خطب ومحاضرات
برقيات إلى المعلمين والمعلمات
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
فموضوع حديثنا بعنوان (برقيات إلى المعلمين والمعلمات)، وفي بداية العام الدراسي خصوصاً يأتي هذا الموضوع مناسباً ومتوافقاً مع الاحتياج إليه والتذكير به. وأحب أولاً أن أخاطب المعلمين بأننا منهم، ونمارس مهنتهم، وليس فالمعلم الأصل أنه يُعلِم ويتعلم، بمعنى أنه لا يستكبر عن التعليم، لكنه هو في مقام التعليم والتوجيه، ولذلك جعلت عنوان الموضوع بهذه العمومية، ليس فيه إرشادات ولا توجيهات، وإنما هو هذه البرقيات التي ربما تتضمن بعض الآراء والمشاركات.
الأمر الثاني: أن الاقتران في الموضوع بين المعلمين والمعلمات للأهمية في كلا الجانبين، وللمساواة من جهة أخرى، مع أن اللفظ التذكيري في الحديث إنما هو للتغليب كما يقول أهل اللغة، ومن وجه آخر لأن الحديث عن التعليم وعن المعلمين وعن الطلبة هو جانب، وجانبه الآخر يشبهه تماماً في جانب النساء من المعلمات ومن الطالبات.
ثالثاً: عندما بدأت أعد في هذا الموضوع وجدت أن هذا العنوان العام إن أراد الإنسان أن يتناول معظم جوانبه لا كلها فإنه يقتضي منه دهراً طويلاً ووقتاً طويلاً وموضوعات مختلفة، فهناك المعلم من حيث إعداده، ومن حيث مواصفاته وصفاته، ومن حيث موضوعات أخرى تتعلق بطرق التدريس، ومن حيث التربية، ومن حيث مشكلة الطلاب، ومن حيث القضايا الإدارية، ومن حيث أمور أخرى كثيرة ومتشعبة ومتعلقة بهذا الموضوع، وهو موضوع طويل يستحق التفصيل، لكن لن يكون هذا في هذا المقام وحده، وربما -إذا اتسعت الفرصة- تكون هناك موضوعات أخرى متعلقة بهذا الموضوع تفرد على حدة، حتى تُعطى بعض القضايا حقها من التحضير والإعداد، ومن حسن الجمع والكتابة.
وأما هذا الموضوع فهو برقيات، والبرقيات دائماً تكون مختصرة وموجزة وإن كثرت، لكنها لابد في الأساس أن تكون عبارة عن ومضات سريعة، وهذا يناسب الموضوع من جهة، ويناسب المعلمين؛ لأن المعلمين سريعون في الفهم، كما يقال عند العامة: المعلم في أي شيء هو الذي يفهم أي شيء ويفهم كل شيء بسرعة. ولذلك نحن نأخذ المعلمين بالوصف الأكاديمي كما يقال، وبالوصف العام أيضاً، فالمعلم هو الذي يتقن ويحسن ويفهم، ويؤدي الأمر على التمام والكمال كما يقال.
سوف نركز في هذا الموضوع على جوانب محصورة ومحدودة أمضي فيها مختصراً القول، وأدع بعض النصوص والنقول إلى آخر الحديث طمعاً في أن لا نترك بعض هذه الموضوعات، وأملاً في أن تكون هذه التوجيهات أو هذه الكلمات التي أخترتها موصولة حتى تمكن الاستفادة منها بإذن الله عز وجل.
أولاً: من أنتم؟
وهذا ليس بسؤال غريب، وإنما هو تأكيد وتذكير وإحياء لمعنى المعلم ومفهوم المعلم ورسالة المعلم، فنحن نريد ابتداءً أن يعرف المعلم نفسه، وعندما نذكر بعض النقاط قد يقول بعض المعلمين -وأعرف هذا من خلال ممارستي ومن خلال معايشتي لكثير منهم-: إن هذه نقاط أو مسميات أو مدلولات نظرية، ولكن الواقع يخالفها. وأيضاً سيقول فريق آخر: هذا الوصف الذي سيذكر عن المعلم لا يعترف به أكثر الناس، ولا يعرفه مجمل من لهم تأثير في واقع المجتمعات.
أقول: كل هذا قد يكون حقيقة، لكن أعظم شيء وأهم شيء هو أن يعرف المعلم نفسه، وأن يكون مقتنعاً بهذا الوصف، فإذا كنت -على سبيل المثال- تعرف نفسك أنك ذو مال فلا يضرك أن يقول الناس: إنك فقير معدم. أو لا يعرف كثير من الناس أن عندك هذه القدرة، لكن إنما يحصل الخلل عندما تكون ذا مال وتظن وهماً أو خطأً أو من كلام الناس أنك فقير معدم، وهذا هو الخطأ الأكبر، ولذلك فإن المهمة الأولى أو الرسالة الأولى أو البرقية الأولى هي من أنتم أيها المعلمون والمعلمات؟! من أنتم في حقيقة كلام الله عز وجل وفي منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي دين الإسلام، وفي واقع الحياة، وفي مستقبل الأمة؟
ينبغي أن نركز على هذا المفهوم تركيزاً نظرياً، وأن يكون أيضاً قضية فكرية وشعورية تلامس القلب والنفس، حتى يمكن أن يتحمل المعلم الأخطاء الواقعة في المجتمع لفهم مهمته، ولفهم منزلته ومكانته، فمن أنتم أيها المعلمون؟!
أقول في برقيات سريعة:
أولاً: أنتم المرفوعون -أي: عند الله سبحانه وتعالى- لقوله سبحانه: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
ثانياً: أنتم المندوبون -أي: عن الأمة- كما قال جل وعلا: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].
ثالثاً: أنتم الوارثون -أي: الوارثون لأعلام النبوة- كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك بقوله: (العلماء ورثة الأنبياء).
رابعاً: أنتم المأجورون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين عظمة الأجر الذي يلقاه معلم الناس الخير، في قوله عليه الصلاة والسلام: (من علم علماً فله أجر من عمل به، ولا ينقص ذلك من أجر العامل شيء)، وفي حديثه الآخر: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله).
خامساً: أنتم المحسودون؛ لأنكم -كما سبق أن أشرت- وارثون للنبوة مأجورون من الله عز وجل، فأنتم المحسودون، أي: حسد الغبطة التي ينبغي إذا فهمها أهل الإيمان أن يتنافسوا فيها، وأن يتسابقوا إليها، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل الله آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها).
سادساً: أنتم المورِّثون، فكما كنتم وارثين فأنتم تورِثون، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخصيصة عظيمة لأهل العلم، يظن بعض الناس أنها جزئية لهم، وذكر بعض العلماء أنها كلية في حديثه عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). ونصيب أهل العلم من هذا الحديث هو قوله: (أو علم ينتفع به) لكن ذكر بعض أهل العلم أن العلم من المعلمين لا يُقصد به هذا الجزء فقط، وإنما الأجزاء الثلاثة كلها، فإن التعليم في حد ذاته صدقة؛ لأن فعل الخير أياً كان صدقة، قال ذلك ابن جماعة في كتابه عن التعليم، قال: وشاهد ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء الرجل بعد انقطاع الصلاة قال: (من يتصدق على هذا؟).
ففعل الخير في حد ذاته صدقة، فتعليمك للرجل صدقة منك عليه، ثم علم ينتفع به وهو ظاهر، أو ولد صالح يدعو له، وما أكثر ما يكون الطلبة أكثر دعاءً من الأبناء لآبائهم، فبذلك يكون المعلم ممتداً أجره وفضله وخيره لهذه الصورة الشاملة التي ذكرها بعض العلماء.
سابعاً: أنتم الأولون، فكل أحد ليست له بداية إلا بالتعليم، بل إن الله عز وجل قد أشار إلى ذلك في قوله سبحانه وتعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ [محمد:19]، ففي هذه الآية دلالة على أن العلم هو الطريق إلى الإيمان، وعقد الإمام البخاري فصلاً في كتاب العلم في صحيحه فقال: (باب العلم قبل القول والعمل).
فإذاً: العلم هو الأول في الاعتقاد، والأول في القول، والأول في العمل، والأول في واقع الحياة، فانظر إلى الوزراء والمدراء والأطباء والمهندسين والفقهاء، فستجد أنهم كلهم كانوا يوماً من الأيام تلاميذاً، مروا عليك -أيها المعلم- في فترة من الزمن، وتلقوا على يديك بعضاً من العلم، ولو أنك علمتهم القراءة والكتابة، فيظن بعض الناس أن معلم الابتدائية هذا في أدنى المراتب وفي أحقرها، لكنك يوماً ستجد عظيماً من العظماء أو عالماً من العلماء سيذكر الذي علمه الألف والباء، والذي علمه الكتابة، وكيف أنه كان يخطئ فيها ومعلمه يعلمه إياها، وكيف أنه عاقبه على عدم إجادته فيها في أول أمره، فهذه المفاتيح كلها وهذه المراتب كلها وهذه المناصب كلها إنما أنت بادئها، وأنت مفتتحها، وأنت الأول فيها.
ثامناً: أنتم المجاهدون، وهذا ذكره العلماء، وهو مما يدل على فقههم وعميق علمهم، ذكره الخطيب البغدادي في كتابه: (الفقيه والمتفقه) عندما ذكر أن سبيل الله عز وجل يشمل التعليم والجهاد، وقال ما ملخصه: إن الجهاد حماية لبيضة الإسلام بالدفاع عن المسلمين، وإن التعليم حماية للمسلمين بالحفاظ على الدين.
وابن القيم رحمة الله عليه له في هذا المعنى عبارة ضافية، فعندما أشار إلى أن العلم هو نوع من الجهاد في سبيل الله قال رحمه الله: إنما جعل طلب العلم من سبيل الله عز وجل لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد. فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان -وهذا المشارك فيه كثير- والثاني: الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظمة منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه. ثم استدل بقول الله عز وجل في سورة الفرقان المكية: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:51-52] فهذه الآيات نزلت والجهاد لم يشرع بعد، فالمراد به جهادهم بالقرآن والبيان والحجة الداحضة التي تبين الحق وتقيم الدليل عليه.
وعندما يقول قائل: لمَ يطلقُ مثل هذا القول في كلامه رحمة الله عليه عندما قال: هو أفضل الجهادين؟
فنقول: إن الجهاد المعروف إنما تعرف فضيلته وتعرف أحكامه وتعرف أهدافه وغاياته من خلال العلم، فالعلم هو السابق على الجهاد، وهو الممهد له، وهو المهيج عليه، وهو المبين لغاياته وأهدافه، وبالتالي هو الذي ينشئه في النفوس إنشاءً، ويبينه في العقول بياناًواضحاً شافياً، ولذلك هذا أيضاً معنىً من المعاني.
تاسعاً: أنتم المدافعون عن الأمة في أخلاقها، وفي تفكيرها، وفي حضارتها، وفي تقدمها، فإن المعلم كأنما هو أعظم جهاداً من المجاهد في واقع الأمر؛ لأنه يجاهد الجهالة بالتعليم، ويجاهد الحماقة بالتقويم، ويجاهد الشطط بالاعتدال، ويجاهد الخمول والكسل بالتوجيه إلى الجد والعمل، ويواجه أموراً كثيرة، ثم هذا كله يجاهد به في نفوس متغيره، وأفكار متبدلة، وعواطف متأججة، فعمله صعب شديد، وأثره عندما يتحقق -بإذن الله عز وجل- يكون قوياً وعظيماً، ولذلك عندما يريد أعداء الأمة أو تريد جهة ما من الجهات أن تؤثر في مجتمع أو في أمة فإن أوكد اهتمامها وأولى أولوياتها أن تتوجه إلى التعليم، فتغير المناهج -وهذه خطوة- وتصوغ المعلمين -وهذه خطوة أخرى- وإذا عملت في هذين الجانبين استطاعت أن تدمر كل المقومات، واستطاعت أن تزعزع العقائد في النفوس، واستطاعت أن تحرف السلوك، واستطاعت أن تغير طرائق التفكير، واستطاعت أن تجعل هناك الهزيمة النفسية .. إلى آخر ذلك مما يعلن في قضايا الغزو الفكري ونحوه، فالمعلم أو المعلمون هم المدافعون عن هذه الأمة عندما يقومون بواجبهم ورسالتهم على النحو المطلوب.
عاشراًً: أنتم المصلحون لما يفسده الآخرون، فقد يفسد الطالبَ أهلُهُ، وقد يفسده مجتمعه، وقد يفسده أحياناً ما يسمعه أو ما يراه أو ما يقرؤه، ومهمتك أنه كلما حصل عطل وحصل خراب أن تصلح، وهذا في حق المعلم مهم جداً ومتحقق فعلاً؛ لأن المعلم أثره مستمر؛ لأنه يبقى مع الطالب وقتاً طويلاً وسنوات عديدة، ومن خلال مواقف متكررة، ومن خلال تدريس وتعليم ونشاط وغير ذلك، بينما المخربون الآخرون أحياناً يكون دورهم مقصوراً، إما مقصوراً بالوسائل، وإما مقصوراً في الوقت والزمن، فيبقى عامل الإصلاح في المعلمين أغلب وأنجح وأكثر تأثيراً واستمرارية من غيره إذا هم أتقنوه وأحسنوه، كما يقول بشير الإبراهيمي الذي كان رئيساً لجمعية العلماء في الجزائر في أوائل القرن التاسع عشر، يقول للمعلمين: أنتم معاقد الأمل في إصلاح هذه الأمة؛ فإن الوطن لا يعلق رجاءه على الأميين الذين يريدون أن يصلحوا فيفسدون، ولا على هذا الغثاء من الشباب الجاهل المتسكع الذي يعيش بلا علم ولا عقل ولا تفكير، والذي يغط في النوم ما يغط، فإذا أفاق على صيحة تمسك بصداها وكررها كما يكرر الببغاء.
فنحن نرى أن المعلمين هم المصلحون وهم المقومون، فإذا كنت -أخي المعلم- مرفوعاً عند الله، مندوباً عن الأمة، ووارثاً لأعلام النبوة، ومأجوراً من الله سبحانه وتعالى، ومحسوداً من أهل الإيمان والصلاح، ومورثاً لكثير من الخير يمتد به أجرك، وأولاً وفاتحاً لكل خير من علم أو اعتقاد أو قول أو صلاح أو رقي أو منصب أو نحو ذلك، ومن المجاهدين في سبيل الله سبحانه وتعالى، ومن المدافعين عن هذه الأمة، ومن المصلحين فيها والمقيمين تغييراً لأمرها وشأنها فإنك في منزلة يكفيك شرفاً فيها أن تكون وارثاً للأنبياء.
وأقف هنا وقفة يسيرة أذكر فيها بما قلته قبل أن أبدأ هذه البرقيات أو هذه الكلمات، سيقول كثير من المدرسين: ما أجمل هذه الكلمات! وما أحسن هذه العبارات! وما أحسن هذه الاستدلالات! لكن أنا المدرس وأنا المعلم المسكين الذي ينظر إليّ الناس شزراً، ولا يرون لي قيمة، ولا يرون لي نفعاً، وربما جاء ولي أمر الطالب يصب عليّ جام غضبه، وربما جاء المدير يفضفض عن نفسه بما يلقيه عليّ من التبعات، وربما جاء الطلاب المشاكسون والأغبياء المتبلدون، فبعد هذا كله تريد أن تقنعني بأنني في هذه المنزلة الرفيعة العالية؟
فأقول ما قلته أولاً: هذا كلام فيه آيات قرآنية، وفيه أحاديث نبوية، وفيه معانٍ واقعية، وفيه تجارب تاريخية، وفيه إمكانية تطبيقية، فالأمر بيدك، وأنت حيث تريد لا حيث يريد الناس، فإذا أردت لنفسك أن تكون كما يقولون فهذا بيدك لا بيد عمرو كما يقال، وإذا أردت أن تكون كما ينبغي أن تكون فيمكن أن تغير ذلك وأن تفرضه على الناس من حولك.
ثم هنا نقطة أخرى وهي مهمة جداً: ما تأثير القناعات الخاطئة عند الآخرين، أي: من غير المعلمين؟
الخطر عندما ينظر المعلم إلى نفسه نظرة خاطئة، فهنا يقع الخطأ، فلا يعرف أن له مهمة عظيمة ولا رسالة ولا فائدة، إذاً لماذا يعمل؟ وكيف سيعمل؟ وبأية نفسية سيتوجه إلى عمله؟ والآخرون لسنا معنيين بهم في هذا المقام، فإذا أقنعت نفسك بهذا فستسمع كل كلام فلا يؤثر فيك، وتسمع كل احتقار فلا تكترث له، حتى تكون حينئذٍ بهذه الانطلاقة مصلحاً ومغيراً لأفهام الآخرين بإذن الله عز وجل.
وأيضاً: عندما يكون بعض الآباء أو بعض المدراء أو بعض قطاعات المجتمع لا تدرك هذه الأهمية فمن الذي سيغيرها؟
أقول: التغيير بأيدي المعلمين في كثير من الجوانب أقوى من أي جهة أو من أي تيار غيرهم، لأسباب كثيرة: أولها كثرة المعلمين، وانظر إلى أية دائرة من الدوائر كم عدد موظفيها وكم عدد الموظفين القائمين بمهمات التعليم والتدريس! وانظر أيضاً إلى المحتاجين إلى الخدمات في أي قطاع، خدمات الجوازات، أو خدمات المطارات، أو أي خدمات أخرى، ستجد أنهم فئات قليلة، لكن التعليم كل الأمة تمر خلاله، وكل مولود في هذه الأعصار في بيئات كثيرة وفي بيئاتنا لابد أن يمر بهذا التعليم.
فإذاً بكثرتكم لو أنكم فهمتم ووعيتم وأجمعتم وقررتم وعملتم وواصلتم يمكن أن تغيروا كل هذه الأفكار وكل هذه التصورات الخاطئة، ثم عندكم ثروة عجيبة يمكنكم أن تغزوا عقول الآباء والأمهات من خلال أبنائهم، ويمكنكم أن تغزوا المجتمع من خلال الذين تخرجونهم على أيديكم ويكونون غداً موظفين ومعلمين ومهندسين وأطباء إلى غير ذلك، فيمكنكم أن تغيروا كل شيء؛ لأن عندكم أكبر قوة تغييرية، وهي: القوة البشرية، فلا يتغير بالقوة المادية ولا بالقوة الإعلامية ولا بأي قوة أخرى -وإن كانت هذه لها تأثيرها- مثل ما يتغير بالقوة البشرية والقناعة الفكرية والتربية السلوكية والحقائق الإيمانية التي تزرعونها في طلابكم، فيمكن أن تغيروا، ولا يكون التغيير الإيجابي في غمضة عين وانتباهتها، ولا بين عشية وضحاها كما يقولون، وإنما لهذا وقته، لكن المهم أن تكون مقتنعاً به، وأن تكون مستوعباً له، وأن تكون متفاعلاً معه، حينئذٍ يمكن أن يكون لك مثل هذا الحظ.
وأما هذه النظرات التي أشرت إليها عند بعض إخواننا المدرسين فأذكر لهم بعض ما قد يوافق هوى بعضهم من باب الفكاهة، أو من باب التحميس أو النظر إلى بعض النماذج، فالأستاذ الشيخ علي الطنطاوي حفظه الله عز وجل له مذكرات، وفي كثير من كتبه كلام عن المدرسين من حيث همومهم وأعبائهم، وتجد أحياناً عندما يصف لك دور المدرس وهو يصحح الكراريس كما يسميها أو وظائف الطلاب كما يسميها والأوراق وغيرها تجد أنك تحزن لهذا المدرس حتى كأنك في جنازة ومأتم، وتجده أحياناً يعبر بتعبيراته الأدبية بأمور لا يقصدها ولا يعنيها، وإنما يعبر عن حقيقة المعاناة التي لا يلمسها الآخرون، فهو يعبر عن هذا ثم يقول: وماذا حظي بعد ذلك؟ يقول: بعض الطباشير التي يقذفها عليّ الطلاب، وبعض الأمور كذا وكذا وكذا ... إلى آخره. وكما عبر شاعر معلقاً ومعارضاً لقصيدة شوقي في المعلم:
قم للمعلم ووفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولاً
فهذا القائل من أهل التعليم أو من المتعاطفين معهم قال:
شوقي يقول وما درى بمصيبتي قم للمعلم ووفه التبجيلا
ويكاد يطلقني الأمير بقوله كاد المعلم أن يكون رسولاً
لو جرب التعليم شوقي مرة لقضى الحياة شقاوة وخمولاً
يا من يريد الانتحار وجدته إن المعلم لا يعيش طويلاً
ويعني بقوله: (ويكاد يطلقني الأمير) أمير الشعراء.
وهو وإن كان قد يعاني لكن كما قلت: لابد أن يدرك هذه القيمة العظيمة لأهميته ومنزلته، والحديث برقيات، والبرقيات لا بد أن تكون مختصرة.
سؤال ثانٍ: ما هو عملكم؟
وهذا أيضاً أشير فيه أشارات سريعة:
أولاً: المعرفة والتعليم؛ لأن هذا هو الأمر الأول المتبادر إلى الذهن، وأن المعلم يعلم الطلاب، أي: يعطيهم معلومات يعرفونها ويحفظونها، ثم يسألون عنها فيكتبونها، وهذا في حد ذاته جزء أساسي لاشك في أهميته، لكنه ليس وحده كما سيأتي، فقضية التعليم عندما تُفهم بهذا المعنى تكون حشواً للمعلومات في الرءوس، وتكون في الوقت نفسه عملية مملة يرى الطالب أنها أثقل عليه من الجبال العظيمة الشاهقة؛ لأنه تُسرد له المعلومات سرداً، ويُحشى بها عقله حشواً، كما كان أحد الأساتذة الذين درست عندهم في مرحلة جامعية عليا يقول: كان المدرسون يجهلونكم ستة عشر عاماً حتى جئتم إليّ تتعلمون. ثم قال: المطلوب من كثير من الطلاب -أي: في أسلوب التعليم- أن يحفظوا أوراقاً معينة، ثم يأتي يوم الإختبار فيتقيئونها على الورق، ثم ينتهي الأمر إلى هنا.
إذاً هذه المهمة ينبغي أن تعرف بقدرها، وأن تعرف بأساليبها وطرائقها، كما سأشير إلى بعض ذلك لاحقاً.
فأول عمل هو التعليم، والتعليم هو كما أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم) فالتعليم له طرائق، وله وسائل، وله أساليب محببة إلى النفوس، ومقربة إلى الأفهام والعقول، وهذه كلها ينبغي أن لا تخفى على المدرس.
ثانياً: مع المعرفة والتعليم لابد من صياغة التفكير، وهذه مهمة عظيمة، وهذا عمل خطير جداً؛ لأن المعلومات وحدها ما تنشئ شيئاً، ولا تقوم معوجاً، ولا تحرك ساكناً، ولا تدفع إلى فضيلة، ولا توجه إلى مهمات الأمور ومعاليها، لكن من أهم الأشياء صياغة التفكير، فالمعلم ينبغي أن يضع الأسس الصحيحة للتفكير السليم، وللمبادئ التي ينبغي أن تكون مسلمات، وللأخلاقيات التي ينبغي أن تكون أموراً متعارفاً عليها مقراً بها لا خلاف في أهميتها وفضيلتها، بمعنى أن المعلم يحتاج من خلال التعليم ومن خلال العملية التعليمية كلها أن يصيغ الفكر الصحيح، فمثلاً: هناك هزيمة نفسية عند كثير من أبناء المسلمين، ويرون -أو يرى بعضهم- أن المسلمين متخلفون، وأن غير المسلمين متقدمون، وقد يرى بعضهم في أفكارهم تشويشاً حول هذا المعنى بأن أولئك تقدموا لأنهم -مثلاً- تخلوا عن دينهم، كما كان يقال في أوائل هذا العصر، وقد انتهت هذه المقولة إلى حد كبير.
أيضاً: هناك تفكيرات أخرى أن قضايا العلم مرتبطة بالأجناس، فتجد عند بعض الطلاب هذا المعنى، فأحدهم يقول لك: يا أخي! الغربيون الأمريكيون عقولهم كبيرة، وهم الذين يمكن أن يخترعوا، ولا يتصور أن يكون في بني الإسلام أو في بني العروبة من عنده عقل مبدع أو منتج أو مفكر.
وهناك أيضاً أمور وأسس ثابتة في أمور الدين وأمور العقائد لابد أن يتصورها الطالب، وأن يحسن التفكير في أن هذه لا مساس بها، ولا مفاوضة عليها، ولا مجاملة فيها، ولا مداهنة فيها، إلى غير ذلك.
هناك أيضاً قضايا متعلقة بتاريخ الأمة وبمقوماتها الأخلاقية والفكرية ينبغي أن تكون أيضاً من مهمة المدرس، وهذه لها أثرها العظيم والكبير.
ثالثاً: التربية السلوكية مع الصياغة الفكرية، فأحياناً عند بعض الناس نظرات فكرية ممتازة، فأحدهم يقول: ينبغي أن يكون كذا، والحقيقة أن الأصل هو كذا. وهكذا هذه الأمور في قضية المعلمين بأنهم كذا وكذا وكذا، فهذه نظرية وقضية فكرية، لكن ما هو التطبيق الواقعي؟
إن من الطلاب -خاصة في سنوات تعليمهم الأولى وفي سنوات الشباب- من عندهم صور الخلل السلوكي والانحراف العملي التطبيقي، ومن مهمة المدرس الأولى ومن أعظم وظائفه العملية أن يقوَّم هذه السلوكيات، وأن يعوَّد الكاذبين على الصدق، وأن يمنع المنحرفين عن الانحراف، إلى غير ذلك مما هو معلوم في كثير من الصفات التي قد توجد في بعض الطلاب والشباب في مراحل سني حياتهم الأولى، وفي فترات المراهقة ومقتبل الشباب، والمرحلة التي يمر بها الطلاب في أثناء دراستهم التعليمية، فلا شك أن هذه البصمات التأثيرية السلوكية أهم بكثير جداً من الناحية المعرفية التي ذكرتها أولاً، ولذلك ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وهذا الحديث رواه الإمام مالك بلاغاً، وقال ابن عبد البر : روي من وجوه موصولة أخرى صحيحة، وأخرجه غيره.
وهذا المعنى هو الشق الآخر لمهمة النبي عليه الصلاة والسلام، فقد بعث معلماً وبعث مربياً، فالتعليم من غير التربية لا يؤتي ثمرته، بل يكون على العكس من ذلك، والأحاديث والمعاني الإسلامية في هذا كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.
رابعاً: العمل والبناء، فمن مهمة المدرس عندما يعطي المعرفة ويصوغ التفكير، ويوجِد التربية والسلوك، أن يوجه هؤلاء الطلاب إلى أن يشقوا الطريق العملي في الحياة والبناء، وأن يكونوا مبدعين في تخصصاتهم، وأن يكونوا عاملين لمصلحة أمتهم، وأن لا يكون هذا كله مرتبطاً بنفسية ليست مندفعة للعمل، بنفسية ترى واقع الأمة فتستسلم له بدلاً من أن تغالبه وتكافحه، فهذه الروح الحركية القوية هي من أعظم المؤثرات التي يُحتاج إليها والتي هي من مهمات المدرس والمعلم في طبيعة عمله.
ننتقل إلى نقطة ثالثة، وهي: ماذا نريد منكم؟ إذا قلنا لكم: من أنتم وما هو عملكم فماذا نريد منكم لتحققوا هذين الغرضين معاً؟ نريد منكم أموراً -أيضاً- كثيرة جداً، لكن -كما قلت- هي برقيات وومضات.
استشعار المعلم مسئوليته
الأمانة العلمية
أولها: الإتقان في مجال التخصص وفي مادته العلمية، فإن هذا من أعظم الأمور المعينة على قيامه بمهمته، فلابد من أن يستفيد دائماً، وأن يراجع دائماً، وأن يبحث كثيراً، وأن يحاول دائماً أن يكون متمكناً تمكناً جيداً.
ومن الأمانة العلمية -أيضاً- ما أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم أمام الصحابة وأمام الملأ من المسلمين عندما جاءه السائل يسأله عن الساعة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) ولا حرج إذا سُئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم. فهذا من الأمانة العلمية.
ومن ذلك أيضاًً -وهو مندرج في هذا الباب- أن يقبل من طلابه ومن زملائه ما قد يلفتون نظره إليه من خلل أو خطأ فيما قال أو فيما أشار إليه، وهذا أيضاً أمر مهم جداً.
ومن الأمانة العلمية مسئوليته عن علمه، فهو مسئول عن صيانته وحفظه، فهذا العلم الذي عنده ينبغي أن يصونه وأن يحفظه، فبعض المدرسين -وهذا يحصل كثيراً بسبب التكرار وبسبب الأمور والأوضاع الإدارية والفنية التي يمر بها المعلم- يتخرج من جامعته، فيبدأ في التدريس، وبدلاً من أن يستزيد من علمه إذا به يتآكل علمه؛ لأنه كان يدرس في الجامعة موضوعات كثيرة، وكتباً كبيرة، ومسائل دقيقة، فلما جاء إلى التدريس جاء إلى مستوىً معين من الطلاب ينبغي أن يعطيهم بقدر ما هو مقرر في المنهج، وبقدر عقولهم وأفهامهم، فنزل إلى مستواهم وبقي معهم، وضيَّع كل ما أخذه من العلم مما ليس في هذه المناهج، وانتهى أمره إلى أنه أصبح متخصصاً في هذه الكتب، بمعنى أنه -إذا صح التعبير مع الاعتذار للمعلمين- مثله مثل الطالب الذي يتمرس في المنهج، ولو أن طالباً درس المنهج ورسب وأعاد مرة ثانية أو درس دروساً خصوصية أو كذا لكان -كما يقولون- طالباً معيداً، أي: عنده خبرة يمكن أن يكون مدرساً مثل المدرس، ولا فرق بينه وبين المدرس الذي ذكرنا وصفه وكلامه؛ لأنه حصر نفسه في هذا الجانب، ولذلك ينبغي للمدرس أن لا يكون بهذا الأمر.
تواضع المعلم ولين جانبه
الصبر
كنت مع أحد المدرسين نتناقش حول ما قد يُطرح في هذا الموضوع، فكان يقول لي: الصبر هو الذي يحل كل المشكلات المتعلقة بالمعلمين وبعملية التعليم. والحقيقة أن أكثر الناس احتياجاً للصبر هم المعلمون؛ لأنهم يواجهون البلادة، ويواجهون الجهالة، ويواجهون الحماقة، ويواجهون أحياناً الصلافة، وكل هذه المعاني يواجهها المدرس، إضافة إلى مواجهة العناء والتعب والإرهاق، وأنا أعلم أن المدرسين سيقولون: لماذا لم يكن هناك حديث عن هذا المدرس الذي يقف خمس حصص أو خمس ساعات في كل يوم، ومهمته أن يبدأ حصته بالكلام وينهيها بالكلام طول الوقت، ومهمته بعد ذلك أن يكتب، وأن يسأل، وأن يعاقب، وأن يراقب، وأن يدقق، إلى غير ذلك؟ وأقول: هذا كله لنا فيه وصفة واحدة هي الصبر، ولذلك جُعل الإيمان شطرين: شطر شكر وشطر صبر، والنبي عليه الصلاة والسلام قد بين عظمة الصبر في هذا المعنى، والحقيقة أن الصبر -أيضاً- فن؛ لأن الطلاب أحياناً يتنافسون في كيفية إخراج المدرس عن صوابه وإغضابه وامتحانه في سعة صدره وحلمه.
فالصبر حقيقة -أيضاً- أمر مهم جداً في هذا الجانب.
المعلم قدوة
فمسألة القدوة في المدرسين مسألة مهمة جداً؛ لأن أعين الطلاب معقودة بمعلميهم ومدرسيهم، خاصة في سن الصغر، في المرحلة الإبتدائية والمتوسطة، حتى الثانوية، فإذا كان المدرس جيداً فإن الطلاب لا يرون إلا معلمهم ومدرسهم، وبذلك يتبين أن تأثير القدوة في هذا الجانب عظيم جداً.
التجديد والابتكار
أولاً: يتكلم كلاماً بطيئاً لو شاء العادّ أن يحصيه لأحصاه، وكان يكرر القول ثلاثاً حتى يُفهم عنه، وكان مرة يبدؤهم بالسؤال حتى يستثير الأذهان، وأحياناً يبدؤهم بالمعلومة، ويطلب منهم الاستنتاج، وأحياناً يستخدم -كما يقولون- وسائل تعليمية مثل الخطوط أو التشبيهات أو الأمثال، وأحياناً يستغل موقفاً معيناً مع أصحابه ليلفت نظرهم إلى قضية من القضايا التعليمية أو التربوية أو التوجيهية، وأمثلة هذا كثيرة جداً، فلماذا لا يستخدم المدرس هذه الطرائق وهذه الأساليب؟ ولماذا لا يغير أحياناً بعض الأنماط؟ ولماذا لا يجعل هناك أحياناً صورة من صور المشاركة مع الطلاب أو مع بعض الطلاب؟ ولماذا لا يغير أحياناً؟ وإن كان في بعض الأحوال قضايا إدارية أو نظامية تعوقه، ولكن يمكن بقدر الاستطاعة أن يفعل بعض هذه الأمور، بأن يخرج طلابه -مثلاً- من الفصل ليعطيهم الدرس في الهواء الطلق في بعض الأحوال، أو أي صورة من صور التغيير التي تبعث في نفسه الجد والنشاط، وكذلك تبعث في طلابه، وتجعله مدركاً لمهمته وغايته بدلاً من أن يكون مكرراً لنفسه، وهذه قضية أيضاً مهمة جداً.
مشاركة المعلم مع الطلاب
أولاً: لها فوائد في بناء الشخصية، وفي تقدير الطالب واحترامه، فعندما يشارك برأيه أو بانتقاده أو بإجابة سؤال أو بإبداء الرأي فهذه تنمي فيه شخصيته، وتعطيه منزلته وقدره واحترامه، وهذا أمر مهم، بدلاً من أن يقول للطالب: اسكت لا تتكلم، لا تلتفت، لا تنظر، وكأنما هو شيء لا قيمة له.
الأمر الثاني: أن يجد المدرس تقويم عمله عندما يسأل الطلاب، وعندما يشاركهم سيجد النتيجة هل فهموا أم لم يفهموا، وهل تفاعلوا أم لم يتفاعلوا، وهل أعجبوا أم لم يعجبوا... إلى آخر ذلك.
أيضاً تضاف إلى ذلك فائدة، وهي أنه يستطيع أن يميز الفروق بين هؤلاء الطلاب، فيرى الجيد، ويرى من عنده مواهب، ويرى من عنده طموحات، إلى آخر ذلك، بينما قضية الإلقاء -وهي صورة واحدة من صور التعليم- تفقد المدرس هذه المشاركة المهمة، والتي لها أثر كبير جداً في هذا الجانب.
وأيضاً في قضية مشاركة الطلاب قضية مهمة جداً، وهي تلمس ما عندهم من العيوب والخلل والمشكلات في الوقت نفسه في بعض الأحوال، فهذه المشاركة مهمة إلى حد كبير.
العلاقات بين المدرس وطلابه خارج الفصل
أي: مع الطلاب، وكما قلت: الموضوع متشعب، فقد يكون هناك جانب للعلاقة بين المدرسين مع بعضهم، ومع الإدارة، ومع المنهج، وأشياء أخرى كثيرة، لكني اخترت ما أرى أنه يصلح أن يكون أمراً عاماً كلياً.
والعلاقات مع الطلاب خارج الفصل تشمل أموراً كثيرة، منها العلاقات من خلال الأنشطة، وهذه الأنشطة الطلابية هي أصلاً أمور مقررة نظاماً، لكنها أحياناً تكون بمثابة الحبر على الورق، وأحياناً عندما تنفذ تكون بمثابة الصورة الشكلية، فالمطلوب من المدرسة أن يكون عندها جمعية دينية وجمعية كشفية وجمعية علمية، والمدير مكلف بهذا، وذلك بأن يصدر قراراً، والمدرس هو المسئول الثاني عنها، حيث إنه مكلف بذلك؛ إذ كيف يصدر قرار باختيار مجموعة من الطلاب ويمضي الأمر دون أن يكون هناك أي فائدة لا للمدرس ولا للطلاب؟!
وهكذا غير النشاط لابد من علاقة شخصية يمد فيها المعلم جسوراً بينه وبين طلابه ليحقق محبتهم له وارتباطهم به واتباعهم له وتأثرهم بتوجيهاته، بمعنى: أن يعتبر أن طلابه مدعوون يمارس معهم الدعوة والوعظ والإرشاد والإعانة وحلول المشكلات، وهذا أمر مهم للطلاب وللمدرس نفسه، وقد يظن بعض المدرسين أن هذا عبئاً على عبء، ويرى بعض المدرسين أنه إذا كلف بنشاط كأنما ألقيت فوقه صخرة مع الصخور التي يحملها، مع أنه لو نظر نظرة أخرى لرأى هذا تجديداً وتنفيساً وتغييراً للنمط الذي يحيط به في أثناء التعليم أو مهنة التعليم وحدها.
فأقول: مهمة الأنشطة يتحرر فيها الطلاب من الهيبة التي قد تكون أحياناً متكلفة بين الطالب ومعلمه في الفصل، فيتحرر منها الطلاب من إطار المنهج والتدريس، ويتحرر منها الطلاب من الخوف من خصم الدرجات، ومن الخوف من الاختبارات، فيبدون مشاعرهم، وتستطيع أن تكتشف ما عندهم، ثم تستطيع أن تمارس ما ذكرته من مهمتك ورسالتك في الشطر الأول من هذا الحديث الذي فيه منزلتك ومهمتك في هذه العملية التعليمية، وكذلك العلاقات الشخصية من أبوابها هذه الأنشطة الطلابية، وهي أمر مهم كما أشرت إليه.
تغلب المعلم على الأمور الإدارية والروتينية
وهذه أشرت إليها سابقاً إشارة عابرة، فكثيراً ما يشكو المدرسون من أن العبء الدراسي الذي عليهم كبير، وأنا أعلم أنه كذلك كبير، فالتعليم في حده الأعلى يبلغ أربعاً وعشرين حصة أسبوعية بالنسبة للمدارس، أي: بمعدل خمس حصص في كل يوم، وأربع حصص في يوم واحد، وهذا عبء كبير ولا شك.
ثم العبء الآخر الذي يشكو منه المدرسون أيضاً هو بعض الأمور التي هي من جانب منها إيجابية، ومن جانب منها سلبية، مثل هذه الاختبارات الشهرية، فهي -لاشك- أساليب لتقويم الطلاب، ولإلزامهم بالمراجعة والدراسة؛ لأنهم لا يراجعون ولا يدرسون غالباً إلا إذا اضطروا إلى ذلك تحت قهر وجبر الاختبارات، وفي الوقت نفسه هي تشكل للمدرس عبئاً هائلاً؛ لأنه قد يكون في كل فصل -مثلاً- عدد الطلاب خمسة وعشرين طالباً، ويكون يدرس خمسة أو ستة فصول، وقد يكون عدد الطلاب حوالي ثلاثمائة طالب، وهذه إحصائيات أحيل المدرسين فيها إلى كتابات الطنطاوي، فإنه أتى بها بالأرقام والتفصيلات بصورة أدبية جميلة، ثم عنده عدد من المواد، وكل طالب في الاختبارات هذه يكتب صفحتين أو ثلاث صفحات، فإذا حسبت هذه الصفحات وحسبت المواد فمتى سيقرؤها؟ وتأتيه إجابات تسد نفسه، فهذا العبء كله إضافة إلى عبء دفتر التحضير وغير ذلك.
أقول: لاشك أن هناك دائماً دراسات أو مطالبات بإعادة النظر دائماً في الأمور المتعلقة بالطريقة التعليمية أو بالمناهج التعليمية وبالأساليب التربوية إلى غير ذلك، لكن أقول: التغيير منوط بالمدرسين أكثر منه بغيرهم؛ لأنهم أكثر عدداً، ولأنهم لو أرادوا لكانوا أقوى صوتاً، ولأنهم أكثر ممارسة، فيمكن أن يقدموا ما قد يصبح الأسلوب الأمثل أو الأفضل في بعض ما قد يرونه يحتاج إلى تقويم.
وفي الشق الآخر في الوقع العملي أقول: لو أراد المدرس أن يخفف هذا العبء فكيف يفعل؟
أولاً: هناك أمور متعلقة بالناحية النفسية والإيمانية، فعندما يستحضر المدرس أنه يؤجر على ذلك ويثاب، وأنه يكتب له بهذه الأعمال على كثرتها حسنات عند الله عز وجل فلا أشك أن هذا مما يخفف العبء عند المعلم المسلم.
ثانياً: عندما يشعر بأنه من خلال هذا يسهم في هذه المهمة العظيمة التربوية التوجيهية لهذا الجيل الذي يريد أن يكون -بإذن الله عز وجل- جيلاً نافعاً صالحاً لهذه الأمة الإسلامية في مستقبلها القريب قبل البعيد فلا شك أن هذا يهون عليه.
وأيضاً هناك أمور فنية نقسمها إلى قسمين:
القسم الأول: أمور فنية في الإتقان والتجديد والإبداع، فهذا دفتر التحضير عندما ينظر إليه المدرس يجد أن فيه ما يُسمى بفكرة الدرس والأهداف العامة وطريقة العرض، ولو أنه كان دائماً حريصاً على التجديد والابتكار والاستزادة من كتب أخرى ومن أساليب تربوية جديدة ومن بحوث تنشر أو قضايا تثار حول هذه المعاني لاستطاع دائماً أن يجد أن عنده جديداً يفيد به نفسه، ولا يصبح عمله مكرراً، فإن العمل المكرر أسهل من العمل الجديد، فالعمل الجديد يخرج منه الإنسان بالنشاط؛ لأنه يؤمل فيه شيئاً جديداً، ويرى فيه بعداً جديداً لم يكن في الذي قبله.
القسم الثاني: قسم قد يسميه بعض المدرسين شقاً تحايلياً، وأرى أن كثيراً من المدرسين يلجئون إليه؛ لأنه يخفف العبء بصورة عملية ذكية، وهو طريقة الأسئلة التي يميل إليها الآن كثير من المدرسين خاصة في الاختبارات الدورية، حيث يعتمد على أن لا يتيح للطلاب الفرصة في إكثار الكلام والكتابة، بل السؤال وجوابه، كما يقال: (كلمة ورد غطائها) حتى يخفف عن نفسه العبء، ولكن أيضاً بأسلوب علمي يستطيع أن يكتشف من خلاله الطالب وقدرته.
وأيضاً من الطرائق الجديدة التي يمكن أن يستفيد منها -وهذه أمور جديدة الآن يأخذ بها بعض المدرسين- الاستفادة من التقنيات الحديثة كالكمبيوتر، وقد يرى بعض المدرسين أن هذه أمور صعبة، لكن عندما يكون قد تعلم في هذا الكمبيوتر فإنه يستطيع أن يضع الأسئلة، ويضع الفقرات المنهجية ضمن برامج معينة، ويصحح، ويفعل نحو ذلك في وقت وجيز.
وأيضاً بعض المدرسين يلجئون إلى طرائق تبادلية مع بعض المدرسين في تخفيف هذه الأعباء، وأقول: هذا كله حسن بحيث لا يكون هناك تفريط من المدرس في واجبه، ولا تقصير منه في هذا الواجب؛ لأن المدرس في الوقت نفسه هو قدوة، وهذا واجب عليه من قبل الجهة التي كلفته بهذه المهمة، وهو يفرض على طلابه واجبات، فكيف يريد أن يؤدي الطلاب واجباتهم وهو لا يؤدي واجبه؟! فهذه أيضاً قضية لابد أن يلتفت إليها المدرسون، وعليهم أن يحاولوا قدر الاستطاعة أن يستفيدوا منها، ثم أن يحاولوا أن يفيدوا في المجال التغييري فيما يرون أنه قاصر في العملية التربوية التعليمية.
أولاً: استشعار المسئولية، وبدون هذا لا يدرك المدرس منزلته ورسالته، ولا يؤدي عمله ومهمته، ولذلك المنهج الإسلامي ينشأ في كل أمور الإنسان على أنه مسئول بين يدي الله عز وجل، لكننا عندما ننظر إلى التخصيص نجد أن التخصيص قد ورد في أمور بعينها، ومنها العلم، كما في الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع)، ومنها: (عن علمه ماذا عمل به)، ومعلوم أيضاً أن من أول الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة الذي علم ليقال: عالم. ولم يعلم بالإخلاص والقيام بالمهمة والمسئولية كما أراد الله سبحانه وتعالى، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يقول: (إني لأخشى أن يقول لي الله عز وجل يوم القيامة: يا عويمر! -وأبو الدرداء اسمه عويمر - فأقول: لبيك يا رب. فيقول: ما عملت فيما علمت؟) فعندما يستشعر المدرس مسئوليته حينئذٍ يمكن أن يعول عليه كثيراً بإذن الله عز وجل.
الأمر الثاني: الأمانة العلمية، وهذا يقتضي منه أموراً كثيرة، وأذكر منها بعضاً:
أولها: الإتقان في مجال التخصص وفي مادته العلمية، فإن هذا من أعظم الأمور المعينة على قيامه بمهمته، فلابد من أن يستفيد دائماً، وأن يراجع دائماً، وأن يبحث كثيراً، وأن يحاول دائماً أن يكون متمكناً تمكناً جيداً.
ومن الأمانة العلمية -أيضاً- ما أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم أمام الصحابة وأمام الملأ من المسلمين عندما جاءه السائل يسأله عن الساعة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) ولا حرج إذا سُئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم. فهذا من الأمانة العلمية.
ومن ذلك أيضاًً -وهو مندرج في هذا الباب- أن يقبل من طلابه ومن زملائه ما قد يلفتون نظره إليه من خلل أو خطأ فيما قال أو فيما أشار إليه، وهذا أيضاً أمر مهم جداً.
ومن الأمانة العلمية مسئوليته عن علمه، فهو مسئول عن صيانته وحفظه، فهذا العلم الذي عنده ينبغي أن يصونه وأن يحفظه، فبعض المدرسين -وهذا يحصل كثيراً بسبب التكرار وبسبب الأمور والأوضاع الإدارية والفنية التي يمر بها المعلم- يتخرج من جامعته، فيبدأ في التدريس، وبدلاً من أن يستزيد من علمه إذا به يتآكل علمه؛ لأنه كان يدرس في الجامعة موضوعات كثيرة، وكتباً كبيرة، ومسائل دقيقة، فلما جاء إلى التدريس جاء إلى مستوىً معين من الطلاب ينبغي أن يعطيهم بقدر ما هو مقرر في المنهج، وبقدر عقولهم وأفهامهم، فنزل إلى مستواهم وبقي معهم، وضيَّع كل ما أخذه من العلم مما ليس في هذه المناهج، وانتهى أمره إلى أنه أصبح متخصصاً في هذه الكتب، بمعنى أنه -إذا صح التعبير مع الاعتذار للمعلمين- مثله مثل الطالب الذي يتمرس في المنهج، ولو أن طالباً درس المنهج ورسب وأعاد مرة ثانية أو درس دروساً خصوصية أو كذا لكان -كما يقولون- طالباً معيداً، أي: عنده خبرة يمكن أن يكون مدرساً مثل المدرس، ولا فرق بينه وبين المدرس الذي ذكرنا وصفه وكلامه؛ لأنه حصر نفسه في هذا الجانب، ولذلك ينبغي للمدرس أن لا يكون بهذا الأمر.
الأمر الثالث: التواضع ولين الجانب، والحقيقة أن في بعض الأحوال تجد المدرس يفتعل الهيبة والوقار، وهما أمران مهمان للمعلم ولشخصيته، لكنه يظن أو يتصور هذه الهيبة وذلك الوقار والاحترام بصورة خاطئة، فلا يمكن أن تَفْتَرَّ شفتاه عن ابتسامة، ولا يمكن أن يُرى إلا مقطب الجبين مكشر الوجه، ولا يُسمع منه إلا الكلام الجاد والحاد في الوقت نفسه، ويرى الطالب حينئذٍ أنه أمام عقبة صعبة شديدة قاسية مغلقة، فلا يمكن أن يكون هناك تواصل، بينما التواضع ولين الجانب له أثره الكبير في أداء المهمة التعليمية والتربوية والسلوكية التي أشرنا إليها، وبعض المدرسين القدماء ربما تجدهم أحياناً يوصون بعض زملائهم الجدد بقولهم: أحذر أن تقول كلاماً هيناً، ولا تصاحب طالباً، ولا تقدم أي صورة من صور التواضع واللين. وهذا خطأ.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2909 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2732 استماع |
فاطمة الزهراء | 2699 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2630 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2544 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2535 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2534 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2488 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2469 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2453 استماع |