الإنفاق في سبيل الله


الحلقة مفرغة

الحكمة من الأمر بالإنفاق في سبيل الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى جعل التكليف امتحاناً لبني آدم، وجعل رضاه فيما كان مخالفاً للهوى، فللإنسان هوىً يدعوه إلى الانسياق وراءه، فمن انساق وراءه لم ينجح في أي امتحان، ومن خالف هواه فإن الله وعده على ذلك بالجنة.

وإن من أبلغ الامتحانات التي امتحن الله بها عباده مما يخالف الهوى: إنفاق المال في سبيل الله؛ وذلك أن الناس يقولون: المال شقيق النفس، ويظنون أن بقاءها مشروط ببقاء المال بأيديهم، ولا ينالونه في الغالب إلا بجهد ومشقة وعنت؛ فلذلك كان إنفاقهم امتحاناً شاقاً، قل من ينجح فيه من الناس؛ لكن الله سبحانه وتعالى بايع عباده المؤمنين على ما آتاهم من الأنفس والأموال بيعة أكدها في التوراة والإنجيل والقرآن، فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111] ، ودعاهم سبحانه وتعالى إلى التجارة الرابحة معه فيما آتاهم من الأموال، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ[الصف:10-11]، وبدأ هنا بالأموال قبل الأنفس.

وكذلك فإنه سبحانه وتعالى عندما دعا الناس إلى الإنفاق في سبيله، علم مشقة ذلك على النفوس، ومخالفته للهوى، فرتب عليه من الأجور الشيء الكثير، فجعل النفقة مضاعفة إلى سبعمائة ضعف كما في سورة البقرة.

نحن مستخلفون على الأموال وليست لنا حقيقة

قال الله تعالى: وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ[محمد:36-37].

ثم أكد بعد ذلك على الإنفاق فقال: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[محمد:38] ، وقد عطف الله سبحانه وتعالى هذا الامتحان على الامتحان بالإيمان، فقال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[الحديد:7] .

وهذه الآية فيها تلميح عجيب!! بيّن الله فيه: أن كل ما في هذه الدنيا من الأموال والمنافع هو من الخلق الذي خلقه الله في الأيام الأولى من خلق العالم، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ[فصلت:9-10]، فكل أقوات الأرض وما فيها من الأموال والمنافع، كانت قد خلقت في الأيام الأولى من خلق العالم، فلم تنقص بعد ذلك، فما يأكله الناس منها راجع إلى الأرض، يخلفه الله سبحانه وتعالى فيما بقي في الأرض كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا[المرسلات:25-26]؛ ولكنه دولة بين الناس، يخرج من يد هذا ليصل إلى يد هذا إما بالبيع وإما بالتفليس وإما بالسرقة وإما بالغصب، وإما بالميراث، كحال المساكن في هذه الأرض، فما من بيت معمور اليوم بالسكان إلا وقد سكنه سابقون، وسيسكنه لاحقون، وهكذا أمر الدنيا كلها، فإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نعلم أن ما تحت أيدينا ليس ملكاً لنا؛ ولهذا قال الله تعالى: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[الحديد:7] ، فأنت مستخلف أي: خالف لمن سبقك، ومخلوف أيضاً فيما تحت يدك، وستسلمه لآخرين إما طوعاً وإما كرهاً، ومن هنا يعلم أن الله ما ملكنا الأموال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ[الأنفال:1] ، فالله تعالى لم يملكنا الأموال، وإنما استخلفنا فيها، فجعلها تحت أيدينا أمانة عندنا، ووكالة فقط، والوكيل ينتظر العزل في كل حين؛ ولذلك فعزله إما بالموت، وإما بالحجر، وإما بالفقر، كل ذلك عزل للإنسان عن التصرف فيما تحت يده، ولا يدري الإنسان متى يقع ذلك:

وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعول

اختلاف الناس في الأرزاق

الأرزاق بقدر الله سبحانه وتعالى، ووفق الحكمة البالغة: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ[الرعد:41] ، فلهذا: جعل الله الأسباب التي تجمع بها الأموال مقسومة إلى حلال وحرام، وجعل من الناس من يبذل الجهد الكثير فلا ينال إلا القليل مقابل ذلك، ومنهم من يبذل الجهد اليسير، فينال الكثير من الدنيا إذا أقبلت.

وكم من إنسان أعطاها وقته، فلم يبق أي وسيلة يمكن أن يعملها في جمع المال إلا أعملها، ومع ذلك مات فقيراً، ولم ينل من الدنيا مراده! ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكم من إنسان أعمل الحيل لجمعها، فلما بلغ المستوى الذي يطلبه كان على موعد مع ملك الموت، فبينما هو ينعم بزهرتها انتهت حياته.

وكم من إنسان لم يعمل من الحيل إلا الشيء اليسير فاجتمع عنده أكثر من حاجته.

كل ذلك نراه ونشاهده بين ظهرانينا من الذين يعملون للدنيا، فليس الغنى عن كثرة العرض، ولا عن إعمال الحيل، بل هو قدر يكتبه الله سبحانه وتعالى في الدنيا بحكمته، ولا مبدل لحكمه؛ ولهذا قال الحكيم:

باتت تعيرني الإقتار والعدمَ لما رأت لأخيها المال والنعمَ

تباً لرأيك ما الإقتار عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما

فالدنيا كلها مقسومة قسماً، وكذلك إعمال الحيل ليس هو الموصل إلى الغنى، بل الموصل إليه هو القدر؛ ولذلك قال ابن زريق في عينيته:

لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه

جاوزت في نصحه حداً أضر به من حيث قدرت أن النصح ينفعه

فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً من عذله فهو مضني القلب موزعه

يكفيه من حزن الترويع أن له من النوى كل يوم ما يروعه

ما آب من سفر إلا وأزعجه عزم على سفر بالبين يجمعه

كأنما هو من حل ومرتحل موكل بفضاء الله يذرعه

إذا الزمان أراه في الرحيل غنى ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه

وما مكابدة الإنسان واصلة رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه

قد قسم الله رزق الناس بينهم ما يخلق الله من خلق يضيعه

لكنهم كلفوا رزقاً فلست ترى مسترزقاً سوى الغايات يقنعه

والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه أرباً ويمنعه من حيث يطمعه

إذاً: على الإنسان أن يجمل في الطلب أولاً، ثم ليعلم أن ما جعل تحت يده ليس بالضرورة أنه سينتفع به، بل كثير من الناس يبتلى بكثرة العرض، وتجعل تحت يديه أملاك طائلة، ومع ذلك لا يرزق منها إلا الشيء اليسير، فيكون هو خادماً للدنيا، بعد أن كانت الدنيا خادمة له.

إن كثيراً من الناس يعيش مهموماً مغموماً في مكابدة هذه الدنيا؛ فإذا اختل منها أي ركن من الأركان، أو أي لازم من اللوازم، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وظن أن الآخرة قد أقبلت، وقد أقبلت فعلاً؛ لكن ليس معنى ذلك أن ما اختل من الدنيا شيء لم يكن من قبل، بل هكذا حيل الدنيا كلها، وقد قال الحكيم:

مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك

أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك

فلن تنال من الدنيا إلا حظك.

حقارة الدنيا وما فيها من الأموال

عليك أن تعلم قيمة هذا المال، وقيمة هذه الدنيا كلها، وأن تعلم أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء، فالله سبحانه وتعالى جعل الآخرة خيراً وأبقى؛ ولذلك خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم -وخطابه خطاب لأمته- بهذا الخطاب البليغ فقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:131-132]، فالعاقبة للتقوى، وما في هذه الدنيا من الأعراض سيزول، وبقاء الحال من المحال، فأمرها إلى زوال، وعلى هذا، فإن على الإنسان التقليل من الدنيا ما استطاع، وهذا خير له؛ ولهذا قال الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:23] ، فعلى الإنسان ألا ييئس على ما فاته من هذه الدنيا، وعليه ألا يفرح بما نال منها، فإن ذلك امتحان يمتحنه الله به، فإذا كان كذلك فليعلم المؤمن أن عليه في أموال الدنيا حقين:

الحق الأول: أن يأخذها من حلها.

والحق الثاني: أن يضعها في محلها.

فأخذها من غير حلها محادة لله ورسوله، ووضعها في غير محلها غاية السفه والخسران، فعلى الإنسان حينئذ ألا يأخذها إلا من حلها، وألا يتبع نفسه ما ليس من حله؛ فإن الإنسان الذي يتبع نفسه هواها، ويريد الوصول إلى المال مطلقاً -سواء جاء من حله، أو من غير حله- مفتون بهذه الدنيا، والمفتون لا رأي له؛ لأن الهوى قد تملك قلبه فأصبح عابداً لهواه، وقد جعل الله سبحانه وتعالى عبدة الهوى أضل الناس: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ[القصص:50] .

فالذين يتبعون الهوى هم أضل الناس؛ ولهذا على الإنسان قبل الجمع أن يقدر الهدف.

أصناف الناس تجاه أموالهم

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخيل لثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر) قال أهل العلم: المال كله كذلك، وإنما مثل النبي صلى الله عليه وسلم بالخيل؛ لأهميتها عند العرب، وإلا فالمال كله كذلك، وهذا على القاعدة في تفسير السلف للقرآن، فإن تفسير السلف للقرآن يقصد به ضرب الأمثلة للتفهيم، كمن سألك عن الخبز فقال: ما هو؟ فأخذت خبزة فقلت: هذا الخبز، فليس معنى ذلك أنك تزعم أنك ترفع له ما في أيدي الناس من الخبز، وإنما معنى ذلك: أنك تبين له ما يفيده مدلول هذه الكلمة في لغة العرب، فكذلك ضرب المثل بالخيل هو ضرب مثال للمال كله، فالمال كله على ثلاثة أنواع:

هو النوع الأول: من له أجر، وهو: من لم يأخذه إلا من حله، ولم يضعه إلا في محله، وابتغى به وجه الله سبحانه وتعالى، وأعده لما كلفه الله به، فكان في يده ولم يكن في قلبه، لا يحزن على ما فاته منه، ولا يفرح بما ناله منه، وما كان منه تحت يده فهو في يده فحسب، ولا يدخله داخل قلبه، فالمال محله اليد، وليس محله القلب.

الثاني: من هو له ستر: وهو من أراد به التعفف عما في أيدي الناس والاستغناء عنهم، والحرية والاستقلال في الرأي، ولم يأخذه إلا من حله، وأراد أن يأخذ ما أحله الله له منه؛ لقول الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الأعراف:32] ، فهذا النوع يستره من الزلل، فلا يذمه الناس بألسنتهم؛ لأنه جعله وقاية دون عرضه.

النوع الثالث: من هو عليه وزر، وهو ما حصل عليه من غير حله، أو بعد أن جمعه -ولو من حله كمن ورثه- صرفه فيما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، فجعله إرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وتجبر به على عباد الله، وطغى وبغى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، فهذا المال يكون عليه وزراً، يأتي ويحمله يوم القيامة: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ[العنكبوت:13] ، فسيأتي يحمله جميعاً؛ لأنه أخذه من غير حله، وهذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره الغلول، فعظم من شأنه، والغلول: أخذ المال العام قبل القسمة أي: قبل أن يأخذ الإنسان نصيبه من الغنيمة، فعظم من شأنه، فقال: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته فرس لها حمحمة، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث. ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بقرة لها خوار، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته شاة تيعر، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته صامت يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تلوح، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟).

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من هذا الخطر الداهم، الذي يتكالب عليه أقوام جهلوا أو تجاهلوا المصير الوارد، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كذلك خطراً في بعض أنواع المال خصوصاً، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اغتصب شبراً من الأرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين).

طوقه: أي: جعل قلادة في عنقه يوم القيامة من سبع أرضين، فيقطع له من كل الأرض المغصوبة، فيجعل في عنقه يوم القيامة.

إن هذا المال ذو خطر جسيم، وأمر عظيم، وهو مع ذلك وقاية للإنسان، ويمكن أن يفتدي به في الدنيا؛ فإن كل إنسان يوم القيامة يستظل بظل صدقته، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والله سبحانه وتعالى بسط يده بالخير إلى عباده، وقال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ[البقرة:245] .

إن الله سبحانه وتعالى: هو القابض الباسط الرزاق الوهاب، وهو الذي دعا عباده إلى أن يقرضوه قرضاً حسناً، مع غناه عما في أيديهم، وما قدموه إنما يقدمونه لأنفسهم، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيراً فليحمد لله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) هنا بين سبحانه وتعالى: أن من قدم له شيئاً فإنه يضاعفه له أضعافاً كثيرة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على وجه التقريب، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وما تصدق عبد بصدقة طيبة إلا أخذها الله بيمينه، فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل) والفلو: هو ولد الفرس، والفصيل: ولد الناقة، وتنميته: تربيته والإنفاق عليه حتى يتم ويصل إلى غاية الثمن.

إن الثقل والضخامة التي في الجبال تحصل بما هو دونها من الإنفاق إذا تقبله الله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه: (لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم، ولا نصيفه) لو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم أي: مد شعير تصدق به أحدهم، ولا نصيفه أي: نصفه، أو النصيف الذي تجعله المرأة على رأسها، وهو ثوب صغير.

الإنفاق في وقت الرخاء وفي وقت الشدة

إن الإنسان الذي أنفق في وقت الرخاء، لا يقاس بالذي أنفق في وقت الشدة؛ ولهذا قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[الحديد:10] ، إن الذين أنفقوا في وقت الشدة يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم), جاء قوم من الأعراب مجتابي النمار، عامتهم من مضر، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان أرحم بالمؤمنين من أنفسهم- فتمعر وجهه رحمة بهم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (أنفق رجل من صاع تمره، من صاع بره، من صاع شعيره، من درهمه، من ديناره).

جاء رجل من الأنصار وقدم درهماً واحداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم) إن درهم ذلك الأنصاري عند الله أكبر وأربح من مائة ألف درهم ينفقها من سواه، لأنه كان من السابقين الذين يقتدى بهم، فكل من اقتفى أثره يكتب له من حسناته دون أن ينقص ذلك من أجر المنفق شيئاً.

فوائد الإنفاق

إن الإنفاق له فوائد أخرى غير الجوائز الأخروية التي فيها ثقل كفة الحسنات: فبه كذلك رفع الدرجات في الدنيا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، فالمنفق خير من المنفَق عليه؛ وكذلك هو مدعاة للغنى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: يا ابن آدم! أنفق أُنفق عليك)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: أعط ممسكاً تلفاً) هذا في كل يوم تطلع فيه الشمس، ملكان ينزلان يرسلهما الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يدعو الملك إلا بما عين له كالشفاعة لا تكون إلا بإذنه: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ[الأنبياء:28] ، فلا يمكن أن يدعو الملك إلا لمن أذن الله بالدعاء له. ثم إن من فوائد الإنفاق الدنيوية أنه يرد الله به البلاء، فإن الصدقة تصطرع مع البلاء في السماء، وترده عن أهل البيت؛ ولهذا رتب الله على ابن آدم ثلاثمائة وستين صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، مقابل ما فيه من المفاصل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس .. .)، وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، وجعل على كل مفصل صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس)، في كل مفصل من المفاصل، سواء كانت مما يعرفه الأطباء، ومما يدرك بالتشريح، أو كانت من المخفيات التي لا تعرف بالعين المجردة، فإن كل تلك المفاصل -عظيمها ودقيقها- رتب الله عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، ويجزئ من ذلك أن يصلي المؤمن ركعتين وقت الضحى، فركعتان وقت الضحى تقومان مقام ثلاثمائة وستين صدقة؛ لكن لا شك أن هذا الترتيب هو إرشاد للعبد، ونفع له، وتقوية لهذه الجوارح، وسعي لتمتيعه بها، ودفع للضرر عنها، فما أحوجنا إلى مثل هذه الصدقات التي ترفع البلاء عن أهله في الدنيا، وترفع المنازل وتطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، وهي مع ذلك تضمن للإنسان الزيادة؛ فالصدقة لا تنقص المال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال)، فالصدقة لا تنقص المال، بل تزيده، وما يبذل الإنسان من المال؛ ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى مخلوف عليه قطعاً، لا بد أن يناله في هذه الحياة الدنيا، فضلاً عن أجره يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى غني عن دراهم الناس ودنانيرهم، وأعطياتهم وإمدادهم، وإنما امتحنهم ليعلم الذين يؤثرون الآخرة على الأولى، ويتقربون إليه بما آتاهم.

وجوه الإنفاق في الخير

مفهوم الصدقة

الصدقة لها مفهومان: مفهوم عام واسع شامل لكل خير: (.. تعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة)، فهذا من مفهوم الصدقة العامة الشاملة، وللصدقة نوع آخر أخص من سابقه، وهي الصدقة الجارية، التي لها أجر بالغ في إزالة الشح والبخل عن الإنسان، وهذا الأثر التربوي هو الذي نحتاج إليه؛ فإن كثيراً من الناس لا يشعر بأنه بخيل، بل يظن نفسه كريماً، لكنه إذا راجع نفسه لن يذكره الشيطان بما أنفق من ماله إلا ما كان في سبيل الله ليستكثره، ومن هنا لا يستشعر أنه بخيل في التعامل مع ربه الكريم الذي أنعم عليه بأنواع النعم، ولطف به بأنواع الألطاف، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[الحشر:9] .

اشتراك جمع في الأجر على عمل واحد

الصدقة الواحدة يدخل الله بها الجنة عدداً من الناس، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أهمية التعاون في الخير، فكل عمل جماعي يشترك فيه الناس يثابون فيه الثواب الجزيل العظيم، والصدقة التي تخرجها المرأة من بيت زوجها، يشترك معها في الأجر، لأنه هو الذي اكتسبها، والمرأة هي التي أنفقتها، وكذا الرسول الذي بلغها، والخازن الذي كان يحفظها، فكل هؤلاء شركاء في الأجر، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم في شأن السهم: (إن السهم الواحد يدخل الله به الجنة ثلاثة: الذي اقتطعه، والذي براه، والذي رمى به) هؤلاء جميعاً يدخلون الجنة بالسهم الواحد الذي يرمى به في سبيل الله، وهذا يدلنا على غنى الله عن خلقه.

الله لا يريد منكم شيئاً، وإنما يريد منكم أن تقدموا لأنفسكم؛ لذلك بين أن الاشتراك في الأجر يحصل بمجرد المساعدة على الخير، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدال على الخير كفاعله)، وقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).

وساوس الشيطان لسد باب الإنفاق

إن المنفق إذا تذكر أنه عندما يدخل يده في جيبه، أو يأخذ قلمه ليوقع العطية التي سينفقها؛ أن الكريم الوهاب الرحيم الرزاق ينظر إليه في تلك الساعة، وأنه مطلع على ما في قلبه، فإن ذلك يقتضي منه الإسراع والمبادرة قبل أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، فالشيطان لا يعد الناس إلا الفقر، كما قال الله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ[البقرة:268] ، وهذا عكس ما أمر الله به: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90] ، فإذا علم الإنسان عداوة الشيطان له، حاول أن يبادر كيده الضعيف، حتى يفوته بما ينفق؛ ولهذا فإن كتمانه لذلك عن نفسه مما يضاعف الأجر: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ[البقرة:271] ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلان تحابا في الله: اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، هؤلاء يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فالصدقة من الأمور التي يفوّت بها الإنسان على الشيطان كيده، فالشيطان يحاول منع الإنسان من التصدق من ماله، ولو بالتأخير؛ ومن حيلة الشيطان على بعض الصالحين أنه يقول: لا تخرج هذا المال على غير أولادك؛ فهم بحاجة إليه. فينازعه، ويقول: لا بد أن نقدم شيئاً للآخرة. فيقول: افعله وصية بعد موتك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك ما هو إلا من البخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيقول عندما يغرغر: كذا لفلان، وكذا لفلان، وقد كان لفلان) وقد كتب له ذلك بالقدر؛ لكن (خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنك لن تتغلب على محاولة الشيطان إلا عندما تكون صحيحاً شحيحاً، وتخرج من مالك الذي تعبت في استخراجه، وأنفقت فيه الأوقات، ثم أنفقته ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى.

ثم إن من مكائد الشيطان ومجاهدته مع الإنسان أنه إذا أراد الإنفاق، وغلبه فلا ينفق إلا شرار ماله، فلا ينفق خيار ماله، وكرائم أمواله، بل يحاول أن يدخر الكرائم، وأن يستخرج المعيب، وهذا ما حذر الله منه في الصدقة الواجبة فقال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ[البقرة:267] أي: لا تقصدوا السيئ من المال المعيب منه؛ لتنفقوه في سبيل الله: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ[البقرة:267] أي: لو كنتم تطالبون أحداً بدين، فقضاه بذلك الخبيث لم تكونوا تأخذوه، إلا أن تغمضوا فيه، فتتغاضوا عن بعض حقكم!!

ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : (إياك وكرائم أموال الناس! واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، لكن هذا في حق الذي سيأخذ من الناس صدقات أموالهم، وهذا لا ينبغي له؛ لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة نفس منه، لكن عليه هو أن تطيب نفسه بما يقدمه لنفسه.

إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، فقال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر).

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!) إن مالك هو الذي سيصحبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم تبعه أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع ماله وأهله، ويبقى عمله).

إن الذين ينفقون هذه الأموال التي هي من حلال يتحدون الشيطان، ويخالفونه ويتغلبون عليه، ويفعلون ما أمروا به من عداوته، فإن الله جمع الخبر والأمر فيما يتعلق بالشيطان في آية واحدة فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ[فاطر:6] ، هذا الخبر وهو صدق: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6] ، وهذا هو الأمر، فعلينا تصديق الخبر وامتثال الأمر؛ لكن لا يمكن أن نتخذ الشيطان عدواً إلا إذا جاهدناه، والذي يطيعه فيما يأمره به ليس ولياً لله قطعاً، بل هو صديق وولي من أولياء الشيطان، والذي يفوت الشيطان بالخير، ويجاهده، ويراغمه، فينفق دون أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، ليس هو من أولياء الشيطان قطعاً، بل هو من أعدائه ومن أولياء الله؛ ولهذا فإن المنفق المخلص هو الذي يوفقه الله سبحانه وتعالى، بخلاف المنفق غير المخلص، وقد ضرب الله له مثلاً عجيباً بالصخرة التي يجتمع فوقها التراب، فيأتي المطر فيذهب به؛ فتبقى صلداً ليس فوقها شيء؛ فكذلك غير المخلص يجتمع حوله المال كالتراب الذي يجتمع على الصخرة، ثم يأتي المطر فيذهب به فتبقى الصخرة وليس عليها ما يرد ويدفع عنها عوامل النحت والتعرية.

الزكاة حق واجب

إن الإنسان المخلص الصادق يعلم أن الله امتحنه بما جعل تحت يده، وأن عليه أن يقوم لله بالحق الذي فيه، فإن لله حقاً في هذا المال، وهذا الحق لا بد أن يعرفه الإنسان في ماله، وأن يؤديه، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ[المعارج:24-25] ، وقال الله تعالى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ[الذاريات:19] ، لا بد أن يعلم الإنسان هذا الحق أولاً ثم يؤديه بعد ذلك.

فقوله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ[المعارج:24] أي: يقدرونه في أنفسهم، ويعلمون الحق الذي عليهم؛ فلذلك يقوم الأغنياء بمسئوليتهم تجاه الفقراء، ولا يعفى الفقراء أيضاً من الإنفاق، بل الإنفاق خطاب عام يستوي فيه الغني والفقير، الجميع مخاطب، لكن كل ينفق على حسب طاقته، فالله عز وجل يقول: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا[الطلاق:7] ، وقد بين أنس رضي الله عنه كما في الصحيح: أن الفقراء القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يذهبون إلى الجبل فيحتطبون، فيبيعون الحطب، فيتصدقون بثمنه على الفقراء، وكانوا يقومون الليل، ويعلمون الناس القرآن، فيأخذ أحدهم حبله في الصباح ويذهب إلى الجبل، فيأتي بالحطب، فيبيعه، فينفق به على أسرة فقيرة، فيكون قد زكى نفسه وماله: زكى نفسه بإعمالها في مرضات الله، وتحركها في عمل الخير، والنفوس التي لا تتحرك ستبقى جامدة، ويركبها الشيطان عند ذلك، لكن الحركة في الخير بركة؛ فلذلك يتحرك هؤلاء للزكاة التي قال الله فيها: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[الأعراف:156] .

وقد قال تعالى عن الكافرين: الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[فصلت:7] ، فبين أن المرحومين هم المؤمنون الذين يؤتون الزكاة، وأن المشركين -المسخوط عليهم، الذين لهم الويل- هم الذين لا يؤتون الزكاة، وهذه الزكاة تشمل الصدقة الواجبة وغيرها، وهي شاملة لزكاة البدن، وزكاة المال، وزكاة الوقت، وزكاة الجاه، وزكاة العلم، كل ذلك داخل فيما تجب زكاته.

وصول المال إلى غير المستحقين

إن الإنسان الذي ينفق ابتغاء مرضاة الله، ينفق ولو وصلت نفقته إلى من لا يستحقها، فإنه يثاب عليها، ويتقبلها الله منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من بني إسرائيل، قال: لأتصدقن الليلة بصدقة -عاهد الله أن يتصدق بصدقة يخلص فيها- فجمع تلك الصدقة من ماله، والناس نيام فخرج بها، فوضعها في يد بغي، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على بغي! فقال: لك الحمد، على بغي. ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخذ صدقته والناس نيام فخرج بها فوضعها في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على غني! فقال: لك الحمد، على غني. ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخذ صدقته، فجعلها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: لك الحمد على سارق، فأتاه ملك في النوم فقال: إن الله تقبل صدقتك؛ فالبغي ما حملها على البغاء والزنا إلا الجوع، فقد أغنيتها عن ذلك، والغني: لم يكن يستشعر أن عليه حقاً، فلما تصدقت عليه عرف أنه ينبغي أن يتصدق، والسارق ما حمله على السرقة إلا الجوع، فقد أغنيته عن ذلك)، فتقبل الله سبحانه وتعالى منه هذا العمل الذي ظاهره أنه وقع في غير محله، ولكن صاحبه كان مخلصاً لله، فأثابه الله على ذلك.

والإنفاق إذا وقع في محله كانت له فوائد عظيمة على المجتمع كافة، تخيل -يا أخي- عندما تأخذ المال الذي اكتسبته من حلال، وأخفيته عن نفسك، وعن حوائجك، وآثرت به الآخرة على الأولى، وجعلته في كمك، وخرجت به تلتمس الفقراء والمحرومين، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، فوجدت أسرة لا ترى فيها مواقد النار، وليس بها غنى، أهلها متعففون لا يتكففون الناس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الفقير الذي يتردد على الأبواب، وترده اللقمة واللقمتان، والطعمة والطعمتان، إنما الفقير المتعفف)، فالفقير المتعفف إذا وصله خيرك -وهو في داره- كتب الله لك أجر ذلك، ووجدته أمامك يوم القيامة.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى جعل التكليف امتحاناً لبني آدم، وجعل رضاه فيما كان مخالفاً للهوى، فللإنسان هوىً يدعوه إلى الانسياق وراءه، فمن انساق وراءه لم ينجح في أي امتحان، ومن خالف هواه فإن الله وعده على ذلك بالجنة.

وإن من أبلغ الامتحانات التي امتحن الله بها عباده مما يخالف الهوى: إنفاق المال في سبيل الله؛ وذلك أن الناس يقولون: المال شقيق النفس، ويظنون أن بقاءها مشروط ببقاء المال بأيديهم، ولا ينالونه في الغالب إلا بجهد ومشقة وعنت؛ فلذلك كان إنفاقهم امتحاناً شاقاً، قل من ينجح فيه من الناس؛ لكن الله سبحانه وتعالى بايع عباده المؤمنين على ما آتاهم من الأنفس والأموال بيعة أكدها في التوراة والإنجيل والقرآن، فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111] ، ودعاهم سبحانه وتعالى إلى التجارة الرابحة معه فيما آتاهم من الأموال، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ[الصف:10-11]، وبدأ هنا بالأموال قبل الأنفس.

وكذلك فإنه سبحانه وتعالى عندما دعا الناس إلى الإنفاق في سبيله، علم مشقة ذلك على النفوس، ومخالفته للهوى، فرتب عليه من الأجور الشيء الكثير، فجعل النفقة مضاعفة إلى سبعمائة ضعف كما في سورة البقرة.

قال الله تعالى: وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ[محمد:36-37].

ثم أكد بعد ذلك على الإنفاق فقال: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[محمد:38] ، وقد عطف الله سبحانه وتعالى هذا الامتحان على الامتحان بالإيمان، فقال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[الحديد:7] .

وهذه الآية فيها تلميح عجيب!! بيّن الله فيه: أن كل ما في هذه الدنيا من الأموال والمنافع هو من الخلق الذي خلقه الله في الأيام الأولى من خلق العالم، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ[فصلت:9-10]، فكل أقوات الأرض وما فيها من الأموال والمنافع، كانت قد خلقت في الأيام الأولى من خلق العالم، فلم تنقص بعد ذلك، فما يأكله الناس منها راجع إلى الأرض، يخلفه الله سبحانه وتعالى فيما بقي في الأرض كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا[المرسلات:25-26]؛ ولكنه دولة بين الناس، يخرج من يد هذا ليصل إلى يد هذا إما بالبيع وإما بالتفليس وإما بالسرقة وإما بالغصب، وإما بالميراث، كحال المساكن في هذه الأرض، فما من بيت معمور اليوم بالسكان إلا وقد سكنه سابقون، وسيسكنه لاحقون، وهكذا أمر الدنيا كلها، فإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نعلم أن ما تحت أيدينا ليس ملكاً لنا؛ ولهذا قال الله تعالى: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[الحديد:7] ، فأنت مستخلف أي: خالف لمن سبقك، ومخلوف أيضاً فيما تحت يدك، وستسلمه لآخرين إما طوعاً وإما كرهاً، ومن هنا يعلم أن الله ما ملكنا الأموال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ[الأنفال:1] ، فالله تعالى لم يملكنا الأموال، وإنما استخلفنا فيها، فجعلها تحت أيدينا أمانة عندنا، ووكالة فقط، والوكيل ينتظر العزل في كل حين؛ ولذلك فعزله إما بالموت، وإما بالحجر، وإما بالفقر، كل ذلك عزل للإنسان عن التصرف فيما تحت يده، ولا يدري الإنسان متى يقع ذلك:

وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعول

الأرزاق بقدر الله سبحانه وتعالى، ووفق الحكمة البالغة: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ[الرعد:41] ، فلهذا: جعل الله الأسباب التي تجمع بها الأموال مقسومة إلى حلال وحرام، وجعل من الناس من يبذل الجهد الكثير فلا ينال إلا القليل مقابل ذلك، ومنهم من يبذل الجهد اليسير، فينال الكثير من الدنيا إذا أقبلت.

وكم من إنسان أعطاها وقته، فلم يبق أي وسيلة يمكن أن يعملها في جمع المال إلا أعملها، ومع ذلك مات فقيراً، ولم ينل من الدنيا مراده! ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكم من إنسان أعمل الحيل لجمعها، فلما بلغ المستوى الذي يطلبه كان على موعد مع ملك الموت، فبينما هو ينعم بزهرتها انتهت حياته.

وكم من إنسان لم يعمل من الحيل إلا الشيء اليسير فاجتمع عنده أكثر من حاجته.

كل ذلك نراه ونشاهده بين ظهرانينا من الذين يعملون للدنيا، فليس الغنى عن كثرة العرض، ولا عن إعمال الحيل، بل هو قدر يكتبه الله سبحانه وتعالى في الدنيا بحكمته، ولا مبدل لحكمه؛ ولهذا قال الحكيم:

باتت تعيرني الإقتار والعدمَ لما رأت لأخيها المال والنعمَ

تباً لرأيك ما الإقتار عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما

فالدنيا كلها مقسومة قسماً، وكذلك إعمال الحيل ليس هو الموصل إلى الغنى، بل الموصل إليه هو القدر؛ ولذلك قال ابن زريق في عينيته:

لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه

جاوزت في نصحه حداً أضر به من حيث قدرت أن النصح ينفعه

فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً من عذله فهو مضني القلب موزعه

يكفيه من حزن الترويع أن له من النوى كل يوم ما يروعه

ما آب من سفر إلا وأزعجه عزم على سفر بالبين يجمعه

كأنما هو من حل ومرتحل موكل بفضاء الله يذرعه

إذا الزمان أراه في الرحيل غنى ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه

وما مكابدة الإنسان واصلة رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه

قد قسم الله رزق الناس بينهم ما يخلق الله من خلق يضيعه

لكنهم كلفوا رزقاً فلست ترى مسترزقاً سوى الغايات يقنعه

والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه أرباً ويمنعه من حيث يطمعه

إذاً: على الإنسان أن يجمل في الطلب أولاً، ثم ليعلم أن ما جعل تحت يده ليس بالضرورة أنه سينتفع به، بل كثير من الناس يبتلى بكثرة العرض، وتجعل تحت يديه أملاك طائلة، ومع ذلك لا يرزق منها إلا الشيء اليسير، فيكون هو خادماً للدنيا، بعد أن كانت الدنيا خادمة له.

إن كثيراً من الناس يعيش مهموماً مغموماً في مكابدة هذه الدنيا؛ فإذا اختل منها أي ركن من الأركان، أو أي لازم من اللوازم، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وظن أن الآخرة قد أقبلت، وقد أقبلت فعلاً؛ لكن ليس معنى ذلك أن ما اختل من الدنيا شيء لم يكن من قبل، بل هكذا حيل الدنيا كلها، وقد قال الحكيم:

مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك

أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك

فلن تنال من الدنيا إلا حظك.

عليك أن تعلم قيمة هذا المال، وقيمة هذه الدنيا كلها، وأن تعلم أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء، فالله سبحانه وتعالى جعل الآخرة خيراً وأبقى؛ ولذلك خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم -وخطابه خطاب لأمته- بهذا الخطاب البليغ فقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:131-132]، فالعاقبة للتقوى، وما في هذه الدنيا من الأعراض سيزول، وبقاء الحال من المحال، فأمرها إلى زوال، وعلى هذا، فإن على الإنسان التقليل من الدنيا ما استطاع، وهذا خير له؛ ولهذا قال الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:23] ، فعلى الإنسان ألا ييئس على ما فاته من هذه الدنيا، وعليه ألا يفرح بما نال منها، فإن ذلك امتحان يمتحنه الله به، فإذا كان كذلك فليعلم المؤمن أن عليه في أموال الدنيا حقين:

الحق الأول: أن يأخذها من حلها.

والحق الثاني: أن يضعها في محلها.

فأخذها من غير حلها محادة لله ورسوله، ووضعها في غير محلها غاية السفه والخسران، فعلى الإنسان حينئذ ألا يأخذها إلا من حلها، وألا يتبع نفسه ما ليس من حله؛ فإن الإنسان الذي يتبع نفسه هواها، ويريد الوصول إلى المال مطلقاً -سواء جاء من حله، أو من غير حله- مفتون بهذه الدنيا، والمفتون لا رأي له؛ لأن الهوى قد تملك قلبه فأصبح عابداً لهواه، وقد جعل الله سبحانه وتعالى عبدة الهوى أضل الناس: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ[القصص:50] .

فالذين يتبعون الهوى هم أضل الناس؛ ولهذا على الإنسان قبل الجمع أن يقدر الهدف.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخيل لثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر) قال أهل العلم: المال كله كذلك، وإنما مثل النبي صلى الله عليه وسلم بالخيل؛ لأهميتها عند العرب، وإلا فالمال كله كذلك، وهذا على القاعدة في تفسير السلف للقرآن، فإن تفسير السلف للقرآن يقصد به ضرب الأمثلة للتفهيم، كمن سألك عن الخبز فقال: ما هو؟ فأخذت خبزة فقلت: هذا الخبز، فليس معنى ذلك أنك تزعم أنك ترفع له ما في أيدي الناس من الخبز، وإنما معنى ذلك: أنك تبين له ما يفيده مدلول هذه الكلمة في لغة العرب، فكذلك ضرب المثل بالخيل هو ضرب مثال للمال كله، فالمال كله على ثلاثة أنواع:

هو النوع الأول: من له أجر، وهو: من لم يأخذه إلا من حله، ولم يضعه إلا في محله، وابتغى به وجه الله سبحانه وتعالى، وأعده لما كلفه الله به، فكان في يده ولم يكن في قلبه، لا يحزن على ما فاته منه، ولا يفرح بما ناله منه، وما كان منه تحت يده فهو في يده فحسب، ولا يدخله داخل قلبه، فالمال محله اليد، وليس محله القلب.

الثاني: من هو له ستر: وهو من أراد به التعفف عما في أيدي الناس والاستغناء عنهم، والحرية والاستقلال في الرأي، ولم يأخذه إلا من حله، وأراد أن يأخذ ما أحله الله له منه؛ لقول الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الأعراف:32] ، فهذا النوع يستره من الزلل، فلا يذمه الناس بألسنتهم؛ لأنه جعله وقاية دون عرضه.

النوع الثالث: من هو عليه وزر، وهو ما حصل عليه من غير حله، أو بعد أن جمعه -ولو من حله كمن ورثه- صرفه فيما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، فجعله إرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وتجبر به على عباد الله، وطغى وبغى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، فهذا المال يكون عليه وزراً، يأتي ويحمله يوم القيامة: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ[العنكبوت:13] ، فسيأتي يحمله جميعاً؛ لأنه أخذه من غير حله، وهذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره الغلول، فعظم من شأنه، والغلول: أخذ المال العام قبل القسمة أي: قبل أن يأخذ الإنسان نصيبه من الغنيمة، فعظم من شأنه، فقال: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته فرس لها حمحمة، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث. ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بقرة لها خوار، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته شاة تيعر، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته صامت يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تلوح، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟).

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من هذا الخطر الداهم، الذي يتكالب عليه أقوام جهلوا أو تجاهلوا المصير الوارد، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كذلك خطراً في بعض أنواع المال خصوصاً، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اغتصب شبراً من الأرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين).

طوقه: أي: جعل قلادة في عنقه يوم القيامة من سبع أرضين، فيقطع له من كل الأرض المغصوبة، فيجعل في عنقه يوم القيامة.

إن هذا المال ذو خطر جسيم، وأمر عظيم، وهو مع ذلك وقاية للإنسان، ويمكن أن يفتدي به في الدنيا؛ فإن كل إنسان يوم القيامة يستظل بظل صدقته، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والله سبحانه وتعالى بسط يده بالخير إلى عباده، وقال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ[البقرة:245] .

إن الله سبحانه وتعالى: هو القابض الباسط الرزاق الوهاب، وهو الذي دعا عباده إلى أن يقرضوه قرضاً حسناً، مع غناه عما في أيديهم، وما قدموه إنما يقدمونه لأنفسهم، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيراً فليحمد لله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) هنا بين سبحانه وتعالى: أن من قدم له شيئاً فإنه يضاعفه له أضعافاً كثيرة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على وجه التقريب، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وما تصدق عبد بصدقة طيبة إلا أخذها الله بيمينه، فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل) والفلو: هو ولد الفرس، والفصيل: ولد الناقة، وتنميته: تربيته والإنفاق عليه حتى يتم ويصل إلى غاية الثمن.

إن الثقل والضخامة التي في الجبال تحصل بما هو دونها من الإنفاق إذا تقبله الله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه: (لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم، ولا نصيفه) لو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم أي: مد شعير تصدق به أحدهم، ولا نصيفه أي: نصفه، أو النصيف الذي تجعله المرأة على رأسها، وهو ثوب صغير.

إن الإنسان الذي أنفق في وقت الرخاء، لا يقاس بالذي أنفق في وقت الشدة؛ ولهذا قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[الحديد:10] ، إن الذين أنفقوا في وقت الشدة يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم), جاء قوم من الأعراب مجتابي النمار، عامتهم من مضر، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان أرحم بالمؤمنين من أنفسهم- فتمعر وجهه رحمة بهم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (أنفق رجل من صاع تمره، من صاع بره، من صاع شعيره، من درهمه، من ديناره).

جاء رجل من الأنصار وقدم درهماً واحداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم) إن درهم ذلك الأنصاري عند الله أكبر وأربح من مائة ألف درهم ينفقها من سواه، لأنه كان من السابقين الذين يقتدى بهم، فكل من اقتفى أثره يكتب له من حسناته دون أن ينقص ذلك من أجر المنفق شيئاً.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع