أركان الإسلام


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

الأديان السابقة كانت إعداداً لهذا الدين

فإن الله عز وجل سمى هذا الدين الذي أرسل به هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة دين الإسلام، وختم به الديانات السابقة، وجعله الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، فكل ما سواه من الأديان بعد نزوله وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم به مردود على أصحابه لا يتقبل الله منه شيئاً.

وإن الله عز وجل لم يرض للبرية إلا هذا الدين، وإنما جعل الأديان السابقة إعداداً له فقط؛ لأن البشرية خلقها الله تعالى متدرجة، فلم تصل إلى نضجها ولم تكتمل أطوار حياتها إلا في الطور الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم، أما قبل ذلك فما زالت البشرية تتقدم في أطوار حياتها كتقدم الصبي في نماء بدنه وعقله وتطور معارفه، وهو يحتاج في كل طور إلى ملابس جديدة تتناسب مع حجمه وإلى تغذية تتناسب مع واقعه وصحته.

وكذلك هذا الدين، فإن الله كان ينزل منه في كل فترة ما يتناسب مع الطور الذي تمر به البشرية ويعلم نهاية ذلك الطور، وأن ذلك الدين لا يصلح لما بعد ذلك الطور، فإذا انتهى ذلك الطور نسخ الله تلك الشريعة وأتى بشريعة جديدة تطور سابقتها أو تنسخها وتلغي أكثر أحكامها.

ومن هنا فإن الشرائع السابقة تنقسم إلى قسمين:

الأول: شريعة مطورة. أى: مكملة لسابقتها مبيحة لبعض ما حرمته ومحرمة لبعض ما أحلته، كشريعة عيسى مع شريعة موسى.

الثاني: شريعة جديدة ناسخة لسابقتها بالكلية، كشريعة موسى مع شرائع من قبله من الرسل.

وإن رسل بني إسرائيل إنما كانت شرائعهم مجددة لشريعة موسى، ولهذا قال الله وتعالى حكاية عن عيسى بن مريم عليه السلام: وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ[آل عمران:50] .

أما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها ناسخة لكل ما سبق، ولهذا قال الله تعالى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ[المائدة:48] , وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19] , فما سواه من الأديان ليس ديناً كاملاً مستقراً عند الله عز وجل وإنما هو دين آني مؤقت ذو فترة محددة لا يتعداها، ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لنا الفترة التي بعث فيها، كما أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم قال في خطبة طويلة: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك).

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم جاء على فترة من الرسل، كما جاء ذلك مرتين في سورة المائدة، وأخبر أنه بعث في الأميين -في الجاهلية- على فترة الرسل واقتراب الساعة وجهالة الناس، فجاء بهذه الحنيفية السمحه التي هي الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، والتي لا يقبل الله من أحد وصلت إليه سواها من الدين، ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كبه الله على وجهه في النار).

فارتضى الله تعالى هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون إماماً للبشرية، وارتضى هذا الدين الذي جاء به للبشرية بحذافيرها فهو صالح لكل زمان ومكان، ومشروط على الناس أن يأخذوا به ويتبعوه.

فإن الله عز وجل سمى هذا الدين الذي أرسل به هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة دين الإسلام، وختم به الديانات السابقة، وجعله الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، فكل ما سواه من الأديان بعد نزوله وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم به مردود على أصحابه لا يتقبل الله منه شيئاً.

وإن الله عز وجل لم يرض للبرية إلا هذا الدين، وإنما جعل الأديان السابقة إعداداً له فقط؛ لأن البشرية خلقها الله تعالى متدرجة، فلم تصل إلى نضجها ولم تكتمل أطوار حياتها إلا في الطور الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم، أما قبل ذلك فما زالت البشرية تتقدم في أطوار حياتها كتقدم الصبي في نماء بدنه وعقله وتطور معارفه، وهو يحتاج في كل طور إلى ملابس جديدة تتناسب مع حجمه وإلى تغذية تتناسب مع واقعه وصحته.

وكذلك هذا الدين، فإن الله كان ينزل منه في كل فترة ما يتناسب مع الطور الذي تمر به البشرية ويعلم نهاية ذلك الطور، وأن ذلك الدين لا يصلح لما بعد ذلك الطور، فإذا انتهى ذلك الطور نسخ الله تلك الشريعة وأتى بشريعة جديدة تطور سابقتها أو تنسخها وتلغي أكثر أحكامها.

ومن هنا فإن الشرائع السابقة تنقسم إلى قسمين:

الأول: شريعة مطورة. أى: مكملة لسابقتها مبيحة لبعض ما حرمته ومحرمة لبعض ما أحلته، كشريعة عيسى مع شريعة موسى.

الثاني: شريعة جديدة ناسخة لسابقتها بالكلية، كشريعة موسى مع شرائع من قبله من الرسل.

وإن رسل بني إسرائيل إنما كانت شرائعهم مجددة لشريعة موسى، ولهذا قال الله وتعالى حكاية عن عيسى بن مريم عليه السلام: وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ[آل عمران:50] .

أما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها ناسخة لكل ما سبق، ولهذا قال الله تعالى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ[المائدة:48] , وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19] , فما سواه من الأديان ليس ديناً كاملاً مستقراً عند الله عز وجل وإنما هو دين آني مؤقت ذو فترة محددة لا يتعداها، ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لنا الفترة التي بعث فيها، كما أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم قال في خطبة طويلة: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك).

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم جاء على فترة من الرسل، كما جاء ذلك مرتين في سورة المائدة، وأخبر أنه بعث في الأميين -في الجاهلية- على فترة الرسل واقتراب الساعة وجهالة الناس، فجاء بهذه الحنيفية السمحه التي هي الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، والتي لا يقبل الله من أحد وصلت إليه سواها من الدين، ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كبه الله على وجهه في النار).

فارتضى الله تعالى هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون إماماً للبشرية، وارتضى هذا الدين الذي جاء به للبشرية بحذافيرها فهو صالح لكل زمان ومكان، ومشروط على الناس أن يأخذوا به ويتبعوه.

وإن كثيراً من الناس يغلط في تصور هذا الدين وذلك لقصور نظره، فيرى جانباً واحداً منه فيقوِّم هذا الدين على أساسه، فمثلاً: تسمع كثيراً من الناس يقارن الإسلام بالأديولوجيات الفكرية، فيقارن الفكر الإسلامي أو الدين الإسلامي بالفكرة الرأسمالية والفكرة الشيوعية، ويقول: هو متوسط بين الفكرتين، فالفكرة الرأسمالية تراعي حقوق الفرد ولا تراعي حقوق الأمم، والفكرة الشيوعية تراعي حقوق الأمم ولا تراعي حقوق الأفراد، والإسلام يراعي حقوق الجميع. ولكن الواقع أن هذه النظرة قاصرة؛ لأنها ما نظرت إلا إلى جانب واحد من الإسلام، وهو المجال الفكري في العدالة الاجتماعية بين الناس فقط.

وكذلك تسمع آخرين يقارنونه بالقوانين الوضعية، وهذا قصور في التصور أيضاً، فما نظروا إلا إلى الجانب المنظم لعلاقات الناس فيما بينهم.

والواقع أن الإسلام أعم وأشمل من هذا، فهو نظام شامل لكل أمور الحياة، فالقانون -مثلاً- لا يهتم بأخلاق الناس، ولا يهتم بتنظيم معاملاتهم مع ربهم الذي خلقهم وسواهم، وأنت تعلم أن هذه الأمور من أهم شرائع الإسلام، وقد جاء فيها كثير من نصوصه ووضع فيها كثير من قواعده.

ميزة الإسلام عن التشريعات البشرية في الاعتقاد والعبادة

ومن هنا جاء البون الشاسع بين الإسلام وبين ما سواه من الشرائع والتقنينات، فهو دين الله الذي ارتضاه وليس ديناً من الأرض، فليس نابعاً عن قصور في التصور، وليس ناشئاً عن أعراف نشأت في مرحلة محصورة، وليس ناشئاً كذلك عن عقول قاصرة، وإنما هو وحي من عند الحكيم الخبير الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلق البشر وعلم أمورهم كلها قبل أن يخلقهم، فشرع لهم من الدين ما يصلح أحوالهم كلها، فشرع لهم من الإسلام ما ينظم علاقاتهم بربهم، وذلك جانبان:

الجانب الأول منه: ما ينظم اعتقادهم، ويبين لهم ما تعتقده أفئدتهم فيما لا يمكن أن تصل إليه عقولهم:

وذلك أن الله علم أن العقول التي وهبها للناس إنما هي جوارح قاصرة مثل أيديهم وأسماعهم وأبصارهم، فهي عاجزة عن إدراك هذه الأمور، فبينها لهم بالوحي المنزل من عنده سبحانه وتعالى.

الجانب الثاني في التعامل مع الله: هو جانب العبادة التي أصلها الأدب مع الله سبحانه وتعالى وحسن الحياء منه، وأداء ما شرع من العبادات على الوجه الذي يرضيه، وقاعدتها التوقيف؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يصله عباده بضر ولا نفع، وقد صرح بذلك فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من قوله: (ياعبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، وقال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ[الحج:37] .

ومن هنا فلا يمكن أن يُتقرَب إليه إلا بما شرع، فلا يمكن أن يتعبد الإنسان ويقصد وجه الله تعالى بأمر لم يشرعه له ولم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأت منزلاً من عند الله؛ لأن من يمكن أن تنفعه ويمكن أن تضره يمكن أن تتقرب إليه بشيء لم يأمرك به؛ لأنك تعلم أنه يوصل إليه نفعاً أو يرفع عنه ضرراً، ورب البرية جل وعلا لا يمكن أن تنفعه ولا أن تضره، فلا يمكن أن تتقرب إليه إلا بما شرع لك وبين، ومن هنا فإن هذا الجانب قاعدته التوقيف والقصر على ماجاء.

ميزة الإسلام في تنظيم الأخلاق والمعاملات

وكذلك كان في الإسلام ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم، وهو نوعان:

النوع الأول: ما يسمى بالأخلاق، وهذه الأخلاق هي التي تحافظ على وشائج الناس وروابطهم وتنميها، وتحفظ الأدب العام للناس، فإن حقوق الناس متفاوتة، فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحق الناس بالصحبة الأم ثم الأب، وذكر كذلك حقوق الجار، وحقوق الأقارب، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وبين صلى الله عليه وسلم حق الكبير على الصغير وحق الصغير على الكبير، وكل ذلك داخل في مجال الأخلاق.

أما الجانب الثاني في التعامل فيما بين الناس فهو جانب المعاملات، وقد شرع فيها الإسلام تشريعاً واضحاً مبيناً للوجه الصحيح في التعامل، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه البشرية أمة من نفس واحدة، وأراد لها أن تكون مجتمعاً مترابطاً، فقطع كل ما يؤدي إلى الخلاف والفرقة، وأزال كل ما يؤدي إلى الظلم والعسف وقطيعة الرحم، ومن هنا تقرأ في سورة الحجرات ثلاثة عشر سبباً من أسباب القطيعة حرمها الله تعالى ونفاها عن المجتمع الإسلامي:

أول هذه الأسباب: التعدي على الصلاحيات، وهو المذكور في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[الحجرات:1] .

السبب الثاني: عدم توقير الكبار وذوي العلم والسن وذوي الفضل، وهذا أيضاً مأخوذ من هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ[الحجرات:1-2] .

ثم بعد هذا الكذب المأخوذ من قوله: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ[الحجرات:6] .

ثم بعده عدم التبين والتثبت المأخوذ من قوله: فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6] , وفي القراءة السبعية الأخرى (فتثبتوا).

ثم بعده الظلم، وهو المذكور في قوله: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ[الحجرات:9] .

ثم بعد ذلك السخرية، وهي المذكورة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ[الحجرات:11] .

ثم بعد ذلك ظن السوء، والتنابز بالألقاب، والنميمة، والغيبة.

وهذه كلها هي المذكورة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12] .

ثم بعد هذا وضع القاعدة التي من أجلها ترابطت البشرية واتصلت عراها، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13] .

وكذلك فإن الله وهب بعضهم ما يحتاج إليه غيره، وكان قادراً على أن يقسم الأرزاق فيما بينهم فيعطي كل شخص ما يحتاج إليه فقط، لكنه جعل تحت أيدي بعض الناس ما لا يحتاجون إليه ويحتاج إليه من سواهم، وحكمة ذلك الواضحة أن يبقى المجتمع مترابطاً يحتاج بعض أفراده إلى بعض ويقوم بعض أفراده برعاية بعض، فجعل من المجتمع أغنياء وجعل منه فقراء ليقع التكامل والترابط، ولهذا قال الله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ[النحل:71] , وقال تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32] .

فوزع بينهم الأرزاق توزيعاً عجيباً، وشرع لهم من الشرائع ما ينظم تداول هذه الأرزاق فيما بينهم؛ لأن الإنسان إذا رأى حاجته ولم يجد وجهاً صحيحاً لأخذها وهو محتاج إليها فإن كان قوياً لابد أن يغصبها أو يتعدى عليها بالقوة، وإن كان ضعيفاً سيحتال عليها بمختلف الحيل كالسرقة والغش ونحو ذلك.

ومن هنا فإن الناس لا يحتاجون إلى هذه الحيل الملتوية إلا عند فساد النظام، فلا يحتاجون إلى الرشوة إلا عند فساد النظام، ولا يحتاجون إلى الغش والخديعة في البيوع ونحو ذلك إلا عند فساد النظام وعدم أخذه بالإسلام، فهذا الفساد الذي تراه مستشرياً في التعامل بين الناس أصله الإعراض عما شرعه الله سبحانه وتعالى، فلو رجع الناس إلى دين الله عز وجل وأخذوا به لما احتاج أحد أن يقدم رشوة ولم يحتج أحد لأخذها، ولم يحتج أحد كذلك لوساطة، ولم يحتج أحد لغش ولا خداع ولا تزوير في شهادة ولا تزوير في امتحان؛ لأن الحقوق مرعية محفوظة بنظام الله سبحانه وتعالى وبعدله.

لكن عندما يتخذ الناس هذا النظام ظهرياً ويعدلون به ما سواه فلابد أن يتردوا في أوحال الرذيلة، ولابد أن يظلم بعضهم بعضاً، وإذا شاع فيهم الظلم فسيقع الفساد المستشري الذي تحل بسببه عقوبة الله تعالى على الناس، كما قال سبحانه وتعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[الروم:41].

تشريع البيوع والمعاملات المشابهة لها للحد من التغابن والظلم

فشرع الله تعالى البيوع التي يقع بها التبادل بين الناس، فالضعيف إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، والقوي إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، ومن كان لديه مال يحتاج إليه ورأى ما يحتاج إليه عند غيره أمكنهما التبادل فيما بينهما بكل عدالة ونزاهه، وأن يعلموا أن ذلك إنما القصد منه الوصول إلى الرفاهية، والوصول إلى إشباع رغباتهم في هذه الحياة الدنيا، والتوصل إلى مرضاة الله في الدار الآخرة، وليس المقصود به حرمان قوم من هذا المعاش الذي جعله الله في الأرض، فما فيها من الأرزاق كاف لمن فيها من البشرية، لا يخلق الله من خلق فيضيعه.

فالرزق الذي خلقه الله في هذه الآرض كاف لأهلها، ففيها من الخيرات وأنواع المعادن وأنواع الزراعات وأنواع الثمار والأشجار ما يكفي أهلها، وفيها من المياه ما لا ينقضي إلا بموت أهلها، ومن هنا فإنها تكفي الأحياء والأموات كما قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً* أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً[المرسلات:25-26] , فالأموات تكفتهم في بطنها، والأحياء تحملهم على ظهرها، وقد دحاها الله لذلك ووزع فيها أنواع الخيرات.

ومن هنا لو استغلت هذه الخيرات استغلالاً صحيحاً لكفت البشرية وقامت بحقوقها كلها، وقد أمرنا الله تعالى باستعمالها واستغلالها والمشي في مناكبها وأن نبتغي من فضل الله تعالى في ذلك، ولو اتبعت هذه الخطا التي حددها الشارع سبحانه وتعالى لحصل العدل وارتفع العسف والظلم بين الناس، ونال كل أحد منهم حقوقه وما يستحقه في هذه الأرض.

ومن هنا شرعت العقود التي تقضي على أنواع هذه الخدائع وأنواع الظلم والعسف مطلقاً، فجعل البيع بديلاً للربا، وجعل النكاح بديلاً للسفاح، وجعل الدَّيْنُ كذلك بالتي هي أحسن بديلاً للاسترقاق والظلم، ومن هنا جُعِل لكل وجه من أوجه الفساد بديل يناسب حال المجتمع ويلائمه ويسد عوزه، وهذا من حكمة الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.

تشريع الحدود والتعزيرات لردع الفساد وتطهير المجتمع منه

ثم إن من هذا الدين ما يردع أهل الفساد إذا استشرى وحصل، وهو ما يسمى بالحدود والتعزيرات، فإنها تزجر الواقعين في هذه المعاصي وهذه القاذورات عما وقعوا فيه، وتكفر عمن تاب وأحسن فيما بعدها، وهذه الفواحش التي رتب الله تعالى عليها هذه الحدود مضرة بأهل الأرض إضراراً شاملاً كاملاً لا يختص بالمتعاطين لها أو بالقائمين عليها فقط، ومن أجل هذا جعلت حدودها رادعة فمنها ما حده القتل، ومنها ما حده الرجم بالحجارة إلى الموت، ومنها ما حده قطع اليد، ومنها ماحده الجلد، فهذه الحدود لا يقصد بها التشفي من شخص واحد، وإنما يقصد بها علاج مجتمع بكامله، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً), وقوله: (من أن يمطروا سبتاً) معناه: من أن ينزل عليهم المطر أسبوعاً كاملاً. فهذه الحدود تردع الفساد وترده وتقوم أخلاق الناس، وترد جماح الجامح منهم وتعالج مرض المريض منهم، فهي علاج رادع لشيطان الإنسان الذي يستزله في هذه المحرمات ويوقعه في هذه الفواحش.

وكذلك التعزيرات التي وكلها الله تعالى إلى اجتهاد الحكام المؤمنين القائمين بالعدل هي كذلك رادعة عن تلك الذنوب التي هي دون الأولى، فلا تصل إلى حد الحدود وإنما هي دونها وأقل منها.

تشريع الكفارات لمعالجة النفس وجبر الذنب

وكذلك الكفارات التي تكفر المعاصي التي يقع فيها الإنسان وتعالج ما يجده الإنسان من الانكسار في نفسه، فإن المؤمن هو الذي تسره حسنته وتسوؤه سيئته، ومن فرط في جنب الله تعالى فأقام الله عليه الحجة وتذكر ماضيه وما فرط فيه في جنب الله، وأنه قد أسرف كثيراً فيما مضى من زمانه، وهو مقدم على الله ولا يدري حاله ولا يدري كيف يجيب إذا عرض على الباري سبحانه وتعالى: يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ[المرسلات:35-36] سينكسر قلبه ويتأثر نفسياً تأثراً شديداً بالذنوب التي أسرف فيها على نفسه فيما مضى من عمره، لكن الله شرع له الكفارات التي تكفر هذه الذنوب وتطمس أثرها، وأهم هذه الكفارات إتباع الحسنة السيئة، وأن يعمل الإنسان من الحسنات أكثر مما عمل من السيئات، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).

ومن هذه الكفارات: اجتناب الكبائر؛ وما وقع فيه الإنسان بعد ذلك من الصغائر يكفره اجتناب الكبائر، كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً[النساء:31] .

وكذلك من هذه المكفرات الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والشهادة في سبيله، وكذلك التضحية في سبيله بما يستطيعه الإنسان.

ومنها الكفارات المخصوصة بأمور محددة ككفارة القتل، وكفارة الظهار، وكفارة الإفطار في نهار رمضان، وكفارة اليمين، وغير ذلك من الكفارات المبينة شرعاً، فهي جوابر وزواجر تزجر الإنسان عن العود إلى ما فرط فيه في جنب الله، وتجبر له ما وقع فيه من الخطأ والتقصير، والإنسان محتاج إلى ذلك أشد الحاجة.

الجانب القضائي ودوره في علاج المشكلات

ثم من هذه الجوانب التي شرعها الله تعالى في الإسلام وبينها للناس الجانب القضائي الذي يفصل المشكلات عند حصولها ويعالجها علاجاً وقائياً قبل حصولها بالصلح والتراضي وإصلاح ذات البين:

وهذا الجانب أيضاً من جوانب الإسلام المهمة التي لا يستغني عنها الناس، وعندما تركوها وقصروا فيها وتركوا التحاكم إلى دين الله سبحانه وتعالى اشتهر فيهم ما ترى من الظلم والانحراف والبغي في القضاء، وقد حكم الله تعالى في كتابه بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله، وأقسم على نفي الإيمان عنه في كتابه فقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً[النساء:65] .

ومن هنا جاء البون الشاسع بين الإسلام وبين ما سواه من الشرائع والتقنينات، فهو دين الله الذي ارتضاه وليس ديناً من الأرض، فليس نابعاً عن قصور في التصور، وليس ناشئاً عن أعراف نشأت في مرحلة محصورة، وليس ناشئاً كذلك عن عقول قاصرة، وإنما هو وحي من عند الحكيم الخبير الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلق البشر وعلم أمورهم كلها قبل أن يخلقهم، فشرع لهم من الدين ما يصلح أحوالهم كلها، فشرع لهم من الإسلام ما ينظم علاقاتهم بربهم، وذلك جانبان:

الجانب الأول منه: ما ينظم اعتقادهم، ويبين لهم ما تعتقده أفئدتهم فيما لا يمكن أن تصل إليه عقولهم:

وذلك أن الله علم أن العقول التي وهبها للناس إنما هي جوارح قاصرة مثل أيديهم وأسماعهم وأبصارهم، فهي عاجزة عن إدراك هذه الأمور، فبينها لهم بالوحي المنزل من عنده سبحانه وتعالى.

الجانب الثاني في التعامل مع الله: هو جانب العبادة التي أصلها الأدب مع الله سبحانه وتعالى وحسن الحياء منه، وأداء ما شرع من العبادات على الوجه الذي يرضيه، وقاعدتها التوقيف؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يصله عباده بضر ولا نفع، وقد صرح بذلك فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من قوله: (ياعبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، وقال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ[الحج:37] .

ومن هنا فلا يمكن أن يُتقرَب إليه إلا بما شرع، فلا يمكن أن يتعبد الإنسان ويقصد وجه الله تعالى بأمر لم يشرعه له ولم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأت منزلاً من عند الله؛ لأن من يمكن أن تنفعه ويمكن أن تضره يمكن أن تتقرب إليه بشيء لم يأمرك به؛ لأنك تعلم أنه يوصل إليه نفعاً أو يرفع عنه ضرراً، ورب البرية جل وعلا لا يمكن أن تنفعه ولا أن تضره، فلا يمكن أن تتقرب إليه إلا بما شرع لك وبين، ومن هنا فإن هذا الجانب قاعدته التوقيف والقصر على ماجاء.

وكذلك كان في الإسلام ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم، وهو نوعان:

النوع الأول: ما يسمى بالأخلاق، وهذه الأخلاق هي التي تحافظ على وشائج الناس وروابطهم وتنميها، وتحفظ الأدب العام للناس، فإن حقوق الناس متفاوتة، فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحق الناس بالصحبة الأم ثم الأب، وذكر كذلك حقوق الجار، وحقوق الأقارب، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وبين صلى الله عليه وسلم حق الكبير على الصغير وحق الصغير على الكبير، وكل ذلك داخل في مجال الأخلاق.

أما الجانب الثاني في التعامل فيما بين الناس فهو جانب المعاملات، وقد شرع فيها الإسلام تشريعاً واضحاً مبيناً للوجه الصحيح في التعامل، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه البشرية أمة من نفس واحدة، وأراد لها أن تكون مجتمعاً مترابطاً، فقطع كل ما يؤدي إلى الخلاف والفرقة، وأزال كل ما يؤدي إلى الظلم والعسف وقطيعة الرحم، ومن هنا تقرأ في سورة الحجرات ثلاثة عشر سبباً من أسباب القطيعة حرمها الله تعالى ونفاها عن المجتمع الإسلامي:

أول هذه الأسباب: التعدي على الصلاحيات، وهو المذكور في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[الحجرات:1] .

السبب الثاني: عدم توقير الكبار وذوي العلم والسن وذوي الفضل، وهذا أيضاً مأخوذ من هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ[الحجرات:1-2] .

ثم بعد هذا الكذب المأخوذ من قوله: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ[الحجرات:6] .

ثم بعده عدم التبين والتثبت المأخوذ من قوله: فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6] , وفي القراءة السبعية الأخرى (فتثبتوا).

ثم بعده الظلم، وهو المذكور في قوله: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ[الحجرات:9] .

ثم بعد ذلك السخرية، وهي المذكورة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ[الحجرات:11] .

ثم بعد ذلك ظن السوء، والتنابز بالألقاب، والنميمة، والغيبة.

وهذه كلها هي المذكورة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12] .

ثم بعد هذا وضع القاعدة التي من أجلها ترابطت البشرية واتصلت عراها، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13] .

وكذلك فإن الله وهب بعضهم ما يحتاج إليه غيره، وكان قادراً على أن يقسم الأرزاق فيما بينهم فيعطي كل شخص ما يحتاج إليه فقط، لكنه جعل تحت أيدي بعض الناس ما لا يحتاجون إليه ويحتاج إليه من سواهم، وحكمة ذلك الواضحة أن يبقى المجتمع مترابطاً يحتاج بعض أفراده إلى بعض ويقوم بعض أفراده برعاية بعض، فجعل من المجتمع أغنياء وجعل منه فقراء ليقع التكامل والترابط، ولهذا قال الله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ[النحل:71] , وقال تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32] .

فوزع بينهم الأرزاق توزيعاً عجيباً، وشرع لهم من الشرائع ما ينظم تداول هذه الأرزاق فيما بينهم؛ لأن الإنسان إذا رأى حاجته ولم يجد وجهاً صحيحاً لأخذها وهو محتاج إليها فإن كان قوياً لابد أن يغصبها أو يتعدى عليها بالقوة، وإن كان ضعيفاً سيحتال عليها بمختلف الحيل كالسرقة والغش ونحو ذلك.

ومن هنا فإن الناس لا يحتاجون إلى هذه الحيل الملتوية إلا عند فساد النظام، فلا يحتاجون إلى الرشوة إلا عند فساد النظام، ولا يحتاجون إلى الغش والخديعة في البيوع ونحو ذلك إلا عند فساد النظام وعدم أخذه بالإسلام، فهذا الفساد الذي تراه مستشرياً في التعامل بين الناس أصله الإعراض عما شرعه الله سبحانه وتعالى، فلو رجع الناس إلى دين الله عز وجل وأخذوا به لما احتاج أحد أن يقدم رشوة ولم يحتج أحد لأخذها، ولم يحتج أحد كذلك لوساطة، ولم يحتج أحد لغش ولا خداع ولا تزوير في شهادة ولا تزوير في امتحان؛ لأن الحقوق مرعية محفوظة بنظام الله سبحانه وتعالى وبعدله.

لكن عندما يتخذ الناس هذا النظام ظهرياً ويعدلون به ما سواه فلابد أن يتردوا في أوحال الرذيلة، ولابد أن يظلم بعضهم بعضاً، وإذا شاع فيهم الظلم فسيقع الفساد المستشري الذي تحل بسببه عقوبة الله تعالى على الناس، كما قال سبحانه وتعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[الروم:41].

فشرع الله تعالى البيوع التي يقع بها التبادل بين الناس، فالضعيف إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، والقوي إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، ومن كان لديه مال يحتاج إليه ورأى ما يحتاج إليه عند غيره أمكنهما التبادل فيما بينهما بكل عدالة ونزاهه، وأن يعلموا أن ذلك إنما القصد منه الوصول إلى الرفاهية، والوصول إلى إشباع رغباتهم في هذه الحياة الدنيا، والتوصل إلى مرضاة الله في الدار الآخرة، وليس المقصود به حرمان قوم من هذا المعاش الذي جعله الله في الأرض، فما فيها من الأرزاق كاف لمن فيها من البشرية، لا يخلق الله من خلق فيضيعه.

فالرزق الذي خلقه الله في هذه الآرض كاف لأهلها، ففيها من الخيرات وأنواع المعادن وأنواع الزراعات وأنواع الثمار والأشجار ما يكفي أهلها، وفيها من المياه ما لا ينقضي إلا بموت أهلها، ومن هنا فإنها تكفي الأحياء والأموات كما قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً* أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً[المرسلات:25-26] , فالأموات تكفتهم في بطنها، والأحياء تحملهم على ظهرها، وقد دحاها الله لذلك ووزع فيها أنواع الخيرات.

ومن هنا لو استغلت هذه الخيرات استغلالاً صحيحاً لكفت البشرية وقامت بحقوقها كلها، وقد أمرنا الله تعالى باستعمالها واستغلالها والمشي في مناكبها وأن نبتغي من فضل الله تعالى في ذلك، ولو اتبعت هذه الخطا التي حددها الشارع سبحانه وتعالى لحصل العدل وارتفع العسف والظلم بين الناس، ونال كل أحد منهم حقوقه وما يستحقه في هذه الأرض.

ومن هنا شرعت العقود التي تقضي على أنواع هذه الخدائع وأنواع الظلم والعسف مطلقاً، فجعل البيع بديلاً للربا، وجعل النكاح بديلاً للسفاح، وجعل الدَّيْنُ كذلك بالتي هي أحسن بديلاً للاسترقاق والظلم، ومن هنا جُعِل لكل وجه من أوجه الفساد بديل يناسب حال المجتمع ويلائمه ويسد عوزه، وهذا من حكمة الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.

ثم إن من هذا الدين ما يردع أهل الفساد إذا استشرى وحصل، وهو ما يسمى بالحدود والتعزيرات، فإنها تزجر الواقعين في هذه المعاصي وهذه القاذورات عما وقعوا فيه، وتكفر عمن تاب وأحسن فيما بعدها، وهذه الفواحش التي رتب الله تعالى عليها هذه الحدود مضرة بأهل الأرض إضراراً شاملاً كاملاً لا يختص بالمتعاطين لها أو بالقائمين عليها فقط، ومن أجل هذا جعلت حدودها رادعة فمنها ما حده القتل، ومنها ما حده الرجم بالحجارة إلى الموت، ومنها ما حده قطع اليد، ومنها ماحده الجلد، فهذه الحدود لا يقصد بها التشفي من شخص واحد، وإنما يقصد بها علاج مجتمع بكامله، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً), وقوله: (من أن يمطروا سبتاً) معناه: من أن ينزل عليهم المطر أسبوعاً كاملاً. فهذه الحدود تردع الفساد وترده وتقوم أخلاق الناس، وترد جماح الجامح منهم وتعالج مرض المريض منهم، فهي علاج رادع لشيطان الإنسان الذي يستزله في هذه المحرمات ويوقعه في هذه الفواحش.

وكذلك التعزيرات التي وكلها الله تعالى إلى اجتهاد الحكام المؤمنين القائمين بالعدل هي كذلك رادعة عن تلك الذنوب التي هي دون الأولى، فلا تصل إلى حد الحدود وإنما هي دونها وأقل منها.

وكذلك الكفارات التي تكفر المعاصي التي يقع فيها الإنسان وتعالج ما يجده الإنسان من الانكسار في نفسه، فإن المؤمن هو الذي تسره حسنته وتسوؤه سيئته، ومن فرط في جنب الله تعالى فأقام الله عليه الحجة وتذكر ماضيه وما فرط فيه في جنب الله، وأنه قد أسرف كثيراً فيما مضى من زمانه، وهو مقدم على الله ولا يدري حاله ولا يدري كيف يجيب إذا عرض على الباري سبحانه وتعالى: يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ[المرسلات:35-36] سينكسر قلبه ويتأثر نفسياً تأثراً شديداً بالذنوب التي أسرف فيها على نفسه فيما مضى من عمره، لكن الله شرع له الكفارات التي تكفر هذه الذنوب وتطمس أثرها، وأهم هذه الكفارات إتباع الحسنة السيئة، وأن يعمل الإنسان من الحسنات أكثر مما عمل من السيئات، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).

ومن هذه الكفارات: اجتناب الكبائر؛ وما وقع فيه الإنسان بعد ذلك من الصغائر يكفره اجتناب الكبائر، كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً[النساء:31] .

وكذلك من هذه المكفرات الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والشهادة في سبيله، وكذلك التضحية في سبيله بما يستطيعه الإنسان.

ومنها الكفارات المخصوصة بأمور محددة ككفارة القتل، وكفارة الظهار، وكفارة الإفطار في نهار رمضان، وكفارة اليمين، وغير ذلك من الكفارات المبينة شرعاً، فهي جوابر وزواجر تزجر الإنسان عن العود إلى ما فرط فيه في جنب الله، وتجبر له ما وقع فيه من الخطأ والتقصير، والإنسان محتاج إلى ذلك أشد الحاجة.

ثم من هذه الجوانب التي شرعها الله تعالى في الإسلام وبينها للناس الجانب القضائي الذي يفصل المشكلات عند حصولها ويعالجها علاجاً وقائياً قبل حصولها بالصلح والتراضي وإصلاح ذات البين:

وهذا الجانب أيضاً من جوانب الإسلام المهمة التي لا يستغني عنها الناس، وعندما تركوها وقصروا فيها وتركوا التحاكم إلى دين الله سبحانه وتعالى اشتهر فيهم ما ترى من الظلم والانحراف والبغي في القضاء، وقد حكم الله تعالى في كتابه بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله، وأقسم على نفي الإيمان عنه في كتابه فقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً[النساء:65] .




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4819 استماع
بشائر النصر 4292 استماع
أسئلة عامة [2] 4135 استماع
المسؤولية في الإسلام 4066 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4003 استماع
نواقض الإيمان [2] 3948 استماع
اللغة العربية 3935 استماع
عداوة الشيطان 3935 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3898 استماع