خطب ومحاضرات
مقدمات في العلوم الشرعية [7]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فبعد أن انتهينا من الكلام على علم القراءات والعلوم الأخرى المرتبطة به وبغيره، نعود إلى إيضاح المبادئ العشرة في علم التفسير مثلاً.
فأولها: حده أي: تعريفه، وتعريف التفسير ينقسم إلى تعريفين: إلى تعريف لقبي وإلى تعريف إضافي، فالتعريف الإضافي هو باعتبار أن التفسير كلمتان تفسير القرآن، فالتفسير في اللغة مصدر (فسر الشيء) إذا شققه وقطعه ومنه تفسير اللحم، وهو مشتق من الفسر وهو الإبانة، والقرآن في اللغة: القراءة، ويطلق كذلك على الجمع أياً كان، فقرأ الشيء بمعنى جمعه، ومنه قول عمرو بن مضاض الجرهمي:
صاح هل سمعت براع رد في الضرع ما قرى في الحلاب
أي: ما جمع فيه.
والتفسير في الاصطلاح هو المعنى اللقبي الذي سنذكره.
والقرآن في الاصطلاح هو كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه، المتعبد بتلاوته، وبعضهم يضيف المروي تواتراً، وهذا القيد لا حاجة إليه في تعريف القرآن لأنه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن هذا القيد موجوداً، فلا يمكن أن يقال عند نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قرآناً حتى تواتر بعد ذلك، فهذا القيد إذاً لا فائدة فيه؛ لأنه وقت نزول جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم به هو قرآن، ولم يتواتر إذ ذاك.
أما تعريف التفسير في الاصطلاح فهو: علم يبحث فيه عن معاني كتاب الله وما يتصل بها، فقولنا: (علم) هذا جنسه، (يبحث فيه) أي: أن هذا تعريف للفن، وليس تعريفاً لما في قلب الإنسان؛ لأن ما في قلب الإنسان يقال: (العلم بمعاني كتاب الله) لو أردت تعريف التفسير كعلم في صدر الإنسان تقول: هو العلم بمعاني كتاب الله، لكن إذا أردت فناً من فنون العلم تعرفه فإنك تقول: علم يبحث فيه عن معاني كتاب الله، والمعاني جمع (معنىً) وهي تشمل معاني الأخبار ومعاني الإنشاءات؛ فمعاني الأخبار مثل القصص عن الماضي وعن المستقبل ينقسم إلى قسمين: قصص عن الماضي، أيام الله وقصص الأنبياء السابقين وقصص عن المستقبل كأشراط الساعة ومشاهد القيامة.
والإنشاءات هي الأحكام، وما يتعلق بذلك يشمل هذا أسباب النزول، وما لا بد منه للمفسر من القراءات، وما يستنبط من الآيات مما ليس من معاني المفردات.
وكذلك ما يتعلق بالإعجاز ونحوه من إعراب الكلمات وتصريفها، فهذا كله مما يتعلق بالتفسير ومن متمماته التي لا بد منها.
أما واضعه فالمقصود به: أول من جعله علماً مستقلاً، ولا يقصد به أول من فسر القرآن؛ لأن من أول من فسر القرآن الله سبحانه وتعالى, فإن بعض القرآن يفسر بعضاً, ثم رسوله صلى الله عليه وسلم فقد أمره الله ببيانه بعد أن بينه له؛ لأن الله هو أول من فسر القرآن, فقد قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:16-19], ففسره له, ثم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المفسر لنا لقول الله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ[النحل:44].
ثم بعد ذلك اشتهر عدد من المفسرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, ومشاهيرهم عشرة من الذين اشتهروا بالتفسير: الخلفاء الأربعة, وعبد الله بن عباس الذي كان يلقب بترجمان القرآن, وعبد الله بن مسعود الذي كان له درساً أسبوعياً في تفسير القرآن كل يوم خميس, وعبد الله بن عمر الذي عاد إليه علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأبي بن كعب الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( وأقرأكم أبي ), وزيد بن ثابت الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ( أفرضكم زيد ), فقد اشتغل بذلك, ومعاذ بن جبل الذي قال فيه: ( وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ), وبعضهم يجعل مكان معاذ بن جبل -لقدم موته فقد توفي في أول الخلافة عمر - عائشة وقد روي عنها شيء من التفسير.
وفي زمان التابعين اشتهر من المدارس التفسيرية ثلاث مدارس:
مدرسة أهل مكة: وكان فيها تلامذة ابن عباس، وأشهرهم مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح وطاوس بن كيسان.
ثم مدرسة أهل المدينة: ومن مشاهير المفسرين فيها زيد بن أسلم، وأبو العالية، ومحمد بن كعب القرظي .
ثم مدرسة أهل العراق: ومن مشاهير المفسرين فيها سعيد بن جبير وزر بن حبيش, وعبيدة السلماني، وعامر بن شراحيل الشعبي، وقتادة بن دعامة السدوسي.
أما في أتباع التابعين فقد كان التفسير إذ ذاك جزءاً من الحديث, فعند بداية جمع الحديث جعل التفسير باباً من أبواب الحديث، ولهذا تجدون كتاب التفسير في صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن وكتاب التفسير, وفي صحيح مسلم آخر كتاب فيه كتاب التفسير, وكذلك في الكتب التي هي من جوامع الحديث فيها كتب للتفسير.
واختلف في أول من أفرد التفسير بالتأليف، فقيل: يزيد بن هارون ولم يصل إلينا تفسيره، وقيل: عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وتفسيره الموجود اليوم فيما يبدو جزء من مصنفه, لكنه أفرد عنه, وقد روي عن عدد من المحدثين أنهم أفردوا التفسير مستقلاً ومنهم الإمام أحمد، قد روي أن تفسيره فيه أربعون ألف حديث, وقد استغرب هذا كثير من المحدثين الذين ترجموا للإمام أحمد، فقالوا: كيف يكون هذا؟ وقد قال أحمد: ثلاثة لا أصل لها يقصد، أن الأحاديث التي فيها قليلة ومنها التفسير.
ومن مشاهير القدماء الذين ألفوا في التفسير: محمد بن يزيد بن ماجه القزويني صاحب السنن, وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي وتفسيره موجود, ثم محمد بن جرير الطبري أبو جعفر, ثم عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، وهؤلاء متعاصرون تقريباً, فابن ماجه توفي سنة مائتين وست وسبعين, والنسائي توفي سنة ثلاثمائة وثلاثة, ومحمد بن جرير الطبري توفي ثلاثمائة وعشر, وعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي توفي ثلاثمائة وسبعة وعشرون, فهم تقريباً في فترة متقاربة, ومن هذه الطبقة كذلك عبد بن حميد قد ألف تفسيراً مستقلاً، والسدي . وقد اشتهر من الضعفاء الذين اشتغلوا بالحديث الصغير، الكبير هو أكبر من هذه الطبقة, قد اشتهر من الضعفاء الذين اشتغلوا في جمع تفاسير السلف أبو صالح، والكلبي، والناس يسمون سلسلتهما سلسلة الكذب، فكلاهما وضاع, وأكثر تفسيرهما مروي عن ابن عباس يروون كثيراً من التفاسير عن ابن عباس، وقد جمعها محمد بن يعقوب الفيروزآبادي في كتابه تنوير المقباس في تفسير ابن عباس، ويسمى المقباس والمقباس هو نور في ذاته, ومع ذلك فكثير مما فيه من الموضوعات والضعاف.
وعموماً أشهر تفاسير هؤلاء وأنفعها كتاب ابن جرير الطبري، ولذلك قال فيه ابن تيمية وغيره: المفسرين عيال على محمد بن جرير.
سؤال هنا: لماذا تنقل أقوال هؤلاء في التفسير مع أنهم ضعفاء وكذلك ما رووه؟ فمثلاً! لا تكاد تجد تفسيراً من تفاسير السلف إلا وفيه نقل عن أبي صالح والكلبي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وكل هؤلاء ضعفاء لدى أهل الحديث؟
والجواب: أن ضعفهم يتعلق بروايتهم لا بدرايتهم، فما كان من التفسير راجعاً إلى عقولهم ودرايتهم فلا يضره غفلتهم أو قبولهم للتلقين أو ضعفه في الحديث, وما كان من ذلك راجعاً إلى روايته فهو المردود, وعموماً فإن الناس يحكمون على ما يوردونه من طريقهم ما كان من روايتهم يحكمون عليه ويضعفونه.
وبالنسبة لتفاسير الشيعة الإمامية, والخوارج؛ فما أعرف لهم تفسيراً مطبوعاً, الشيعة لهم عدة تفاسير.
والإباضية ما أعرف لهم تفسيراً مطبوعاً.
مداخلة: وتفسير الطفيش؟
الشيخ: الطفيش ما له تفسير له تحقيقات وجمع.
تقصد تفسيره، تفسيره الموجود هو فقط نقل من تفاسير أهل السنة، لكن لا بد أن يدرج فيه بعض الأمور, لكن إبراهيم الطفيش مات قبل سنوات قليلة أربع سنوات أو خمس، فالقدماء ما عرفوا لهم تفسيراً مطبوعاً بالنسبة للأباضية.
مداخلة: الزيدية.
الشيخ: ولا الزيدية، الزيدية اشتغلوا بالحديث، كثير من أئمتهم اشتغلوا بالحديث والفقه, وقليل منهم من اشتغل بالتفسير، واحد اشتغل بجمع أحاديث التفسير من أئمة الزيدية، ولكن كتابه إلى الآن مخطوط سيطبع السنة هذه، وجمع فيه جمعاً عجيبا، لكنه لم يبد فيه مذهب الزيدية، بل اشتغل بجمع الأحاديث المتعلقة بالآيات.
مداخلة: ما اسمه؟
الشيخ: ما أذكر أسمه لكنه من أئمة اليمن من أئمة الزيدية، وحققه واحد موريتاني وسيخرج الكتاب ويطبع الآن.
مداخلة: فيه تفسيرات غريبة على مر التاريخ تفسير القرآن من أئمة؟
الشيخ: لا فقط أغرب التفاسير هو تفاسير الروافض، قد سبقت الإشارة إليها، من أمثاله قولهم في قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً[البقرة:67], قالوا: هي عائشة أم المؤمنين. كيف يقول هذا موسى لأصحابه يذبحوا بقرة وتكون عائشة.
وكذلك قالوا: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل:68]، قالوا: النحل بنو هاشم، وبعضهم قالوا: هم بنو علي بن أبي طالب، ولذلك قال لهم أحد علماء أهل السنة كان من بني هاشم فجمع بولاً وأمرهم أن يشربوه، فقال: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ [النحل:69].
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين, وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالمقدمة الثالثة من مقدمات علم التفسير هي موضوعه, وموضوع كل فنٍ ما يبحث فيه أي: في ذلك الفن عن عوارضه، أي: عوارض الموضوع الذاتية, أي: ما يعرض له من الأمور الراجعة إلى ذاته لا العوارض الخارجية التي تعرض عليه, فموضوع علم الطب مثلاً جسم الإنسان؛ لأن هذا العلم يبحث فيه عن عوارض جسم الإنسان الذاتية التي تعرض له، ولا يبحث فيها عن عوارض الإنسان الخارجية، مثلاً: كنسبه كونه بن فلان, أو كونه أباً لفلان هذا لا يعني من الناحية الطبية، اللهم إلا ما كان بالتعدي مثل عوامل الوراثة أو نحو ذلك.
ومثل هذا علم التفسير موضوعه كلام الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يبحث في علم التفسير عن معاني هذا القرآن ودلالاته, فمعانيه ما يتضمنه اللفظ بذاته منطوقاً أو مفهوماً, ودلالاته ما لا يتضمنه اللفظ ولكنه يقتضيه بوجه ما، سواء كان ذلك الوجه لزوماً ذهنياً, أو لزوماً عقلياً أو نحو ذلك.
فمن دلالاته مثلاً: ما فهمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه من قول الله تعال: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15], وقوله تعالى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ[لقمان:14], ففهم من هذا أن أقل أمد الحمل ستة أشهر, وليس هذا من تفسير كلام الله مباشرة، ولا هو من معاني هذه الألفاظ، لكنه من دلالاتها التي تلزم عليها عقلاً؛ لأن الله جعل الحمل والفصال في عامين, وعامان ثلاثون شهراً، ثم أفرد الفصال.. لا أقصد في ثلاثون شهراً، حمله وفصاله ثلاثون شهراً، ثم أفرد الفصال في عامين, وعامان أربعة وعشرون شهراً، فإذا اختزلت أربعة وعشرون من ثلاثين لم يبقَ غير ستة.
ومثل ذلك ما فهم الإمام مالك رحمة الله من قول الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187], فهم من هذا جواز إصباح الصائم جنباً؛ لأن الله أجاز مباشرتهن حتى يتبين الفجر, وإذا كان كذلك فمعناه أنه لم يترك وقتاً للغسل, وإذا لم يبقَ وقت للغسل لزم عقلاً أن يترتب على هذا إصباح الصائم جنباً.
فهذا النوع هو الذي يسميه الأصوليون دلالة الإشارة, ومثله دلالة الاقتضاء عند الأصوليين وهي دلالة اللفظ على محذوف لا يستقيم الكلام إلا به، سواء توقفت صحته عليه، أو توقف صدقه عليه, فالمحذوف الذي يتوقف عليه الصدق مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( رفع لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ), فهذا يتوقف صدقه على محذوف لا يستقيم الكلام إلا به وهو إثم الخطاء والنسيان؛ لأن الخطاء والنسيان لم يرفع عنه العقل، أنت تنسى وتخطئ, فالخطأ والنسيان موجودان أو معدومان في هذه الأمة؟
موجودان، فلا يستقيم إذاً الكلام ولا يصدق إلا بذلك المحذوف معناها: رفع عن أمتي إثم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه, الخطأ والنسيان والإكراه كلها موجودة في الأمة.
والذي لا تستقيم صحة الكلام عرفاً إلا به، أقصد عقلاً إلا به مثل قوله تعالى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79], فإن خرق السفينة لا يخرجها عن أن تكون سفينة, فالمقصود: كل سفينة صالحة غصباً, فخرقه للسفينة هل نقل عنها اسم السفينة؟ ما نقل عنها اسم السفينة، وهو أخبر أن الملك يأخذ كل سفينة, فعلم أن المعنى كل سفينة صالحة غصبا، وهذه السفينة غير صالحة فلن يأخذها الملك غصباً.
والذي يتوقف صحته عليه ذهناً أو عرفاً مثل قول الله تعالى: فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ [يوسف:45-46], معناه: فأرسلوني فأرسلوه فقال: يوسف أيها الصديق، والجملتان وهما: فأرسلوه, وجملة (فقال) محذوفتان لكنهما تفهمان من السياق, ومثل ذلك قول الله تعالى في خطابه لـموسى: اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ [البقرة:60], ونحوها فانبجست أو ((فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا)) [البقرة:60]، فهنا اضرب بعصاك الحجر، اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ [البقرة:60], معناه فضرب فانفجرت أو فانبجست في الآيتين, فإن الانبجاس والانفجار لم يتوقفا ولم يترتبا على الأمر، وإنما ترتبا على الضرب المحذوف، معناه: فضرب فانفجرت اثنتا عشر عينا.
ومثل ذلك: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]، اضرب بعصاك البحر فانفلق, هل انفلاق البحر توقف وترتب على مجرد الأمر، أو ترتب على الضرب؟ ما ترتب إلا على الضرب, والضرب محذوف, فأصل الكلام (فضرب), وهذا النوع من الدلالات هو الذي توسع فيه أصحاب التفسير الإشاري، وربما توسع فيه أيضاً المفسرون من الفقهاء، فكثيراً ما يأخذون من بعض النصوص ما ليس من صريح معانيها.
ألا تنظرون إلى أخذ الشافعية والحنابلة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ), أخذ الشافعية والحنابلة من هذا الحديث أن ما يدركه المسبوق من الصلاة هو أولها وأن ما يقضيه هو آخرها, لكن هل هذا هو معنى الحديث؟
هذا ليس معنى الحديث؛ لأنه لم يقل: فما أدركتم فصلوه وما أدركتم فأتموه، لو كان هكذا لكان قال: فما أدركتم فأتموا، وهو لم يقل: فما أدركتم فأتموا، إنما قال: فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموه, لو كان ما يصليه المسبوق بعد سلام الإمام إتماماً لما سبق بدلالات الحديث لقال: فما فاتكم فصلوه وما أدركتم فأتموه, أو قال: فما أدركتم فأتموا فقط؛ لأنك تتممه بما بعده, فهذا النوع من الدلالات ليس من معاني النص لا من منطوقه ولا من مفهومه، وإنما هو توسع في دلالته, وقد توسع الفقهاء في هذا كثيراً وبالأخص فيما يتعلق بدلالات العموم والمخصصات المنفصلة وغير ذلك.
وكذلك توسع النحويون المفسرون من أهل النحو المشتغلون به كـأبي حيان والسمين الحلبي وأبي السعود وسليمان الجمل وأبي البقاء العكبري وغير هؤلاء في الدلالات النحوية وما بتعلق بها, توسعاً زائداً، وسبب ذلك أن هذه المصطلحات التي هي مصطلحات العلوم ترسخت في أذهان الدارسين حتى ظنوا أنها مثل دلالات اللغة الأصلية قبل نزول القرآن، والفرق شاسع بين الأمرين، الفرق بين الوجوب والندب والتحريم والكراهة في الاصطلاح، والفرق بينها في اللغة متباين, ولهذا فحملنا في نص من النصوص على هذه المصطلحات إنما هو تقييد للنص بما هو أخص من دلالته.
ولاشك أن هذه المصطلحات العلمية لا تنافي من دلالات النصوص في الواقع، لكن حملها عليها فيه تجوز, ولهذا فإن المذاهب الأربعة متفقة على أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم )، أن معنى ذلك الطلب أنه يطلب من كل محتلم، وليس معناه الوجوب الاصطلاحي، واختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم: في إجابته للرجل الذي سأله: ( أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم )، ما معنى ذلك؟ هل يقتضي وجوب الوضوء من لحوم الإبل، وأن أكلها ناقض للوضوء أو لا يقتضي ذلك؟ وما معنى الوضوء هنا؟ هل هو الوضوء اللغوي أو الوضوء الاصطلاحي؟
هذا راجع إلى التوسع في الدلالات، في دلالات النصوص الشرعية، ولذلك تجدون الخلاف عند المفسرين في دلالات حروف الجر في مثل قوله: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، هل الباء للإلصاق أو للتبعيض؟ ومثل ذلك قوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، أيضاً هل الشطر بمعنى النصف أو بمعنى الجهة؟ ونحو هذا من الأمور التي هي راجعة للدلالات اللغوية, هذا هو موضوع علم التفسير.
المقدمة الرابعة: نسبته إلى غيره من العلوم، نسبة علم التفسير إلى غيره من العلوم هي نسبة العموم والخصوص الوجهي؛ لاشتراكه مع كل من العلوم الشرعية واللغوية في جانب مما يدرس فيه، ولاختصاصه هو ببعض الجوانب التي لا تدرس في غيره من العلوم, ولاختصاص تلك العلوم أيضاً بجوانب لا تدرس في علم التفسير.
فمثلاً: شرح الحديث هذا يشترك مع التفسير في كثير من العلوم الموجودة في الحديث وفي القرآن؛ لأن الحديث في أكثره بيان للقرآن، لكن ينفرد شرح الحديث في كثير من الأمور التي ليست في القرآن، وينفرد التفسير بكثير من الأمور التي ليست في شرح الحديث, ومثل ذلك في علم النحو مثلاً: كثير من الأبحاث النحوية التي يدرسها النحويون في كتبهم المتخصصة موجودة لدى المفسرين, ولكن كثيراً أيضاً مما يعرج عليه النحويون لا يوجد له ذكر في كتب التفسير؛ لأنه إما لغات ضعيفة أو تأويلات أو أمور شاذة ليست في القرآن أصلاً، مثل: لغة أكلوني البراغيث ومثل الحروف الفرعية, ومثل نصب الفاعل, ومثل جر المبتدأ بالباء الزائدة ونحو هذا، هذا المباحث يدرسها النحويون ولا يدرسها المفسرون، إلا من توسع منهم وتطفل مثل الذين يتكلمون عن جر الفاعل بالباء الزائدة وهو موجود في القرآن بكثرة، يتوسعون في بعض الأحيان فيذكرون مواضع زيادة الباء كـأبي حيان مثلاً, أو الذين يفسرون البسملة والباء التي فيها يترددون في دلالاتها هل هي للاستعانة أو للتسبب أو للاستعلاء أو للإلصاق أربعة معاني ممكنة فيها, يبحثون هنا في معاني الباء كلها توسعاً فقط.
كذلك ينفرد التفسير بكثير من الأمور التي لا دخل لأهل النحو فيها ولا يدرسونها أصلاً، دلالات القرآن في الأحكام، في التشريع، في الأخلاق، في التوحيد وغير ذلك، فإذاً كل علم من العلوم بينه وبين علم التفسير نسبة العموم والخصوص الوجهي.
وفائدة ذكر النسبة هي مقدمة من المقدمات أن يعرف الإنسان ارتباط هذا العلم بغيره حتى لو أراد دراسة علم التفسير مثلاً من بين العلوم، عليه أن يعلم أن كثيراً مما فيه مما يشكل عليه سيجده مشروحاً مستوفىً في العلوم الأخرى, إذا وجدت في التفسير استشكالاً فلم تجده في كتب المفسرين فاعلم أن ذلك لا ينفي وجوده، بل ارجع إليه في كتبه، في مظانه من الكتب الأخرى, ومن هنا ستكون الكتب كلها لديك تفسيراً، لو استشكلت دلالة لغوية سترجع إلى القاموس واللسان، لو استشكلت وجهاً أعرابياً أو فهماً من لغو سترجع إلى كتب النحو, لو استشكلت وجهاً صرفياً سترجع إلى كتب التصريف، وهكذا ترجع إلى كتب الأصول في هذه الدلالة.
والذي يحقق مخطوطة في التفسير، أو يؤلف تفسيراً لا بد أن يعلم أن مراجعه ليست مقصورة على كتب التفسير، بل سيحتاج إلى الرجوع إلى كتب هذه العلوم الأخرى، وهي مما يعينه على فهم كلام المفسرين، ويعينه كذلك على الازدياد في التفهم، كما ذكرنا من قبل أنه مخاطباً بالتعرض للنفحات الربانية لعل الله يفتح له مما لم يتعلم غيره.
المقدمة الخامسة: هي مستمد علم التفسير، ومستمد علم التفسير مختلف باختلاف مدارسه، فقديماً مستمده علم الحديث وعلوم اللغة، ثم أضيف إلى ذلك العلوم العقلية لدى المتأخرين، مستمده أي: العلم الذي يستمد منه المفسرون، ويجعلون له مادة لهذا العلم، العلوم كلها تتقارب في ما بينها, فالتفسير كان في الأصل باباً من أبواب الحديث كما ذكرنا من قبل ثم فصل عنه، فإذاً مستمده الأول علم الحديث.
ثم بعد ذلك استمد أيضاً من اللغة والنحو والصرف وعلوم البلاغة، ثم أضيف إلى هذا كتب التاريخ والأخبار والسير، ثم أضيف إليه أيضاً العلوم العقلية كالمنطق وعلم الكلام وعلم الفلسفة، هذه هي العلوم العقلية هي تقريباً ترجع إلى أربعة علوم، الفلسفة، والمنطق، والجدل، وعلم الكلام, وهذه العلوم الأربع إنما جعلها بعض المفسرين مستمداً له لتخصصهم فيها، كالقاضي عبد الجبار، فإن تفسيره مستمد من علم الجدل وعلم المنطق وعلم الفلسفة وعلم الكلام, ومثله الإمام الرازي فتفسيره كذلك مستمد من هذه العلوم العقلية، ولهذا ينتقدونه فيقولون: فيه كل شيء إلا التفسير، فيه كل علم من العلوم إلا التفسير.
مداخلة: ...
الشيخ: بلى، لكن القرآن لا يقال: هو مستمد لعلم التفسير إلا لبعض التفاسير النادرة التي تفسر بعض القرآن ببعض مثل مثلاً: أضواء البيان ونحو ذلك، لكن المقصود بمستمد علم التفسير أي: الذي يرجع إليه المفسر وهو يفسر آية من الآيات، وتفاسير السابقين من مستمده أيضاً, ونحن نقصد الجنس ولا نقصد تفسيراً بعينه.
وفائدة هذه المقدمة وهي المستمد كذلك التوثيق والرجوع إلى المنابع الأصلية والعناية بذلك, ولهذا فإن ابن كثير رحمه الله في تفسيره رجع إلى المنابع والمراجع الأصلية في علم الحديث، فأصل كتابه بالمستند الأصلي.
المقدمة السادسة: فضله وفضل كل علم إنما هو بحسب فائدته, وفائدة علم التفسير ستأتينا قريباً، لكن لاشك أنه من أفضل العلوم وأحسنها, ولهذا فإن عادة أهل العلم في الطلب ألا يدرسوا التفسير إلا بعد أن يتوسعوا في العلوم الأخرى، فهو من علوم الغايات والنهايات.
المبتدئون لا طمع لهم فيه عادةً، وإنما يختص بالذين درسوا وأصلوا أنفسهم تأصيلاً لا بأس به في العلوم المختلفة, وكذلك فإن عمومه للعقائد والأحكام والأخلاق وحسن الأدب مع الله سبحانه وتعالى والسلوك كل ذلك يقتضي فضله وزيادة ترجيحه على غيره.
وهذه المقدمة فائدتها تحفيز الطلاب على الاشتغال به كمقدمة الفضل, فضل كل علم إنما هي لتحفيز الهمم على الاشتغال به، ولا شك أن الذين اشتغلوا بعلم التفسير من هذه الأمة قد برزوا وشهد لهم بالفضل وعرفوا بذلك، وتوسعت مداركهم وأفادوا كثيراً.
ويكفي لفضله إذا عرفت من هم المفسرون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم في زمن التابعين, ثم في زمن أتباع التابعين, فتجد الأئمة في كل عصر هم الذين يشار إليهم بالبنان في علم التفسير, وبالأخص أنه إحدى وظائف النبي صلى الله عليه وسلم التي وظفه الله فيها, في قوله: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فمن وظائف النبي صلى الله عليه وسلم الاشتغال في تفسير القرآن، ولذلك فينبغي التعريج على علاقة السنة بالقرآن.
والسنة علاقتها بالقرآن من أوجهٍ:
الوجه الأول: أنها تكون مفسرة له، مثل تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للورود بالعبور في قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71], ففسر النبي صلى الله عليه وسلم الورود بالعبور على الصراط, وفسر المغضوب عليهم والضالين في قول الله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7], باليهود والنصارى, فهذا النوع من السنة مفسر للقرآن.
الوجه الثاني: ما هو مخصصة لعمومه، كقول الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ[المائدة:38], فقد خصص ذلك خصص عموم الآية بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله، ففي فعله قطع يمين السارق من الكوع، مع أن اليد تشمل إلى المرفق وإلى المنكب، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما قطع إلا من الكوع فكان هذا تخصيصاً للعموم, وكذلك خصص لفظ السارق، فلم يقطع عبيد حاطب حين سرقوا من ماله، وورد عنه التقييد بأنه لا قطع في ثمرٍ ولا شجر, ولا قطع في ما لم يبلغ ثمن المجن, وكذلك في حريسة الجبل قال: ( من أكل بفيه غير متخذ خبنة فلا قطع عليه ), فكل هذه الأحاديث تدلنا على تخصيص إطلاق السارق.
الوجه الثالث: تعميم السنة بما خص من القرآن أي: زيادة على تبدله، مثل: إدخال النبي صلى الله عليه وسلم جحد الوديعة للسرقة، فإن الله قال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38], السارق والسارقة هو من أخذ المال خفية خلسة من حرزه, وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عبد الأسود المخزومية، وهي كانت تستعير الحلي فتجحده, فهذا جحد للعارية والوديعة، وليس سرقة بالمدلول اللغوي.
الوجه الرابع: أن تكون مقيدة لمطلقه، تقيد السنة مطلق القرآن، مثل حديث كعب بن عجرة: ( حين أتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فرأى القمل يمشي على وجهه، فقال: ما كنت أظن أن المرض بلغ بك كما بلغ، فأمره أن يحلق رأسه، وأن يصوم ثلاثة أيام أو يذبح شاة نسيكة أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ), فهذا تقييد لقول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196], فإن الله أطلق الفدية من صيام أو صدقة أو نسك, وقيدها حديث كعب بن عجرة، فجعل الصيام مقيداً بثلاثة أيام, والإطعام والصدقة مقيدة بستة مساكين، لكل مسكين مدان نصف صاع, وقيد الهدي بشاة نسيكة, وهو النسك, وهذه الآية أيضاً فيها دلالة إضمار كما سبق في قوله: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ [البقرة:196], معناه: فحلق؛ لأنه لا تجب عليه الفدية إلا بعد الحلق قطعاً، لا يستقيم شرعاً إلزامه بالفدية إلا بعد الحلق، مجرد المرض لا يلزمه الفدية.
الوجه الآخر: هو أن تكون مطلقة لما قيده القرآن، يأتي التقييد في القرآن فتطلقه السنة, وذلك مثل قول الله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101], فقد قيد الله سبحانه وتعالى جواز القصر من الصلاة بالخوف, كقوله: إِنْ خِفْتُمْ [النساء:101], وأطلق ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، ( قصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أكثر ما كنا قط وآمنهم )، وفي حديثه يعلى بن أمية أنه سأل عمر بن الخطاب فقال: ( ما لنا نقصر وقد أمنا؟ فقال: لقد عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ), فهذا في الواقع إطلاق لما قيده القرآن, وهذان النوعان لا يذكرهما أهل الأصول وما سمعتهما، لكن دارا بخاطري الآن وهما: تعميم السنة لما خصصه القرآن، وإطلاقها لما قيده القرآن.
القسم الآخر: إضافتها حكماً ليس في القرآن, والسنة قد تضيف حكماً ليس في القرآن لقول الله تعالى، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل ذي ناب من السباع فأكله حرام، وكل ذي مخلب من الطير فأكله حرام ), هذا الحكم ليس في القرآن، فالقرآن خص التحريم بأربعة أصناف فقط: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ[الأنعام:145], هذه أربعة أنواع هي التي جاء تحريمها من المطاعم كلها, وأضاف إليها النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل ذي مخلب من الطير وكل ذي ناب من السباع ), ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ), فإن الله لم يذكر مما حرم من الرضاع إلا الأمهات والأخوات في قوله: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23], لم يذكر العمات من الرضاعة والخالات من الرضاعة، وإنما زيد ذلك في حديث أبي هريرة هذا.
ومثل ذلك: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها ), فالجمع إنما قصر في القرآن على الأختين: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23], فأضاف النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بنفس العلة، جمع بين المرأة وعمتها وخالتها.
النوع الآخر: أن تكون السنة ناسخة للقرآن، وذلك مثل قول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180], فقد نسخت الوصية للوالدين بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ) أي: سنة ناسخة للقرآن, ومثل ذلك قول الله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15], فقد نسخ ذلك بحديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلاً، فالثيب بالثيب جلد مائة والرجم, والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ), فهذا نسخ للقرآن بالسنة.
الوجه الآخر: عكس هذا وهو نسخ السنة بالقرآن، ومثاله حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( مكث سبعة عشر شهراً من مهاجره يصلي إلى جهة بيت المقدس ), فهذا نسخ بقول الله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144], فهذا القرآن ناسخ للسنة هنا.
الوجه الآخر: أن يكون معارضاً لها، معناه أن يقع التعارض بين القرآن والسنة, والمقصود بذلك: التعارض غير الحقيقي؛ لأنه لا يمكن أن يقع التعارض الحقيقي بأن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما أمر الله به، إلا إذا كان ذلك على وجه النسخ, فالتعارض غير الحقيقي معناه التعارض في الدلالات، أن تفهم أنت من دلالة القرآن شيئاً، وتفهم من دلالة السنة ما يخالفه, وهذا كثير والمرجع فيه إلى الجمع أولاً ثم إلى الترجيح بعد ذلك، تحاول الجمع أولاً، فإذا لم يكن ذلك عدلت إلى الترجيح, فإذاً هذه هي أوجه علاقة السنة بالقرآن.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مقدمات في العلوم الشرعية [18] | 3789 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [39] | 3563 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [42] | 3515 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [30] | 3439 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [16] | 3392 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [4] | 3375 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [22] | 3325 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [13] | 3263 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [6] | 3256 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [35] | 3147 استماع |