محبة الرسول


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى شرط على المؤمنين في الإيمان: محبة رسوله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، وجعل ذلك أصلاً من أصول عقائد المسلمين؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك وأبي هريرة رضي الله عنهما أنه قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده )، وفي أحد الحديثين زيادة: ( والناس أجمعين ).

وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال له: يا رسول الله! أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي، فقال: ( لا, حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك ).

وشرط رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك في الإيمان به: محبة أنصاره؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( حب الأنصار من الإيمان )، وكذلك صح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المسند والمستدرك وغيرهما أنه قال: ( والذي فطر النسمة وبرأ الحبة! لقد عهد إلي النبي الأمي ألا يحبني إلا مؤمن، وألا يبغضني إلا منافق ).

ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت ركناً من أركان الدين، وشرطاً من شروط الإيمان؛ فيجب على كل إنسان أن يتعاهدها في نفسه، وأن يعرفها, ويعرف ضوابطها وحدودها.

تشريف الله له واصطفاؤه على خلقه

فإن هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم شرفه الله سبحانه وتعالى بأنواع التشريف، فقد اختاره من خلائقه؛ فهو أفضل ما خلق الله من الخلائق، وقد اختاره اختياراً بشرياً كذلك, كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن بإسناد صحيح أنه قال: ( إن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل, واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة, واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسنى؛ فأنا من خيار من خيار من خيار، ولا فخر )، وهذا الحديث يقتضي اصطفاءه واختياره من البشر, وتنقيته من الكدر؛ فلذلك يشمل هذا الاختيار التصفية الجسدية يعني: التنقية الجسدية، والتنقية القلبية، والتنقية الخلقية؛ فقد نقاه الله سبحانه وتعالى من كل ما يكرهه، ومن كل ما لا يرتضيه.

كذلك فإن اختيار الله سبحانه وتعالى له مقتض على كل من أحب الله سبحانه وتعالى أن يحب من اختاره الله سبحانه وتعالى وشرفه بهذه المكانة.

إحسانه عليه الصلاة والسلام إلى الناس.. الشفاعة نموذجاً

وكذلك فإن من دواعي المحبة: الإنعام والإحسان، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس إحساناً إلى الناس؛ فهو الذي يدخل في شفاعته يوم القيامة آدم ومن دونه إلى نهاية البشرية؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا حشر الناس في الساهرة أوتي بجهنم تنقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، فتحيط بهم من كل جانب، وتدنو الشمس حتى تكون كالميل فوق رءوسهم، ويشتد العرق؛ فمنهم من يصل إلى حقويه, ومنهم من يصل إلى ثدييه, ومنهم من يصل إلى ترقوتيه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ويطول بهم الموقف؛ فيلجئون إلى العلماء, فيقول العلماء: ليس اليوم لنا إنما هو للأنبياء، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيمينه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وجعلك خليفته في الأرض؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم: نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني عصيت الله فأكلت من الشجرة، ولكن اذهبوا إلى نوح فيأتونه فيقولون: يا نوح! أنت أبو البشر بعد آدم، وأول الرسل إلى أهل الأرض؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وأما إلى نار، فيقول نوح: نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني سألت الله ما لم يأذن لي به، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! قد اصطفاك الله لخلته من بين خلقه؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول إبراهيم: نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات، ولكن اذهبوا إلى موسى، فيأتونه فيقولون: يا موسى! قد اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول موسى: نفسي.. نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي! إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم يؤذن لي بها، ولكن اذهبوا إلى عيسى، فيأتونه فيقولون: يا عيسى! أنت كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول عيسى: نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني عبدت من دون الله، لا يجد أمراً يأثره إلا هذه، ولكن اذهبوا إلى محمد، فيذهبون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولون: يا محمد! أنت آخر الرسل إلى أهل الأرض, وأنت إمامهم؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول محمد صلى الله عليه وسلم: أنا لها؛ فيخر ساجداً تحت العرش -وفي رواية: راكعاً تحت العرش- فيلهمه الله الثناء عليه بمحامد لا يحسنها ولا يحسنها أحد من أهل الدنيا, فيناديه فيقول: يا محمد! ارفع رأسك, واشفع تشفع، واسأل تعط ).

فيشفع للناس جميعاً، في مؤمنهم وكافرهم، فيدخل في شفاعته الأنبياء جميعاً وأتباعهم، وهذا هو المقام المحمود الذي وعده الله إياه في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:78-79]، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الدرجة الرفيعة المدخرة عند الله سبحانه وتعالى التي اختص بها عبداً من عباده، قال: ( وأرجو أن أكون أنا هو )، فحقق الله رجاءه.

فمن كان يدخل في شفاعته الأولون والآخرون جميعاً فهو أهل لأن يحب، وكذلك هذه الأمة بالخصوص فليس لها من خير إلا من طريق هذا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو دليلها إلى الله سبحانه وتعالى، وهو معلمها الخير كله، وقد صح عنه في صحيح البخاري أنه قال: ( ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم )، فلم يبق من خير إلا دلنا عليه, ولا من شر إلا حذرنا منه، فهو أهل لأن يحب من أجل إحسانه إلينا.

كذلك الشفاعات الأخرى التي دون هذه, وأنتم تعلمون أن الشفاعات ثمان، أعظمها الشفاعة الكبرى, وهي التي ذكرناها في الخلائق جميعاً في أرض المحشر، وبعدها العرض على الله سبحانه وتعالى، ثم الشفاعة الصغرى -وهي أصغر الشفاعات- وهي الشفاعة في كافر مات على الكفر ليخفف الله عنه عذابه؛ فيوضع في ضحضاح من نار في أخمصيه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه، وهذا أخف أهل النار عذاباً يوم القيامة، وهذه الشفاعة كذلك مختصة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده؛ فلا يحل لأحد أن يشفع في كافر مات لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر إلا هذا الرجل وحده يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمهور أهل السنة على أن هذا الرجل هو أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة الثالثة: الشفاعة في إخراج أهل الإيمان من النار بعد أن نالوا حظهم منها؛ فإن الفساق يدخلون النار بفجورهم ويخرجون منها بإيمانهم؛ كما صح في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يخرج من النار أقوام قد اسودوا وامتحشوا ويلقون في نهر الحياء -أو: (الحياة) شك مالك- فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل ).

وهذه الشفاعة ليست مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ بل هي للأنبياء والملائكة والصالحين، وهي إكرام من الله تعالى لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى كتب على هؤلاء حظهم من عذابه وعقوبته، وأراد تكريم أولئك بأن يشفعوا فيهم، ولا تمكن الشفاعة حينئذ إلا لمن أذن له، كما قال سبحانه وتعالى: من ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وكما قال تعالى: لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، وقال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]، فهذه الشفاعة لا تنفع إلا من أذن الله له بالشفاعة.

النوع الرابع من الشفاعات: الشفاعة في بعض العصاة حتى لا يدخلوا النار وهم يستحقونها بسيئاتهم؛ فبعض العصاة يستحقون دخول النار بسيئاتهم، ولكن الله يشفع فيهم الشافعين فتنفعهم شفاعة الشافعين، فتحول بينهم وبين النار بعد أن شاهدوا مقاعدهم منها، نسأل الله السلامة والعافية! وهذه الشفاعة كذلك لا تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ بل هي للأنبياء والملائكة والصالحين، يشفعهم الله في أقوامهم، بل قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من هذه الأمة أقواماً يشفعون في مثل ربيعة ومضر، في مثل القبيلتين العظيمتين.

الشفاعة الخامسة: الشفاعة في المجازاة، وهي أن أقواماً يأتون يوم القيامة فتستحق حسناتهم بسبب إجرامهم وإسرافهم على أنفسهم، وذلك أن الذنوب ثلاثة أقسام:

ذنب لا يغفر؛ وهو الشرك بالله.

وذنب في المشيئة إن شاء الله عذب به وإن شاء عفا عنه؛ وهو حقوق الله المتمحضة.

وذنب لا يترك؛ وهو حقوق العباد, فحتى لو غفر الله سبحانه وتعالى جانب المعصية بالذنب فإنه يبقى حق العبد لابد من استيفائه عند الحكم العدل الذي لا يظلم عنده أحد، وهذه الحقوق هي التي تمحل بالعباد؛ فيأتي الرجل ومعه من الحسنات أمثال الجبال، ولكنه قد استغرقت ذمته باعتدائه على الناس.

ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: ( أتدرون من المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: بل المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا، وأكل مال هذا -وفي رواية: وقتل هذا- فيعطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته، حتى إذا نفدت حسناته ألقي عليه من سيئاتهم، ثم ألقي هو في النار )، فهؤلاء المفلسون تنفع بعضهم شفاعة الشافعين يوم القيامة؛ فيشفعون في المجازات عنهم؛ فيجازي الله خصومهم، فيدعو العبد فيقول: لك يا عبدي على فلان كذا وكذا، فهل يرضي عنه أن أتجاوز عن سيئاتك؟ هل يرضيك عنه أن يدخلك الجنة؟ فيرضي الله سبحانه وتعالى أقواماً عن هذه الحقوق، فتقع المسامحة، وذلك الوقت لابد فيه من أداء الحقوق كلها، حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء، فالشياه -الغنم- الغير مكلفة يؤتي بها في مثل ذلك الموقف حتى يقاد للشاة الجماء التي لا قرن لها من الشاة القرناء التي نطحتها في الدنيا، فضلاً عن البشر المكلفين.

الشفاعة السادسة: الشفاعة في دخول الجنة؛ فإن الناس إذا وضعت الموازين بالقسط ليوم القيامة توزن أعمالهم بمقاييس الذر، وبعد ذلك يعطى أهل الإيمان كتبهم بأيمانهم تلقاء وجوههم، ويبيض الله وجوههم، ويعطى أهل السيئات كتبهم بشمائلهم تلقاء ظهورهم، ويسود الله وجوههم، ويضرب بين الطائفتين بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويعرف بعض أهل السيئات بعض أهل الإيمان كانوا يجاورونهم في الدنيا ويخالطونهم، ويعرفونهم بأسمائهم وأنسابهم، فينادونهم: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ [الحديد:14].

ولاحظوا الأعذار التي قالوها! قالوا: بلى قد كنتم معنا في الدنيا، ولكنكم فتنتم أنفسكم، وفتنة النفس إنما تكون باتباع الهوى واتباع الشهوات، (وتربصتم) أي: بأهل الإيمان؛ فكنتم تكيدون لهم وتتمنون لهم المصائب، فلذلك قال: (وتربصتم) ثم قال: (وارتبتم) أي: شككتم في وعود الله الذي لابد أن تتحقق، وهذه أخرت لأنها قاصمة الظهر، (وغرتكم الأماني) فكثير من أصحاب الذنوب ينسون ذنوبهم، ويظنون أنها قد غفرت، فهم يودون أن يعطوا صحفاً منشرة فيها الحسنات وأن يمحى عنهم السيئات، ولكن الواقع أن هذا مثل تمني اليهود الذين قالوا: إن لديهم عهداً من الله ألا يعذبهم إلا أياماً معدودات، والله تعالى كذب هذا العهد في سورة آل عمران، وبين أنه من أباطيلهم التي لا طائل من ورائها: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80]، فلذلك قال في هؤلاء: وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ [الحديد:14]، وهو الموت، وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ [الحديد:14]، وهو الشيطان، فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ المَصِيرُ [الحديد:15].

وبعد هذا إذا نصب الصراط على متن جهنم يمر الناس عليه، ويتفاوتون حسب أعمالهم؛ فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم يزحف على مقعدته, فناج مسلم, ومخدوش مرسل, ومكردس على وجهه في نار جهنم، فإذا نجا الناجون على الصراط ووصلوا إلى باب الجنة، فأول من يكسى من حرير الجنة إبراهيم عليه السلام، يكسى من الديباج الأبيض، وأول من يحرك حلقة الباب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع لأهل الجنة في دخول الجنة، فإذا شفع شفعه الله ففتحت أبواب الجنة الثمانية، وينادى من كل باب أصحابه؛ فباب الصلاة ينادى منه أهل الصلاة، وباب الصدقة ينادى منه أهل الزكاة والصدقات، وباب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد، وباب الجهاد يدخل منه أهل الجهاد، وباب البر والصلة يدخل منه أهلهما، وهكذا حتى تنتهي أبواب الجنة، ومن الناس من يدعى من جميع أبواب الجنة، ينادى باسمه من جميع أبواب الجنة الثمانية، فيخير من أي باب شاء دخل، فهذه الشفاعة في دخول الجنة مختصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم الشفاعة السابعة هي الشفاعة في رفع منزلة بعض أهل الجنة؛ لأن أهل الجنة إذا دخلوها منهم من يستحق أن يكون من أصحاب اليمين، ومنهم من يستحق أن يكون من المقربين؛ فالمقربون في الفردوس الأعلى من الجنة التي سقفها عرش الرحمن، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سألتم الله فسألوه الفردوس الأعلى من الجنة )، وهي منزلة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأم حارثة حين سألته عن ولدها قالت: ( أفي الجنة هو فأصبر أم في غير ذلك فترى ما أصنع؟ فقال: أو جنة هي! إنما هي جنان, وابنك في الفردوس الأعلى منها )، فأولئك الذين لا يستحقون الفردوس الأعلى من الجنة، ولا يستحقون الدرجات العالية في الجنة تنفعهم شفاعة الشافعين؛ فتعلى منزلتهم وترفع حتى يصلوا إلى المستوى الذي يرغبون فيه، وأهل الجنة يتراءون المنازل ويتراءون الغرف كما يتراءى الكوكب الدري في السماء من تباعد المنازل فيما بينهم.

الشفاعة الثامنة: الشفاعة بجمع الشمل للذين دخلوا الجنة من أهل الإيمان واستحق بعض ذرياتهم سواء كانوا من الآباء أو الأبناء دخول النار، ولكنهم مع ذلك أهل إيمان فيشفعون فيهم حتى يجتمع شملهم، وهذا من تنعيم الله لهم، فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، والذرية تطلق على الآباء والأبناء، فمن إطلاقها على الآباء قول الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام: وَآيَةٌ لَهمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ المَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس:41-42]، فالذرية التي حملت في سفينة نوح ليست بالذراري أي: الأولاد, وإنما هي الآباء، وإطلاق الذرية كذلك على الأولاد مثل قول الله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:84]، فهؤلاء من ذرية إبراهيم أي: من أولاده.

فقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ [الطور:21]، هذا يشمل الآباء والأبناء، والذرية مشتقة من الذر، وهو صغار النمل، والمقصود بذلك: الصورة التي أخرج الله عليها ذرية آدم من ظهره حين مسحه في بطن نعمان، فأخرج منه ذرية فقال: أي رب! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك، خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسحه فأخرج منه ذرية أخرى فقال: أي رب! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك، خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، فالصورة التي أخرجوا عليها إذ ذاك شبهت بالذر وهو النمل، فسمي ذلك العالم عالم الذر، وتعارفت فيه الأرواح، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: ( الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )، فالمقصود بالتعارف كما قال أهل العلم: ما كان في عالم الذر أي: في ذلك الوقت؛ وقت إخراج ذرية آدم من ظهره، وهذه الشفاعة لا تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ بل هي لأهل الجنة عموماً، فيشفعون في ذراريهم وأقاربهم، حتى يجتمع شملهم، ويلحق بهم من يعرفون من ذرياتهم وأقاربهم.

إن من يشفع هذه الشفاعات العظيمة لمستحق للمحبة.

كماله صلى الله عليه وسلم

وكذلك فإن من أسس المحبة كمال الإنسان في ذاته حتى لو لم يحسن إليك، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أكمل البشر في خلقه وخلقه -كما سيتبين بعد قليل إن شاء الله من ذكر شمائله- فإذا كان كذلك فهو مستحق لأن يحب.

إن المحبة أنواع؛ منها ما كان جزاءً لإحسان:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجب

ومنها ما يكون على أساس الكمال؛ فإن يكن المحبوب كاملاً في نفسه فإن ذلك مما يقتضي محبته وتعلق القلب به، وأكمل الناس محمد صلى الله عليه وسلم؛ وبكل هذا نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل للمحبة.

فإن هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم شرفه الله سبحانه وتعالى بأنواع التشريف، فقد اختاره من خلائقه؛ فهو أفضل ما خلق الله من الخلائق، وقد اختاره اختياراً بشرياً كذلك, كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن بإسناد صحيح أنه قال: ( إن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل, واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة, واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسنى؛ فأنا من خيار من خيار من خيار، ولا فخر )، وهذا الحديث يقتضي اصطفاءه واختياره من البشر, وتنقيته من الكدر؛ فلذلك يشمل هذا الاختيار التصفية الجسدية يعني: التنقية الجسدية، والتنقية القلبية، والتنقية الخلقية؛ فقد نقاه الله سبحانه وتعالى من كل ما يكرهه، ومن كل ما لا يرتضيه.

كذلك فإن اختيار الله سبحانه وتعالى له مقتض على كل من أحب الله سبحانه وتعالى أن يحب من اختاره الله سبحانه وتعالى وشرفه بهذه المكانة.

وكذلك فإن من دواعي المحبة: الإنعام والإحسان، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس إحساناً إلى الناس؛ فهو الذي يدخل في شفاعته يوم القيامة آدم ومن دونه إلى نهاية البشرية؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا حشر الناس في الساهرة أوتي بجهنم تنقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، فتحيط بهم من كل جانب، وتدنو الشمس حتى تكون كالميل فوق رءوسهم، ويشتد العرق؛ فمنهم من يصل إلى حقويه, ومنهم من يصل إلى ثدييه, ومنهم من يصل إلى ترقوتيه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ويطول بهم الموقف؛ فيلجئون إلى العلماء, فيقول العلماء: ليس اليوم لنا إنما هو للأنبياء، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيمينه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وجعلك خليفته في الأرض؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم: نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني عصيت الله فأكلت من الشجرة، ولكن اذهبوا إلى نوح فيأتونه فيقولون: يا نوح! أنت أبو البشر بعد آدم، وأول الرسل إلى أهل الأرض؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وأما إلى نار، فيقول نوح: نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني سألت الله ما لم يأذن لي به، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! قد اصطفاك الله لخلته من بين خلقه؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول إبراهيم: نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات، ولكن اذهبوا إلى موسى، فيأتونه فيقولون: يا موسى! قد اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول موسى: نفسي.. نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي! إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم يؤذن لي بها، ولكن اذهبوا إلى عيسى، فيأتونه فيقولون: يا عيسى! أنت كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول عيسى: نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني عبدت من دون الله، لا يجد أمراً يأثره إلا هذه، ولكن اذهبوا إلى محمد، فيذهبون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولون: يا محمد! أنت آخر الرسل إلى أهل الأرض, وأنت إمامهم؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول محمد صلى الله عليه وسلم: أنا لها؛ فيخر ساجداً تحت العرش -وفي رواية: راكعاً تحت العرش- فيلهمه الله الثناء عليه بمحامد لا يحسنها ولا يحسنها أحد من أهل الدنيا, فيناديه فيقول: يا محمد! ارفع رأسك, واشفع تشفع، واسأل تعط ).

فيشفع للناس جميعاً، في مؤمنهم وكافرهم، فيدخل في شفاعته الأنبياء جميعاً وأتباعهم، وهذا هو المقام المحمود الذي وعده الله إياه في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:78-79]، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الدرجة الرفيعة المدخرة عند الله سبحانه وتعالى التي اختص بها عبداً من عباده، قال: ( وأرجو أن أكون أنا هو )، فحقق الله رجاءه.

فمن كان يدخل في شفاعته الأولون والآخرون جميعاً فهو أهل لأن يحب، وكذلك هذه الأمة بالخصوص فليس لها من خير إلا من طريق هذا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو دليلها إلى الله سبحانه وتعالى، وهو معلمها الخير كله، وقد صح عنه في صحيح البخاري أنه قال: ( ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم )، فلم يبق من خير إلا دلنا عليه, ولا من شر إلا حذرنا منه، فهو أهل لأن يحب من أجل إحسانه إلينا.

كذلك الشفاعات الأخرى التي دون هذه, وأنتم تعلمون أن الشفاعات ثمان، أعظمها الشفاعة الكبرى, وهي التي ذكرناها في الخلائق جميعاً في أرض المحشر، وبعدها العرض على الله سبحانه وتعالى، ثم الشفاعة الصغرى -وهي أصغر الشفاعات- وهي الشفاعة في كافر مات على الكفر ليخفف الله عنه عذابه؛ فيوضع في ضحضاح من نار في أخمصيه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه، وهذا أخف أهل النار عذاباً يوم القيامة، وهذه الشفاعة كذلك مختصة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده؛ فلا يحل لأحد أن يشفع في كافر مات لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر إلا هذا الرجل وحده يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمهور أهل السنة على أن هذا الرجل هو أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة الثالثة: الشفاعة في إخراج أهل الإيمان من النار بعد أن نالوا حظهم منها؛ فإن الفساق يدخلون النار بفجورهم ويخرجون منها بإيمانهم؛ كما صح في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يخرج من النار أقوام قد اسودوا وامتحشوا ويلقون في نهر الحياء -أو: (الحياة) شك مالك- فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل ).

وهذه الشفاعة ليست مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ بل هي للأنبياء والملائكة والصالحين، وهي إكرام من الله تعالى لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى كتب على هؤلاء حظهم من عذابه وعقوبته، وأراد تكريم أولئك بأن يشفعوا فيهم، ولا تمكن الشفاعة حينئذ إلا لمن أذن له، كما قال سبحانه وتعالى: من ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وكما قال تعالى: لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، وقال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]، فهذه الشفاعة لا تنفع إلا من أذن الله له بالشفاعة.

النوع الرابع من الشفاعات: الشفاعة في بعض العصاة حتى لا يدخلوا النار وهم يستحقونها بسيئاتهم؛ فبعض العصاة يستحقون دخول النار بسيئاتهم، ولكن الله يشفع فيهم الشافعين فتنفعهم شفاعة الشافعين، فتحول بينهم وبين النار بعد أن شاهدوا مقاعدهم منها، نسأل الله السلامة والعافية! وهذه الشفاعة كذلك لا تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ بل هي للأنبياء والملائكة والصالحين، يشفعهم الله في أقوامهم، بل قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من هذه الأمة أقواماً يشفعون في مثل ربيعة ومضر، في مثل القبيلتين العظيمتين.

الشفاعة الخامسة: الشفاعة في المجازاة، وهي أن أقواماً يأتون يوم القيامة فتستحق حسناتهم بسبب إجرامهم وإسرافهم على أنفسهم، وذلك أن الذنوب ثلاثة أقسام:

ذنب لا يغفر؛ وهو الشرك بالله.

وذنب في المشيئة إن شاء الله عذب به وإن شاء عفا عنه؛ وهو حقوق الله المتمحضة.

وذنب لا يترك؛ وهو حقوق العباد, فحتى لو غفر الله سبحانه وتعالى جانب المعصية بالذنب فإنه يبقى حق العبد لابد من استيفائه عند الحكم العدل الذي لا يظلم عنده أحد، وهذه الحقوق هي التي تمحل بالعباد؛ فيأتي الرجل ومعه من الحسنات أمثال الجبال، ولكنه قد استغرقت ذمته باعتدائه على الناس.

ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: ( أتدرون من المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: بل المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا، وأكل مال هذا -وفي رواية: وقتل هذا- فيعطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته، حتى إذا نفدت حسناته ألقي عليه من سيئاتهم، ثم ألقي هو في النار )، فهؤلاء المفلسون تنفع بعضهم شفاعة الشافعين يوم القيامة؛ فيشفعون في المجازات عنهم؛ فيجازي الله خصومهم، فيدعو العبد فيقول: لك يا عبدي على فلان كذا وكذا، فهل يرضي عنه أن أتجاوز عن سيئاتك؟ هل يرضيك عنه أن يدخلك الجنة؟ فيرضي الله سبحانه وتعالى أقواماً عن هذه الحقوق، فتقع المسامحة، وذلك الوقت لابد فيه من أداء الحقوق كلها، حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء، فالشياه -الغنم- الغير مكلفة يؤتي بها في مثل ذلك الموقف حتى يقاد للشاة الجماء التي لا قرن لها من الشاة القرناء التي نطحتها في الدنيا، فضلاً عن البشر المكلفين.

الشفاعة السادسة: الشفاعة في دخول الجنة؛ فإن الناس إذا وضعت الموازين بالقسط ليوم القيامة توزن أعمالهم بمقاييس الذر، وبعد ذلك يعطى أهل الإيمان كتبهم بأيمانهم تلقاء وجوههم، ويبيض الله وجوههم، ويعطى أهل السيئات كتبهم بشمائلهم تلقاء ظهورهم، ويسود الله وجوههم، ويضرب بين الطائفتين بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويعرف بعض أهل السيئات بعض أهل الإيمان كانوا يجاورونهم في الدنيا ويخالطونهم، ويعرفونهم بأسمائهم وأنسابهم، فينادونهم: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ [الحديد:14].

ولاحظوا الأعذار التي قالوها! قالوا: بلى قد كنتم معنا في الدنيا، ولكنكم فتنتم أنفسكم، وفتنة النفس إنما تكون باتباع الهوى واتباع الشهوات، (وتربصتم) أي: بأهل الإيمان؛ فكنتم تكيدون لهم وتتمنون لهم المصائب، فلذلك قال: (وتربصتم) ثم قال: (وارتبتم) أي: شككتم في وعود الله الذي لابد أن تتحقق، وهذه أخرت لأنها قاصمة الظهر، (وغرتكم الأماني) فكثير من أصحاب الذنوب ينسون ذنوبهم، ويظنون أنها قد غفرت، فهم يودون أن يعطوا صحفاً منشرة فيها الحسنات وأن يمحى عنهم السيئات، ولكن الواقع أن هذا مثل تمني اليهود الذين قالوا: إن لديهم عهداً من الله ألا يعذبهم إلا أياماً معدودات، والله تعالى كذب هذا العهد في سورة آل عمران، وبين أنه من أباطيلهم التي لا طائل من ورائها: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80]، فلذلك قال في هؤلاء: وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ [الحديد:14]، وهو الموت، وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ [الحديد:14]، وهو الشيطان، فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ المَصِيرُ [الحديد:15].

وبعد هذا إذا نصب الصراط على متن جهنم يمر الناس عليه، ويتفاوتون حسب أعمالهم؛ فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم يزحف على مقعدته, فناج مسلم, ومخدوش مرسل, ومكردس على وجهه في نار جهنم، فإذا نجا الناجون على الصراط ووصلوا إلى باب الجنة، فأول من يكسى من حرير الجنة إبراهيم عليه السلام، يكسى من الديباج الأبيض، وأول من يحرك حلقة الباب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع لأهل الجنة في دخول الجنة، فإذا شفع شفعه الله ففتحت أبواب الجنة الثمانية، وينادى من كل باب أصحابه؛ فباب الصلاة ينادى منه أهل الصلاة، وباب الصدقة ينادى منه أهل الزكاة والصدقات، وباب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد، وباب الجهاد يدخل منه أهل الجهاد، وباب البر والصلة يدخل منه أهلهما، وهكذا حتى تنتهي أبواب الجنة، ومن الناس من يدعى من جميع أبواب الجنة، ينادى باسمه من جميع أبواب الجنة الثمانية، فيخير من أي باب شاء دخل، فهذه الشفاعة في دخول الجنة مختصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم الشفاعة السابعة هي الشفاعة في رفع منزلة بعض أهل الجنة؛ لأن أهل الجنة إذا دخلوها منهم من يستحق أن يكون من أصحاب اليمين، ومنهم من يستحق أن يكون من المقربين؛ فالمقربون في الفردوس الأعلى من الجنة التي سقفها عرش الرحمن، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سألتم الله فسألوه الفردوس الأعلى من الجنة )، وهي منزلة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأم حارثة حين سألته عن ولدها قالت: ( أفي الجنة هو فأصبر أم في غير ذلك فترى ما أصنع؟ فقال: أو جنة هي! إنما هي جنان, وابنك في الفردوس الأعلى منها )، فأولئك الذين لا يستحقون الفردوس الأعلى من الجنة، ولا يستحقون الدرجات العالية في الجنة تنفعهم شفاعة الشافعين؛ فتعلى منزلتهم وترفع حتى يصلوا إلى المستوى الذي يرغبون فيه، وأهل الجنة يتراءون المنازل ويتراءون الغرف كما يتراءى الكوكب الدري في السماء من تباعد المنازل فيما بينهم.

الشفاعة الثامنة: الشفاعة بجمع الشمل للذين دخلوا الجنة من أهل الإيمان واستحق بعض ذرياتهم سواء كانوا من الآباء أو الأبناء دخول النار، ولكنهم مع ذلك أهل إيمان فيشفعون فيهم حتى يجتمع شملهم، وهذا من تنعيم الله لهم، فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، والذرية تطلق على الآباء والأبناء، فمن إطلاقها على الآباء قول الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام: وَآيَةٌ لَهمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ المَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس:41-42]، فالذرية التي حملت في سفينة نوح ليست بالذراري أي: الأولاد, وإنما هي الآباء، وإطلاق الذرية كذلك على الأولاد مثل قول الله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:84]، فهؤلاء من ذرية إبراهيم أي: من أولاده.

فقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ [الطور:21]، هذا يشمل الآباء والأبناء، والذرية مشتقة من الذر، وهو صغار النمل، والمقصود بذلك: الصورة التي أخرج الله عليها ذرية آدم من ظهره حين مسحه في بطن نعمان، فأخرج منه ذرية فقال: أي رب! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك، خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسحه فأخرج منه ذرية أخرى فقال: أي رب! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك، خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، فالصورة التي أخرجوا عليها إذ ذاك شبهت بالذر وهو النمل، فسمي ذلك العالم عالم الذر، وتعارفت فيه الأرواح، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: ( الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )، فالمقصود بالتعارف كما قال أهل العلم: ما كان في عالم الذر أي: في ذلك الوقت؛ وقت إخراج ذرية آدم من ظهره، وهذه الشفاعة لا تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ بل هي لأهل الجنة عموماً، فيشفعون في ذراريهم وأقاربهم، حتى يجتمع شملهم، ويلحق بهم من يعرفون من ذرياتهم وأقاربهم.

إن من يشفع هذه الشفاعات العظيمة لمستحق للمحبة.

وكذلك فإن من أسس المحبة كمال الإنسان في ذاته حتى لو لم يحسن إليك، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أكمل البشر في خلقه وخلقه -كما سيتبين بعد قليل إن شاء الله من ذكر شمائله- فإذا كان كذلك فهو مستحق لأن يحب.

إن المحبة أنواع؛ منها ما كان جزاءً لإحسان:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجب

ومنها ما يكون على أساس الكمال؛ فإن يكن المحبوب كاملاً في نفسه فإن ذلك مما يقتضي محبته وتعلق القلب به، وأكمل الناس محمد صلى الله عليه وسلم؛ وبكل هذا نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل للمحبة.

بعد هذا نصل إلى ضوابط هذه المحبة:

إن هذه المحبة التي شرعها الله سبحانه وتعالى وشرطها في الإيمان ليست هي مجرد الطاعة؛ كما يتوهمه بعض الناس، فبعض الناس يتوهم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي باتباعه وطاعته، لكن الواقع خلاف ذلك بدليل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ( أن رجلاً كان يلقب حماراً -أو كان يدعى حماراً- وكان يشرب الخمر فيؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم فيجلده في الخمر، فجلده ذات يوم، فقال رجل: لعنه الله لطالما أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم سكران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقل ذاك؛ إنه يحب الله ورسوله )، فهذا الرجل يحب الله ورسوله، وهو يشرب الخمر فيؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم سكران فيجلده.

فدل هذا على أن المحبة ليست بمجرد الاتباع؛ بل هي أمر عاطفي وتعلق قلبي يتعدى ذلك، حتى لو وقع الإنسان في بعض التقصير، ومثل ذلك محبة الله سبحانه وتعالى فليست بالطاعة المحضة فقط، بل قد يكون الإنسان محباً لله سبحانه وتعالى ومع ذلك يقع في بعض الأحيان في معصية، فلذلك لا تنتفي المحبة بالمعصية؛ ولكن ينتفي كمالها فقط، يقول الشيخ محمد عالي رحمه الله:

من ادعى محبة الله ولم يسر على سنة سيد الأمم

فذاك كذاب أخو ملاهي كذب دعواه كتاب الله

وهي من المخالفات قالوا لا تنتفي بل ينتفي الكمال

فالمخالفات لا تنتفي بها المحبة إجمالاً ولكن ينتفي كمالها؛ فيقع النقص في المحبة بقدر المعصية، وبهذا يتبين أن المحبة ليست من عمل الجوارح، وإنما هي من عمل القلب والعاطفة.

إن على الإنسان أن يستغل ما أتاه الله سبحانه وتعالى في شحنه بالإيمان؛ فأثر الإيمان في الجوارح طاعات ظاهرة، وأثر الإيمان في العلم التصور والاستسلام؛ تصور ما أمر الله بتصوره في أركان الإيمان الستة، والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى، وأثر الإيمان في العاطفة هو المحبة والبغض؛ المحبة لله ولرسوله وللمؤمنين، والبغض لأعداء الله سبحانه وتعالى، ومن جمع المحبة والبغض نال بهما حلاوة الإيمان, كما صح في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ثلاث من كن فيه نال بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ).

ولاحظوا أن الخصال الثلاثة إما حب وإما كره، فبذلك يعلم أن الجانب العاطفي هو الذي تذاق به حلاوة الإيمان، فإذا تعلق الإنسان برسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبه هذه المحبة العاطفية؛ فذلك حامل على اتباعه، وحامل على طاعته فيما أمر, وتصديقه في ما أخبر، وأن يعبد الله بما شرع، وهذه مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله هذا الثلاثة: أن يصدق في كل ما أخبر به، وأن يطاع في كل ما أمر به، وألا يعبد الله إلا بما شرع.

فهذه المحبة إذاً أمر قلبي عاطفي، وهو إنما يتم بمعرفته؛ لأن من لا تعرفه ولا تعرف حقه لا يمكن أن تحبه، فهل فيكم أحد يمكن أن يحب شخصاً مجهولاً لم يره ولم يسمع عنه، ولا يعرف شيئاً من أخلاقه ولا من صفاته؟ هذا مستحيل، ولهذا لاحظوا أن القرآن مليء بصفات الله، وبصفات رسوله ورسله عليهم السلام، والسنة مليئة بصفات الله وصفات رسوله صلى الله عليه وسلم, وهذه الصفات ليست تكليفاً لنا نحن، ولكنها معرفة من خلالها تتحقق المحبة، وكثير من الناس عند قراءة الشمائل النبوية، والأوصاف الخلقية للنبي صلى الله عليه وسلم أو الخلقية يقولون: إن الأوصاف الخلقية يمكن أن يؤتسى به ويقتدى به فيها، أما الأوصاف الخلقية فما فائدة قراءتها وتدارسها؟ والجواب: أن فائدتها تحصيل محبته؛ لأنك لا يمكن أن تعرفه إلا إذا عرفت وصفه، وإذا عرفت وصفه أحببته، ولذلك قال البدوي رحمه الله:

وإن عرفت النسب الخطيرا وسيرة تكن بهم خبيرا

حتى كأنهم بعين النقس في الصك قد لاحوا لعين الحس

وهذه الأبيات عجيبة جداً في تصوير سبب المحبة الحاصل بالمعرفة، فمن عرف إنساناً وعرف كماله تعرف إليه من كل وجه، فعرف نسبه وحسبه وصفاته وأسماءه، وكل ما يتعلق به اقتضى ذلك منه محبته؛ ولهذا تجدون أن مالك رحمه الله ختم الموطأ بأسماء النبي صلى الله عليه وسلم, فآخر حديث من الموطأ هو قول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جبير بن مطعم: ( أنا محمد, وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه، وأنا العاقب )، وقال: ( لي خمسة أسماء )، فمجرد معرفة هذه الأسماء ودلالتها يقتضي محبته وتعلق قلب به.

فهو محمد أي: الذي يحمده الأولون والآخرون، وهو أحمد أي: أحمد الناس لربه عز وجل، وهو الماحي أي: الذي يمحو الله به الكفر، وهو الحاشر أي: الذي يسوق الأمم؛ فأمته آخر الأمم, فهو الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه، وهو العاقب أي: الوارث لمن سبق، فهو مصدق لما بين يديه من الحق، والأمم كلها تفتح خزائنها لأمته، فأمته هي التي تتبوأ موضع قيادة الأمم.

فمن عرف النبي صلى الله عليه وسلم بأسمائه وأوصافه تحققت لديه هذه المحبة العاطفية القلبية، ومن درس الفقه الذي جاء به وعمل به يحصل له الاتباع، لكن لا تحصل له المحبة المحضة؛ فلهذا لابد أن يتعرف الإنسان على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيعرف شمائله وأخلاقه وأوصافه، ويعرف كذلك نسبه وسيرته، ويعرف أصحابه الذين اختار الله له.

وقد زعم أبو محمد بن حزم رحمه الله أن الصحابة جميعاً يجب الإيمان بأنهم من أهل الجنة، واستدل لذلك بقول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:32-33]، وكذلك قول الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، والحسنى هي الجنة، و(كلاً) يشمل هذا من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن لم يأت إلا بعد الفتح؛ فالجميع وعده الله الحسنى، والله لا يخلف الميعاد.

فالتعرف على أصحابه صلى الله عليه وسلم كذلك مقتض لزيادة محبتهم، ومن هنا ألف كثير من أهل العلم الكتب المعرفة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآل بيته وبأصحابه وبأنصاره، وكانت هذه الكتب من أهم تراث المسلمين، فتأملوا مثلاً إلى كتاب خليفة بن خياط المسمى: كتاب التاريخ، وكتابه الآخر المسمى: الطبقات، وكذلك كتاب: الطبقات الكبرى لـمحمد بن سعد كاتب الواقدي، وكذلك السيرة لـابن إسحاق, وكذلك نسب قريش لـمصعب بن عبد الله بن ثابت الزبيري، وكتاب جمهرة أنساب قريش لـ الزبير بن بكار، وما ألف بعد ذلك من الكتب في السير النبوية.

ولاحظوا أن أهل الحديث كذلك كان لهم السبق في هذا الباب؛ فهم الذين جعلوا في كتبهم أبواباً مختصة -في البخاري ومسلم وغيرهما- للمناقب والفضائل، وكذلك أحاديث الأنبياء؛ فذكروا في الفضائل فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وما شرفه الله به، وفي المناقب مناقب أصحابه وآل بيته، وما جاء في الثناء عليه وفي منزلتهم العالية، ومن أحسن الكتب المعرفة بالنبي صلى الله عليه وسلم كتاب: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي السبتي رحمه الله، وهذا الكتاب قال فيه أهل العلم لما قرءوه: لولا الشفاء لما عرف المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو كتاب لا يستغني طالب علم عن القراءة فيه ومراجعته.

وقد أدركنا أشياخنا رحمهم الله يقرءونه في هذا الشهر، وهو شهر ربيع الأول، الذي هو شهر نبوي في الواقع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيه, وبدأ بالوحي فيه؛ لأن الرؤيا الصالحة بدأت في هذا الشهر، وهاجر فيه ومات فيه، فهو شهر نبوي في الواقع، لذلك أدركنا مشايخنا يقرءون كتاب (الشفاء) في هذا الشهر، وقد سمعته ثلاث عشرة مرة من الشيخ محمد عالي رحمه الله في هذا الشهر.

وكثير من أهل العلم يفرضون على طلابهم قراءته؛ ليتعرفوا على النبي صلى الله عليه وسلم وليتهذب سلوكهم وأخلاقهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيعرفوا حقه ومكانته، ومن الفصول المؤثرة في هذا الكتاب قول القاضي رحمه الله: باب عظيم منزلته صلى الله عليه وسلم، وما يجب من توقيره واحترامه: عن مالك رحمه الله قال: لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً؛ فقد أدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة فإذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك وما عرفته، وأدركت محمد بن المنكدر وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى رحمناه وخرجنا عنه.

وكان مالك لا يلبس النعلين ولا الخفين في المدينة؛ توقيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج ذات يوم إلى العقيق فسأله رجل عن حديث, فقال: من هذا الذي يسأل عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق؟ فأمر بجلده عشرين سوطاً، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه القاضي، قال: القاضي خير من أدب، فجلده عشرين سوطاً، فلما ذهب مالك إلى منزله دعاه فرحمه، وحدثه عشرين حديثاً, مقابل كل سوط حديث، فقال القاضي: ليته جلدني مائة فحدثني مائة حديث، فهم كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم حباً عميقاً مؤثراً جداً.

وقد خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات ليلة في المدينة، فسمع عجوزاً من الأنصار تردد هذه الأبيات:

على محمد صلاة الأبرار صلى عليه الطيبون والأخيار

قد كنت قواماً بكىً بالأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوار

هل تجمعني وحبيبي في الدار

فجلس عمر يبكي على بابها حتى أذن المؤذن.

كذلك ما عمل علي رضي الله عنه مصراعي داره إلا بالمناصع احتراماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما بنى داره أراد أن يصنع لها مصراعين، فلم يصنعهما إلا بالمناصع؛ وهي أرض على ميل من الحرم المدني؛ احتراماً للنبي صلى الله عليه وسلم، لئلا يرفع عليه الصوت في المدينة، وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا الاحترام في كتابه وجعل مقابله محبطاً للعمل، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:1-5].

لقد بلغ أصحابه صلى الله عليه وسلم من توقيره واحترامه ما حدثنا عنه عروة بن مسعود الثقفي حين أتاه وهو بالحديبية، فجلس بين يديه يخاطبه، ووجده يتوضأ فكان يمد يده إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا محمد! إن قومك قد صحبوا العوذ المطافيل، ولبسوا جلود النمور؛ يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبداً. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم، فقال: ما أرى معك إلا أشابة من الناس جدير أن يفروا عنك ويتركوك، وكان أبو بكر عنده فقال له: امصص بظر اللات! ويلك أنفر ونترك رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: من هذا؟ فقيل له: أبو بكر، فقال: والله لولا نعمة لك عندي لكافأتك بها؛ لكن هذه بتلك.

فكان رجل على رأس النبي صلى الله عليه وسلم إذا مد يده إلى وجهه ضرب ظهر يده بالسيف فقال: اكفف يدك عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! من هذا القائم على رأسك بالسلاح؟ فقال: (هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة )، فلا يبدو من الرجال يومئذ إلا الحدق تحت الحلق، فرجع عروة مشدوهاً لما رأى.

فأتى قريشاً فاستقبلوه، فقال: يا معشر قريش! والله لقد زرت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم محمداً أصحابه! فوالله إنهم عنده لكأنما على رءوسهم الطير، وإذا نطق ابتدروا إلى أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وما بصق إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه ورأسه، ووالله إنهم لا يرفعون أبصارهم إليه إجلالاً له.

وهذا الوصف حدثنا بها عمرو بن العاص كذلك فيما حدثنا به ولده عبد الله عند موته, قال له: يا بني! إنه مر بي ثلاثة أطوار:

أما الطور الأول فعندما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بمكة ما كان على وجه الأرض أحد أشد إلي بغضاً منه، ولو استطعت أن أضره بشيء لضررته به، ولو مت على هذا الطور لكنت إلى النار.

والطور الثاني بعد أن قذف الله قلبي الإيمان لم يبق أحد على وجه الأرض أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في قلبي منه، ووالله ما ملأت عيني من وجهه حياءً منه، ولو سئلت أن أصفه لما استطعت أن أصفه، ولو مت على هذا الطور لكنت في الجنة.

ثم جاءت بعد ذلك أمور ليتني أخرج منها كفافاً لا علي ولا لي. فما كان عمرو يستطيع وصف النبي صلى الله عليه وسلم إجلالاً له وتوقيراً.

وكذلك عدي بن حاتم الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدني مجلسه ويبتسم في وجهه يسأل من يصفه له فيما بعد، وقال: ( ما شبعت عيناي من وجه النبي صلى الله عليه وسلم قط ).

وكذلك جرير بن عبد الله البجلي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويدنيه كان يقول: إن الساعات التي رأيت فيها النبي صلى الله عليه وسلم لهي أحب إلي من عمري، ولوددت أن تزداد، وأول ما رأيت منه خاتم النبوة، ولو سئلت أن أصف وجهه لما استطعت أن أصفه.

وكذلك الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدنى الناس إليه، كان يقول لخاله هند بن هند: صف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عدد من الصحابة كانوا يسألون إخوانهم أن يصفوا لهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم من شدة احترامهم لم يكونوا ينظرون إليه، ومن شدة توقيره كذلك.

ولهذا فإن خبيب بن عدي رضي الله عنه عندما أخذه بنو لحيان فباعوه بمكة في بعث الرجيع وضعته قريش في السجن؛ انتظاراً لنهاية الشهر الحرام حتى انتهى الشهر الحرام فخرجوا به خارج الحرم ليقتلوه، فلما أخرجوه وهيأوا الخشبة أتاه أبو سفيان وهو يرسف في حديده فقال له: يا خبيب! إنك من بني جحدب -وهم البطن الذي هو منهم من الأنصار- ليس بيننا وبينك رحم، أتود لو أن محمداً بيننا في أيدينا نفعل به ما ترى، وأنت في أهلك معافىً؟ فقال: لا، والله ما يسرني أن محمداً في مكانه الذي هو فيه يشاك بشوكة، وأني أنجو مما في أيديكم. فلما وضعوه على الخشبة رفع يديه إلى الله سبحانه وتعالى ودعا دعاء بليغاً، وسأل الله أن يبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم سلامه؛ فبلغ الله نبيه صلى الله عليه وسلم سلامه عنه في هذه الحال.

وكذلك ما حصل لـفاطمة بنت يزيد بن السكن عندما قتل رجالها يوم أحد؛ فقد قتل زوجها وولداها ووالدها وأخواها وعمها وعم أبيها، قتلوا جميعاً يوم أحد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ( فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاء الناس للسلام عليه، فكان ممن جاءه فاطمة، فأرادت أن تنظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم والناس يحولون بينها وبين ذلك، فرآها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعوها، فلما دنت إليه نظرت إليه، فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! كل مصيبة بعد رؤيتك جلل )، كل المصائب جلل لا تساوي شيئاً بعدما رأته صلى الله عليه وسلم.

وكذلك حال عمرو الأصيرمي وهو عمرو بن ثابت بن وقش بن السكن، عندما اشتددت به الجراحات يوم أحد أتاه محمود بن الربيع فسأله فقال: ما أتى بك يا عمرو هاهنا، أحزناً على قومك أم رغبة بالإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، أقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامي، فبلغه سلامه.

وكذلك حال كثير من الصحابة في مثل هذه الوقت عند الموت لا يشغلهم ما يرون عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وعند المصائب الجسام كذلك، بل إنهم بلغوا من محبته صلى الله عليه وسلم بحيث كان كثير منهم يوفق لما يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يأمره بذلك، فقد صح في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ( كنا في الليلة ذات صر وبرد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لوددت لو أن رجلاً صالحاً من أمتي يحرسني الليلة من اليهود, فبينما هو يقول ذلك سمع صوت السلاح على الباب، فقال: من أنت؟ قال: سعد بن أبي وقاص، قال: وما أتى بك؟ قال: أتيت لأحرسك يا رسول الله )، فقد اختارهم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ووفقهم لخدمته فكانوا هكذا يفعلون.

كذلك حال أتباعهم من بعدهم؛ فقد بلغوا هذا المستوى من محبة النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتعظيمه، وتعظيم أصحابه وتعظيم آل بيته من بعده، وقد حدثنا مالك عن جعفر بن محمد وعن محمد بن المنكدر وهما من كبار التابعين من أئمة أهل المدينة، وكذلك من بعدهم من خيار هذه الأمة، فقد كان حرصهم على سماع حديث النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي منهم الأسفار الطويلة إلى البلاد النائية.

وكان كثير منهم يقطع المسافات الشاسعة على رجليه كـأحمد بن حنبل الذي لم يترك حضارة نقل إليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا دخلها، ومكث في الرحلة سبعاً وثلاثين سنة وهو يجمع الحديث، ورفيقه يحيى بن معين الذي صحبه في تلك الرحلة كلها, وكان يتمنى على الله أن يموت في المدينة، فقدر الله أن يموت يحيى في الروضة، وأن يغسل على الألواح التي غسل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يدفن في البقيع، فعندما مات يحيى قال خازن المسجد؛ خازن الحجرة النبوية: سأخرج لكم الألواح التي غسل عليها النبي صلى الله عليه وسلم لتغسلوا عليها يحيى لتعلقه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرج لهم الألواح فغسل عليها يحيى بن معين رحمه الله.

وكذلك ما كان في من بعدهم من شدة التعلق بأي شيء نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو كان من أثاثه أو متاع بيته، فقد ورثوا ذلك عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذه أم سلمة كما في صحيح البخاري كان لها جلجل من فضة فيه شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه ثقوب, فإذا مرض مريض أرسل إليها بقدح من ماء فخضت له فيه الجلجل فيشربه فيبرأ, والجلجل: وعاء صغير من فضة مثل الذي يتخذ في الأجراس.

كذلك كان لـخالد بن الوليد شعرات من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم فكان يجعلها في المغفر على رأسه حين يقاتل العدو، وكان لـمعاوية بن أبي سفيان أظافر النبي صلى الله عليه وسلم احتفظ بها فلما أدركه الموت أوصى أن تجعل داخل جفنيه في عينيه؛ ففعل ذلك به، وكذلك كان لـأبي هريرة كنيف أعطاه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أمداد من شعير، فكان ينفق منه بقية حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وخلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان، فلما قتل عثمان يوم الدار نهب بيت أبي هريرة فأخذ منه ذلك الكنيف، فقال رضي الله عنه:

للناس هم ولي ذا اليوم همان فقد الكنيف وفقد الشيخ عثمان

فبدأ به قبل عثمان رضي الله عنه، فقد كان حزنه عليه أشد من حزنه على عثمان من شدة محبته للنبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك فالخلفاء من بني العباس حافظوا على كل ما وصل إليهم مما كان ملكاً لنبي صلى الله عليه وسلم أو ما كان لأصحابه المعروفين؛ فاحتفظوا بسيوف النبي صلى الله عليه وسلم، وبعمامة تنسب إليه, وما زالت السيوف والعمامة إلى الآن في معرض إسطنبول، كانت لدى العباسيين فلما انتهت دولتهم أخذها بنو عثمان, فبقيت لدى سلاطينهم, وإلى الآن لا زالت السيوف كما هي, وما زال جزء من العمامة عندهم إلى وقتنا هذا، وكذلك بعض الكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم ككتابه إلى المنذر بن ساوى، وغيره من الكتب.

ومن شدة تعلقهم بالنبي صلى الله عليه وسلم عنايتهم بآثاره, حتى إن المهدي بن المنصور وضع الأساطين التي أتي بها من خراسان في الحرم المكي علامة على طريق النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصفا، وكتب عليها، وما زالت الأساطين الأربعة إلى الآن قائمة في مكانها, وعلى واحدة منها ما زال الخط مقروءاً، ومكتوباً عليها: ( أمر بوضع هاتين الأسطوانتين في هذا المكان أمير المؤمنين محمد المهدي علماً على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا ليأتم به حاج البيت وعماره أطال الله عمر المهدي أمير المؤمنين في تعظيم وتكريم موسى وهارون، وكان ذلك سنة 167هـ مما عمل أهل الكوفة )، وما زال هذا مقروءاً إلى وقتنا هذا على الأسطوانة التي تلي البيت من الأساطين الأربع، والأساطين الأخرى بقيت الكتابة عليها لكنها لم تعد مقروءةً تماماً كما هي؛ لعوادي الدهر.

كذلك أخذوا هذا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان من شدة محبتهم له يحاولوا التأسي بآثاره حتى ما ليس تشريعياً من أفعاله؛ كما كان ابن عمر إذا ذهب في طريق الحج أو العمرة يقصد أن يسير على أثر النبي صلى الله عليه وسلم فيعدل عن السير بين شجرتين ويمر بين الشجرتين أخريين أو يدور بشجرة فيقال له: لم تفعل هذا؟ قال: لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم جمحت به ناقته وفعله، فيفعله هو، وينيخ ناقته في مكان فيبول فيه، فيقول: لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعله.

وبلغ الشأن من العناية بهذا حتى في أيام عروة بن الزبير وهو من التابعين؛ يحدث عن غزوة من الغزوات التي غزاها النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الإسلام: أنه نزل عند شجرة هنالك فطبخ له طبيخ, وقد رأيت أثر موقد النار؛ وهذه عناية كاملة بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وتقصيها حتى ذهب عروة ليرى موقع النار التي أوقدت للنبي صلى الله عليه وسلم فطبخ له عليها طبيخ من شدة تعلق القلب به ومحبته.

ومن ذلك العناية بآل بيته؛ فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم أنه قال: دخلت في قوم على جابر بن عبد الله وكان كبيراً قد كف بصره، فقال: من القوم؟ فعرف بهم حتى بلغ إلي فقال: يا ابن أخي! ادنو مني فدنوت منه فمد يده فحل زري الأعلى وزري الأسفل، ووضع يده بين ثديي ثم قال: يا ابن أخي! سلني عما بدا لك، فقلت: أسألك عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه بحجة الوداع بطولها، وهذا الحديث من أطول الحديث في صحيح مسلم، وهذا الحديث ذكر فيه أن جابراً حل زره الأعلى وزره الأسفل، ووضع يده على بين ثدييه وأدناه وقربه لمكانه من النبي صلى الله عليه وسلم فهو محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

وكذلك كانت عنايتهم بآل بيته وبكل من بينه وبينه علاقة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في حياته يزور بركة أم أيمن مولاته, فلما ولي أبي بكر الصديق الخلافة قال لـعمر: تعال بنا نزر أم أيمن كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها، فذهبا إليها فلما جلسا بكت أم أيمن بكاءً شديداً، فقالا لها: وما يبكيك؟ أما علمتي أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا؟ قالت: أما إني لا أبكي؛ لأني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا؛ ولكني أبكي لانقطاع الوحي. فأبكتهما فبكيا بكاءً شديداً حتى خرجا.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع