شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟))
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه:((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟))
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)).
الشرح:
قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم» هو تقدمة قول يُنبه الفهم، ويوقظ الفكر، ويستدعي حسن الاستماع[1].
وقال الملا علي القاري رحمه الله: "الهمزة للاستفهام، ولا نافية، وليس «ألا» للتنبيه؛ بدليل قولهم: بلى"[2].
لكن الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن المعنى فيه سؤال واستفهام فيه تحضيض ليلفت المستمع لأهمية الكلام بعده؛ فيكون المعنى: ألا أخبركم وأعلمكم بما يمحو الله...، فأجابوه ببلى.
قال الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله في شرح هذا الحديث: "هو من أفضل حديث يُروى في فضائل الأعمال، وفيه من العلم طرح المسألة على المتكلم، وابتداؤه بالفائدة، وعرضها على من يرجو حفظها وحملها"[3].
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "أثبت لهذه الأعمال تكفير الخطايا، ورفع الدرجات"[4].
وقوله: ((ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات»، قال ابن هبيرة رحمه الله: "وهذا مما يجمع بين نفي وإثبات، وخفض ورفع؛ من محو الخطايا، ورفع الدرجات".
وأما «إسباغ الوضوء على المكاره»؛ فيجوز أن يكون المراد بالمكاره إسباغ الوضوء في البرد، ويجوز أن يكون إسباغه مرغمًا بذلك معاطيس الشيطان وأعداء الله، ومشعرًا في ذلك بإيمانه.
وأما «كثرة الخطأ إلى المساجد»؛ فيجوز أن يكون ذلك بقصد المسجد من بعد، ويجوز أن يكون بكثرة التردد إلى المسجد.
و"قوله: «وانتظار الصلاة بعد الصلاة»؛ لأن انتظار الصلاة يجوز أن يكون وهو الأفضل، والأكمل شوقًا إليها؛ لأنها تخلص من مخاطبة الخلق، وعذر في ترك أجوبتهم، وانقطاع إلى الخالق سبحانه وتعالى، ويجوز أن يكون الانتظار لها اهتمامًا بآدابها وخوفًا من فوت فاضل وقتها، وهذا فإذا كان من ذي شغل كان داخلًا في الموصوفين بقوله تعالى: ﴿ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [النور: 37]، وإن كان من متفرغ فإنه يدخل في قوله تعالى: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴾ [المزمل: 8].
وقوله: ((فذلك الرباط))؛ يعني: أن المواظبة على ذلك كالجهاد"[5].
وقال القرطبي رحمه الله: "وقوله: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات»؛ محوُ الخطايا كنايةٌ عن غفرانها، ويحتمل محوها من كتاب الحفظة، ويكون دليلًا على غفرانها، ورفع الدرجات: إعلاء المنازل في الجنة.
وقوله: ((إسباغ الوضوء على المكاره))؛ أي: إيعابُه، والمكارِه يكون من شدة ألم جسمٍ ونحوه، وكثرة الخطا تكون ببُعْدِ الدار، أو بكثرة التكرار.
وقوله: ((انتظار الصلاة بعد الصلاة)): قال القاضي أبو الوليد الباجي: "وهذا في المشتركتين من الصلوات في الوقت، وأما غيرُها فلم يكن من عمل الناس.
وقوله: ((فذلكم الرباطُ))؛ يعني: المرغَّبُ فيه، وأصله الحبسُ على الشيء، كأنَّه حبسَ نفسه على هذه الطاعة، قيل: ويحتمل أنه أفضل الرباط كما قيل: الجهاد جهاد"[6].
وقال ابن العربي المالكي رحمه الله في شرح الحديث: "أحكامه وفوائده في خمس مسائل:
الأولى: هذا الحديث دليل على محو الخطايا بالحسنات من الصحف بأيدي الملائكة التي فيها يكون المحو أو الإثبات لا من أم الكتاب، التي هي عند الله قد ثبتت على ما هي عليه، فلا يزاد فيها، ولا ينتقص منها أبدًا.
الثانية: أراد إسباغ الوضوء عند المكاره برد الماء، أو ألم الجسم، أو إيثار الوضوء على أمر من الدنيا، فلا يأتي به مع ذلك إلا كارهًا مؤثرًا لوجه الله.
الثالثة: ((كثرة الخطا إلى المساجد))؛ يعني به: بُعْد الديار، وهو أفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لبني سلمة، وقد أرادوا أن يتحولوا قريبًا من المسجد: ((يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم))[7].
الرابعة: قوله: ((انتظار الصلاة بعد الصلاة))، أراد به وجهين:
أحدهما: الجلوس في المسجد، وذلك يتصور بالعادة في ثلاث صلوات؛ العصر، والمغرب، والعشاء، وفي العبادة في أربع: في هذه، وفي الصبح، ولا تكون بين العتمة والصبح.
الثاني: تعليق القلب بالصلاة، والاهتمام لها، والتأهب لها، وذلك يتصور في الصلوات كلها.
الخامسة قوله: ((فذلكم الرباط))؛ يعني به: تفسير قوله تعالى: ﴿ اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ﴾ [آل عمران: 200]...، وحقيقته ربط النفس والجسم مع الطاعات"[8].
قال الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله: "وأما قوله: ((إسباغ الوضوء على المكاره)) الإكمال والإتمام، من ذلك قول الله تعالى: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ﴾ [لقمان: 20]؛ يعني: أتمها عليكم وأكملها.
و((إسباغ الوضوء)) أن يأتي بالماء على كل عضو يلزمه غسله مع إمرار اليد، فإذا فعل ذلك مرة وأكمل فقد توضأ مرة.
وأما قوله: ((على المكاره))، فقيل: إنه أراد شدة البرد، وكل حال يُكره المرء فيها نفسه على الوضوء، ومنه دفع تكسيل الشيطان له عنه"[9].
فمعنى اسباغ الوضوء؛ أي: إتمامه، وإكماله باستيعاب المحل بالغسل والمسح، وتثليث الغسل، وإطالة الغرة والتحجيل.
والمكاره ما يكرهه الإنسان، ويشق عليه بسبب المشقة؛ والمراد هنا: أن يتوضأ مع البرد الشديد والعلل التي يتأذى الإنسان معها بمس الماء.
وقوله: ((وكثرة الخطا إلى المساجد))؛ أي: كثرة التردّد إلى المساجد، قال الإمام النووي رحمه الله: "وكثرة الخطا تكون ببعد الدار، وبكثرةِ التكرار"[10].
وقال القاضي عبدالوهاب البغدادي رحمه الله في قوله: "((وكثرة الخطا إلى المساجد)): ولأن الفضيلة في الطاعات بكثرة المشاق[11]، وهذا للقادر على المشي من غير ضرورة تلحقه، فأما إن منعه طين أو مطر، أو بُعْد مكان، أو كان شيخًا كبيرًا أو مريضًا فله أن يركب"[12].
وقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نزلًا[13] كلما غدا أو راح))[14].
وقوله: ((وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ))؛ أي: انتظار وقتها، أو جماعتها، ((بَعْدَ الصَّلَاةِ))؛ أي: بعد أدائها؛ يعني: أنه إذا صلَّى بالجماعة، أو منفردًا ينتظر صلاةً أخرى، ويُعلق قلبه بها؛ وذلك بأن يجلس في المسجد، أو في بيته ينتظرها، أو يكون في شُغله، وقلبه معلقٌ بها[15].
وقال النووي رحمه الله في قوله: ((فذلكم الرباط)): "أي: الرباط المرغب فيه، وأصل الرباط الحبس على الشيء؛ كأنه حبس نفسه على هذه الطاعة، قيل: ويحتمل أنه أفضل الرباط كما قيل: الجهاد جهاد النفس، ويحتمل أنه الرباط المتيسر الممكن؛ أي: إنه من أنواع الرباط، هذا آخر كلام القاضي، وكله حسن"[16].
وأخرج ابن عبدالبر رحمه الله عن أبي سَلَمةَ بن عبدِالرَّحمنِ قال: ما كانَ الرِّباطُ على عَهدِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ ولَكِن نزلَتْ في انتِظارِ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ؛ يعني قولهُ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ﴾ [آل عمران: 200]"[17].
وقال محمد بن كعْبٍ القُرَظِيّ: "اصبِرُوا على دِينِكُم، وصابِرُوا الوعدَ الذي وعدَتُكُم، ورابِطُوا عدُوِّي وعدُوَّكُم، حتى يترُك دِينهُ لدِينِكُم، واتَّقُوني فيما بَيْني وبَيْنكُم لعلَّكُم تُفلِحُونَ إذا لقِيتُمُوني غدًا"[18].
وفي هذا الحديث جملة من الفوائد:
الفائدة الأولى: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أصحابه عليهم السلام ما ينفعهم في أمر دينهم، ويربطهم بالآخرة.
الفائدة الثانية: فضل إسباغ الوضوء؛ خاصة إذا كان فيه مشقة على النفس؛ كأيام الشتاء، والبرد الشديد، والمراد بالإسباغ هو إتمام الوضوء؛ وذلك باستيعاب غسل عضو الوضوء، وتثليث ذلك؛ لكونه أكمل.
الفائدة الثالثة: فضيلة حضور صلاة الجماعة في المسجد، وكثرة الخطا إلى المسجد تكون بكثرة التردد، وتكون بالبُعْد عن المسجد؛ لكن لا تتقصد الابتعاد عن المسجد، فإذا ابتعدت عن المسجد ربما تكسل عن حضور بعض الفروض فيه؛ فتكون قد فوَّت على نفسك أجرًا عظيمًا، وقد أخرج الإمام مسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «مَنْ سَرَّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهن، فإن الله شرع لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته؛ لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد؛ إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف»[19].
قال الداودي: "إن كانت له ذنوب حُطت عنه، وإلا رُفعت درجات.
قال القاضي: والأظهر عندي في هذا أنها درجتان لا واحدة وهو بين؛ لأن حط السيئة فضل، ورفع الدرجة فضل آخر، محتمل أن يكون بالباء لقوله في الحديث الآخر: ((كتب الله بكل خطوة حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة))"[20].
الفائدة الرابعة: انتظار الصلاة في المسجد من الصلاة التي أدَّاها إلى الصلاة التالية لها، وهنا المنتظِر قد ترك كل شيء، وانقطع لله تعالى، فكيف إذا شغل نفسه في تلك المدة بالذكر وقراءة القرآن، والبُعْد عن المُشْغِلات كالجوَّال مثلًا سارق الأوقات؟!
الفائدة الخامسة: أن هذه الأعمال المرغب فيها، والمحافظة عليها كالرباط وهو الجهاد، وأصل الربط كما تقدم الحبس؛ فكأن من هذا حاله حبس نفسه على هذه الطاعة.
والله أعلم.
الفائدة السادسة: إذا كان هذا الفضل ورد في أعمال تؤدَّى قبل الصلاة، ولها تعلق بها فكيف بالصلاة نفسها؟![21].
فحافظ على هذه الأعمال، وجاهد نفسك على أدائها؛ لتنال ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من تكفير للخطايا، ورفع للدرجات.
وفقني الله وإياكم لفعل الخيرات، واجتناب المنكرات، نسأل الله أن يجعل ألسنتنا عامرة بذكره، وقلوبنا بخشيته، وأسرارنا بطاعته، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل، والحمد لله رب العالمين.
[1] قاله ابن هبيرة رحمه الله في «الإفصاح عن معاني الصحاح» (8/ 158).
[2] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 344).
[3] الاستذكار (2/ 302).
[4] جامع العلوم والحكم ت الأرناؤوط (1/ 440).
[5] «الإفصاح عن معاني الصحاح» (8/ 159-160).
[6] إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 55-56).
[7] أخرجه مسلم (665)، قال النووي في شرح هذا الحديث: "معناه: الزموا دياركم، فإنكم إذا لزمتموها كتبت آثاركم وخطاكم الكثيرة إلى المسجد"؛ شرح النووي على مسلم (5/ 169).
[8] عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (ط العلمية) (1/ 67-68).
[9] الاستذكار (2/ 302).
[10] شرح النووي على مسلم (3/ 141).
[11] إن لم تكن المشاق مقصودة بالذات، وإنما حصلت تبعًا للفعل، أما المشقة نفسها فهي ليست مطلوبة في الشرع إلا عند بعض أهل البدع.
[12] المعونة على مذهب عالم المدينة (1/ 299).
[13] "النُزل: ما يهيأ للضيف عند قدومه"؛ قاله النووي في شرح صحيح مسلم (5/ 170).
[14] أخرجه مسلم (669).
[15] البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 365).
[16] شرح النووي على مسلم (3/ 141).
[17] التمهيد (13/ 58).
[18] أخرجه ابن جرير الطبري في تفسير الطبري (جامع البيان) (7/ 510)، وابن عبدالبر في التمهيد (13/ 58).
[19] أخرجه مسلم (654).
[20] إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 620).
[21] إن شاء الله أبين فضل الصلاة في مقال آخر.