خطب ومحاضرات
المقدمات الضرورية لعلم العقائد
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قبل الشروع في كل علم ينبغي أن يطلع الإنسان على عشر مقدمات يحتاج إليها في تصور ذلك العلم الذي يريد الإقدام على تعلمه، وهذه المقدمات العشر هي التي نظمها المقري بقوله:
من رام فناً فليقـــدم أولاً علماً بحده وموضـوع تلا
وواضع، ونسبة وما استمــد منه، وفضله، وحكم يعتمـد
واسم وما أفاد والمســائل فتلك عشر للمنى وسـائل
وبعضهم فيها على البعض اقتصر ومن يكن يدري جميعها انتصر
تصور علم العقائد مبني على أساس عبودية المكلف
فأولها: الحد: والمقصود به تعريف هذا العلم، وشرح ماهيته، ونحن لا نريد أن نسلك طريق المناطقة الذين يتقيدون في الحدود بتعريفات مدققة مختصرة يرد عليها كثير من الاعتراضات، ثم يجاب عن تلك الاعتراضات، فالطريقة العلمية تقتضي منا أن نتصور العلم الذي نريد البحث فيه أولاً قبل الشروع فيه، وتصوره يبدأ ببنائه التأسيسي.
وبناء هذا العلم التأسيسي هو أن الله سبحانه وتعالى حين خلق الإنسان خلقه لعبادته، فعلى أساس ذلك يقوم، فقيمة كل شيء إنما هي بحسب هدفه، والإنسان خلق من أجل العبادة، فتقويمه على أساس ما قام به من هذه العبادة في حياته، مثل هذا الجهاز الذي صنع من أجل التسجيل، فقيمته هي صفاء تسجيله وقوته وإفادته لهذا، فلو كان لا يسجل فلا فائدة فيه وليس له قيمة، وإذا كان يسجل تسجيلاً ناقصاً فقيمته ناقصة، أما إذا صفا تسجيله وصلح فقيمته كاملة، وكذلك الإنسان بحسب هذا.
وقد جعل الله الإنسان بين عنصرين: العنصر الأول: عنصر أسمى منه وأعلى وهو العنصر الملكي، والعنصر الثاني: عنصر أدنى منه وأحط وهو الحيوان البهيمي.
فشرف الله الملائكة بأن كلفهم بالتكاليف ولم يمتحنهم بالشهوات، وجعل الحيوان البهيمي غير ممتحن بالتكاليف، ولكنه مبتلى بالشهوات، وجعل الإنسان بين بين، فهو مكلف بالتكاليف، وممتحن بالشهوات، فإن اتبع الشهوات ولم يؤد التكاليف التحق بالحيوان البهيمي، بل كان أدنى منه: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44] ، وإن لم يتبع الشهوات، وأدى التكاليف التحق بالصنف الأسمى منه فكان كالملائكة: (لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات).
عناصر جسم الإنسان وانبناء الدين على ما يناسبها
ما هي العناصر التي هيأها الله تعالى في الإنسان؟
الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان مؤلفاً من ثلاثة عناصر هي:
العنصر الأول: البدن: الذي هو مادي مما في هذه الأرض.
العنصر الثاني: الروح: التي هي نفخة من أمر الله مجهولة: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85] .
العنصر الثالث: العقل الذي شرف الله به الإنسان على غيره من الحيوانات.
فهذه العناصر الثلاثة على أساسها شرع الله الدين، فجعله ثلاثة عناصر:
الإيمان لمصلحة العقل.
والإسلام لمصلحة البدن.
والإحسان لمصلحة الروح.
وذلك أن كل شيء حي يحتاج إلى تغذية، وهذه العناصر الثلاثة حية، فالعقل تغذيته بالفكر والعلم، والبدن تغذيته بما يرعى صحته ويوفر له غذاءه وزيادة نموه، والروح تغذيتها بما يهذبها ويمنعها من الأخلاق الذميمة، ويطهرها من الشوائب الخسيسة، ويحليها بالأوصاف الحميدة، فلذلك جاءت عناصر الدين ملتئمة مع هذه العناصر، فمثلاً: جاء الإيمان لمصلحة العقل، فإنه يضع له حدوداً يبين له فيها ما يحتاج إلى معرفته، وينير له الطريق في أمور لا يمكن أن يصل إليها، ويحجزه عن التخبط في أمور هو محتاج إلى البحث فيها.
التسليم بقصور العقل منطلق إلى الإيمان
المنطلق الأول للإيمان هو التسليم بأن العقل قاصر، فلا يمكن له أن يحيط بكل شيء، والإنسان محتاج إلى الوحي في كل أموره، وذلك أن طريق المعرفة التي يحتاج إليها الإنسان يريد بها اكتشاف نجدين: نجد الضرر ونجد المنفعة، يريد أن يعرف ما ينفعه وما يضره.
ومنفعة الإنسان نوعان: نوع دنيوي ونوع أخروي، فالنوع الأخروي محجوب عن العقل نهائياً لا يمكن أن يصل إليه، فلا يمكن أن يكتشف الإنسان منفعة أخروية أو مضرة أخروية؛ لأن كل أمور الآخرة محجوبة عنه لا يعرفها إلا عن طريق الوحي.
وكذلك المنافع الدنيوية والمضار الدنيوية يصعب على الإنسان تحديدها بعقله؛ لأن الإنسان قد يتوقع شيئاً من المصلحة والمنفعة، ثم ينقلب عنه ويراه مضرة سافرة، وسمي القلب قلباً لتقلبه.
ومما تعرف به ربك نقض العزائم، حيث تعزم اليوم على أمر وبعد سنة تجد رأيك قد تغير عنه تماماً، وتجد أمراً كنت تعزم على أدائه، وتحرص عليه فإذا بك قد زهدت فيه وتركته بالكلية.
وكذلك قد يتوقع الإنسان في شيء مصلحة فيما يعود عليه بالضرر من حيث لا يشعر، فكثير من المآكل والمشارب التي يحبها الإنسان ويرغب فيها تعود عليه بالضرر، فمن أجل هذا عرف أن المنافع والمضار الدنيوية أيضاً لا يمكن أن يحيط بها العقل، فهي محتاجة إلى تحديدها بالوحي.
والإنسان بحاجة إلى هذا الوحي حتى يؤمن بأركان الإيمان الستة، فتكون منطلقاً سليماً للعقل؛ لأن العقل جارحة من جوارح الإنسان، فللإنسان عين أقرب شيء إليها الجفن، وإذا أطبق عليها جفنه لا يرى العروق الحمراء التي فيها، ولا يرى الألوان التي فيها لقربها، وكذلك إذا وقف في مكان معتدل فإن لبصره حدوداً لا يتعداها، وذلك أنه مسبوق بالعدم وسيلحقه العدم أيضاً، فهو حلقة من الوجود في دائرة كبيرة من العدم، ومن أجل هذا لا يمكن أن يدرك إلا شيئاً محصوراً، وكذلك سمعه، وكذلك عقله، فالعقل له مبادئ منها ينطلق إلى المشاهدات والحسيات والمسلمات.
كثير من الأمور التي تربى عليها الإنسان في صغره لا يناقش عقله فيها، مثل: العادات، لا يسأل الإنسان عقله: لماذا ألبس هذا النوع من اللباس؟ لماذا أجلس هذا النوع من الجلوس؟ لماذا أعمل هذا النوع من الأعمال؟ لأن هذه أمور فطر عليها، وتربى عليها من بداية خلقته، لكن ما تجدد لديه هو الذي يتعب العقل بكثرة مناقشته، لأنه شيء جديد عليه.
المسلمات الأولية يسلم بها العقل، ويقتنع بها قناعة مطلقة، وهذه القناعة لا تقبل المناقشة، ويجد الإنسان نفسه مضطراً إلى التسليم بها بالكلية، وكذلك ينبغي له في المجالات التي لا يصل إليها العقل، وهي كل المجالات المتمحضة للوحي؛ ينبغي أن ينطلق الإنسان فيها من التسليم المطلق، فما عجز العقل عن تصوره فهذا لنقص عقله لا لنقص الوحي، ولا لقصور فيه، فهو أمر مسلم ثابت لا يقبل النقاش، والعقل إما أن يفهمه فهذا فضل من الله وهبة منه، وإما أن لا يفهمه فالنقص في العقل لا في الوحي.
وإذا انطلق الإنسان من التسليم بهذا فإن العقل قد استنار واستفاد، وعرف حقيقة الإيمان وأشربه، ولهذا علامات تدل عليه، فمن علامات إشراب العقل البشري للإيمان: محبته لله سبحانه وتعالى، واتصاله به، وكذلك رضاه بقضائه وقدره، وكذلك توكله عليه واعتماده عليه في كل أموره، وكذلك مسارعته للتوسل إليه بالأعمال الصالحة، وكذلك الدعاء واللجأ إلى الله عندما يدرك الإنسان ضعفه وأنه لا حول له ولا قوة إلا بلله، وكذلك خوفه من الله سبحانه وتعالى ورجاؤه لما عنده، فهذا دليل على أن الإيمان قد خالط بشاشة قلبه، وأنه انطلق من باب التسليم، حيث لم يعتمد على الأسباب الظاهرية ولم يناقش عقله في الأمور الباطنية.
تعلق الإسلام بمصلحة البدن والإحسان بمصلحة الروح
والبدن مصلحته في الإسلام؛ لأن الإسلام يتعلق بالجوارح الظاهرة، فهذا البدن هو الذي يمثل كيان الإنسان في هذه الدنيا، وهو محتاج إلى تغذية، ومحتاج إلى منافع مختلفة، وهذه المنافع تشملها دائرتان: دائرة الحلال، ودائرة الحرام.
ولا يمكن أن يعرف الإنسان دائرة الحلال من دائرة الحرام إلا بالإسلام الذي هو التشريع؛ ولهذا فإن الإسلام يحدد العلاقات، فهو النظام الذي يحدد للإنسان، العلاقة بالله كيف تبدأ من ناحية العبادات، والعلاقة بالناس كيف تبدأ من ناحية الأخلاق والمعاملات، ويبين علاج ما يقع من المشكلات مثل الأقضية والحدود والتعزيرات، فهذه الأمور هي التي يتعلق بها الإسلام ويشبع رغبة الإنسان فيها، ويحقق له مصالح بدنه بهذا التشريع.
والروح ليست من هذا العالم الذي نعيش فيه، فهي غريبة عن عناصر الأرض؛ وغربتها تقتضي وحشة ونفوراً، وتقتضي تقلباً وانزعاجاً من كثير من الأمور، فتحتاج إلى ما يثبتها، وتثبيتها هو بالإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يحسن الإنسان تعامله مع الله ويحسن تعامله مع الناس، ويعرف حالته هو ومستواه وما يرتاح له، ومن هنا يستقيم توازنه ويعتدل، فلا يغلب أي جانب من الجوانب، فمن غلب أي جانب من الجوانب فليس بمستقيم، حتى من غلب جانب العبادات فلم يراع حقوق بدنه ولا حقوق أهله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو بن العاص ؛ فهذا التصرف دليل على عدم الاعتدال وعدم التوازن.
وكذلك مختلف المجالات الأخرى كاتباع الشهوات، فالذي ليس له شهوة أصلاً ولا ميل إلى أي شيء يعد مريضاً، والذي تزداد شهوته لأي شيء حتى ولو للعلم حتى تتعدى إطارها الحقيقي يعد مريضاً أيضاً؛ لأنه غير معتدل، وهذه الشهوة طبيعة في الإنسان يحتاج إلى أن يزنها بميزان، وهذا الميزان هو الإحسان، (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
من هنا عرف أن الدين كله شرع لمصلحة ابن آدم، والله سبحانه وتعالى لا مصلحة له فيه، ولا يمكن أن يصل إليه بنو آدم جميعاً بمضرة ولا بنفع، وإنما هي أعمالهم يكتبها لهم ثم يوفيهم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
والذي نريد البحث فيه هو مجال الإيمان بحقوقه، ومنطلق البحث في هذا المجال هو معرفة مسائله التي تدرس فيه، وقد علم أن الذي يدرس فيه هو التصور العقلي حيال الحياة والآخرة، وحيال التعامل مع الله والتعامل مع الناس، وأصل ذلك من الناحية العقلية.
فهذه المسائل التي تجتمع في هذا العلم تسمى علم الإيمان أو علم الاعتقاد، وهذا التصور تصور فضفاض يصعب ضبطه، ولكنك إذا نظرت إلى أي شيء له مجال يتعلق بالعقل فاعلم أنه داخل في مجالات الاعتقاد.
فأولها: الحد: والمقصود به تعريف هذا العلم، وشرح ماهيته، ونحن لا نريد أن نسلك طريق المناطقة الذين يتقيدون في الحدود بتعريفات مدققة مختصرة يرد عليها كثير من الاعتراضات، ثم يجاب عن تلك الاعتراضات، فالطريقة العلمية تقتضي منا أن نتصور العلم الذي نريد البحث فيه أولاً قبل الشروع فيه، وتصوره يبدأ ببنائه التأسيسي.
وبناء هذا العلم التأسيسي هو أن الله سبحانه وتعالى حين خلق الإنسان خلقه لعبادته، فعلى أساس ذلك يقوم، فقيمة كل شيء إنما هي بحسب هدفه، والإنسان خلق من أجل العبادة، فتقويمه على أساس ما قام به من هذه العبادة في حياته، مثل هذا الجهاز الذي صنع من أجل التسجيل، فقيمته هي صفاء تسجيله وقوته وإفادته لهذا، فلو كان لا يسجل فلا فائدة فيه وليس له قيمة، وإذا كان يسجل تسجيلاً ناقصاً فقيمته ناقصة، أما إذا صفا تسجيله وصلح فقيمته كاملة، وكذلك الإنسان بحسب هذا.
وقد جعل الله الإنسان بين عنصرين: العنصر الأول: عنصر أسمى منه وأعلى وهو العنصر الملكي، والعنصر الثاني: عنصر أدنى منه وأحط وهو الحيوان البهيمي.
فشرف الله الملائكة بأن كلفهم بالتكاليف ولم يمتحنهم بالشهوات، وجعل الحيوان البهيمي غير ممتحن بالتكاليف، ولكنه مبتلى بالشهوات، وجعل الإنسان بين بين، فهو مكلف بالتكاليف، وممتحن بالشهوات، فإن اتبع الشهوات ولم يؤد التكاليف التحق بالحيوان البهيمي، بل كان أدنى منه: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44] ، وإن لم يتبع الشهوات، وأدى التكاليف التحق بالصنف الأسمى منه فكان كالملائكة: (لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات).
ما هي العناصر التي هيأها الله تعالى في الإنسان؟
الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان مؤلفاً من ثلاثة عناصر هي:
العنصر الأول: البدن: الذي هو مادي مما في هذه الأرض.
العنصر الثاني: الروح: التي هي نفخة من أمر الله مجهولة: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85] .
العنصر الثالث: العقل الذي شرف الله به الإنسان على غيره من الحيوانات.
فهذه العناصر الثلاثة على أساسها شرع الله الدين، فجعله ثلاثة عناصر:
الإيمان لمصلحة العقل.
والإسلام لمصلحة البدن.
والإحسان لمصلحة الروح.
وذلك أن كل شيء حي يحتاج إلى تغذية، وهذه العناصر الثلاثة حية، فالعقل تغذيته بالفكر والعلم، والبدن تغذيته بما يرعى صحته ويوفر له غذاءه وزيادة نموه، والروح تغذيتها بما يهذبها ويمنعها من الأخلاق الذميمة، ويطهرها من الشوائب الخسيسة، ويحليها بالأوصاف الحميدة، فلذلك جاءت عناصر الدين ملتئمة مع هذه العناصر، فمثلاً: جاء الإيمان لمصلحة العقل، فإنه يضع له حدوداً يبين له فيها ما يحتاج إلى معرفته، وينير له الطريق في أمور لا يمكن أن يصل إليها، ويحجزه عن التخبط في أمور هو محتاج إلى البحث فيها.
المنطلق الأول للإيمان هو التسليم بأن العقل قاصر، فلا يمكن له أن يحيط بكل شيء، والإنسان محتاج إلى الوحي في كل أموره، وذلك أن طريق المعرفة التي يحتاج إليها الإنسان يريد بها اكتشاف نجدين: نجد الضرر ونجد المنفعة، يريد أن يعرف ما ينفعه وما يضره.
ومنفعة الإنسان نوعان: نوع دنيوي ونوع أخروي، فالنوع الأخروي محجوب عن العقل نهائياً لا يمكن أن يصل إليه، فلا يمكن أن يكتشف الإنسان منفعة أخروية أو مضرة أخروية؛ لأن كل أمور الآخرة محجوبة عنه لا يعرفها إلا عن طريق الوحي.
وكذلك المنافع الدنيوية والمضار الدنيوية يصعب على الإنسان تحديدها بعقله؛ لأن الإنسان قد يتوقع شيئاً من المصلحة والمنفعة، ثم ينقلب عنه ويراه مضرة سافرة، وسمي القلب قلباً لتقلبه.
ومما تعرف به ربك نقض العزائم، حيث تعزم اليوم على أمر وبعد سنة تجد رأيك قد تغير عنه تماماً، وتجد أمراً كنت تعزم على أدائه، وتحرص عليه فإذا بك قد زهدت فيه وتركته بالكلية.
وكذلك قد يتوقع الإنسان في شيء مصلحة فيما يعود عليه بالضرر من حيث لا يشعر، فكثير من المآكل والمشارب التي يحبها الإنسان ويرغب فيها تعود عليه بالضرر، فمن أجل هذا عرف أن المنافع والمضار الدنيوية أيضاً لا يمكن أن يحيط بها العقل، فهي محتاجة إلى تحديدها بالوحي.
والإنسان بحاجة إلى هذا الوحي حتى يؤمن بأركان الإيمان الستة، فتكون منطلقاً سليماً للعقل؛ لأن العقل جارحة من جوارح الإنسان، فللإنسان عين أقرب شيء إليها الجفن، وإذا أطبق عليها جفنه لا يرى العروق الحمراء التي فيها، ولا يرى الألوان التي فيها لقربها، وكذلك إذا وقف في مكان معتدل فإن لبصره حدوداً لا يتعداها، وذلك أنه مسبوق بالعدم وسيلحقه العدم أيضاً، فهو حلقة من الوجود في دائرة كبيرة من العدم، ومن أجل هذا لا يمكن أن يدرك إلا شيئاً محصوراً، وكذلك سمعه، وكذلك عقله، فالعقل له مبادئ منها ينطلق إلى المشاهدات والحسيات والمسلمات.
كثير من الأمور التي تربى عليها الإنسان في صغره لا يناقش عقله فيها، مثل: العادات، لا يسأل الإنسان عقله: لماذا ألبس هذا النوع من اللباس؟ لماذا أجلس هذا النوع من الجلوس؟ لماذا أعمل هذا النوع من الأعمال؟ لأن هذه أمور فطر عليها، وتربى عليها من بداية خلقته، لكن ما تجدد لديه هو الذي يتعب العقل بكثرة مناقشته، لأنه شيء جديد عليه.
المسلمات الأولية يسلم بها العقل، ويقتنع بها قناعة مطلقة، وهذه القناعة لا تقبل المناقشة، ويجد الإنسان نفسه مضطراً إلى التسليم بها بالكلية، وكذلك ينبغي له في المجالات التي لا يصل إليها العقل، وهي كل المجالات المتمحضة للوحي؛ ينبغي أن ينطلق الإنسان فيها من التسليم المطلق، فما عجز العقل عن تصوره فهذا لنقص عقله لا لنقص الوحي، ولا لقصور فيه، فهو أمر مسلم ثابت لا يقبل النقاش، والعقل إما أن يفهمه فهذا فضل من الله وهبة منه، وإما أن لا يفهمه فالنقص في العقل لا في الوحي.
وإذا انطلق الإنسان من التسليم بهذا فإن العقل قد استنار واستفاد، وعرف حقيقة الإيمان وأشربه، ولهذا علامات تدل عليه، فمن علامات إشراب العقل البشري للإيمان: محبته لله سبحانه وتعالى، واتصاله به، وكذلك رضاه بقضائه وقدره، وكذلك توكله عليه واعتماده عليه في كل أموره، وكذلك مسارعته للتوسل إليه بالأعمال الصالحة، وكذلك الدعاء واللجأ إلى الله عندما يدرك الإنسان ضعفه وأنه لا حول له ولا قوة إلا بلله، وكذلك خوفه من الله سبحانه وتعالى ورجاؤه لما عنده، فهذا دليل على أن الإيمان قد خالط بشاشة قلبه، وأنه انطلق من باب التسليم، حيث لم يعتمد على الأسباب الظاهرية ولم يناقش عقله في الأمور الباطنية.
والبدن مصلحته في الإسلام؛ لأن الإسلام يتعلق بالجوارح الظاهرة، فهذا البدن هو الذي يمثل كيان الإنسان في هذه الدنيا، وهو محتاج إلى تغذية، ومحتاج إلى منافع مختلفة، وهذه المنافع تشملها دائرتان: دائرة الحلال، ودائرة الحرام.
ولا يمكن أن يعرف الإنسان دائرة الحلال من دائرة الحرام إلا بالإسلام الذي هو التشريع؛ ولهذا فإن الإسلام يحدد العلاقات، فهو النظام الذي يحدد للإنسان، العلاقة بالله كيف تبدأ من ناحية العبادات، والعلاقة بالناس كيف تبدأ من ناحية الأخلاق والمعاملات، ويبين علاج ما يقع من المشكلات مثل الأقضية والحدود والتعزيرات، فهذه الأمور هي التي يتعلق بها الإسلام ويشبع رغبة الإنسان فيها، ويحقق له مصالح بدنه بهذا التشريع.
والروح ليست من هذا العالم الذي نعيش فيه، فهي غريبة عن عناصر الأرض؛ وغربتها تقتضي وحشة ونفوراً، وتقتضي تقلباً وانزعاجاً من كثير من الأمور، فتحتاج إلى ما يثبتها، وتثبيتها هو بالإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يحسن الإنسان تعامله مع الله ويحسن تعامله مع الناس، ويعرف حالته هو ومستواه وما يرتاح له، ومن هنا يستقيم توازنه ويعتدل، فلا يغلب أي جانب من الجوانب، فمن غلب أي جانب من الجوانب فليس بمستقيم، حتى من غلب جانب العبادات فلم يراع حقوق بدنه ولا حقوق أهله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو بن العاص ؛ فهذا التصرف دليل على عدم الاعتدال وعدم التوازن.
وكذلك مختلف المجالات الأخرى كاتباع الشهوات، فالذي ليس له شهوة أصلاً ولا ميل إلى أي شيء يعد مريضاً، والذي تزداد شهوته لأي شيء حتى ولو للعلم حتى تتعدى إطارها الحقيقي يعد مريضاً أيضاً؛ لأنه غير معتدل، وهذه الشهوة طبيعة في الإنسان يحتاج إلى أن يزنها بميزان، وهذا الميزان هو الإحسان، (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
من هنا عرف أن الدين كله شرع لمصلحة ابن آدم، والله سبحانه وتعالى لا مصلحة له فيه، ولا يمكن أن يصل إليه بنو آدم جميعاً بمضرة ولا بنفع، وإنما هي أعمالهم يكتبها لهم ثم يوفيهم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
والذي نريد البحث فيه هو مجال الإيمان بحقوقه، ومنطلق البحث في هذا المجال هو معرفة مسائله التي تدرس فيه، وقد علم أن الذي يدرس فيه هو التصور العقلي حيال الحياة والآخرة، وحيال التعامل مع الله والتعامل مع الناس، وأصل ذلك من الناحية العقلية.
فهذه المسائل التي تجتمع في هذا العلم تسمى علم الإيمان أو علم الاعتقاد، وهذا التصور تصور فضفاض يصعب ضبطه، ولكنك إذا نظرت إلى أي شيء له مجال يتعلق بالعقل فاعلم أنه داخل في مجالات الاعتقاد.
الإيمان بالله
أصول الاعتقاد هي هذه الأمور الستة التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في أركان الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، فهي محيطة بأهم الجوانب التي يتعلق بها العقل.
والإيمان بالله مقتض للجوانب اللاحقة كلها؛ لأن المنطلق في التعامل كله هو تعاملك مع ربك الذي خلقك فسواك، فلا أحد أمنّ عليك منه، وإذا لم تحسن العلاقة معه فلن يرضى عنك أحد، ولن يثق أحد بأنك ستحسن العلاقة به، إذا أسأت العلاقة مع ربك الذي فطرك وسواك وأنعم عليك بأنواع النعم.
الإيمان بالملائكة
ومن أصول الإيمان بملائكة الله، والعقل معتاد تصور كثير من الأمور التي تأتي بها الأرواح وتتصل بها، والعقل يحتاج إلى تحديد موقف منها: هل هي مجرد خرافة أو هي شيء واقعي؟
والذي ينبغي أن يرتبط به العقل ما يفيد الإنسان منها، وهذه الجنود الربانية المجهولة بالنسبة لنا كثيرة جداً لا نحصرها بالملائكة، بل يقول الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ[المدثر:31] ، لكن الذي يعنينا في مجال الإيمان والاعتقاد مما ينفع عقولنا هو الإيمان بالملائكة؛ لأننا إذا آمنا بالملائكة فسنحاول التنافس معهم؛ لأنهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6] ، ولأنهم العنصر الذي هو أسمى منا، ونحاول الالتحاق به، فالإيمان بهم مهم جداً لنا من هذا الجانب.
وهم قريبون منا، فهم المكلفون بحركاتنا وسكناتنا، ويكتبون علينا كل أمورنا: إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12] ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18] .
الإيمان بالكتب
ومن أصول الإيمان: الإيمان بالكتب المنزلة:
والعقل تغذيته بالثقافة والعلم، وأهم العلم ما ينزله الله على عباده من الوحي؛ لأن العلم كله من عند الله وهو قسمان: علم وحي، وعلم إلهام.
فعلم الوحي شرفه الله بأن لم يدع فيه مجالاً للاختلافات، وإنما أنزله منضبطاً، وحفظه حتى أوصله إلينا، وجعل حظوظنا فيه متفاوتة بحسب أفهامنا، فمنا من يفهم منه الكثير، ومنا من يفهم القليل، وأما الإلهام فإن الله سبحانه وتعالى جعله قابلاً للاختلاف؛ لأن مجالات العقل مختلفة، يفتح الله على هذا في مجال معين، ويفتح على هذا ما يكمل به ذلك، ويفتح لهذا حتى منتصف الطريق ثم يكمل من سواه، ومن هنا تتشعب الإلهامات، لكن الجميع من عند الله ما كان منه وحياً وما كان إلهاماً، العلم كله لله، والبشر ما لهم شيء من العلم: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85] ، وقوله: (أوتيتم): يعني أنه ليس من تلقاء أنفسكم، إنما هو هبة من عند الله يمنحها لمن يشاء.
الإيمان بالكتب المنزلة يقتضي من الإنسان أن ينخل هذه العلوم لمعرفة ما هو مفيد منها وما ليس كذلك، وما هو غير قابل للنقاش من العلوم، وهو الثوابت التي نزلت بالوحي، وما هو راجع إلى الضوابط والخطوط العريضة التي بينت لنا في الوحي، إذاً: هذا الإيمان بالكتب المنزلة.
الإيمان بالرسل
ومن أصول الإيمان: الإيمان برسل الله:
وذلك في مجال التعامل بين الناس، والناس منهم المحرومون ومنهم المنعم عليهم، وأفضل المنعم عليهم هم الرسل الذين أنعم عليهم بولايته المطلقة، فلم يجعل للشيطان عليهم أي سبيل، ولا له عليهم أي جهة يمكن أن يدخل عليهم منها، فعصمهم الله من الشيطان، هؤلاء هم أشرف البشر، وانتفاعنا بالإيمان بهم مثل انتفاعنا بالإيمان بالملائكة؛ لأننا نريد الاقتداء بهم والاتصال بهم، ومعرفة أن ما سلكوه هو طريق الحق الذي يعصم من الشيطان.
وما سواه طرق غير مأمونة يمكن أن يكون فيها صواب ويمكن أن يكون فيها خطأ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر).
إذاً: الإيمان بهم مهم جداً لعقولنا حتى تتشبث بشيء واضح في الطريق، ومن هنا فإن سورة الفاتحة التي نقرؤها في كل ركعة من صلاتنا فيها أمر عجيب في مجال الإيمان بالرسل، حيث قال الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:6-7].
قال: (اهدنا الصراط المستقيم) ولم يقل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؛ لأنه لو قال: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، لكان هذا يقتضي أن يعرف الحق بالرجال، والقاعدة الشرعية: أن الرجال يعرفون بالحق، وأن الحق لا يعرف بالرجال، فلما قال: (اهدنا الصراط المستقيم) صار الصراط غير مضاف إلى أحد، وإنما هو الصراط المستقيم المرضي عند الله، ثم عرفه بعد ذلك بسلوك الرسل له؛ لأنهم الأمارات والعلامات البارزة؛ لأنهم ليس للشيطان عليهم سبيل، وإذا سلكوا هذا الطريق عرفنا أنه طريق الحق، فقال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:7] ، على وجه البدلية: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7] .
الإيمان باليوم الآخر
ومن أصول الإيمان الإيمان باليوم الآخر:
وما أحوج الإنسان إلى هذا في مجال عقله، فالعقل يبحث كما ذكرنا بين هذين النجدين: نجد المنفعة ونجد المضرة، فإذا اقتصر في بحثه على حياته الدنيا فقط، ولم يعمل إلا لمدة حياته، كان العقل ذا مجال ضيق، ولم يستفد أحد من أحد؛ لأن كل إنسان لا يدري متى يموت، فيفكر فقط لساعته التي هو فيها، ولا يفكر للمستقبل، ومن هنا تتعطل مصالح الناس، إذ لو كان الإنسان لا يبني إلا على قدر حاجته في لحظته، ولا يزرع إلا على قدر حاجته في لحظته تلك، ولا ينتج إلا على قدر حاجته في لحظته تلك؛ لتوقفت المصالح كلها، لكن بإيمان الإنسان بالمستقبل، وإيمانه باليوم الآخر، وبالعرض على الله سبحانه وتعالى، وبأن الناس جميعاً من مضى منهم ومن يأتي سيحشرون إلى ديان السماوات والأرض، ويوقفون على أعمالهم، وأن كل شيء مكتوب، وأن منهم شقياً وسعيداً: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ[هود:106-108] .
وتذكر الإنسان أنه حينئذ إما أن يكون من هؤلاء وإما أن يكون من هؤلاء: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ[آل عمران:106] ، إما إلى جنة وإما إلى نار، وبأن مصلحته الحقيقية هي مصلحته الأخروية، وبأن وقايته الحقيقية هي وقايته من عذاب يوم القيامة، فأية مصيبة أصابته في الدنيا إذا كان بعدها نعيم الجنة فإنها لا أثر لها ولا ضرر، وأي نعيم وجده في هذه الدنيا إذا كان بعده عذاب الآخرة في النار فلا نفع فيه أبداً، فلا خير في نعيم بعده النار، ولا شر في بعده الجنة؛ إيمانه بهذا مقتضٍ منه للاستمرار في عمله حتى في الدنيا، حتى للمصالح الدنيوية، فالإيمان باليوم الآخر نافع حتى في الإنتاج الدنيوي، فضلاً عن الإنتاج الأخروي الذي هو العبادة التي هي قيمة الإنسان.
الإيمان بالقدر
ومن أصول الإيمان: الإيمان بقدر الله خيره وشره:
فإن الإنسان مفطور على الجبن والبخل والخوف والخور، لكن إذا علم أن كل شيء مكتوب قبل أن يحصل: (وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)، فإنه سيتشجع، ويعرف أن موتته واحدة ومكتوبة: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[النساء:78].
ومن هنا لا يمنعه الجبن من الإقدام، ويعرف أن ما لم يكتب له لا يمكن أن يناله، وما كتب عليه لا يمكن أن يدفعه بوجه من الوجوه، ويعرف أن رزقه محدد مكتوب وهو في بطن أمه، وأنه لن يزداد شيئاً ولن ينتقص من شيء، ويعرف أن الثقلين الإنس والجن كلهم مسيرون وفق قدر مكتوب، ليس لأحد منهم أي تصرف إلا وفق هذه الخطة المرسومة، لا يستطيع أحد أن ينفع ولا أن يضر إلا وفق ما كتب له، ومن هنا يكون الاتصال بالله سبحانه وتعالى وحده، فلا خوف إلا منه، ولا رجاء إلا إليه، ولا تعلق إلا به، ولا دعاء إلا له، ولا يمكن أن يحول أي جهد بشري دون تطبيق ما أمر به، ولا أن يوقع أي خوف ولا أي طمع فيما نهى عنه؛ لأن الله وحده هو الذي يملك النفع والضر والحياة والموت والنشور، ولا يملك ذلك أحد سواه. هذه فائدة الإيمان بالقدر.
من ثمرات الإيمان ومصالحه
واضح جداً أن الإيمان لمصلحة العقل، وأن هذه هي مجالات العقل الكبرى التي ينطلق منها، فهذه المجالات الكبرى التي ينطلق منها العقل فيها كثير من التفصيلات، وكثير من الجوانب المتعددة، فهذه الجوانب في أخذ الديانة المنزلة من عند الله تعالى لم تمحض وحدها، ومن حكمة الله وسنته ألا يفصل هذه العلوم ويجعل كل علم منها كتاباً مستقلاً أو لوحاً مستقلاً؛ لأن ذلك يقتضي عدم التكامل في العامل البشري، لو أنزل علينا هذا القرآن فيه سورة متخصصة في الإيمان، وسورة متخصصة في العبادة، وسورة متخصصة في البيوع، وسورة متخصصة في الأنكحة، ليس فيها سوى ذلك؛ لكان كثير من الناس ناقص التوازن، الذي قرأ سورة الإيمان فقط ستكون عباداته باطلة، ومعاملاته باطلة، ولن يستطيع الإنسان حينئذ الإحاطة بالجميع، وهذا هو حالنا اليوم إذ يندر جداً أن يحيط الإنسان بالقرآن بحروفه وحدوده، فلابد من إشكالات تواجهه، وتبقى كثير من الأمور لا يستوعبها.
من هنا كان من حكمة الله سبحانه وتعالى أن تكون الآية الواحدة من القرآن جامعة لكل هذه المجالات، وألا يتمحض فيها علم من العلوم، فلا يمكن أن يقال: إن السورة الفلانية متخصصة في العلم الفلاني؛ في الفقه أو في الأصول أو في أي علم من العلوم، وهذا وجه من أوجه الإعجاز في هذا القرآن الكريم، فليس هو كتاب تخصصات، وإنما هو كتاب مستوعب لمختلف التخصصات، في كل آية منه تجد كل هذه الأمور، حتى الأوامر والنواهي تكون مرتبطة بالوعد والوعيد المرتبط بالإيمان، المرتبط بمشاهد القيامة، المرتبط بخطاب العواطف، المرتبط بخطاب العقل، فيكون الإنسان مخاطباً مشدوداً لكل الجوانب في آية واحدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة:183] ، كم استوعبت هذه الآية من العلوم؟
(كتب عليكم الصيام): هذا تكليف رباني، وتحديد الصيام الذي هو من العبادات.
(كما كتب على الذين من قبلكم): إرجاع وربط بالماضي والتاريخ البشري.
(لعلكم تتقون) هذا فيه مخاطبة الإيمان والعاطفة في الإنسان، وتنبيهه إلى أنه إذا استطاع أن يمنع نفسه مما أحل الله له فإنه يستطيع أن يمنعها مما حرم الله عليه، وبهذا يتعود على التقوى، وفيه تنبيه له على التربية وأهميتها في حياته، وأنه بالتدرج يمكن أن يصل إلى أعلى المستويات، كل هذا ارتبط في آية واحدة، واجتمع فيها كل هذه الأمور بالإضافة إلى ما سواه من العلوم التي لا حصر لها.
لكننا في غمرة حياتنا احتجنا إلى أن نفصل هذه العلوم فصلاً لا يقتضي أن يكون كل واحد منها على حدته علماً مستقلاً متكامل الجوانب لا يحتاج إلى ما سواه، وإنما لضرورة تفاوت انشغالات الناس، وتفاوت أذهانهم، يبين لهم العلم الذي هم أحوج إليه ليشتغلوا به، ولا ينبغي أن يتمحض الإنسان في تخصص واحد من هذه التخصصات، فإذا كنا نقرأ الآن درساً في الإيمان، فليس معناه أن نعطل دروسنا الأخرى، وأن نترك الاستفادة من كل الكتب الأخرى أو المجالات المختلفة، بل لابد من التكامل، وألا نغفل عن الجميع.
وبهذا نكون قد عرفنا حد العلم.
أصول الاعتقاد هي هذه الأمور الستة التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في أركان الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، فهي محيطة بأهم الجوانب التي يتعلق بها العقل.
والإيمان بالله مقتض للجوانب اللاحقة كلها؛ لأن المنطلق في التعامل كله هو تعاملك مع ربك الذي خلقك فسواك، فلا أحد أمنّ عليك منه، وإذا لم تحسن العلاقة معه فلن يرضى عنك أحد، ولن يثق أحد بأنك ستحسن العلاقة به، إذا أسأت العلاقة مع ربك الذي فطرك وسواك وأنعم عليك بأنواع النعم.
ومن أصول الإيمان بملائكة الله، والعقل معتاد تصور كثير من الأمور التي تأتي بها الأرواح وتتصل بها، والعقل يحتاج إلى تحديد موقف منها: هل هي مجرد خرافة أو هي شيء واقعي؟
والذي ينبغي أن يرتبط به العقل ما يفيد الإنسان منها، وهذه الجنود الربانية المجهولة بالنسبة لنا كثيرة جداً لا نحصرها بالملائكة، بل يقول الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ[المدثر:31] ، لكن الذي يعنينا في مجال الإيمان والاعتقاد مما ينفع عقولنا هو الإيمان بالملائكة؛ لأننا إذا آمنا بالملائكة فسنحاول التنافس معهم؛ لأنهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6] ، ولأنهم العنصر الذي هو أسمى منا، ونحاول الالتحاق به، فالإيمان بهم مهم جداً لنا من هذا الجانب.
وهم قريبون منا، فهم المكلفون بحركاتنا وسكناتنا، ويكتبون علينا كل أمورنا: إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12] ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18] .
ومن أصول الإيمان: الإيمان بالكتب المنزلة:
والعقل تغذيته بالثقافة والعلم، وأهم العلم ما ينزله الله على عباده من الوحي؛ لأن العلم كله من عند الله وهو قسمان: علم وحي، وعلم إلهام.
فعلم الوحي شرفه الله بأن لم يدع فيه مجالاً للاختلافات، وإنما أنزله منضبطاً، وحفظه حتى أوصله إلينا، وجعل حظوظنا فيه متفاوتة بحسب أفهامنا، فمنا من يفهم منه الكثير، ومنا من يفهم القليل، وأما الإلهام فإن الله سبحانه وتعالى جعله قابلاً للاختلاف؛ لأن مجالات العقل مختلفة، يفتح الله على هذا في مجال معين، ويفتح على هذا ما يكمل به ذلك، ويفتح لهذا حتى منتصف الطريق ثم يكمل من سواه، ومن هنا تتشعب الإلهامات، لكن الجميع من عند الله ما كان منه وحياً وما كان إلهاماً، العلم كله لله، والبشر ما لهم شيء من العلم: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85] ، وقوله: (أوتيتم): يعني أنه ليس من تلقاء أنفسكم، إنما هو هبة من عند الله يمنحها لمن يشاء.
الإيمان بالكتب المنزلة يقتضي من الإنسان أن ينخل هذه العلوم لمعرفة ما هو مفيد منها وما ليس كذلك، وما هو غير قابل للنقاش من العلوم، وهو الثوابت التي نزلت بالوحي، وما هو راجع إلى الضوابط والخطوط العريضة التي بينت لنا في الوحي، إذاً: هذا الإيمان بالكتب المنزلة.
ومن أصول الإيمان: الإيمان برسل الله:
وذلك في مجال التعامل بين الناس، والناس منهم المحرومون ومنهم المنعم عليهم، وأفضل المنعم عليهم هم الرسل الذين أنعم عليهم بولايته المطلقة، فلم يجعل للشيطان عليهم أي سبيل، ولا له عليهم أي جهة يمكن أن يدخل عليهم منها، فعصمهم الله من الشيطان، هؤلاء هم أشرف البشر، وانتفاعنا بالإيمان بهم مثل انتفاعنا بالإيمان بالملائكة؛ لأننا نريد الاقتداء بهم والاتصال بهم، ومعرفة أن ما سلكوه هو طريق الحق الذي يعصم من الشيطان.
وما سواه طرق غير مأمونة يمكن أن يكون فيها صواب ويمكن أن يكون فيها خطأ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر).
إذاً: الإيمان بهم مهم جداً لعقولنا حتى تتشبث بشيء واضح في الطريق، ومن هنا فإن سورة الفاتحة التي نقرؤها في كل ركعة من صلاتنا فيها أمر عجيب في مجال الإيمان بالرسل، حيث قال الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:6-7].
قال: (اهدنا الصراط المستقيم) ولم يقل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؛ لأنه لو قال: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، لكان هذا يقتضي أن يعرف الحق بالرجال، والقاعدة الشرعية: أن الرجال يعرفون بالحق، وأن الحق لا يعرف بالرجال، فلما قال: (اهدنا الصراط المستقيم) صار الصراط غير مضاف إلى أحد، وإنما هو الصراط المستقيم المرضي عند الله، ثم عرفه بعد ذلك بسلوك الرسل له؛ لأنهم الأمارات والعلامات البارزة؛ لأنهم ليس للشيطان عليهم سبيل، وإذا سلكوا هذا الطريق عرفنا أنه طريق الحق، فقال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:7] ، على وجه البدلية: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7] .
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4839 استماع |
بشائر النصر | 4290 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4133 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4062 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4003 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3947 استماع |
عداوة الشيطان | 3935 استماع |
اللغة العربية | 3932 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3908 استماع |
القضاء في الإسلام | 3898 استماع |