خطب ومحاضرات
الموقف الصحيح من الاختلاف
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
أيها الإخوة: لا تكاد تجلس اليوم مع إنسان من المعنيين بشأن الإسلام في أي مكان، إلا ويحدثك بقلب مجروح وعين باكية عن أوضاع المسلمين المتردية، وبالذات عما يعانيه المسلمون في هذه الأيام، بل ومنذ أزمنة طويلة من اختلاف وتباعد فيما بينهم، وهذا الحديث يخوض فيه الكثيرون، يتحدث عنه أولياء الإسلام حديث المشفق الحزين، ويتحدث عنه أعداؤه حديث الشامت الفرح المسرور: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة:148] ولذلك رغبت أن أتحدث عن هذا الموضوع، وأجلي بعض جوانبه، وما دفعني إلى اختيار هذا الموضوع إلا النصيحة -إن شاء الله- لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإنني كغيري من المسلمين نشعر بالحرقة والحسرة والأسف، على ما تعانيه الأمة من تفرق واختلاف، ونتمنى أن يأتي اليوم الذي تجتمع فيه كلمة الأمة الإسلامية على كتاب ربها وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم.
وبطبيعة الحال ليس مقصودي من الاختلاف الذي سأتحدث عنه في هذه الليلة، ذلك الاختلاف الجوهري بين المسلمين، اختلاف الفرق المفترقة من أهل الكفر والضلال والزندقة، ومن أصحاب الزيغ العقدي، الذين انفصلوا عن جسم الأمة أو كادوا، وإنما حديثي عن اختلاف أهل السنة والجماعة، الذين وحد بينهم الكتاب والسنة والإجماع، ولم يكن بينهم خلاف عقدي يوجب التناحر والتباعد والتفرق!
أما غلاة الصوفية، أو الرافضة، أو القبورية، أو المعتزلة، أو غيرهم من الفرق المنحرفة، فهذه لها شأن آخر، ومباعدة هذه الفرق واعتزالها واجب، لئلا يلتبس الحق مع الباطل: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42] فلا يجوز أبداً أن يكون مطلب الاجتماع مدعاة إلى نسيان الخلاف الحقيقي الجوهري القائم بين أهل السنة وبين خصومهم، وما زال سلف هذه الأمة يتبرءون من أصحاب هذه البدع، ويعلنون النكير عليها.
إذاً الحديث عن الاختلاف داخل إطار أهل السنة والجماعة، ويمكن أن أقسم الخلاف بين المسلمين، من أهل السنة والجماعة إلى قسمين:
القسم الأول: الخلاف العلمي؛ وأعني بالخلاف العلمي ما يوجد من اختلاف بين العلماء وطلاب العلم في المسائل العلمية، سواء كانت في الأصول، أو الفقه، أو الحديث، أو التفسير، أو في غيرها، وهذا خلاف طويل عريض، ويوجد من الاختلاف بين المفسرين في تفسير القرآن الكريم مثلاً، وبين المحدثين في إثبات الأحاديث أو تضعيفها، وبين علماء الرجال في توثيق الرجال أو تضعيفهم، وبين الفقهاء في المسائل الفقهية، كما يوجد بين غيرهم من أصحاب العلوم الأخرى، كالخلاف بين النحاة والبلاغيين، وأصحاب العلوم الأخرى كافة، اللهم إلا العلوم الرياضية التي هي عبارة عن أرقام حسابية لا يكاد يوجد فيها اختلاف.
فيوجد بين أصحاب هذه العلوم الشرعية من الخلاف كما يوجد بينهم من الوفاق،وليس صحيحاً ما يصوره بعضهم من أن كل مسألة فيها خلاف، فقد شاع عند الناس مثلاً: إذا قيل: ما حكم كذا؟ فيقول أيُّ واحد في المجلس: فيه خلاف! على سبيل السخرية، أو الإشارة إلى أنه ما من مسألة إلا وفيها اختلاف.
والواقع أننا لو تأملنا ونظرنا نظرة علمية متعمقة، بعيدة عن السطحية والارتجال، لوجدنا أن المسائل المتفق عليها بين الأمة مسائل كثيرة جداً، لكن لأنها مسائل متفق عليها لا يثور فيها خلاف، وبالتالي ليس الناس بحاجة إلى التداول فيها، لأنها مسائل مفروغ منها، ولا شك -أيضاً- أن هناك مسائل كثيرة جداً هي الأخرى فيها اختلاف بين العلماء، وقد يكون هذا الاختلاف على أقوال كثيرة، أذكر على سبيل المثال:
أن الإمام ابن القيم في كتاب زاد المعاد لما تكلم عن خصائص الجمعة، وعد منها ساعة الإجابة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في هذه المسألة ما يزيد على عشرة أقوال.
ولما تكلم الحافظ ابن حجر وغيره أيضاً على مسألة ليلة القدر وتعيينها، والأقوال فيها، ذكر ما يزيد على أربعين قولاً.
ولما تكلم الإمام الشوكاني في الفتح الرباني في فتاويه، عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {إن الله تعالى يقول: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به} ذكر في تفسير هذا الحديث، وفي معنى كون الصوم لله (فإنه لي) نحواً من خمسة وخمسين قولاً في هذه المسألة.
نعم. يوجد اختلافات قد تصل إلى هذا الحد الذي ذكرت وقد تكون دون ذلك أحياناً، فلسنا ننفي أو ننكر وجود الاختلاف بين العلماء وبين المسلمين، في هذه القضايا العلمية.
لكن أقول: إنه يجب أن يكون نظرنا في هذا الاختلاف معتدلاً، فلا نبالغ في إثبات الخلاف، كما أننا -أيضاً- لا نبالغ في نفيه، فنقول: يوجد بين العلماء في سائر العلوم من الاختلاف مثل ما يوجد بينهم من الاتفاق أو أكثر، أو أقل من ذلك، وهو أمر لا مجال إلى إنكاره بحال من الأحوال.
وهذا الخلاف الذي نستطيع أن نسميه الخلاف العلمي له أسباب؛ أستطيع أن أشير إلى ستة أسباب منها، وهي أسباب منطقية:
عدم وصول الدليل إلى بعض العلماء
فقد يحدث كثيراً أن يفتي العالم بمسألة، أو يقول بقول مخالف للدليل، نظراً لأن الدليل ما وصل إليه، فإذا بلغه الدليل رجع إليه، وإذا لم يبلغه ظل على ما كان يقول به قبل ذلك، ويوجد عند الأئمة الأربعة فضلاً عن غيرهم من ذلك الشيء الكثير، وهذا ليس بعيب، فإنه لا يمكن أن يجتمع العلم كله عند إمام واحد، ومن زعم أن السنة كلها تجتمع عند إمام واحد من الأئمة فقد أعظم الفرية، وبالغ في الادعاء، فإن هذه السنة لم تجتمع عند الصحابة، ولا عند التابعين، ولا عند كبار الأئمة المصنفين.
نسيان الدليل
ومما يمكن أن يضرب به المثال في موضوع نسيان السنة، ما رواه الأئمة أن حذيفة رضي الله عنه كان يصلي بالناس في المدائن، وكان يصلي على دكان -أي: على مكان مرتفع وهو إمام بالناس- فكان معه أبو مسعود الثقفي فجره، فنـزل حذيفة وأكمل صلاته، فلما انتهى قال له أبو مسعود رضي الله عنه: ألم تكن تعلم أننا كنا ننهى عن ذلك -أي: كون الإمام يصلي في مكان مرتفع والمأمومون وراءه في منخفض ولغير حاجة- فقال حذيفة رضي الله عنه: بلى، ألم ترني طاوعتك حين مددتني؟ -يعني حين سحبتني أو اجتررتني- وأشار إلى أنه نسي، ثم تذكر لما جره أبو مسعود.
فقد ينسى العالم أو الفقيه، أو طالب العلم الدليل، فإذا ذُكّر به تذكر، ورجع إلى مضمون هذا الدليل.
إذاً من أسباب الخلاف، أو الاختلاف؛ نسيان العالم أو الفقيه لدليل المسألة بعد أن يكون علمه.
عدم ثبوت الدليل
ولذلك -أيضاً- نجد أن من العلماء من يقول بحديث، ثم يتبين له ضعفه فيترك القول به، وأضرب لذلك أمثلة بالإمام أحمد: كان الإمام أحمد رحمه الله يقول بمضمون حديث عبد الله بن عكيم: {لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب} فكان الإمام أحمد يذهب إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة، لا قبل الدبغ ولا بعد الدبغ، أخذاً بهذا الحديث، فلما رأى اضطراب الرواة في هذا الحديث، واختلافهم فيه، ترك هذا الحديث، وذهب إلى غيره.
وكذلك نقل عنه في مسألة الوضوء من مس الذكر؛ والأمثلة كثيرة جداً، المهم أن الفقيه قد لا يثبت عنده الحديث فلا يقول به، فهذا من أسباب الاختلاف.
الاختلاف في فهم النص
ومن هنا جاء الاختلاف، فمن يقول: إن القرء هو الطهر ليس له أن يعتبر أن من يقول: لا. إن القرء هو الحيض مخالف للآية، لأنه يقول بمضمون الآية، لكن يرى أن دلالة الآية ليست كما فهمها الآخر.
وفيما يتعلق بالسنة -والأمثلة بطبيعة الحال كثيرة جداً، لكن أكتفي بمثال واحد على الأقل حتى يفهم السبب- مسألة الوضوء من لحم الجزور، هذه ورد فيها أحاديث، منها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم: {سئل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم. فتوضأ من لحوم الإبل} فهذا الحديث أخذ منه الإمام أحمد وغيره من فقهاء السنة وجوب الوضوء من لحم الإبل، ولكن هناك علماء آخرون منهم الأئمة الثلاثة قالوا: لا يجب الوضوء من لحم الإبل، فما موقفهم من هذا الحديث؟ الحديث ثابت عندهم وصحيح، لكن حملوه على محامل، منهم من يقول: إن هذا للاستحباب وليس للوجوب، ويستدلون بأنه قال في أول الحديث: {أنصلي في معاطن الإبل؟ قال: لا قال: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم} فقالوا: إن قوله: نعم لا يدل على وجوب الصلاة في مرابض الغنم، لكن يدل على جوازها.
وكذلك لما سئل أنتوضأ من لحوم الإبل قال: نعم. فإن هذا لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على الاستحباب، والذي يظهر لي أن الراجح في هذه المسألة هو وجوب الوضوء من لحم الإبل، لقوة الأدلة وصراحتها في ذلك، ولأن هذا نقل عن جمهور الصحابة، أنهم كانوا يتوضئون من لحوم الإبل.
ولكن يبقى أن الخلاف في المسألة له أصوله التي يعتمد عليها، وليس مبنياً على مجرد التحكم أو الهوى، وإنما هو مبني على أن دلالة الحديث على المقصود ليست دلالة قطعية لا تحتمل الخلاف، وإنما هي دلالة ظنية أو استنباط، قد تكون راجحة لكنها ليست قاطعة.
فنحن نقول: الراجح كذا، لكن لا نعتبر أن المخالف ضال أو منحرف، أو مخالف للدليل، أو ما أشبه ذلك.
وجود المعارض المساوي أو الأرجح
فمن أهل العلم من ترك العمل بهذا الحديث أخذاً بالحديث الآخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من مس ذكره فليتوضأ} باعتبار أن هذا الحديث له طرق عن جماعة من الصحابة، وأنه أقوى وأثبت من الحديث الأول، إذاً من الأسباب أيضاً: ترك الدليل لمعارض راجح.
هذه الأسباب الخمسة من أسباب الاختلاف وكلها أسباب مقبولة ولا بد من وجودها، ولا يعترض على الخلاف الناتج عنها، متى استفرغ الإنسان الوسع في سبيل الوصول إلى الحق بقدر ما يستطيع، وتجرد عن السبب السادس الذي سوف أشير إليه، وهو التعصب والهوى.
التعصب والهوى
كان الحنفية يقول أحدهم: الحمد الله الذي جبلني على التعصب لإمام من القرون التي شهد الرسول صلى الله عليه وسلم بخيريتها أي: يحمد الله أن الله جبله على التعصب لـأبي حنيفة.
والشافعية كان منهم من يعتبر أن اتباع الإمام الشافعي واجب لأن الشافعي قرشي مطلبي، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: {الناس تبع لقريش}.
والمالكي يرى وجوب اتباع الإمام مالك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: {يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدوا عالماً أعلم من عالم المدينة } ويقول: إن عالم المدينة هو الإمام مالك فيجب اتباعه.
وهكذا بقية الأئمة المتبوعين، فالحنابلة، وأتباع الإمام الثوري، أو ابن المبارك، أو الأوزاعي، أو غيرهم، يوجد منهم من يقعون في التعصب لإمامهم، ولا شك أن الأئمة أنفسهم يرفضون التعصب ويحاربونه، بل هم يرفضون التقليد أصلاً، ويقول قائلهم: [[لا تقلدني، ولا تقلد
إذاً الأئمة يرفضون التقليد أو التعصب، والتقليد قد يكون ضرورة أحياناً، لكن الشيء الخطير هو مسألة التعصب والهوى، بحيث إن الإنسان يرجح قولاً على آخر، ليس لأن الدليل معه! وليس لأنه الحق! لكن لأنه قول فلان! فليس هناك دليل، بل مجرد تحكم وهوى وتعصب، وليس هناك أحد يرجح قوله، أو يقبل قوله؛ لأنه فلان، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي إذا قال قولاً وجب قبوله والأخذ به.
أما بقية الناس ولو كانوا أئمة فلا يجب أخذ أقوالهم لذواتهم، وكيف نأخذ -مثلاً- قول الشافعي، أو مالك، أو أبي حنيفة، بالقبول والتسليم، إذاً لماذا لا نأخذ قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود، وفلان بن فلان من فقهاء الصحابة، ونرجحه على غيره، الواقع أن ترجيح قول على آخر لمجرد أنه قول فلان بن فلان هذا إهدار للعقل البشري، وإهدار قبل ذلك للنص الشرعي، حتى يصل الحال ببعضهم أنهم يقولون: أصبحت نصوص القرآن والسنة تقرأ للبركة فقط، وإلا فالعلم يؤخذ من كتب الفقه، وهذا لا شك أنه غلط كبير.
وهذا اللون من الاختلاف العلمي هو اختلاف مذموم، لأنه مبني على التعصب والهوى، وليس على الاجتهاد والنظر في الدليل.
السبب الأول: عدم وصول الدليل إلى بعض العلماء، وهذا موجود حتى على مستوى الصحابة رضي الله عنهم، مع قرب عهدهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسعة علمهم، ومع ذلك يوجد من الصحابة من يفوته من الأدلة ما يوجد عند غيره، حتى كبار الفقهاء من الصحابة كـعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم، قد يفوتهم الدليل ولا يصل إليهم، وحتى كبار الرواة من الصحابة كـأبي هريرة ربما فاتهم الدليل، ولم يصل إليهم، أو وصل إليهم متأخراً، ويحضرني في هذا المجال الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أيضاً عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا: { نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من جماع غير احتلام فيصوم } يعني أن الإنسان لو كان عليه جنابة في رمضان أو في غيره، ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر فصومه صحيح، وأبو هريرة رضي الله عنه كان يفتي بخلاف هذا، اعتماداً على حديث رواه له بعض الصحابة، ولذلك لما سمع مروان هذا الحديث من أبي بكر بن عبد الرحمن قال له: أقسمت عليك لتقرعن به أبا هريرة أي: تواجه أبا هريرة وتوبخه بهذا الحديث الذي هو على خلاف فتواه، فكره ذلك أبو عبد الرحمن، ثم إنه التقى بـأبي هريرة بمزرعة له في ذي الحليفة فقال له: إني محدثك حديثا لولا أن مروان عزم علي وأقسم علي ما حدثتك به، ثم ساق له الحديث، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: كذلك حدثني الفضل بن العباس فرجع أبو هريرة إلى مضمون هذا الحديث.
فقد يحدث كثيراً أن يفتي العالم بمسألة، أو يقول بقول مخالف للدليل، نظراً لأن الدليل ما وصل إليه، فإذا بلغه الدليل رجع إليه، وإذا لم يبلغه ظل على ما كان يقول به قبل ذلك، ويوجد عند الأئمة الأربعة فضلاً عن غيرهم من ذلك الشيء الكثير، وهذا ليس بعيب، فإنه لا يمكن أن يجتمع العلم كله عند إمام واحد، ومن زعم أن السنة كلها تجتمع عند إمام واحد من الأئمة فقد أعظم الفرية، وبالغ في الادعاء، فإن هذه السنة لم تجتمع عند الصحابة، ولا عند التابعين، ولا عند كبار الأئمة المصنفين.
السبب الثاني: أن هذا العالم أو ذاك قد يبلغه الدليل لكن ينساه فيفتي بالخلاف، والنسيان وارد حتى في القرآن، فقد ينسى الآية أثناء الكلام أو أثناء الفتوى، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: {كان يثني على
ومما يمكن أن يضرب به المثال في موضوع نسيان السنة، ما رواه الأئمة أن حذيفة رضي الله عنه كان يصلي بالناس في المدائن، وكان يصلي على دكان -أي: على مكان مرتفع وهو إمام بالناس- فكان معه أبو مسعود الثقفي فجره، فنـزل حذيفة وأكمل صلاته، فلما انتهى قال له أبو مسعود رضي الله عنه: ألم تكن تعلم أننا كنا ننهى عن ذلك -أي: كون الإمام يصلي في مكان مرتفع والمأمومون وراءه في منخفض ولغير حاجة- فقال حذيفة رضي الله عنه: بلى، ألم ترني طاوعتك حين مددتني؟ -يعني حين سحبتني أو اجتررتني- وأشار إلى أنه نسي، ثم تذكر لما جره أبو مسعود.
فقد ينسى العالم أو الفقيه، أو طالب العلم الدليل، فإذا ذُكّر به تذكر، ورجع إلى مضمون هذا الدليل.
إذاً من أسباب الخلاف، أو الاختلاف؛ نسيان العالم أو الفقيه لدليل المسألة بعد أن يكون علمه.
السبب الثالث: ألا يثبت عنده هذا الدليل؛ كأن يكون -مثلاً- سمع بهذا الحديث، لكن لم يثبت لديه، ونحن نعرف أن العلماء يختلفون في إثبات الأحاديث، فقد يضعف عالم حديثاً ويصححه آخر، وهذا كثير جداً، فعلماء الحديث، وعلماء الجرح والتعديل، يوجد بينهم من الاختلاف والاتفاق مثل ما يوجد بين غيرهم من العلماء، ولذلك قد يصحح إمام ما حديثاً ويقول به، ويضعفه إمام آخر، فيكون الإمام الذي ضعف الحديث معذوراً بعدم العمل بهذا الحديث، لأنه ما صح عنده، وهذا من أعظم أسباب الاختلاف.
ولذلك -أيضاً- نجد أن من العلماء من يقول بحديث، ثم يتبين له ضعفه فيترك القول به، وأضرب لذلك أمثلة بالإمام أحمد: كان الإمام أحمد رحمه الله يقول بمضمون حديث عبد الله بن عكيم: {لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب} فكان الإمام أحمد يذهب إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة، لا قبل الدبغ ولا بعد الدبغ، أخذاً بهذا الحديث، فلما رأى اضطراب الرواة في هذا الحديث، واختلافهم فيه، ترك هذا الحديث، وذهب إلى غيره.
وكذلك نقل عنه في مسألة الوضوء من مس الذكر؛ والأمثلة كثيرة جداً، المهم أن الفقيه قد لا يثبت عنده الحديث فلا يقول به، فهذا من أسباب الاختلاف.
السبب الرابع: أن الآية أو الحديث قد يبلغ هذا العالم، ويثبت عنده الحديث، لكن لا يرى أنه يدل على هذه المسألة التي يقع عليها هذا الاختلاف، فمثلاً فيما يتعلق بالقرآن الكريم، يقول الله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] فالعلماء اختلفوا اختلافاً واسعاً في تحديد القرء، فمنهم من قال: إن القرء هو الطهر، ومنهم من قال: القرء هو الحيض، وحين ترجع إلى كتب اللغة تجد أن من علماء اللغة من قال: إن القرء من ألفاظ الأضداد، الذي يطلق على الطهر ويطلق على الحيض.
ومن هنا جاء الاختلاف، فمن يقول: إن القرء هو الطهر ليس له أن يعتبر أن من يقول: لا. إن القرء هو الحيض مخالف للآية، لأنه يقول بمضمون الآية، لكن يرى أن دلالة الآية ليست كما فهمها الآخر.
وفيما يتعلق بالسنة -والأمثلة بطبيعة الحال كثيرة جداً، لكن أكتفي بمثال واحد على الأقل حتى يفهم السبب- مسألة الوضوء من لحم الجزور، هذه ورد فيها أحاديث، منها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم: {سئل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم. فتوضأ من لحوم الإبل} فهذا الحديث أخذ منه الإمام أحمد وغيره من فقهاء السنة وجوب الوضوء من لحم الإبل، ولكن هناك علماء آخرون منهم الأئمة الثلاثة قالوا: لا يجب الوضوء من لحم الإبل، فما موقفهم من هذا الحديث؟ الحديث ثابت عندهم وصحيح، لكن حملوه على محامل، منهم من يقول: إن هذا للاستحباب وليس للوجوب، ويستدلون بأنه قال في أول الحديث: {أنصلي في معاطن الإبل؟ قال: لا قال: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم} فقالوا: إن قوله: نعم لا يدل على وجوب الصلاة في مرابض الغنم، لكن يدل على جوازها.
وكذلك لما سئل أنتوضأ من لحوم الإبل قال: نعم. فإن هذا لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على الاستحباب، والذي يظهر لي أن الراجح في هذه المسألة هو وجوب الوضوء من لحم الإبل، لقوة الأدلة وصراحتها في ذلك، ولأن هذا نقل عن جمهور الصحابة، أنهم كانوا يتوضئون من لحوم الإبل.
ولكن يبقى أن الخلاف في المسألة له أصوله التي يعتمد عليها، وليس مبنياً على مجرد التحكم أو الهوى، وإنما هو مبني على أن دلالة الحديث على المقصود ليست دلالة قطعية لا تحتمل الخلاف، وإنما هي دلالة ظنية أو استنباط، قد تكون راجحة لكنها ليست قاطعة.
فنحن نقول: الراجح كذا، لكن لا نعتبر أن المخالف ضال أو منحرف، أو مخالف للدليل، أو ما أشبه ذلك.
السبب الخامس: هو أن العالم وإن ثبت عنده الحديث أو الدليل، فإنه قد يوجد عنده معارض أرجح منه، على الأقل في نظره هو، فقد يقول لك: أعترف بأن هذا الحديث ثابت وصحيح، لكن هناك أحاديث أخرى أثبت منه، وأصح منه، وأقوى في الدلالة، فأنا أقدمها على هذا الحديث، ولعل من الأمثلة على ذلك -والأمثلة كما أسلفت كثيرة- أن من العلماء من ترك العمل بحديث: {لا. إنما هو بضعة منك} عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من مس الذكر قال: {لا. إنما هو بضعة منك} يعني لا يجب الوضوء من مس الذكر.
فمن أهل العلم من ترك العمل بهذا الحديث أخذاً بالحديث الآخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من مس ذكره فليتوضأ} باعتبار أن هذا الحديث له طرق عن جماعة من الصحابة، وأنه أقوى وأثبت من الحديث الأول، إذاً من الأسباب أيضاً: ترك الدليل لمعارض راجح.
هذه الأسباب الخمسة من أسباب الاختلاف وكلها أسباب مقبولة ولا بد من وجودها، ولا يعترض على الخلاف الناتج عنها، متى استفرغ الإنسان الوسع في سبيل الوصول إلى الحق بقدر ما يستطيع، وتجرد عن السبب السادس الذي سوف أشير إليه، وهو التعصب والهوى.
السبب السادس: التعصب والهوى: والتعصب والهوى من أسباب الاختلاف؛ وذلك أن الأمة بليت عبر تاريخها الطويل بألوان من التعصب، مثلاً جاء وقت من الأوقات بليت الأمة فيه بالتعصب المذهبي، فكان كل فئة أو طائفة تتعصب لإمام من الأئمة الأربعة أو غيرهم، فتعتبر أن أقواله حق، فمثلاً:
كان الحنفية يقول أحدهم: الحمد الله الذي جبلني على التعصب لإمام من القرون التي شهد الرسول صلى الله عليه وسلم بخيريتها أي: يحمد الله أن الله جبله على التعصب لـأبي حنيفة.
والشافعية كان منهم من يعتبر أن اتباع الإمام الشافعي واجب لأن الشافعي قرشي مطلبي، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: {الناس تبع لقريش}.
والمالكي يرى وجوب اتباع الإمام مالك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: {يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدوا عالماً أعلم من عالم المدينة } ويقول: إن عالم المدينة هو الإمام مالك فيجب اتباعه.
وهكذا بقية الأئمة المتبوعين، فالحنابلة، وأتباع الإمام الثوري، أو ابن المبارك، أو الأوزاعي، أو غيرهم، يوجد منهم من يقعون في التعصب لإمامهم، ولا شك أن الأئمة أنفسهم يرفضون التعصب ويحاربونه، بل هم يرفضون التقليد أصلاً، ويقول قائلهم: [[لا تقلدني، ولا تقلد
إذاً الأئمة يرفضون التقليد أو التعصب، والتقليد قد يكون ضرورة أحياناً، لكن الشيء الخطير هو مسألة التعصب والهوى، بحيث إن الإنسان يرجح قولاً على آخر، ليس لأن الدليل معه! وليس لأنه الحق! لكن لأنه قول فلان! فليس هناك دليل، بل مجرد تحكم وهوى وتعصب، وليس هناك أحد يرجح قوله، أو يقبل قوله؛ لأنه فلان، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي إذا قال قولاً وجب قبوله والأخذ به.
أما بقية الناس ولو كانوا أئمة فلا يجب أخذ أقوالهم لذواتهم، وكيف نأخذ -مثلاً- قول الشافعي، أو مالك، أو أبي حنيفة، بالقبول والتسليم، إذاً لماذا لا نأخذ قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود، وفلان بن فلان من فقهاء الصحابة، ونرجحه على غيره، الواقع أن ترجيح قول على آخر لمجرد أنه قول فلان بن فلان هذا إهدار للعقل البشري، وإهدار قبل ذلك للنص الشرعي، حتى يصل الحال ببعضهم أنهم يقولون: أصبحت نصوص القرآن والسنة تقرأ للبركة فقط، وإلا فالعلم يؤخذ من كتب الفقه، وهذا لا شك أنه غلط كبير.
وهذا اللون من الاختلاف العلمي هو اختلاف مذموم، لأنه مبني على التعصب والهوى، وليس على الاجتهاد والنظر في الدليل.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |