خطب ومحاضرات
تاريخ الدعوة الإسلامية في موريتانيا
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المؤمنون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن هذا الدين دين الله، وليس دين الناس، فالله عز وجل ناصر دينه ومظهره ومعزه، بذل ذليل أو بعز عزيز، ثبت عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه كان مرتفقاً في ظل الكعبة، فأتاه خباب بن الأرت رضي الله عنه فقال: (يا رسول الله! ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتفقاً على برده، فرفع يده وجلس وقال: كان من قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه فيقسم نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه ولحمه، ولا يرده ذلك عن دينه، والذي نفس محمد بيده! ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولكنكم قوم تستعجلون).
إن هذا الدين دين الله عز وجل، وهو ناصره ومؤيده، وهو الذي امتحن عباده بنصرته ونشره، وهو غني عنهم، وسيعزه سواءً تقدموا بحمل مسئوليتهم أو تأخروا وتقاعسوا، فإن الله عز وجل لا يعجزه البدل ولا يعجزه الخلف، وهو القائل في محكم كتابه: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد:4]. وهذه الأمة أمة واحدة كما قال الله: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[الأنبياء:92] ، وإن العاملين لدين الله عز وجل الداعين إليه في مختلف العصور سلسلة واحدة؛ ولذلك قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد أبناء علات)، فالأنبياء كلهم على طريق واحد ومنهج واحد، وإنما يختلفون فيما ينزل إليهم من الشرائع والأحكام، لا في أصل التوحيد والعقائد، ولذلك قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى:13] .
فالدين واحد، والعاملون له في مختلف العصور سلسلة واحدة، والتجربة فيه تجربة واحدة، فهذا الأثر وهذا الطريق هو المسلوك من لدن نوح عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن الناس يتفاوتون في تحمل مسئولياتهم وفي القيام بها، وكذلك بعض البيئات والواقع الذي يعيشه الناس يختلف تارات اختلافاً ليس عائداً إلى نفس المنهج، وإنما هو عائد إلى حياة الناس وما هم فيه.
لذلك فكلامنا عن الدعوة إلى الإسلام في بقعة من أرض الله تعالى لا يعني أن ذات هذه البقعة تتميز عن غيرها من بقاع الأرض كلها، بل الأرض كلها لله، وكل من فوقها عباد لله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا[مريم:93] ، فجميعهم سيأتون يوم القيامة فراداً، مقرون بتوحيد الله سبحانه وتعالى، وكلهم مكلفون بما بلغهم من دين الله عز وجل الذي أرسل به الرسل، وأقام به الحجة.
وكلامنا عن بقعة معينة من هذه البقاع، وعن رجالها الذين حملوا هذه الأمانة فأدوها؛ إنما هو تثبيت للقائمين على آثارهم، والقائمين على صراط الله تعالى والداعين إليه، وأيضاً إقامة للحجة على ذويهم وأتباعهم وذرياتهم الذين لم يسلكوا مسلكهم، ولم ينهجوا منهجهم، فكلامنا عن الرجال الذين حملوا هذه الأمانة في هذه البلاد إنما هو من باب قول الله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا[الحج:78]، فإن الله عز وجل لا يريد ترويجاً لدينه بأن يجعله منسوباً إلى رجل من البشر، فالدين دين الله، وهو الذي اختاره لعباده، ولا يرضيه سواه، ولكنه أراد شحذ الهمم وإثارة العواطف، وجعل إبراهيم أباً لكل المؤمنين: سواءً منهم من كان من ذريته، كذرية إسماعيل وإسحاق، أو من لم يكن كذلك، فكلهم على ملة إبراهيم بالمعنى الديني، فهم ذريته وهو أبوهم، والأبوة هنا أبوة دينية لا أبوة طينية، فإبراهيم أب لكل المؤمنين الموحدين ممن جاء بعده إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ ولذلك جعل الله تعالى كل الرسل من بعده من ذريته، فأكثر من بعث من الرسل كانوا من ذرية إبراهيم.
وكذلك من باب قول الله تعالى حكاية عن يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم في قوله لصاحبيه في السجن: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي[يوسف:38] ، فالملة ما اقتنع بها ديانة وفطرة ووحياً وعقلاً، ولكنه مع ذلك يقول: (مِلَّةَ آبَائِي) ليبين ارتباط هذه الملة بالعاطفة، وأن محبتها راسخة في قلبه؛ فلذلك ذكر أن هذه الملة هي التي سار عليها آباؤه من قبله، فليس بدعاً من الرسل.
هذه البقعة من الأرض لها أسماء متعددة:
فقد اشتهرت في القديم بأرض المرابطين الملثمين، واشتهرت قبل ذلك ببحر الرمال، واشتهرت بعد ذلك ببلاد التكرور، واشتهرت أيضاً بعد هذا ببلاد غانة، واشتهرت في فترة من الفترات ببلاد أوداجست، واشتهرت أيضاً ببلاد مالي، ثم سماها المستعمر بلاد موريتانيا، وهذه كلمة رومانية، وهي مركب إضافي أصلها مورأيتاه، ومعناها: أرض السمر أو أرض المسلمين، وكلمة (المورو) تطلق في اللغات الأوروبية كلها على المسلمين، وهي مشتقة من السحنة العربية؛ لأنهم عرفوا أن العرب هم الذين نقلوا الإسلام إلى بلاد أوروبا، فسموا كل المسلمين بهذا الاسم؛ ولذلك تسمعون الآن (المورو) في أسبانيا، وهم بقايا المسلمين الذين نجوا من محاكمات التفتيش التي كانت تقام عندما خرج المسلمون من بلاد الأندلس، وتسمعون جبهة (المورو) في جنوب الفلبين في مشارق الأرض، وهم المسلمون الموحدون الذين يخلصون العبادة لله تعالى ويجاهدون في سبيله، وكذلك أنتم سموكم بهذه التسمية ولم يريدوا بها إعزازكم، ولكنها وافقت أن هذه التسمية لا تطلق إلا على المسلمين، وأنتم سماكم الله المسلمين على لسان إبراهيم، ثم من بعده سماكم بهذا الاسم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفيكم الاسم الذي سماكم الله تعالى، ولكن هذا من باب التعارف.
هذه الرقعة لم تعرف الحضارة قديماً، وإنما كان أهلها بدواً يعيشوا على نتاج حيواناتهم، وبعض الثروات السمكية، وأيضاً على بعض الزراعة القليلة في الجنوب وفي بعض السهول في بعض هذه المناطق.
وكانت حدودها ليست الحدود الجغرافية المعروفة الآن في تاريخنا هذا، بل كان يدخل فيها بعض المناطق الأخرى، فمثلاً جنوب الجزائر مثل (توات) وما حولها كان منضماً لهذه الأرض؛ ولذلك لما هاجر سيدي أحمد المغيلي إلى هذه البلاد، جاء من (توات) وذهب إلى (ولاته) وكذلك لما سافر السيوطي من مصر إلى هذه البلاد مر بجنوب الجزائر.
وكذلك فإن أرض (جاوا)، وكذلك (أضواد) وما حولها هي من هذه البلاد قديماً، وكذلك مما كان من البلاد جنوب النهر، فهو أيضاً من هذه البلاد، وهذا النهر سماه البرتغاليون: نهر صنهاجة، وصنهاجة قبيلة كانت في هذه الأرض، وسموا النهر بها ثم حرفوها، ففي لغة البرتغال إذا نطقوا صنهاجة يقولون: صنج؛ ولذلك سميت (سنجال) فأصل هذه الكلمة صنج، وصنج معناه: صنهاج، فهي في الأصل منسوبة إلى هذه القبيلة المعروفة التي كانت تسكن هذه الأرض، وتعود إليها قبيلتان: إحداهما: (لمتونة)، والأخرى: (مسوفة) وهما من سكان هذه البلاد، وفيها يقول الداني وهو شاعر أندلسي قديم:
قوم لهم شرف العلا من حمير وإذا انتموا صنهاجة فهم هم
لما حووا علياء كل فضيلـة غلب الحياء عليهم فتلثمـوا
هذه البقعة من الأرض لها أسماء متعددة:
فقد اشتهرت في القديم بأرض المرابطين الملثمين، واشتهرت قبل ذلك ببحر الرمال، واشتهرت بعد ذلك ببلاد التكرور، واشتهرت أيضاً بعد هذا ببلاد غانة، واشتهرت في فترة من الفترات ببلاد أوداجست، واشتهرت أيضاً ببلاد مالي، ثم سماها المستعمر بلاد موريتانيا، وهذه كلمة رومانية، وهي مركب إضافي أصلها مورأيتاه، ومعناها: أرض السمر أو أرض المسلمين، وكلمة (المورو) تطلق في اللغات الأوروبية كلها على المسلمين، وهي مشتقة من السحنة العربية؛ لأنهم عرفوا أن العرب هم الذين نقلوا الإسلام إلى بلاد أوروبا، فسموا كل المسلمين بهذا الاسم؛ ولذلك تسمعون الآن (المورو) في أسبانيا، وهم بقايا المسلمين الذين نجوا من محاكمات التفتيش التي كانت تقام عندما خرج المسلمون من بلاد الأندلس، وتسمعون جبهة (المورو) في جنوب الفلبين في مشارق الأرض، وهم المسلمون الموحدون الذين يخلصون العبادة لله تعالى ويجاهدون في سبيله، وكذلك أنتم سموكم بهذه التسمية ولم يريدوا بها إعزازكم، ولكنها وافقت أن هذه التسمية لا تطلق إلا على المسلمين، وأنتم سماكم الله المسلمين على لسان إبراهيم، ثم من بعده سماكم بهذا الاسم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفيكم الاسم الذي سماكم الله تعالى، ولكن هذا من باب التعارف.
هذه الرقعة لم تعرف الحضارة قديماً، وإنما كان أهلها بدواً يعيشوا على نتاج حيواناتهم، وبعض الثروات السمكية، وأيضاً على بعض الزراعة القليلة في الجنوب وفي بعض السهول في بعض هذه المناطق.
وكانت حدودها ليست الحدود الجغرافية المعروفة الآن في تاريخنا هذا، بل كان يدخل فيها بعض المناطق الأخرى، فمثلاً جنوب الجزائر مثل (توات) وما حولها كان منضماً لهذه الأرض؛ ولذلك لما هاجر سيدي أحمد المغيلي إلى هذه البلاد، جاء من (توات) وذهب إلى (ولاته) وكذلك لما سافر السيوطي من مصر إلى هذه البلاد مر بجنوب الجزائر.
وكذلك فإن أرض (جاوا)، وكذلك (أضواد) وما حولها هي من هذه البلاد قديماً، وكذلك مما كان من البلاد جنوب النهر، فهو أيضاً من هذه البلاد، وهذا النهر سماه البرتغاليون: نهر صنهاجة، وصنهاجة قبيلة كانت في هذه الأرض، وسموا النهر بها ثم حرفوها، ففي لغة البرتغال إذا نطقوا صنهاجة يقولون: صنج؛ ولذلك سميت (سنجال) فأصل هذه الكلمة صنج، وصنج معناه: صنهاج، فهي في الأصل منسوبة إلى هذه القبيلة المعروفة التي كانت تسكن هذه الأرض، وتعود إليها قبيلتان: إحداهما: (لمتونة)، والأخرى: (مسوفة) وهما من سكان هذه البلاد، وفيها يقول الداني وهو شاعر أندلسي قديم:
قوم لهم شرف العلا من حمير وإذا انتموا صنهاجة فهم هم
لما حووا علياء كل فضيلـة غلب الحياء عليهم فتلثمـوا
فتح بلاد صنهاجة وما حولها
صنهاجة قرية أصلها من اليمن، وهي معروفة إلى وقتنا هذا، وربما تكون النسبة إليها؛ لأن هؤلاء من النازحين المنطلقين من تلك البلاد، وكانت هذه البلاد سائبة، وأهلها همجاً حتى دخلها الفاتحون الأولون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان، وكان ذلك أواخر خلافة الوليد بن عبد الملك ، وكان القائد الذي افتتحها هو عقبة بن نافع الفهري من بني الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقد فتح هذه البلاد ولم يتوسع في فتحها إلى الجنوب، وإنما فتحها شريطاً حتى وصل إلى المحيط فغرز رمحه فيه، وكان المحيط في ذلك الوقت يسمى بحر الظلمات، وهو المسمى اليوم بالمحيط الأطلنطي، فلما غرز فيه رمحه أشهد الله تعالى أنه لو كان يعلم أن خلف هذا البحر ذا نفس منفوسة لقطع البحر إليه حتى يبلغه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فـعقبة لو كان يعلم أن خلف هذا البحر أمريكا والعالم الجديد -كما يسمونها- لخاض البحر إليها حتى يفتحها، وحتى يبلغها دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أحفاده فحملوا هذه الرسالة، ولذلك تسمع اليوم في العالم الجديد -أمريكا- الأذان مدوياً في الأوقات الخمسة.
وقد رجع عقبة من هذه البلاد ولم يدوخها تمام التدويخ؛ لأن أهلها كانوا بداة يصعب دخولهم تحت يد الحضارة والإمارة، ولما رجع غدر به كسيلة البربري فقتله فلقي الله شهيداً، نسأل الله تعالى أن يتقبله، وأن يتقبل أصحابه الذين قتلوا معه.
ثم استمرت العلاقة الإدارية في هذا البلد تابعة للخلافة عن طريق الإمارة التي كانت في بداية أمرها في القيروان في تونس، ومنها انطلقت الفتوحات التي فتحت أيضاً أرض الشمال كالمغرب، ثم توسعت إلى الأندلس وقاد حملتها موسى بن نصير ، وهو مولى سليمان بن عبد الملك ، ثم تابع الحملات طارق بن زياد حتى فتح الأندلس.
وبقيت هذه البلاد تنتسب إلى الإسلام، ويتسمى أهلها بأسمائه محرفة على اللغة البربرية، فمثلاً كانوا يسمون محمداً (مهمد)، ويسمون أحمد (همد)، ويسمونه أيضاً: (هند) في بعض البلدان، وكل هذا من التحريف البربري في الأعلام.
واستمرت الحالة هكذا إلى أن خرج أحد أمراء هذه البلاد وهو يحيى بن إبراهيم القدالي من قبيلة (قدالة)، وهي بطن من بطون (مسوفة) التي هي من قبائل (صنهاجة).
فرحل إلى المشرق طالباً الزيادة في الدين والحج، فلما رجع من الحج وصل إلى القيروان -وكانت أكبر حواضر المغرب في ذلك الوقت- فلقي أبا عمران الفاسي وكان من علماء المالكية الكبار، فسأله أن يرسل معه من خيرة طلابه لينشر العلم والدين في هذه البلاد، فرأى أبو عمران أن الذين عنده لا يصلحون للبادية وأهلها، فهم من أهل الحاضرة ومن أهل القيروان المتعودين على حياة الرفاهية وسعة العيش، فكتب له كتاباً إلى تلميذه وجاج بن زلو وهو من المغاربة، وطلب منه أن يرسل معه من خيرة طلابه من ينشر العلم والدين في هذه البلاد، فلما جاء الكتاب إلى وجاج اختار من بين طلابه عبد الله بن ياسين السجلماسي، وهذا الرجل في الأصل من (جزولة)؛ ولذلك تجدون نسبته عبد الله بن ياسين الجزولي في بعض الكتب، وكان حاد الذكاء، مفرطاً في الفهم، وكان عالماً عملاقاً، ومع ذلك كان أيضاً صاحب سياسة وتدبير، فاختاره وجاج لتحمل هذه المسئولية، فكان عند حسن ظنه، فلما جاء إلى هذه البلاد ورأى حال أهلها، علم أن الدعوة الفردية لا يمكن أن تؤثر فيهم.
عبد الله بن ياسين وما قام به من تربية وجهاد عظيمين
هذا الرجل رأى أن الدعوة الفردية والاتصال بالأشخاص مباشرة ليس ذا أثر بالغ يمكن أن يقيم دولة في هذه الأرض، فأراد عبد الله بن ياسين أن يخرج نخبة من هذا المجتمع يربيها تربية خاصة حتى تستطيع تحمل هذه الرسالة، وحتى تستطيع تحمل أعبائها، فانفرد بهم في جزيرة (تيدرا) -وهي القريبة من نواكشوط- ثلاث سنين يربيهم، حتى وصلت أعدادهم إلى ثلاثة آلاف، وكان يأخذهم بالشدة والقسوة، وكان من سياسته أنه يضرب من تخلف عن ركعة من الصلاة عشرة أسواط، ومن تخلف عن ركعتين عشرين سوطاً، ومن تخلف عن ثلاث ركعات ثلاثين سوطاً، ومن تخلف عن الصلاة الرباعية كلها جلده أربعين سوطاً، حتى إنه كان يجلد أمراء القبائل ورؤساءها إذا تخلفوا عن بعض الصلاة أو قصروا في بعض العبادات، وهكذا أخذهم بالشدة والقسوة حتى أخرج منهم جيلاً صالحاً لتحمل هذه المسئولية وللتضحية في سبيل الله.
فلما بلغوا ثلاثة آلاف مجند، من الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، وتربوا تربية صالحة، والتزموا بهذا الدين ظاهراً وباطناً، وخضعت رقابهم له، وجعلوه فوق أهوائهم وفوق انتماءاتهم، وجعلوا هذا الدين هو مصيرهم، وهو الذي يرتبط به مستقبلهم، وربطوا به آمالهم وآلامهم؛ علم أنهم أهل لأن ينصرهم الله، فالنصر جائزة الله، ولا يمكن أن تعطى إلا لمن يستحقها؛ لذلك لم يغتر ابن ياسين بكثرة الأتباع والأشياع، ولم ينظر إليهم في بادئ الرأي وبادئ الأمر على أنهم رجال أقوياء وأهل حرب وقوة، وإنما نظر إلى أن القلوب هي محط التكليف، فبدأ أولاً بتربية النفوس وتكوينها، حتى إذا علم أنهم قد استووا إلى هذا المستوى خرج بهم على المجتمع، فلما رآهم الناس أيقنوا فيهم هدي الأنبياء وسلوكهم.
فهؤلاء قد تربوا على منهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا من ورثة الأنبياء حقاً؛ لذلك استجاب لهم الناس، ودخلوا في دين الله أفواجاً، ورضوا بما رضي به المرابطون، وأقاموا الأربطة في كل مكان، وسعوا لأجل إعزاز هذا الدين ونشره ونصره، فبعثوا القوافل، وجيشوا الجيوش، وأرسلوا السرايا والبعوث، فنشروا هذا الدين حتى دخل أهل كل هذه البلاد في الدين، وحتى فهموه واستجابوا لدعوته وقاموا بواجبه، حينئذ رأى عبد الله بن ياسين أن المراحل التي يمكن أن تمر بها هذه الدعوة خمس مراحل في البداية:
المرحلة الأولى: هي تكوين جماعة مقتنعة بهذا المنهج الصحيح، ملتزمة به، تجعله أمامها، وتسعى من أجل الجهاد بالأنفس والأموال والألسنة دونه، وهذه المرحلة الأولى تحققت في جزيرة (تيدرا).
المرحلة الثانية: تكوين دولة تستطيع حماية البيضة، ورفع لواء الإسلام عالياً مدوياً مرفرفاً فوق بلاد الله تعالى، فأقام الدولة، وبايع أميراً، ولم يشأ أن ينصب نفسه خليفة؛ ليتغلب على حظوظ النفس، ولأجل ألا يكون هو صاحب كل المسئوليات، فتقاسم المسئوليات هدف رائع من الأهداف التي دعا إليها الإسلام.
المرحلة الثالثة: هي إقامة الحجة على الناس بإبلاغ دين الله إليهم، وهذه المرحلة هي التي سعى إليها الأمير بعد أن نصبه عبد الله بن ياسين .
المرحلة الرابعة: هي بث الأمن، وإقامة هياكل اجتماعية تكفل للناس استمرار دعوتهم وحياتهم، وتكفل لهم وسائل عيشهم باستمرار، وهذا ما سعى له ابن ياسين، وهو من حظ الدنيا: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا[القصص:77] .
المرحلة الخامسة: هي أستاذية العالم، أن يبث نفوذه فيما حوله من الأرض حتى يجعلها كلها خاضعة لدين الله، إما أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتلتزم بدين الله، أو أن تمد الرقاب خاضعة وتمد الأيدي منبسطة بالجزية، وهذا ما فعله أهل تلك البلاد فخضعوا لهذه الدولة.
بايع عبد الله بن ياسين يحيى بن عمر اللمتوني فقام بالأمر خير قيام، ولكنه كان شجاعاً أكثر من اللازم، فكان إذا التقى الصفان في الجهاد في سبيل الله كان أمام الجيش، فلذلك كان عبد الله بن ياسين يعاقبه إذا رجع من غزوة، فيجلده خمسين سوطاً؛ لأنه تقدم عن صفه، والله تعالى يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ[الصف:4] ، فكان الأمير إذا رجع منتصراً يخاف من سطوة القائد الأعلى عبد الله بن ياسين إذا خالف النظام وتقدم على الصف.
ثم لما نشر عبد الله جيوشه وسراياه، وفتح كثيراً من البلاد، كان من سياسته أنه ينصب في كل بلد يفتحه قائداً عسكرياً وقائداً دينياً يربي الناس، وقد أخذ هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل إلى اليمن معاذ بن جبل قائداً دينياً وأبا موسى الأشعري قائداً عسكرياً، وجعل كل واحد منهما أميراً فقال: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا)، وكان لكل واحد منهما فسطاط يزوره فيه صاحبه، فأخذ عبد الله بن ياسين من هذا الحديث الصحيح الذي في الصحيحين وغيرهما أن المسئولية أعظم من أن يتولاها واحد، فكان يرتب لكل قوم قائداً عسكرياً، وقائداً دينياً يربيهم على نفس المنهج.
أمير المسلمين يوسف بن تاشفين
ثم قتل يحيى بن عمر اللمتوني شهيداً في سبيل الله، فبايع عبد الله بن ياسين أخاه أبا بكر بن عمر الذي يشتهر بين العوام اليوم بـابن عامر ، وهو أبو بكر بن عمر، فبايعه عبد الله بن ياسين والمرابطون معه، واضطلع بما كان يضطلع به أخوه من قبله، فقام بالأمر خير قيام، ولكنه فوجئ بظهور رجل في المغرب في وادي مراكش يدعي النبوة، فأرسل إليه جيشاً من المرابطين، وكان قائد هذا الجيش يوسف بن تاشفين ، فلما وصل يوسف إلى تلك البلاد، رأى البون الشاسع بين ما يعيشه أهلها وبين ما يعيشه المرابطون الذين تربوا على ذلك المنهج، فأراد أن يقيم فيهم دولة الإسلام من جديد، فلما قتل هذا المتنبئ الذي ادعى النبوة، وقتل أصحابه ومزقهم شر ممزق؛ بنى مدينة مراكش، وجعلها عاصمة لدولة الإسلام في تلك البلاد.
ثم سير الجيوش والبعوث حتى خضع له أهل تلك الأرض كلها، وسمى نفسه أمير المسلمين؛ تأدباً مع الخلافة العباسية في المشرق التي كان الخليفة فيها يسمى أمير المؤمنين، فلم يرد يوسف أن يأخذ هذا اللقب، بل تسمى بأمير المسلمين، ولا يعرف في تاريخنا الإسلامي رجل تلقب أمير المسلمين إلا يوسف بن تاشفين وابنه علي، أما من سواهما فإنما يتلقب بلقب الخلافة: أمير المؤمنين، وهو لقب عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء.
ولما قويت شوكته وتغلب على المغرب، رأى أن الرجوع إلى هذه البلاد من الصعوبة بمكان، وأن حياة الناس متفاوتة بين الحضارة في الشمال والبداوة في الجنوب، فأرسل الرسل إلى ابن عمه أبي بكر بن عمر ليتقابل معه، فالتقيا، فنصبه على ما تحت يده من الأرض، ورجع أبو بكر إلى هذه البلاد، وقد أتحفه يوسف بالمال والرجال، وساعده بما يريد من المساعدات.
ثم وسع يوسف نفوذه حين استنجده أهل الأندلس من المسلمين المستضعفين، وإنما وقع استضعافهم بعد تخالفهم وتقاتلهم وتناحرهم فيما بينهم، فقطع إليه المعتمد بن عباد المنذري اللخمي البحر مستنجداً به، فخرج يوسف في ثلاثين ألف رجل مسلح من المؤمنين المجاهدين، فقطعوا البحر وجاهدوا الأسبان في شهر رمضان، وكان التقاء الصفين في يوم الجمعة، وكان يوسف يخطب في أسفاره كما يخطب في إقامته؛ لأنه يرى نفسه خليفة إماماً، فهو في كل بلد الإمام، فوقف على المنبر خطيباً يوم الجمعة في رمضان، فثارت في وجهه خيل الأسبان؛ فنزل من المنبر، واخترط سيفه، وأمر المجاهدين بالقتال فقال: يا خيل الله! اركبي، وبدأت المعركة، وكان بين يدي يوسف المعتمد بن عباد ، وتناثر القطن من فوق رأسه عندما لعبت السيوف في طاقيته على رأسه، ولم تزل الدماء تسيل حتى انهزم الأسبان بعون الله، وكان ذلك اليوم مشهوداً، وهو يوم (الزلاقة) الذي نصر الله فيه المؤمنين وأعز فيه دينه وجنده.
وقد قتل في ذلك اليوم مائة وعشرون ألفاً من الأسبان الصليبيين، وكان المسلمون يعرفون الأسبان بتعليق الصلبان في رقابهم، فاستحر فيهم القتل حتى لم ينج منهم إلا فئة يسيرة هربت مع الأدفنش، وهو ملك الأسبان في ذلك الوقت.
ثم أراد يوسف أن يضم الأندلس إلى المغرب حتى يوحد دولته؛ لأنه رأى أن الحضارة متناسبة، فضم الولايات الأندلسية وأخضعها لسلطانه، ومن ذلك الوقت هابه المستعمر الكافر الصليبي، ولم يستطع الجرأة على ما كان يغير عليه من كور الإسلام وثغوره. ثم مات يوسف بن تاشفين بعد أن مكث سبعين سنة يدعى أمير المسلمين، وتولى بعده ابنه علي، واستمر على نهج أبيه حتى توفي سنة خمسمائة وأربعة عشر.
وبقيت الولاية الجنوبية وهي إمارة أبي بكر وأبنائه في هذه البلاد، حتى سرى إليها داء الدول، وحصل فيها خلاف؛ فسقطت، ثم قامت على أنقاضها دولة (البدوكل) التي قامت في شمال هذه البلاد، وإن كانت لم تصل إلى مستوى دولة المرابطين من ناحية القوة والانتشار، وهي التي تربى فيها سيدي محمد .... الذي نشأ في هذه القبيلة، وتربى في هذه الدولة.
ثم جددوا دعوة الإسلام في هذه البلاد، وأقاموا علمه بارزاً، ولكنهم لم يستطيعوا زيادة الفتوح، ولم يستطيعوا أن يتجاوزوا ما وصل إليه المرابطون الأولون.
وهنا تأتي حقبة في التاريخ لا نعرف كثيراً من أبعادها، ولكننا موقنون أن الدعوة قائمة، وأن المجاهدين فيها كانوا يضحون بما كان يضحي به أسلافهم في سبيل الله، ولكننا لا نجد كثيراً من المعلومات عنها.
ناصر الدين وسياسته المحنكة
الدعوة إلى الله تعالى استمرت في هذه البلاد، ثم جاءت الهجرات من قبل الأندلس عند سقوطها، ومن جهة القيروان وشرق الجزائر من قسنطينة من بني هلال وغيرهم، فلما جاء هؤلاء العرب النازحون من الأندلس ومن القيروان ومن قسنطينة ومن صعيد مصر، جاء معهم بعض العلماء الأفذاذ، وبدأت الحياة العلمية والدعوية تحيا وتنشط من جديد، ولذلك حاول أهل هذه البلاد أن يعيدوا الدعوة إلى ما كانت عليه في زمن المرابطين، فاجتمع رأي أهل الرأي منهم والعلم أن يبايعوا رجلاً منهم يتفقون عليه جميعاً على إقامة دين الله تعالى وحماية البيضة، فاتفقت كلمتهم على ناصر الدين بن أبي بكر وبايعوه على الخلافة، وقام بالأمر، وساعده رجال من مختلف الطبقات من هذا المجتمع، فكان العرب الوافدون وسكان البلاد من مختلف الفئات من الزنوج ومن البربر ومن العرب ومن الزوايا كلهم اندمجوا في هذه الدولة، وجاهدوا في سبيل الله تعالى، وأعلوا كلمته، وسعوا في ذلك، حتى إن هذه الدولة كان من سياستها أنها توسعت في بعض البلدان الأفريقية التي لم يصل إليها مد المرابطين من قبل، ففتحوا كثيراً من المدن والقرى في ما وراء نهر صنهاجة، وكذلك في جهة جنوب مالي وجهة غانا وجهة النيجر.
وكان من سياسة ناصر الدين أن كل بلد فتحوه ينصبوا عليه قائداً من أهله؛ لئلا تقع فيه ثورة، فكان لا ينصب قائداً على بلد مفتوح إلا من أهل ذلك البلد، وأخذ هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة، فإنه ولى عليها عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس وهو من أهل مكة، ولم يؤمر عليها أحداً من المهاجرين ولا من الأنصار، وكان عتاب وقت تأمير رسول الله صلى الله عليه وسلم له في العشرين من عمره.
وكذلك حين فتح الله عليه الطائف أمر عليها عثمان بن أبي العاصي ، وهو من بني ثقيف من أهل الطائف.
وكذلك أرسل الضحاك بن سفيان أميراً على البحرين، وهو من بني كلاب، فأمره على بني كلاب، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يؤمر على كل جهة رجلاً من أهلها.
وهذه السياسة التي انتهجها ناصر الدين كان لها أثر فيما بعد، وذلك أن هذه الدولة لما سقطت بالحرب الأهلية التي تسمى بحرب (شرببا) كان من الآثار المتوقعة أن البلدان المفتوحة ستتساقط وتعود إلى ما كانت عليه من الكفر قبل فتحها، ولكن الله تعالى عصمها من الردة؛ بسبب تأمير أمراء عليها من بني جلدتهم، ويتكلمون بألسنتهم، ومن عشيرتهم.
أقام ناصر الدين هذه الدولة، وتبعه رجال ساعدوه وقاموا بهذا الأمر أحسن قيام، فأغاض ذلك النصارى من البرتغاليين والأسبان والفرنسيين، فأردوا تشقيق هذه الدولة من الداخل، فأثاروا النعرات العرقية والقبلية بين الناس، فاستجاب لها بعض الأفراد، فكان ذلك سبباً لهذه الحرب التي دامت خمساً وثلاثين سنة، وهي حرب (شرببا)، وفسرت تفسيرات مختلفة، وسميت بتسميات مختلفة، وكثير من الناس يسميها شرببا، ويزعمون أن شر معناها: الحرب وببا: اسم رجل، ولكن هذا غير واقع، فمعنى (شرببا): فتيلة مشتعلة، وذلك أنها فتنة وقعت بين المسلمين أنفسهم في عقر دارهم، ولم يعهدوا هذا من قبل، وإنما كانت الحروب بينهم وبين الكفار، فلذلك جعلوها مثل الفتيلة المشتعلة داخل الصف.
دامت هذه الحرب فترة من الزمن؛ قضت على ما كان من هذه الدولة من هياكل داخلية، ومع ذلك لم تكن شراً كلها، بل أثارت بادرة خير، واستطاع المسلمون فيها أن يحافظوا على كيانهم، وأن يحافظوا على ما معهم من العلم والدين، وبقيت كل فئة من هذا الشعب تحافظ على ما حملت من دين الله تعالى، وتسعى لحفظه، مع أن بعض الآثار السيئة المترتبة على هذه الحرب قد استمرت زمناً طويلاً، حتى إننا ما زلنا في عصرنا هذا نشهد بعض آثارها من الذلة والمسكنة في بعض طبقات الشعب.
وإذا قرأت تاريخهم في تلك الأيام ستجد أنه قد اندمج فيها كل فئات الشعب، وأن كل الناس قد ساروا في ركب الدعوة وفي سبيلها، وجاهدوا جميعاً فيها، ولذلك لم يكن قبل حرب (شرببا) في هذه البلاد طبقات اجتماعية، وإنما كان الناس كلهم مجاهدين في سبيل الله، ساعين لإقامة دين الله، حتى جاءت هذه الحرب فحصل ما رأيتموه وما شهدتموه من التفرقة العنصرية.
إن هاتين الدعوتين اللتين قام بالأولى منهما: عبد الله بن ياسين ، وقام بالثانية: ناصر الدين ، كانتا مثالاً للحركة الإسلامية المعاصرة، التي تقوم لله تعالى بالحجة على عباده، وتسعى لإقامة الحجة على الناس، ولإعادة الناس إلى المحجة البيضاء، ولإقامة الخلافة في هذه الأرض، ولذلك فإنهما قد قامتا بهذا العمل أحسن قيام، ووفقتا في أداء هذه المهمة على أحسن وجه.
بعض الدعوات الفردية التي قام بها بعض العلماء
بعد هاتين التجربتين جاءت تجارب متفاوتة، وجاءت دعوات فردية، قام بها بعض العلماء في فترات وحقب تاريخية متفاوتة، دعوا لإعادة هذه الخلافة وهذه الدولة على ما كانت عليه، فمن هؤلاء مثلاً: مختار الكنتي ، الذي دعا لإقامة خلافة راشدة، ولكن الوقت لم يساعده في بلده، مع أنه كان يرى من نفسه القوة على ذلك، وكان يساعد المظلومين بتسيير الجيوش لنصرتهم، ولكنه على الأقل استطاع أن يقيم دولة خارج الحدود، وهي دولة عثمان فودي التي قامت في نيجيريا، فـعثمان فودي هذا كان من تلامذة المختار الكنتي ، وهو الذي بعثه ليقيم دولة الإسلام في تلك البلاد، فأقامها وما زالت آثارها إلى وقتنا هذا، وكانت تطبق الحدود، وتغزو في سبيل الله وتجاهد، وفيها تعلم الحاج عمر طال الذي جاء إلى هذه البلاد، وحاول إقامة دولة إسلامية.
وكذلك الأمير عبد القادر الفوتي، وهو من قبيلة الهلان، قام في فوتا، فدعا لإقامة دولة الإسلام من جديد، وساعده رجال متفاوتون، واستجلب العلماء من مختلف المناطق، فلما أتى إليه بعض أهل العلم أقام الحجة على أهل تلك البلاد، وجاهد في سبيل الله تعالى، وطبق الحدود؛ ولذلك يقول الشيخ محمد المامي رحمه الله تعالى: لله در الأمير عبد القادر ! فلقد شهدته ضحوة في فوتا يقطع أيدي السراق، ويقيم الحدود على الزناة.
فالأمير عبد القادر أقام دولة لم يكتب لها البقاء كثيراً، ولكنها هي التي بنى على أنقاضها الحاج عمر طال ، فـالحاج عمر جاء من نيجيريا، وقد فرأى الدولة التي أقامها أحفاد عثمان فودي هناك، فأراد أن ينقل التجربة بكل ما فيها، فسعى من أجل إقامة دولة الإسلام في هذه البلاد، فأرسل جيشاً كثيفاً من تلامذته ومريديه وطلابه إلى جنوب النهر، فدعا بدعاية الإسلام في السنغال وفي غامبيا، حتى وصل هو نفسه إلى (بانجول)، وكان يقيم الحدود أيضاً ما استطاع، وكان يعلم الناس الإسلام، وكان يأخذ أولادهم، ويعطيهم بدل أولادهم نقوداً؛ لأن الناس كانوا قد تعودوا على المادية، فكانوا يبيعون أولادهم للحاج عمر ، وهو لا يريد تملكهم، وإنما يريد تعليمهم دين الله تعالى، فإذا تعلموا أرجعهم إلى ذويهم وقال: أنت من قرية كذا فاذهب إلى قريتك، وأنت من قصر كذا فاذهب إلى قصرك، بعد أن تحملوا العلم والدين وتربوا تربية صالحة.
وكذلك دعا إلى هذه الدعوة الشيخ محمد المامي في الشمال، وحاول إرجاع الناس إلى إقامة هذه الدولة الراشدة، وإحياء عهد قد سبق في زمن الاستضعاف، وهو العهد الذي قام به الخمسة الذين يسميهم الناس بتشمشة، وهم خمسة رجال، لا يجمعهم نسب، وإنما اجتمعوا في ذات الله، فتعاهدوا على خواتيم سورة الفرقان من قول الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[الفرقان:63-64] .. إلى آخر الآيات، ودعوتهم ليست مثل الدعوات الأخرى؛ لأنهم لم يريدوا إقامة دولة ولم يحاولوا بيعة رجل، إلا أنهم حاولوا فيما بينهم أن يقيموا بعض هياكل الدولة وبناها التحتية على الأقل، فلذلك قسموا الأرض تقسيماً عادلاً بينهم، ويقول في ذلك الشيخ محمد المامي :
تيامن من تضاعف وانفردنا بثغر لا يقال به منوناً
وأقاموا قاضياً منهم يفصل بين الناس بالعدل، فأقاموا على الأقل بعض البنى، والشيخ محمد المامي أراد أن يدعو الناس إلى بيعة خليفة، وفي ذلك يقول في قصيدته النونية المشهورة:
بلاد العامري لنا اصطفاها فبارك ربه فيها وفينا
إلى أن يقول فيها:
فصارت في جزيرتها حجازاً ونحن لها معـداً آخرينا
نوافي كل طاغية أتانا ومسكين بعيد الأقربينا
وننبذ من أتى منا بأمر له أهل الشريعة منكرونا
والأفوة قبل لم ينكر عليه مصير بلادنا حرماً أميناً
إلى أن قال فيها:
إلى كم قولكم مستضعفون وأنتم للمعالي تاركونا
بنو العباس ما زالوا كراماً يقتل جمعهم ويصلبونا
إلى أن أدركوا ثأراً لقرن وما أدركتم ثأراً قرونا
إلى أن يقول:
أطابيل الأنام جفوتموها بطبع في الخنازر لن يزينا
وهل فيكم نساء محصنات وما كنتم لها يوماً حصونا
وهل حضيت نساء تحت بعل إذا كان الرجـال مخنثـينا
ويقول فيها:
فلم يكتب عليكم من قتال ولا قتل على ما تزعمونا
إلى أن يقول:
أثيروا الغرب قبل قيـام عيسى لعل الله ينعشه سنينا
فيحكم حاكم بالعدل منكم فلستم بعده تتقاتلونا
وينفي ظلم بعضكم لبعض ...
إلى أن يقول فيها:
فقلتم لا جهاد بلا إمـام نبايعـه فهـلا تنصبونـا
وقلتم لا إمام بلا جهـاد يعـززه فهـلا تضربونـا
إذا جاء الدليل وفيـه دور كفـى ردعاً لقوم يعقلـونا
فياشمشة أهل الذكر منكـم سلوا إن كنتـم لا تعلمـونا
تعين ذاك وليسأل سواكم سواهم من يجيب السائلـينا
كحرمة أو كباب بني علي فإني منهمــا في الداخلينـا
وآل الحاج أنصـار كـرام إلى أولاده جبنة ينسبـــونا
محاولات العلماء لإقامة دولة في موريتانيا
استثار المامي الناس لبيعة خليفة ولإقامة دعوة للجهاد في سبيل الله، وكذلك الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سديه الذي دعا أيضاً للجهاد في سبيل الله، ورأى أن الدين مهدد من جهتين:
إحداهما: البدو الذين يغيرون على الناس ويأخذون أموالهم وما لديهم من الممتلكات.
الثانية: جهة النصارى الذين يغزون من الجنوب، ويريدون إعادة الحروب الصليبية التي علا وجهها، وقد قال ذلك في قصيدتيه الرائية والهمزية، يقول في الرائية:
حماة الدين إن الدين صار أسيراً للصوص وللنصارى
فإن بادرتمـوه تداركـوه وإلا يسبق السيف البدارا
وكذلك حبيب الله بن القاضي من قبيلة ديدبا، فقد دعا أيضاً لبيعة خليفة، وجمع العلماء للمشورة فيه، فاختلف علماء ديدبا على قولين:
القول الأول: ينبغي أن نقيم نحن إماماً وأميراً، فإذا اتفقت كلمة المسلمين بايعوه أو بايعوا غيره.
القول الثاني: قال: لا يحق لنا أن ننصب إماماً وحدنا، وإنما ننتظر بعد إشاعة هذه الدعوة بين الناس حتى يتفقوا عليها أو يرفضوها.
ولما أرادوا أن يتخلصوا حينئذ من إقامة الحجة عليهم، قالوا: نبايع أحدكم، فلم يترشح أحد من العلماء، لذلك لم تصل الإمرة لأحد، فبقيت المسألة دون أن يكون لها أثر.
ثم دعا سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم بعد هذا لإقامة دولة، وكان يرى من نفسه أنه يستحق إقامة بعض الحدود وإقامة الجمعة للناس، وإنه إنما نال ذلك بتفويض -على الأقل- من عبد الرحمن بن هشام في المغرب، وكان إذاك أمير دولة آل ملا إسماعيل، فأقام سيدي عبد الله جمعة في تجبجة، وأقام فيها بعض الحدود، وأرسل بعض تلامذته لذلك.
وكذلك قام في مختلف هذه البلاد بعض الدعاة الذين رجعوا من بلدان أخرى خارج هذه الأرض، فرأوا ما ينعم به أهل تلك البلاد من الانتساب إلى الخلافة العثمانية، فدعوا لربط الصلة بالخلافة العثمانية الموجودة في الأستانة في استانبول، فخرج وفد منهم لذلك، وما زالت ذراريهم إلى اليوم في استانبول، وأنا قد لقيت شيخاً منهم كبير السن كان جده من الذين وفدوا من هذه البلاد على السلطان عبد الحميد وبايعوه بالخلافة، وهو رجل من البصابيين، ما زال حياً اليوم في استانبول، وما زالت له زاوية، وما زال له أتباع في تلك البلاد، وقد خرج بفريق كامل لنصرة الخلافة عندما تداعت عليها الدول الصليبية ودول المحور، فأرادوا إسقاط الخلافة العثمانية فذهب هو لإقامة الحجة.
ومن هؤلاء أيضاً محمد محمود من تلاميذ الشركصي الذي ذهب أيضاً إلى الخلافة في الأستانة، وأرسله الخليفة في ذلك الوقت إلى النرويج سفيراً عن المسلمين كلهم للمفاوضة مع ملك النرويج في تسيير قافلة بحرية من الأسطول الإسلامي الذي كان محاصراً في بحر الشمال المتجمد.
وكذلك أحمد الأمين العلوي صاحب الوسيط، فقد كان يصبو للرجوع إلى هذه البلاد، لعل أهلها يعودون إلى بيعة أمير منهم يقف في وجه المستعمر الغاشم الذي بدأ يغزو البلاد، وقد تشبث بعض علماء هذه البلاد ببعض أمراء القبائل الذين كانوا أهل ديانة وعفة، فأرادوا أن ينصبوهم خلفاء؛ فلذلك اجتمعت كلمة بعض علماء (إيجيدي) على أن ينصبوا محمد .... أميراً لهذه المنطقة على الأقل، فنصب قاضياً منهم، وكان ........ يقيم الحدود في وقته، فقد أقام حد القصاص على خمسة أشخاص، ولم يكن لديه آلة للقتل غير سكين يذبح به، وكان يقطع الأيدي، ويجلد الحد.
استعمار فرنسا لموريتانيا وقيام المجاهدين في وجههم
ومع هذا فإن هذه الدعوات المختلفة لم تشهد وقتاً كانت آكد فيه من وقت مجيء المستعمر الكافر، عندما جاءت فرنسا بأساطيلها تجوب الأرض لاستعمارها، في وقت وصفها عبد الله ..... الأسيطي، في مقدمة كتابه بقوله:
وجنادع الروم تجوس وراءنا الأغفال وروعاتها تبين الحواصل الأحبال
وهذا وصف دقيق لجيوش الروم في بداية غزوها لهذه البلاد، وإقامتها لمؤسساتها، واستعمارها لهذه الأرض، فلما جاء المستعمر أراد أولاً أن يتصل بأمراء القبائل، فدعوا بعض الأمراء ومنهم: أحمد سالم اللألي وغيره، فقالوا: نحن نريد أن تتفقوا معنا على الحماية، وعلى أن تكونوا خاضعين للدولة الفرنسية، ونحن نقيم بينكم العدل، ونحمي لكم دينكم، ونمنع أيّ فساد يقع، فقال: إني لا أجرؤ على هذا، أخاف أن يكفرني أهل الزوايا، فقالوا: ومن يجرؤ عليه؟ قال: لا يجرؤ عليه إلا رجلان لا يستطيع أهل الزوايا تكفيرهم، فأشار عليهم بالشيخ بابا بن الشيخ سديه والشيخ سعدبوه بن الشيخ محمد فاضل بن الشيخ بن مامي.
فالتقى المستعمر بهذين الإمامين، فكان رأيهما قد اتفق على أن أي إصلاح يراد في هذه الأرض لا يمكن أن يتم تحت تلك الظروف والوضعية التي تشهد فيها القبائل إغارات بعضها على بعض، والظلم سافر بين الناس، وأيضاً قد تخلص الناس فيها من كل وسائل النظام، فلم يعد هناك رمز للنظام يمكن الالتفاف حوله، وكان الشيخ بابا بن الشيخ سديا من قبل هذا يسعى لأجل لم شتات الناس وإقامة دولة، ولكنه لم يستطع لكثرة الحروب الأهلية، وكثرة الإغارات بين الناس، فاجتهد هذان الرجلان اجتهاداً قد يكون مصيباً وقد يكون خاطئاً، وقد يكون وسطاً له حظ من الصواب وله حظ من الخطأ، فاتفقا على أن يأذنا للمستعمر في دخول هذه البلاد، وشرطا عليه اثني عشر شرطاً، واتفقا عليها.
وكان جمهور العلماء مخالفين لهذين الرجلين، وأعلنوا الجهاد حتى من غير إمام، ومن غير أمير، ومن غير خليفة، فجاهدوا النصارى جهاداً مستميتاً، وسعوا في حث الناس على الهجرة، وكان اختلافهم في ذلك خلافاً فقهياً مبنياً على القواعد، فـالشيخ بابا بن الشيخ سديه وكذلك الشيخ سعدبوه يريان أن ارتكاب أخف الضررين والحرامين أولى، وأن التغيير والإصلاح الذي يريدانه لا يمكن أن يتم تحت الظروف الحالية، والمستعمر لا طاقة لهم بقتاله وهم فيما بينهم متناحرون، وأنه إذا أقام لهم الهياكل استطاعوا أن يطردوه عن طريق السياسة والرأي، وذلك أن هذين الرجلين كانا قد اطلعا على أخبار الدول الأخرى، وكانت تصل إليهم الجرائد فيطلعان على أوضاع الناس، وعلى تشوف بعض الدول للحرية في ذلك الوقت، ورأيا أن المستعمر ليس له مستقبل مستمر في استعمار البلاد والبقاء فيها، أما غيرهما من العلماء فقد رأوا أن هذا المستعمر الكافر يجب جهاده
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4810 استماع |
بشائر النصر | 4287 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4131 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4057 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 3997 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3946 استماع |
عداوة الشيطان | 3932 استماع |
اللغة العربية | 3930 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3906 استماع |
القضاء في الإسلام | 3896 استماع |