أرشيف المقالات

بين شهوات الدنيا ونعيم الآخرة - أبو الهيثم محمد درويش

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
مفاصلة بين شهوات الدنيا ونعيم الآخرة..
دعوة تأمل لننظر كيف فصل في شهوات الدنيا ولذاتها، ثم أجمل ولخص متاع الآخرة ونعيمها المقيم، بما يشير إلى زوال وحقارة متاع الدنيا رغم تعدده وتنوعه، وكثرة سهامه التي يصيب بها قتلاه من أهل الدنيا، سأتناول موضعين من مواضع القرآن يحدثانا عن المفاصلة بين الدنيا ونعيمها الزائل، رغم تعدده والآخرة وفضلها المقيم.

الموضع الأول: قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ .
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
[آل عمران:14-15].

قال ابن كثير : قال تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} أي: حسن المرجع والثواب، ولهذا قال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} أي: قل يا محمد للناس: أأخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها الذي هو زائل لا محالة.
ثم أخبر عن ذلك، فقال: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي: تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار، من أنواع الأشربة، من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.


{خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولا.
{وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} أي: من الدنس، والخبث، والأذى، والحيض، والنفاس، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا، {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} أي: يحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم بعده أبدا، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في (براءة): {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [ التوبة :72] أي: أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم، [ص:23]، ثم قال تعالى {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أي: يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء.

الموضع الثاني وهو في سورة الزخرف:
- انظر وتأمل معي ثانية كيف عدد متاع الدنيا وزخرفها، ثم ذكر أنه أعد الآخرة للمتقين ولم يفصل سبحانه، فمسمى الآخرة فقط كفيل بأن يذكرك أولاً بأن هذا المتاع زائل وستعقبه الآخرة، ثم ما في الآخرة من نعيم مقيم دائم لا يقارن إطلاقاً بأي نعيم دنيوي، لا وزن له إذا ما قورن بنعيم الآخرة فنساء الدنيا لا يمكن مقارنتهن بالحور العين، ونعيم الدنيا لا يقارن بحال بنعيم الآخرة.

قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ .
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ .
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}
[الزخرف:33-35].

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها:
قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال، هذا معنى قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، وغيرهم، {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي سلالم ودرجا من فضة قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي: وابن زيد، وغيرهم، {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي: يصعدون، {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا} أي: أغلاقا على أبوابهم، {وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} أي: جميع ذلك يكون فضة، {وَزُخْرُفًا}، أي: وذهبًا، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن زيد (ص:227).

ثم قال: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى، أي: يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب، ليوافوا الآخرة وليس لهم عند الله حسنة يجزيهم بها، كما ورد به الحديث الصحيح، وقد ورد في حديث آخر: «لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء» أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور، عن أبى حازم، عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح، عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو عدلت الدنيا جناح بعوضة، ما أعطى كافرا منها شيئا».

ثم قال: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} أي: هي لهم خاصة لا يشاركهم: فيها أحد غيرهم، ولهذا لما قال عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين صعد إليه في تلك المشربة لما آلى من نسائه، فرآه عمر على رمال حصير قد أثر بجنبه فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: "يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس وقال: «أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟» ثم قال: «أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا»، وفي رواية: " «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟» ( صحيح مسلم ).

وفي الصحيحين أيضا وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة»، وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها، كما روى الترمذي، وابن ماجه، من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء أبدا» (قال الترمذي: حسن صحيح)، (أ.هـ.
من تفسير ابن كثير )
.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢