دراسة علم العقائد


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد:

فقد سبق أن قلنا: إن علم التوحيد هو من أفضل العلوم ولم نقل هو أفضل العلوم، مع أن كثيراً من الذين ألفوا فيه يقولون: هو أفضل العلوم كما قال المقري:

وأفضل العلوم بالإطلاق علـم به معرفة الخـلاق

لكن يجاب عن هذا: بأن هذا العلم ليس وحده هو الذي به معرفة الخلاق، بل علم التفسير كذلك، وعلم القراءات كذلك، وعلم الحديث كذلك، فمعرفة الخلاق لا تكون إلا بهذه العلوم مجتمعة، كما ذكرنا سابقاً في قضية القرآن وتناوله لكل هذه العلوم، فلذلك لا نجزم بأنه أفضل العلوم على الإطلاق؛ لأن هذه العلوم تكليفياً في مرتبة واحدة، ما يجب منها عيناً يجب في الجميع وما يجب كفاية يجب في الجميع، ويصعب علينا أن نضع مسطرة لها بحسب التفاوت في الفضل، بل نقول: هو من أفضل العلوم، ويكفينا هذا، حتى لا نجازف ونقول على الله بغير علم، فمعرفة الله ليست فقط بهذا العلم، بل تدخل في التفسير، وفي القراءات، وفي الحديث، وفي شرح الحديث، وفي كثير من العلوم الأخرى التي سنذكرها.

علم التوحيد في عصر الصحابة

بالنسبة لتاريخ هذا العلم ونشأته وتطوره، أقول: إن الصحابة رضوان الله عليهم جاءهم هذا الوحي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة، فأخذوا ذلك بتربيتهم؛ لأن المقصود بالعلم -كما ذكرنا- هو التوصيل إلى حصول الإيمان وخشية الله، وهم حصلوا على ذلك بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.

فكثير منهم لم يكن من العلماء الكبار، ولم يستوعب كثيراً من المسائل العلمية، لكن مقصود العلم حصل لهم، وهو تحصيل خشية الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28] ، وقد حصل أقل الصحابة مستوى في العلم على مستوىً من الخشية أكبر من مستوى من وراءهم من العلماء بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم له.

فإذاً حصلوا على فائدة العلم، وتجاوزوا كثيراً من المراحل، وقطعوا كثيراً من المسافات في فترة وجيزة، فقد مكث عتاب بن أسيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوماً فقط، وهو في الرابعة عشرة من عمره.

كم مكث معه ابن عباس ؟ كم مكث معه أسامة بن زيد ؟ كم مكثت معه عائشة ؟ سنوات محصورة يقطعون فيها مراحل عجيبة لا تقطع إلا في الأعمار الطويلة جداً.

مالك بن الحويرث كم مكث معه هو وأصحابه؟ فترة وجيزة جداً قطعوا خلالها مراحل عجيبة.

استغناء الصحابة عن تعلم التوحيد رواية ودراية برؤية النبي وسماعه

وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، يقول أحد العلماء في معجزاته:

نور به عن تهج صحبه غني وغير أصحابه مما وحى وهجا

(نور به عن تهج صحبه غني): أصحابه استغنوا عن التهجي والقراءة والكتابة، (وغير أصحابه مما وحى وهجا) أي: مما كتب وقرأ، فنحن اشتغلنا بالقراءة والكتابة لأننا محتاجون إلى ذلك، ولكن النور الذي كان فيه هو أغناهم عن هذا.

ومن هنا فإن أتباع الصحابة أيضاً لم تكن حاجتهم إلى تفصيل هذه العلوم مثل حاجة أتباع التابعين، وبدأت الحاجة من عصر أتباع التابعين، فهو وليد الحاجة، ولا يقال: إن هذا العلم لم يكن موجوداً في عصر الصحابة ولم يهتموا به، بل كان موجوداً، لكن كان في ثنايا القرآن وفي ثنايا السنة مثل غيره من العلوم الأخرى، كذلك الفقه وكذلك الأصول وكذلك الحديث دراية وكذلك التفسير، كلها كانت مجتمعة مع الكتاب والسنة، وقد بينا من قبل أن الوحي يبحث فيه من جهتين: جهة الورود وجهة الدلالة.

وكل العلوم الشرعية راجعة إلى هذين البحثين: بحث الوحي من جهة الرواية وبحث الوحي من جهة الدراية، فالصحابة رضوان الله عليهم لم يحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً.

أما جهة الرواية فلسماعهم من الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4]، فهو الصادق المصدوق، ولسماع بعضهم من بعض وهم جميعاً عدول؛ لأن الله تعالى عدلهم في كتابه فقال: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[التوبة:96] ، وقال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[التوبة:100] ، وقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ[الفتح:18] ، فأثبت لهم الرضا، وإذا ثبت لهم الرضا انتفى عنهم الفسق؛ لأنه لا يرضى عن القوم الفاسقين.

وإذا انتفى عنهم الفسق ثبت لهم ضده وهو العدالة؛ لأن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، فإما أن يكونوا عدولاً وإما أن يكونوا فساقاً، ولا يمكن أن يثبت لهم العدالة والفسق في وقت واحد، ولا يمكن أن يرتفعا عنهم في وقت واحد، إذا ارتفع عنهم الفسق وجبت لهم العدالة، فلما ثبت لهم الرضا، الذي لا يكون عن القوم الفاسقين ثبتت كذلك لهم العدالة، فإذاً هم عدول، فهذا المجال مجال الرواية.

أما مجال الدراية فلم يحتاجوا إلى البحث فيه كثيراً؛ لأن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيته، وإزالة الشبهة وطرد الشيطان بمجرد وجوده كافٍ لتجاوزهم كل العقبات، فقد يشك الإنسان كثيراً من الشكوك، وتأتيه كثير من الوساوس والأوهام، وبمجرد أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم يذهب عنه الشيطان فيزول عنه كل ذلك.

فنحن اليوم مشكلتنا هذا الصراع الشديد المستعصي مع الشيطان، فيأتينا بالشبهات ويأتينا بالشهوات ونغرق في هذه الأمور، لكن هم بطرد الرسول صلى الله عليه وسلم للشيطان تنتفي عنهم هذه الأمور كلها وتزول، بعلاجه بكلمة واحدة أو بنظرة واحدة.

كذلك فإنهم عاشوا في البيئة التي نزل فيها الوحي، فحضروا نزول الآيات، وحضروا ورود الأحاديث، وفهموا لغة العرب على وجه السليقة، لأنها كانت لغتهم، ولم تختلط الحضارات بعد، ولم تتغير الدلالات، فلم يحتاجوا إلى البحث في مجال الدراية.

علم التوحيد في عصور التابعين ومن بعدهم

جاء بعدهم أتباعهم وهم التابعون فلم يحتاجوا كذلك حاجة ماسة إلى البحث في الجهتين:

أما جهة الرواية فلسماعهم من الصحابة المعدلين بتعديل الله، وأما جهة الدراية؛ فلأن الأوضاع لم تختلف ولم تتغير كذلك، فاللغة لم تتغير دلالات مفرداتها، وأوضاع الناس لم تختلف، والحضارات لم تختلف، وبقي فقط نقص هذه الأمة بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أفضل جيل يمكن أن يوجد بعده هم الجيل الذين رباهم، فاستفادوا من هذا الجيل، وحتى ارتسم ذلك فيهم وتشكل، كما ذكرنا أن ابن مسعود رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يحكي هديه ودله، وربى ابن مسعود علقمة فكان يحكي هديه ودله، وربى علقمة إبراهيم النخعي فكان يحكي هديه ودله، وربى إبراهيم منصور بن المعتمر فكان يحكي هديه ودله، وربى منصور سفيان الثوري فكان يحكي هديه ودله، وربى سفيان وكيعاً فكان يحكي هديه ودله، وربى وكيع أحمد بن حنبل فكان يحكي هديه ودله، وربى أحمد بن حنبل أبا داود فكان يحكي هديه ودله، كل واحد ينقل صورة مما رأى فيكون مثالاً للآخر تماماً.

ويقول الشيخ محمد سالم حفظه الله في ذلك:

ربى ابن مسعود مقيم الملـة فكان يحكي هديه ودلـه

وكان علقمـة لابـن أم عبد كهذا للنبي الأمـي

وكان إبراهيم يحكي علقمة واه له من نسب ما أكرمه

وكان منصـور لإبراهيم كذاك يحكي هديه القويم

وكان سفيان بلا قصـور مشبهاً بشيخـه منصور

وهكذا أيضاً وكيع كـان مشبهاً بشيخـه سفيان

وكان أحمد لدى الجميـع مشبهاً بشيخـه وكيـع

كذا أبو داود عند ..... مشبه بـأحمد بن حنبل

فهذه التربية الموروثة التي تتسلسل، فيكون الإنسان إذا أدركته كأنما رأيت صحابياً بالتسلسل، لذلك يقول أحد العلماء عندنا في مرثية الشيخ رحمه الله:

يمثل من هدي الصحابة صـورة ويا حبذا هدي الصحــابة مغنمـا

كما تعكس المرآة وجهاً أمامهـا ويحكي الصدى الصوت الفخيم المرخما

إذاً الحاجة إنما جاءت في عصر أتباع التابعين، فاحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً، جهة الرواية وجهة الدراية، ومن هنا بدأ نخل العلوم وتفصيلها على ما ذكرنا.

بالنسبة لتاريخ هذا العلم ونشأته وتطوره، أقول: إن الصحابة رضوان الله عليهم جاءهم هذا الوحي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة، فأخذوا ذلك بتربيتهم؛ لأن المقصود بالعلم -كما ذكرنا- هو التوصيل إلى حصول الإيمان وخشية الله، وهم حصلوا على ذلك بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.

فكثير منهم لم يكن من العلماء الكبار، ولم يستوعب كثيراً من المسائل العلمية، لكن مقصود العلم حصل لهم، وهو تحصيل خشية الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28] ، وقد حصل أقل الصحابة مستوى في العلم على مستوىً من الخشية أكبر من مستوى من وراءهم من العلماء بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم له.

فإذاً حصلوا على فائدة العلم، وتجاوزوا كثيراً من المراحل، وقطعوا كثيراً من المسافات في فترة وجيزة، فقد مكث عتاب بن أسيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوماً فقط، وهو في الرابعة عشرة من عمره.

كم مكث معه ابن عباس ؟ كم مكث معه أسامة بن زيد ؟ كم مكثت معه عائشة ؟ سنوات محصورة يقطعون فيها مراحل عجيبة لا تقطع إلا في الأعمار الطويلة جداً.

مالك بن الحويرث كم مكث معه هو وأصحابه؟ فترة وجيزة جداً قطعوا خلالها مراحل عجيبة.

وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، يقول أحد العلماء في معجزاته:

نور به عن تهج صحبه غني وغير أصحابه مما وحى وهجا

(نور به عن تهج صحبه غني): أصحابه استغنوا عن التهجي والقراءة والكتابة، (وغير أصحابه مما وحى وهجا) أي: مما كتب وقرأ، فنحن اشتغلنا بالقراءة والكتابة لأننا محتاجون إلى ذلك، ولكن النور الذي كان فيه هو أغناهم عن هذا.

ومن هنا فإن أتباع الصحابة أيضاً لم تكن حاجتهم إلى تفصيل هذه العلوم مثل حاجة أتباع التابعين، وبدأت الحاجة من عصر أتباع التابعين، فهو وليد الحاجة، ولا يقال: إن هذا العلم لم يكن موجوداً في عصر الصحابة ولم يهتموا به، بل كان موجوداً، لكن كان في ثنايا القرآن وفي ثنايا السنة مثل غيره من العلوم الأخرى، كذلك الفقه وكذلك الأصول وكذلك الحديث دراية وكذلك التفسير، كلها كانت مجتمعة مع الكتاب والسنة، وقد بينا من قبل أن الوحي يبحث فيه من جهتين: جهة الورود وجهة الدلالة.

وكل العلوم الشرعية راجعة إلى هذين البحثين: بحث الوحي من جهة الرواية وبحث الوحي من جهة الدراية، فالصحابة رضوان الله عليهم لم يحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً.

أما جهة الرواية فلسماعهم من الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4]، فهو الصادق المصدوق، ولسماع بعضهم من بعض وهم جميعاً عدول؛ لأن الله تعالى عدلهم في كتابه فقال: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[التوبة:96] ، وقال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[التوبة:100] ، وقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ[الفتح:18] ، فأثبت لهم الرضا، وإذا ثبت لهم الرضا انتفى عنهم الفسق؛ لأنه لا يرضى عن القوم الفاسقين.

وإذا انتفى عنهم الفسق ثبت لهم ضده وهو العدالة؛ لأن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، فإما أن يكونوا عدولاً وإما أن يكونوا فساقاً، ولا يمكن أن يثبت لهم العدالة والفسق في وقت واحد، ولا يمكن أن يرتفعا عنهم في وقت واحد، إذا ارتفع عنهم الفسق وجبت لهم العدالة، فلما ثبت لهم الرضا، الذي لا يكون عن القوم الفاسقين ثبتت كذلك لهم العدالة، فإذاً هم عدول، فهذا المجال مجال الرواية.

أما مجال الدراية فلم يحتاجوا إلى البحث فيه كثيراً؛ لأن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيته، وإزالة الشبهة وطرد الشيطان بمجرد وجوده كافٍ لتجاوزهم كل العقبات، فقد يشك الإنسان كثيراً من الشكوك، وتأتيه كثير من الوساوس والأوهام، وبمجرد أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم يذهب عنه الشيطان فيزول عنه كل ذلك.

فنحن اليوم مشكلتنا هذا الصراع الشديد المستعصي مع الشيطان، فيأتينا بالشبهات ويأتينا بالشهوات ونغرق في هذه الأمور، لكن هم بطرد الرسول صلى الله عليه وسلم للشيطان تنتفي عنهم هذه الأمور كلها وتزول، بعلاجه بكلمة واحدة أو بنظرة واحدة.

كذلك فإنهم عاشوا في البيئة التي نزل فيها الوحي، فحضروا نزول الآيات، وحضروا ورود الأحاديث، وفهموا لغة العرب على وجه السليقة، لأنها كانت لغتهم، ولم تختلط الحضارات بعد، ولم تتغير الدلالات، فلم يحتاجوا إلى البحث في مجال الدراية.

جاء بعدهم أتباعهم وهم التابعون فلم يحتاجوا كذلك حاجة ماسة إلى البحث في الجهتين:

أما جهة الرواية فلسماعهم من الصحابة المعدلين بتعديل الله، وأما جهة الدراية؛ فلأن الأوضاع لم تختلف ولم تتغير كذلك، فاللغة لم تتغير دلالات مفرداتها، وأوضاع الناس لم تختلف، والحضارات لم تختلف، وبقي فقط نقص هذه الأمة بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أفضل جيل يمكن أن يوجد بعده هم الجيل الذين رباهم، فاستفادوا من هذا الجيل، وحتى ارتسم ذلك فيهم وتشكل، كما ذكرنا أن ابن مسعود رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يحكي هديه ودله، وربى ابن مسعود علقمة فكان يحكي هديه ودله، وربى علقمة إبراهيم النخعي فكان يحكي هديه ودله، وربى إبراهيم منصور بن المعتمر فكان يحكي هديه ودله، وربى منصور سفيان الثوري فكان يحكي هديه ودله، وربى سفيان وكيعاً فكان يحكي هديه ودله، وربى وكيع أحمد بن حنبل فكان يحكي هديه ودله، وربى أحمد بن حنبل أبا داود فكان يحكي هديه ودله، كل واحد ينقل صورة مما رأى فيكون مثالاً للآخر تماماً.

ويقول الشيخ محمد سالم حفظه الله في ذلك:

ربى ابن مسعود مقيم الملـة فكان يحكي هديه ودلـه

وكان علقمـة لابـن أم عبد كهذا للنبي الأمـي

وكان إبراهيم يحكي علقمة واه له من نسب ما أكرمه

وكان منصـور لإبراهيم كذاك يحكي هديه القويم

وكان سفيان بلا قصـور مشبهاً بشيخـه منصور

وهكذا أيضاً وكيع كـان مشبهاً بشيخـه سفيان

وكان أحمد لدى الجميـع مشبهاً بشيخـه وكيـع

كذا أبو داود عند ..... مشبه بـأحمد بن حنبل

فهذه التربية الموروثة التي تتسلسل، فيكون الإنسان إذا أدركته كأنما رأيت صحابياً بالتسلسل، لذلك يقول أحد العلماء عندنا في مرثية الشيخ رحمه الله:

يمثل من هدي الصحابة صـورة ويا حبذا هدي الصحــابة مغنمـا

كما تعكس المرآة وجهاً أمامهـا ويحكي الصدى الصوت الفخيم المرخما

إذاً الحاجة إنما جاءت في عصر أتباع التابعين، فاحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً، جهة الرواية وجهة الدراية، ومن هنا بدأ نخل العلوم وتفصيلها على ما ذكرنا.

بالنسبة لهذه الأسماء التي ذكرناها لهذا العلم كلها اصطلاحات ولا مشاحة في الاصطلاح، والمهم من الاسم ما يميز المسمى ويعرف به، سواءً كانت تسمية له باسم يدل عليه أو تسمية له باسم لا معنى له؛ لأن الأعلام مسلوبة الدلالة، فلذلك لا اعتراض عليها في الجملة، وبما أنه لم يرد له اسم في الوحي، فإننا نبحث عن الأكمل في التسمية فقط.

أما تسميته بالإيمان فلم يرد أن أحداً سماه بالإيمان، والذين ألفوا كتباً في الإيمان إنما ذكروا فيها الأعمال الداخلة في مسمى الإيمان الذي هو الدين، ولم يخصصوا ذلك بهذا العلم.

بالنسبة للاستدلال بخبر الآحاد في هذا العلم:

فقد ذكرنا أن مستمده من الكتاب والسنة مطلقاً، والكتاب ليس فيه أخبار آحاد إلا شواذ الآيات، ولا يعرف في الشاذ من القراءات في القرآن ما يفيد بعض صفات الله، أو ما يفيد شيئاً من تفصيلات هذا العلم، إنما فيها ما يفيد في مجال الأحكام.

وأما في الحديث فإن الراجح أن أخبار الآحاد إذا صحت يستدل بها في هذا العلم، لكن لا يستدل بها في القطعيات إلا إذا وصلت إلى درجة القطع، وقد ذكرنا أن هذا العلم منه قطعيات ومنه ظنيات، فإذا كانت أخبار الآحاد ظنية فإنها يستدل بها في ظنيات هذا العلم، وما كان قطعياً منها مثل ما احتف بالقرائن فإنه يستدل به في القطعيات، فأخبار الآحاد الراجح أنها إذا احتفت بالقرائن أفادت العلم القطعي، هذا الذي نص عليه أحمد بن حنبل وذكره من دونه.

وبعض المحدثين يرى أن أخبار الآحاد إذا صحت صناعة أفادت العلم القطعي، وهذا يقوله كثير من المحدثين لكن لا معنى له، حتى إن العراقي رحمه الله ذكر الرد على هذا في ألفيته في الحديث حيث قال:

وبالصحيح والضعيف قصـدوا في ظاهر لا القطع والمعتمد

إمساكنا عن حكمنا على سند بأنه أصـح مطلقـاً وقـد

خاض به قـوم ... إلى آخر ما قال.

كذلك من المتكلمين من رأى أن أخبار الآحاد لا تفيد القطع مطلقاً، وعلى هذا رد الاستدلال بها في القطعيات مطلقاً، لكن هذا القول فيه شطط وغلو، ولهذا فإن معنى القطع: القناعة التي تجدها أنت في نفسك، ولاشك أن أهل السنة إذا بلغهم الحديث من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر وصلوا إلى قناعة عقلية به، وهذه القناعة هي المطلوبة.

فلذلك ما اختف بالقرائن يقتضي القطع، فإذا كان الحديث متفقاً عليه أخرجه البخاري في الصحيح ومسلم في الصحيح، فأهل السنة الذين ليسوا غالين فيها ولا جافين عنها فيكفيهم هذا، بحيث يصلون إلى قناعة عقلية بأن هذا صحيح، وهذا هو المطلوب وإن كانت القناعة متفاوتة.

ونحن نعرف أن أهل الغلو يمكن أن يقولوا: هذا الحديث أخرجه البخاري في الصحيح لكنه غير صحيح، أو أخرجه مسلم في الصحيح لكنه غير صحيح، لكن هذا غلو في السنة.

عامة المسلمين وعامة أهل السنة إذا كان الشيء في الصحيحين، وجدوا أنفسهم مسلمين به، وكذلك في الإسناد، مثلما قال العراقي : (وبالصحيح والضعيف قصدوا في ظاهر) فظاهره الصحة، أو ظاهره الضعف؟ ... لا القطع والمعتمد.

إمساكنا عن حكمنا على سند بأنه أصح مطلقـاً وقـد

خاض به قـوم فقيـل مالك عن نافع بمـا رواه الناسك

مولاه واختر حيـث عنه يسند الشافعي قلت وعنه أحمد

بسم الله الرحمن الرحيم.

يقول الشيخ حفظه الله:

[بالبدء باسم الله في التقديم والوصف بالرحمن والرحيم]

ابتدأ البسملة فذكرها كاملة في هذا البيت، وذكر متعلق الباء في باسم الله وهو (البدء) ومعناه: أبتدئ بسم الله الرحمن الرحيم، ومتعلق الباء محذوف أصلاً؛ لأن بسم الله الرحمن الرحيم جار ومجرور، والجار والمجرور لا يمثل جملة وإنما يتعلق بشيء محذوف، وهذا المحذوف إما أن يكون اسماً وإما أن يكون فعلاً، فيمكن أن تقول: ابتدائي بسم الله الرحمن الرحيم، فتكون الجملة اسمية، ويمكن أن تقول: أبتدئ بسم الله الرحمن الرحيم فتكون الجملة فعلية، والفرق بينهما فرق بلاغي؛ لأن الجملة الاسمية تفيد الدوام والاستمرار، والجملة الفعلية تفيد التجدد والحدوث، ومقام الإنسان هو الذي يحدد ذلك.

(بالبدء باسم الله في التقديم) معناه: في بداية هذا النظم وفي مقدمته، (والوصف بالرحمن والرحيم) معناه: الوصف لاسم الله بالرحمن والرحيم، وهذا تمام البسملة.

و(قال) هي التي نصب بها قوله: بالبدء؛ لأن (بالبدء) هو محكي قوله، قال: (بالبدء باسم الله) أي: قال بادئاً باسم الله.

[قال محمد بسالم شفع نجل محمد بعال قد تبع

الهاشمي والمنتمي بالأس إلى المبارك الذي للخمس]

( محمد بسالم شفع) هذا اسمه هو، وهو اسم مركب، فاسمه الحقيقي محمد وشفع بسالم معناه: أضيف إليه سالم وركب معه، (شفع) معناه: أضيف إليه ذلك فكان به شفعاً بعد أن كان وتراً.

(نجل) معناه: ابن، (محمد بعال قد تبع) اسم أبيه أيضاً مركب وهو محمد عال، هكذا ينطق: عال! ولكن أصل التسمية: محمد علي، فـ(عال) وصف من علا يعلو فهو عال، وهذا الشيخ اسمه محمد عال، هكذا ينطقه العوام، فهو نطقه كما يعرف به ويشتهر، وهذا اللفظ صحيح في العربية، فالعالي معناه: المرتفع، وهو من الأسماء المنقوصة حذفت منها الياء إلى عالٍ بالتنوين مثل قاضٍ وداعٍ.

(قد تبع) أي: بذلك.

الهاشمي: هذا نسبه، وهو إلى بني هاشم، وهو من ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب .

(والمنتمي بالأس إلى المبارك).

المنتمي معناها: المنتسب، بالأس معناها: بالنسب والأصل إلى المبارك وهو جده الأعلى وهو أبو قبيلته واسمه المبارك، قال:

[ثم إلى يعقوب منها ينتمي بالله ربي أعتزي وأحتمي]

(الذي للخمس ثم إلى يعقوب منها ينتمي) (الذي ينتمي) معناه: ينتسب بالحلف والمعاشرة والخئولة (للخمس) أي: إلى القبائل الخمس، وهي خمس قبائل كونت تحالفاً على نصرة دين الله، وحاولت إقامة دولة إسلامية ولكنها فشلت بعد حرب طويلة الأمد، فاشتهرت تلك الحرب التي أريد بها إقامة دين الله وإقامة دولة الإسلام وإقامة الجهاد في سبيل الله، وحاربها البرتغاليون والأسبانيون والفرنسيون، وأدى ذلك إلى اسقاط هذه الدولة بعد اثني عشر أميراً مبايعاً فيها، واشتهرت هذه القبائل باسم الخمس، وإحدى هذه القبائل هي بنو يعقوب، وهم من ذرية جعفر بن أبي طالب .

(إلى يعقوب منها ينتمي) معناه: ينتسب.

(بالله ربي أعتزي وأحتمي) يقول: إن هذا الانتساب لمجرد التعريف وليس للاعتزاء بعزاء الجاهلية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا).

فليس للفخر بالنسب ولا لعبية الجاهلية وإنما هو لمجرد التعريف، ولذلك قال: (بالله ربي أعتزي وأحتمي) أي: فلا أتعزز ولا أحتمي إلا بالله عز وجل وحده، فلا عبرة بنسب ولا حسب إنما المعيار هو تقوى الله عز وجل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13] .

قال: [أحمده جل كما ابتداني بنعم ما لي بها يدان]

أثنى على الله سبحانه وتعالى وحمده وبين أن هذا الحمد ينقسم إلى قسمين: حمد لكونه يستحق الحمد وهذا قوله: أحمده جل، وحمد ثان في مقابل نعمته.

والحمد كله ينقسم إلى هذين القسمين: حمد مستحق لأن الله يستحق الحمد في ذاته، وحمد في جزاء نعمته؛ ففي مقابل النعمة يستحق حمداً آخر، فلذلك قال: (كما ابتداني)، معناه: قبل أن أسأله وقبل أن أدعوه أنعم علي بنعم (ما لي بها يدان) معناه: لا أستطيع أن أصل إليها بعملي ولا بغيره، فالنعم لا يمكن أن يقابلها الإنسان بشكر ولا بعمل؛ لأن شكره وعمله نعمة أخرى، فلذلك لا يمكن أن يقابل الإنسان نعمة الله تعالى بأي شيء، فكلمة واحدة من ذكر الله نعمة عظيمة لا يزنها شيء وهكذا.

(كما ابتداني) معناه: ابتدأه بالنعم قبل أن يسأله، فالله عز وجل يعطي قبل المسألة ويعطي إذا سئل، فما أعطاه قبل المسألة ابتدأ الإنسان به من معروفه، وهذا اللفظ قاله ابن أبي زيد في مقدمة الرسالة فقال: (وابتدأهم بنعمته) والشيخ أراد بذلك أن يجعل الإنسان الذي يدرس كتاباً من كتب العلم يرتبط ذهنه بالكتب الأخرى، كل كتاب يجد منه كلمة أو مصطلحاً فيتذكر ذلك.

(ما لي بها يدان) أي: ليس لي بها طاقة، ويقال: ما لفلان يدان بكذا وما له يد بكذا معناه: ليس له قدرة عليه.