جديدةً في الاستذكار لم يذكرها في التمهيد.

الكتاب الثالث من كتب الدنيا الأربعة: كتاب المغني لـابن قدامة , وهو كتاب حافل في الواقع، وقد جعله ابن قدامة رحمه الله شرحاً لمختصر الخرقي كما أشرنا من قبل, لكنه التزم فيه أن يذكر مذاهب مشاهير أهل العلم, وبالأخص الذين يذكر مذاهبهم ابن المنذر؛ لأن جل اعتماده في نقل المذاهب على ابن المنذر.

والكتاب مستوعب لأبواب الفقه ولكثير من دقائق مسائله, ويستحق أن يكون فعلاً من كتب الدنيا الأربعة, لكن يذكرون عليه ثلاث ملحوظات:

الملحوظة الأولى: عدم الدقة في نقل الإجماع, وهذه تجمعه وكتب ابن عبد البر كذلك, فإجماعيات ابن عبد البر وإجماعيات ابن قدامة إنما يقصدون بها إجماع جمهور العلماء فقط، ولا يقصدون بها الإجماع المطلق.

الملحوظة الثانية: عدم الدقة في نقل المذاهب، فكثيراً ما يقول: وذهب الحنفية إلى كذا، أو المالكية إلى كذا، أو الشافعية إلى كذا, ويكون هذا قولاً ضعيفاً في مذهبهم أو ليس قولاً في المذهب أصلاً, وهذ المسألة إلى الآن ما دققت وحققت، ونحن نقترح في موضوع رسائل الدكتوراه أن تكون في تدقيق عزو ابن قدامة, ويمكن أن تتوزع على المذاهب, فيتم تدقيق عزو المسائل للمذهب الحنفي، وتدقيق عزو المسائل للمذهب الشافعي، وتدقيق عزو المسائل للمذهب المالكي, وتكون في رسائل.

الملحوظة الثالثة: عدم الدقة في عزو بعض الأحاديث, فإنه في بعض الأحاديث قد يخطئ في التخريج, فمثلاً: حديث النهي عن بيع الثنيا حديث جابر, قال: أخرجه ابن ماجه، وهو في صحيح مسلم وغيره, فنسبه فقط لـابن ماجه، وإذا كان من مفردات ابن ماجه فإن الغالب في زوائده الضعف, ومن قرأ هذا ظن أن الحديث فيه شيء من الضعف.

وكذلك قد ينسب إلى صحيح البخاري ما هو في مسلم وليس في البخاري, ولا ينقص هذا من قدر الكتاب وجلالته، فهو عموماً من أهم الكتب الأربعة في التاريخ.

ثم الكتاب الرابع: كتاب المجموع للإمام النووي, وقد وضعه شرحاً على كتاب المهذب للشيرازي, وكتاب المهذب للشيرازي من أهم كتب الشافعية, ولم نذكره من قبل اعتماداً على أننا سنذكره هنا, وقد رتبه ترتيباً دقيقاً محكماً، وعبارته مختصرة مهذبة, فهو كما يقال: مهذب كاسمه, والإمام أبو إسحاق الشيرازي من أئمة المتكلمين من الأصوليين, ومن أصحاب الوجوه في مذهب الشافعي كذلك, وكتابه يستحق مثل هذا الشرح، لكن المشكلة أن الإمام النووي رحمه الله مات قبل أن يكمل الشرح, فقد توفي في وسط أبواب الحج, فأكمل منه تسعة أجزاء، وهذه الأجزاء التسعة جمع بها فأوعى، وذكر كثيراً من المسائل, وخرج وفرع واستدل للمذاهب، وهو دقيق في النقل في الغالب, ودقيق في نقل الإجماع, ودقيق في الحديث, فيستحق الكتاب أن يكون من كتب الدنيا الأربعة، لكنه لم يكمل, وقد حاول السبكي أن يكمله فأضاف إلى المجلدات السابقة مجلدين، حتى وصل إلى وسط كتاب الأنكحة؛ لكنه أيضاً توفي قبل الإكمال, وطبعاً ليس السبكي كـالنووي في مجال الحديث, وإن كان من الناحية الفقهية وبالأخص في تدقيق المذهب الشافعي قوي جداً, ومن الأعلام الكبار, لكنه لا يساوي النووي في الأدلة الحديثية والآثار.

وقد تصدى لإكماله أحد المتأخرين وهو محمد نجيب المطيعي، ويبدو أنه ليس أهلاً بما اشتغل به, فقد سلك أسلوباً غريباً غير معهود لأهل العلم؛ فإنه يورد في شرح الكتاب نصوصاً من التوراة والإنجيل، ويذكر نصوص القانون الوضعي المصري، وأشياء كثيرة مثل هذه, وفي بعض الأحيان يأخذ خمس صفحات متوالية لكتاب من الكتب فلا يعزو إليه, ففي كتاب السلم نقل خمس صفحات من تفسير القرطبي بالحرف، ثم لم يعزها إلى القرطبي، فجعلها كأنها من كلامه هو, وقد حاول إكمال الكتاب حتى أضاف على الأجزاء الأحد عشر السابقة تسعة مجلدات فصارت جميعاً عشرين مجلداً.

وكان من اللازم أن يضاف إلى هذه الكتب كذلك المحلى لـابن حزم؛ لكن نظراً لشدته على الأئمة وتعصبه الواضح لم يلحق بها، وإن كان مع ذلك فعلاً على ما وصفه مؤلفه: محلاً بالآثار، ويسوق أدلته بكل وضوح, ولذلك بقي هذا الكتاب على رغم عداوة الناس للمذهب الظاهري، وعلى رغم أن المذهب الظاهري في الأصل لا يمكن أن يغطي الفقه كله؛ لأنه ينبذ القياس أصلاً, وأكثر المسائل الفقهية لا تغطى إلا بالأقيسة, لكن مع هذا لطول باع ابن حزم في الآثار, وفي المذاهب الفقهية وبالأخص في المذهب المالكي الذي هو ضليع فيه فهو تلميذ لـابن عبد البر، وقد قال: ما ألف في شرح الحديث مثل كتاب صاحبنا أبي عمر. يقصد به: التمهيد.

وقد سبق أن بينا بعض الملحوظات عليه, وهذ الملحوظات مع الأسف تأثر بها بعض المالكية من أهل الأندلس الذين تتلمذوا على ابن حزم أيضاً, مع أنهم تتلمذوا على مشايخ المالكية المضادين له, فـأبو بكر بن العربي أخذ لهجة ابن حزم في النقد, ففي شرحه للموطأ المسمى: القبس في شرح موطأ مالك بن أنس -وهو مطبوع الآن- إذا قال مالك: لا أرى ذلك. يقول هو: قلت: ولم؟ قلت: ثم ماذا؟ وإلا لم تره؟

ويقول: قال الشافعي وهو عند أصحابه سحبان وائل، يتندر بلغة الشافعي عندما تكون المسألة لغوية, فيرى هو أن الشافعي أخطأ فيها, ويقول: وقد أخطأ مالك في هذه المسألة, وزلات العلماء على قدرهم, يعني: هذا الخطأ على قدر مالك، وهذه لغة ابن حزم في الواقع, فـابن حزم سليط جداً في لغته على أهل العلم، وبالأخص إذا دخل ميدان الجرح والتعديل في الحديث، فينقد نقداً لاذعاً، وهو الذي ادعى الكذب على عبد الملك بن حبيب, وهو أحد أعلام المالكية الكبار, وأعلام أهل الحديث, فقد نسب إليه الكذب فقال: هذا الحديث لا أدري من أين علته، فإن كانت من عبد الملك بن حبيب فهي ثالثة الأثافي, والأثافي هي: الأحجار التي يوضع عليها الموقد, وأصل: ثالثة الأثافي أنها تقال للجبل الكبير يعني: أنها كذبة كبيرة جداً مثل: ثالثة الأثافي, ويقال: رماه الله بثالثة الأثافي.

كتب شروح آيات وأحاديث الأحكام التي تقارن بين المذاهب الفقهية

ثم من هذه الكتب التي تجمع وتقارن: بعض الكتب المختصة بشروح أحاديث الأحكام, وبعض كتب تفسير المعتنية كذلك بآيات الأحكام, وقد عرجنا على بعض كتب آيات الأحكام مثل: كتاب الجامع لأحكام القرآن لـلقرطبي, وهو من أهم هذه الكتب المقارنة للأدلة والمذاهب, وأحكام القرآن لـابن الفرس, وأحكام القرآن لـأبي بكر بن العربي, وأحكام القرآن للكيا الهراسي, وأحكام القرآن لـلجصاص.

كتب شروح الأحاديث التي تهتم بالمقارنة بين المذاهب الفقهية

ثم من شروح الحديث التي تعتني كذلك بالمقارنة بين المذاهب وذكر أدلتها: فتح الباري للحافظ ابن حجر, وشرح ابن بطال على صحيح البخاري أيضاً, وكذلك شروح أدلة الأحكام، مثل: شروح سنن أبي داود؛ كشرح الخطابي معالم السنن, وتهذيب ابن القيم كذلك, ومثل: شرح ابن العربي على سنن الترمذي المسمى: بعارضة الأحوذي، وإن كان الكتاب إلى الآن ما طبع مع الأسف طبعةً صحيحة, فـابن العربي ابتلي بأن كتبه إلى الآن ما خرج منها كتاب كما تركه المؤلف، مع فائدتها وأهميتها وذيوعها وشيوع ذكرها إلا أن أغلبها في سقط وخرم كثير من تصرف الطابعين, فأحكام القرآن يسقط منه الكثير من المسائل, والعارضة يقول فيها: يؤخذ من هذا الحديث ثمان مسائل: مسألتان عقديتان، وأربع مسائل أصولية, ومسألتان فقهيتان، فإذا رجعت إلى المسائل تجدها خمساً بدل ثمان.. وهكذا.

وكذلك في كتبه الأخرى مثل: كتاب العواصم من القواصم، فهو لم يطبع طبعةً كاملةً إلا الطبعة القديمة التي طبعها عبد الحميد بن باديس, وطبع محب الدين الخطيب منه ما يتعلق بالصحابة فقط، فاختاره منه, وهو الذي شاع الآن باسم العواصم من القواصم، وهو نبذة صغيرة من الكتاب.

كتب المتأخرين في الفقه المقارن

كذلك من كتب المتأخرين في هذا المجال: كتاب الإمام الشوكاني: نيل الأوطار، فقد جمع فيه فأوعى, واعتمد على تفسير القرطبي وعلى فتح الباري، وكتب أبي عمر بن عبد البر وغيرها, ويحاول استيعاب المذاهب، ففي بعض المسائل يذكر ثلاثة عشر مذهباً, وفي كثير منها يستدل لبعض المذاهب التي ينقلها مع عدم التعصب, فـالشوكاني أسلوبه ليس فيه تعصب, إلا أنه قد يشتد في رد بعض الأقوال التي لا يرى لها دليلاً، فيقول: هذا القول مظلم ليس عليه أثارة من علم, فيكون هو مذهباً من المذاهب المعتبرة؛ لكنه لم يعرف دليله، فيقول: هو مظلم ليس عليه أثارة من علم.

وعموماً فكتابه من الكتب التي لا يستغني عنها الدارس في الفقه الذي يريد مقارنة المذاهب ومعرفة أدلتها والترجيح فيها, وقد أخذ منه من جاء بعده عموماً, وكان من المفضل للدارسين في هذا الزمان أن يعتنوا بإخراج الكتاب بصيغة جديدة؛ بأن يحذفوا منه المسائل الضعيفة، والأقوال التي ليس لها مستند, ومذاهب الفرق الأخرى, ولو اقتصر فيه فقط على المقارنة بين المذاهب الأربعة وأدلتها لكان كتاباً ممتازاً في الواقع.

وقد تصدى لذلك بعض القضاة من أهل المملكة, فأحد القضاة اختصر كتاب نيل الأوطار؛ لكن كان اختصاره مخلاً جداً, فالمهم في المسألة -وهو مذاهب أهل العلم فيها- لا يذكرها, فهو يذكر فقط كلمات شرح الحديث, وبعض الأحيان يذكر الكلام في تخريجه، وقد سمى كتابه: اختصار نيل الأوطار, وهذا في الواقع يزيد المسئولية على الباحثين في هذا الزمان أن يعيدوا اختصار الكتاب بصيغة غير هذه.

كذلك كتاب الإمام أبي زرعة ابن الإمام العراقي المسمى: طرح التثريب بشرح التقريب، وهو شرح لكتاب والده: تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد, والشرح بعضه للشيخ نفسه؛ أملاه العراقي على ولده فكتبه ثم كمله الولد, والكتاب وإن كان منطلقاً من أصل المذهب الشافعي، ويذكر فيه كثيراً من مسائل الفقه الشافعي التي لا يذكر أدلتها، لكن مع ذلك ففيه مقارنة للمذاهب, وفيه ذكر لأدلتها.

ثم من كتب المتأخرين في هذا الباب: كتاب فقه السنة للسيد سابق رحمه الله, فهو من الكتب التي تقارن المذاهب مع الاختيار، فهو بمثابة ما يسمى بفقه التلفيق أي: التلفيق بين المذاهب في مسائل, وليس في مسألة واحدة، فالتلفيق أنواع: منه التلفيق في مسألة واحدة؛ بأن يتتبع الإنسان رخص المذاهب فيها حتى يخرجها بصورة مشوهة، كالنكاح بلا ولي وبلا صداق وبلا شهود، فيقول: قلدت في نفي الولي أبا حنيفة، وفي نفي الشهود مالكاً، وفي نفي الصداق الشافعي, فهذا النكاح غير صحيح بالإجماع, وتتبع رخص المذاهب في المسألة الواحدة يخرج الإنسان من ربقة التكليف, وهو اتباع للهوى، وهو محرم, لكن التلفيق في مسائل بأن يختار الإنسان للناس الأسهل -وبالأخص في حال الإفتاء- فهذا مذهب لبعض السلف، وقد أخذ به سفيان بن عيينة, فكان يأخذ بالأسهل في الإفتاء, وكان يقول: ليس الفقه بالتشديد، فالتشديد يحسنه كل أحد، إنما الفقه بالترخص للناس.

وهذا المذهب يأخذ به في زماننا هذا الشيخ يوسف القرضاوي, ويسميه فقه التيسير, فيأخذ بالأسهل من أقوال أهل العلم في المسألة إذا كان الخلاف فيها غير محسوم أي: قابل للاجتهاد، فحتى لو كان المتشدد أقوى دليلاً؛ لكن دليله لا يحسم الخلاف في المسألة فإنه يأخذ للناس بالأخف, وهذا القول يأخذ به كثير من الحنفية، بل قد ذكر بعض الأصوليين من الحنفية: أنه محل اتفاق بين أهل السنة, وما أدري ما يقصد هنا, وهذه قالها ابن أمير شاه في شرحه للمنار في أصول الحنفية.

وكذلك فإن الكمال بن الهمام يذهب إلى هذا المذهب، فيقول في الترجيح في المذهب الحنفي: يختار من أقوال أئمتنا أسهلها؛ لأن الشريعة سمحة، وقد قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78], وإذا كانت كلها يقبلها الاجتهاد وتقبلها النصوص والأدلة فنأخذ للناس بالأسهل فالأسهل.

وعموماً هذه المسألة محل خلاف، لكن مع كونها محل خلاف لا إنكار في مسائل الخلاف الاجتهادية في مثل هذا, وكثير من أهل العلم ومنهم الإمام الغزالي وغيره يرون: أن الإنسان في خاصة نفسه ينبغي أن يأخذ بالعزيمة, ويأخذ للناس بالرخصة، أي: أن يتشدد في جانب نفسه؛ ورعاً وانتقاءً للشبهة، ويأخذ للناس بالرخصة؛ لأنه سيتحمل المسئولية على كل حال في الإفتاء, فإما أن يتحمل الجانب المختص بجانب الله سبحانه وتعالى، فالله غني عن حقوقه, وإما أن يتحمل الغلط في جانب المخلوق, فالمخلوق مفتقر إلى حقوقه، فهذا الفرق: المخلوق محتاج إلى حقوقه, والله غني عن حقوقه, وقد ورد ما يدل على هذا من هدي عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما، فقد قال علي رضي الله عنه: لأن أخطئ في العفو أحب إليَّ من أن أخطئ في العقوبة. فالخطأ في العفو -كعدم إقامة حد- أحب إليه من الخطأ بالعقوبة بالزيادة فيها, وعموماً فإن هذا المذهب اليوم يتصدى له كثير من الناس بالطعن, ويرون أنه مذهب انبهار بالحضارة المعاصرة أو الرضوخ لسياسة الأمر الواقع، وأنه يقتضي نفي التكليف؛ لأن التكليف إلزام ما فيه كلفة، وهذا سيسقط الكلفة، لكن الواقع أنه لا يسقط الكلفة بالكلية, وإنما هو يبين أخف المذاهب في المسألة القابلة لاختلاف وجهات النظر, ولا يأتي فيها بقول جديد للتخفيف, بل كلها أقوال سابقة لأهل العلم وعليها أدلة, و السيد سابق رحمه الله في كتابه هذا أخذ بهذا المنحى بإيعاز من الإمام البنا رحمه الله, وإن كان هو في كثير من الأحيان يختار قولاً مرجوحاً؛ إما من جهة ضعف دليله، أو من جهة أن للقول الآخر أدلة أخرى تعضده غير الدليل الذي يجلبه هو.

وقد وقع رحمه الله كذلك في آخر الكتاب في نفس الخطأ الذي وقع فيه المطيعي؛ ففي الوصية آخر باب منه: الوصية الواجبة أتى فيها بالقانون الوضعي، فمسألة فقط من القانون الوضعي صرفاً ليس فيها شيء في الفقه, فالشرع ليس فيه وصية واجبة, فقد كان وجوب الوصية في صدر الإسلام ثم نسخت، فقد أنزل في سورة البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ [البقرة:180], لكن نسخ ذلك قطعاً بآية التركة.

وهو ما ذكر في هذا الباب إلا القانون المصري: أن من مات أحد أولاده في حياته وترك أولاداً، فإنه يجب عليه أن يوصي لأولاد ولده الميت؛ لأنه لو كان أبوهم حياً لورث من ماله كإخوته, وقد مات وهم يستحقون نصيباً من تركة جدهم، لكن الواقع أن هذه المسألة لم يكن اللازم أن يأتي بها.

وكتاب الألباني الذي تعقبه فيه تعقبه من جهة الجانب الأول؛ لكن الواقع أنه رحمه الله أيضاً لم يستكمل مسائل الكتاب, وهذه ظاهرة أيضاً في كتب الشيخ الألباني رحمه الله في عدم الاستيعاب, فمثلاً: في تخريجه لكتاب السنة لـابن أبي عاصم إذا قرأتم فيه تجدون أنه خرج الجزء الأول فقط، والجزء الثاني ليس فيه تخريج, والمكتوب عليها أنه تخريج الألباني جميعاً، لكن الواقع أنه ما خرجها.

كذلك تخريجه لمشكاة المصابيح, ففي كثير من الأحاديث أهملها لم يخرجها, وكذلك تخريجه لأدلة منار السبيل: إرواء الغليل، وإن كان كتاباً مهماً إلا أنه أسقط كثيراً من الأدلة ولم يخرجها, وبعض الأدلة يخطئ في تخريجها من جهة عدم قراءتها، مثل: أن تكون خطأً مطبعياً أو خطأً في الأصل فيخطئ في التخريج, فمثلاً: الأثر الذي أتى به في الخيار في الطلاق من حديث علي رضي الله عنه: إذا خير الرجل زوجته فلها الخيار ما لم ينكث, هذا المكتوب في منار السبيل، فالشيخ قال: لم أجده, وهذا الأثر عن علي موجود في مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة، لكن الصحيح: لها الخيار ما لم تتكلم, فحرفت في الكتاب وطبعت: ما لم ينكث, فلم يجد الشيخ هذا. فسقطت الميم من الطباعة وتغير اللفظ.

ومثل ذلك: أنه في منار السبيل بعض الأحيان يأتي خطأ في الأسماء, فمثلاً: عن عبيد الله عن عبد الله بن عباس فتكتب: عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس فيقول الشيخ: عبيد الله بن عبد الله بن عباس مجهول لا أعرفه، وهذا صحيح ما في أحد اشتهر بهذا الاسم، لكن الحديث: عن عبيد الله عن عبد الله بن عباس وعبيد الله هو ابن عبد الله بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة, وأحد الأئمة الأعلام, وهو من أشهر الرواة عن ابن عباس، ومن أكثر الناس ملازمةً له، ومن أوثق الناس فيه وأثبتهم, فيقول: الحديث ضعيف، والسبب فقط إبدال لفظة: (ابن) بدل (عن)، فأدى إلى التباس بينهما في الكتابة.

ثم من هذه الكتب التي تجمع وتقارن: بعض الكتب المختصة بشروح أحاديث الأحكام, وبعض كتب تفسير المعتنية كذلك بآيات الأحكام, وقد عرجنا على بعض كتب آيات الأحكام مثل: كتاب الجامع لأحكام القرآن لـلقرطبي, وهو من أهم هذه الكتب المقارنة للأدلة والمذاهب, وأحكام القرآن لـابن الفرس, وأحكام القرآن لـأبي بكر بن العربي, وأحكام القرآن للكيا الهراسي, وأحكام القرآن لـلجصاص.

ثم من شروح الحديث التي تعتني كذلك بالمقارنة بين المذاهب وذكر أدلتها: فتح الباري للحافظ ابن حجر, وشرح ابن بطال على صحيح البخاري أيضاً, وكذلك شروح أدلة الأحكام، مثل: شروح سنن أبي داود؛ كشرح الخطابي معالم السنن, وتهذيب ابن القيم كذلك, ومثل: شرح ابن العربي على سنن الترمذي المسمى: بعارضة الأحوذي، وإن كان الكتاب إلى الآن ما طبع مع الأسف طبعةً صحيحة, فـابن العربي ابتلي بأن كتبه إلى الآن ما خرج منها كتاب كما تركه المؤلف، مع فائدتها وأهميتها وذيوعها وشيوع ذكرها إلا أن أغلبها في سقط وخرم كثير من تصرف الطابعين, فأحكام القرآن يسقط منه الكثير من المسائل, والعارضة يقول فيها: يؤخذ من هذا الحديث ثمان مسائل: مسألتان عقديتان، وأربع مسائل أصولية, ومسألتان فقهيتان، فإذا رجعت إلى المسائل تجدها خمساً بدل ثمان.. وهكذا.

وكذلك في كتبه الأخرى مثل: كتاب العواصم من القواصم، فهو لم يطبع طبعةً كاملةً إلا الطبعة القديمة التي طبعها عبد الحميد بن باديس, وطبع محب الدين الخطيب منه ما يتعلق بالصحابة فقط، فاختاره منه, وهو الذي شاع الآن باسم العواصم من القواصم، وهو نبذة صغيرة من الكتاب.