الهجرة- الوقائع والعبر [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى يختار ما شاء من خلقه، فقد اختار من الأمكنة مكة المكرمة، واختار من الأزمنة الأشهر الحرم، واختار من البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد بعثه على فترة من الرسل, واقترابٍ من الساعة, وجهالة من الناس، بعد أن عمت الجاهلية أرجاء الأرض، وبعُد عهدهم بالشرع، فارتدوا عن دين الله, وعبدوا الأوثان، ولم يبقَ إلا بقايا من أهل الكتاب وهم الرهبان في الأديرة، فحل مقت الله على أهل الأرض، ثم تداركهم بعين رحمته فبعث إليه الرحمة المهداة والنعمة المسداة محمداً صلى الله عليه وسلم.

وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك). فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بامتحان شاق للبشرية، فصدقته طائفة منهم, وكذبه جمهورهم، وكانت دعوته بمكة، فقد بعث عندما أتم أربعين سنة من عمره، وبداية ما جاءه من أمر الله جل جلاله في هذا الوقت.

عناية الله سبحانه وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه

وقد كان منذ صباه يأتيه التوجيه الرباني فينهى عن عمل الجاهلية, فلم يسجد قط لصنمٍ ولم يعبده، وكشف مرةً واحدةً عن عورته في بناء الكعبة فصيح عليه من السماء حتى وقع فرد ثيابه فلم تر عورته بعد ذلك، ولم يشرب خمراً قط، ولم يبع بالربا، ولم يمارس أي شيء من أعمال الجاهلية، فقد كان قبل بعثته موكولاً إلى إسرافيل عليه السلام, فكان يسدده وينصحه, ويأمره بالأمر من أمر الله يقذفه في روعه.

أول ما بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي

والوحي إنما أنزل إليه بعد أن أتم أربعين سنة، فحبب إليه الخلاء, وذلك لتقوية الروح؛ لأن الإنسان ما دام يعيش مع البشر فإنه إذا فقدهم أصيب بالوحشة، وسيكون حينئذٍ على جانب من الجبن لاستشعاره أنه بين الناس فهو بحاجة إليهم، فإذا كان سيلقى الملائكة ويسمع كلامهم وهم أشداء فإنه لابد أن يقوى, فتقوى روحه, وتزداد شجاعته, ويقوى جسمه، وذلك ما أنعم الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم، فقوى جسمه, وقوى روحه, وقوت شجاعته، فشق صدره وهو طفل صغير مرضع في بني سعد، وغسل قلبه, وأزيلت منه المضغة السوداء، ثم بعد ذلك شقَّ مرة أخرى عندما أسري به، وهي الشقة الثانية، فقد شُق صدره صلى الله عليه وسلم مرتين.

فلما أتم أربعين سنة حبب إليه الخلاء, فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه؛ وهو التعبد الليالي ذوات العدد، وكان يتزود لذلك، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فمكث ستة أشهر لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فكانت هذه الأشهر الستة هي أول ما جاءه من الوحي، فهو أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي كما في حديث عائشة، ثم بعد ذلك كان صلى الله عليه وسلم يرى أشياء ويسمعها؛ فيرى نوراً في بعض الجهات, ويسمع أصواتاً لا يدرك حقيقتها.

نزول جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء

فلما كان في الثلث الأخير من الليل في ليلة جمعة؛ وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان، وقيل: الثالث والعشرين من رمضان؛ وهي ليلة القدر في ذلك العام, جاءه جبريل وهو في غار حراء، فأتاه في صورة رجل، ولكنه أضخم من الرجال وأقوى، فأخذه فضمه إلى صدره فغطه -أي: خنقه خنقاً شديداً- حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال: اقرأ، قال: ( ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه الثانية حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه الثالثة ثم أرسله فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ[العلق:1-3]، فرجع بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت خديجة يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه أي: غطوه بثوب حتى ذهب عنه الروع، فأخبر خديجة بالخبر، وقال لها: والله لقد خشيت على نفسي. فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم, وتحمل الكلَّ, وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

ثم ذهبت به خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، وكان قد تنصر في الجاهلية، فكان يكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، فقص عليه الخبر، فلما سمعه ورقة قال: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، وقال له: ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك )، وهذا أول ما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عن قضية الهجرة، فأول ما علم بخروجه من ورقة بن نوفل عندما قال له: ( ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، إنه لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن هلك, وفتر الوحي ).

وقد كان منذ صباه يأتيه التوجيه الرباني فينهى عن عمل الجاهلية, فلم يسجد قط لصنمٍ ولم يعبده، وكشف مرةً واحدةً عن عورته في بناء الكعبة فصيح عليه من السماء حتى وقع فرد ثيابه فلم تر عورته بعد ذلك، ولم يشرب خمراً قط، ولم يبع بالربا، ولم يمارس أي شيء من أعمال الجاهلية، فقد كان قبل بعثته موكولاً إلى إسرافيل عليه السلام, فكان يسدده وينصحه, ويأمره بالأمر من أمر الله يقذفه في روعه.

والوحي إنما أنزل إليه بعد أن أتم أربعين سنة، فحبب إليه الخلاء, وذلك لتقوية الروح؛ لأن الإنسان ما دام يعيش مع البشر فإنه إذا فقدهم أصيب بالوحشة، وسيكون حينئذٍ على جانب من الجبن لاستشعاره أنه بين الناس فهو بحاجة إليهم، فإذا كان سيلقى الملائكة ويسمع كلامهم وهم أشداء فإنه لابد أن يقوى, فتقوى روحه, وتزداد شجاعته, ويقوى جسمه، وذلك ما أنعم الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم، فقوى جسمه, وقوى روحه, وقوت شجاعته، فشق صدره وهو طفل صغير مرضع في بني سعد، وغسل قلبه, وأزيلت منه المضغة السوداء، ثم بعد ذلك شقَّ مرة أخرى عندما أسري به، وهي الشقة الثانية، فقد شُق صدره صلى الله عليه وسلم مرتين.

فلما أتم أربعين سنة حبب إليه الخلاء, فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه؛ وهو التعبد الليالي ذوات العدد، وكان يتزود لذلك، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فمكث ستة أشهر لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فكانت هذه الأشهر الستة هي أول ما جاءه من الوحي، فهو أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي كما في حديث عائشة، ثم بعد ذلك كان صلى الله عليه وسلم يرى أشياء ويسمعها؛ فيرى نوراً في بعض الجهات, ويسمع أصواتاً لا يدرك حقيقتها.

فلما كان في الثلث الأخير من الليل في ليلة جمعة؛ وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان، وقيل: الثالث والعشرين من رمضان؛ وهي ليلة القدر في ذلك العام, جاءه جبريل وهو في غار حراء، فأتاه في صورة رجل، ولكنه أضخم من الرجال وأقوى، فأخذه فضمه إلى صدره فغطه -أي: خنقه خنقاً شديداً- حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال: اقرأ، قال: ( ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه الثانية حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه الثالثة ثم أرسله فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ[العلق:1-3]، فرجع بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت خديجة يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه أي: غطوه بثوب حتى ذهب عنه الروع، فأخبر خديجة بالخبر، وقال لها: والله لقد خشيت على نفسي. فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم, وتحمل الكلَّ, وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

ثم ذهبت به خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، وكان قد تنصر في الجاهلية، فكان يكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، فقص عليه الخبر، فلما سمعه ورقة قال: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، وقال له: ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك )، وهذا أول ما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عن قضية الهجرة، فأول ما علم بخروجه من ورقة بن نوفل عندما قال له: ( ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، إنه لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن هلك, وفتر الوحي ).

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم السرية في مكة

فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة، مكث ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به، فاجتمع حوله خيرة من أهل مكة، وجمهورهم من الشباب الصغار ليس لهم مكانة ولا مال، ويسير منهم جداً هم الرجال البالغون، وفيهم رجل واحد كبير السن، وهو ياسر، وهو رجل من بني عنسٍ من أهل اليمن، كان سكن مكة، وحالف بني مخزوم، فعذبوا وأوذوا، ولم يزل ذلك يزيدهم تمكيناً, ولم يزل العدد يزداد، فأسلم عدد من رجال مكة، منهم: عبيدة بن الحارث بن المطلب، وكان رجلاً كبير السن، ونصر الله النبي صلى الله عليه وسلم بحنان عمه أبي طالب فكان يدافع عنه، وتألب عليه أهل مكة، ورأوا في دعوته أنها تسفيه لأحلامهم، وتكفير لآبائهم وأجدادهم، وأنها كفر بأصنامهم، فلذلك آذوه بأنواع الأذى، وبدأ الأذى أولاً بالأقوال، ثم بعد ذلك جاءت أذية الأفعال، وكان الأذى بالقول في حياة أبي طالب، فلما مات أبو طالب وقد كان موته في السنة التي ماتت فيها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، فكان ذلك حزناً شديداً على المؤمنين بمكة؛ لأن خديجة كانت تُطعم فقراءهم وكانت غنية، فكانت تطعم أولئك الشباب الذين يؤذيهم أهلوهم ويطردونهم من أعمالهم ووظائفهم، منهم: خباب بن الأرت وعمار بن ياسر وابن مسعود وزيد بن حارثة وغيرهم، فقد كان هؤلاء شباباً فقراء، فكانت خديجة تنفق عليهم، فماتت في ذلك العام, وفيه مات أبو طالب الذي كان يصارع عنهم، فكان عام حزنٍ على المسلمين، ولم يزد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثباتاً على الحق ويقيناً بأن الله سينصره, وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار.

ولذلك ثبت في صحيح البخاري أن خباباً أتاه وهو متوسد برده في ظل الكعبة، فقال: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ قال: (إنه قد كان في من قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه فيفرق به فرقتين، ثم يؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها ما بين عظمه من جلد ولحم لا يرده ذلك عن دينه، فو الذي نفس محمد بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون).

ففي ذلك الوقت قسم النبي صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الذين ليس لديهم عوائق في أنفسهم ولا في المجتمع من حولهم، فيمكن أن يتحملوا أعباء هذه التربية الجديدة, وهذا الدين الجديد، ويمكن أن يتحملوا مسؤلياتهم، وأن يصبروا على الأذى، وأن يكتموا السر، وهؤلاء جعلهم في دار الأرقم، وهي دار ليست للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحدٍ من بني هاشم، ولا لاحدٍ من حلف المطيبين الذي يقوده بنو هاشم، وإنما هي لشابٍ من بني مخزوم, وهم قادة الحلف الآخر الذي هو مناوئ لبني هاشم, وهو حلف لعقة الدم، وكانت هذه الدار على الصفا، واختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك؛ فإنه لا يرتاب دخول أي طارق لها في أية ساعة من ليل أو نهار، فإذا رأى من يتابعه ذهب إلى المروة فجعل نفسه كأنما يسعى بين الصفا والمروة.

والقسم الثاني: الذين ليس لديهم عوائق في أنفسهم، ولكن لهم عوائق في المجتمع من حولهم لشدة تعلق الناس بهم في شئونهم، وهؤلاء لم يشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخلهم في هذا البرنامج التربوي الخاص، بل جعل لهم محضراً آخر؛ وهو دار سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل العدوي، وهي دار أيضاً ليست للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لاحدٍ من بني هاشم، بل هي دار لرجلٍ من عدي بن كعب, وهم أيضاً من حلف لعقة الدم الذين كانوا يناوئون بني هاشم في الجاهلية، وهؤلاء منهم خباب بن الأرت، وكان حداداً يصلح للناس الأبواب والنوافذ، ومنهم عبد الله بن مسعود وكان راعياً يرعى الأغنام على الناس, ومنهم عمار بن ياسر وكان تاجراً يبيع للناس، فلو أنه أدخلهم في دار الأرقم لاكتشف أمره, واطلع على مكانه؛ لأن ابن مسعود كان يرعى الغنم, فلو أضل قوم شاة فجاءوا من الليل يبحثون عن ابن مسعود لوجدوه في دار الأرقم، فاكتشفوا العمل وأهله، وكذلك خباب فإنه كان يصلح للناس الأبواب والنوافذ، فلو جاء قوم في الليل يريدون إصلاح باب أو نافذة لوجدوه عند الأرقم بن أبي الأرقم ولارتابوا في الأمر، وكذلك عمار فإنه يبيع للناس حوائجهم في كل ساعات أوقاتهم، فلهذا جعل لهم داراً مستقلة، ولكن مع هذا كان لهؤلاء أثر بالغ في نصرة هذا الدين, وإعلاء كلمة الله، فيكفي أنه كان في ميزان حسناتهم إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

والقسم الثالث: الذين لديهم عوائق في أنفسهم، لا يصلحون لتحمل هذه الأعباء, ولا هذه الأسرار، وهؤلاء لم يلحقهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا البرنامج التربوي الذي بدأ به دعوته، بل كان إذا أتاه أحدهم قبل منه الإسلام, وقال له: ( ارجع إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي )، وهذا يدل على أن تأخير البيان إلى وقت الحاجة مشروع، وأن الإنسان إذا دخل في الإسلام ولو جهل بعض تفاصيله فإنه معذور بالجهل.

وهؤلاء منهم أبو ذر الغفاري وهو جندب بن جنادة، فإنه قال: كنت في قومي أسمع عن مبعث رجل بمكة، فلما كثر عليَّ ذلك أرسلت أخي فقلت: اذهب إلى مكة فأتني بخبر هذا الرجل، فجاء فقال: وجدته وقومه عليه جرآء، والناس مختلفون فيه بين مصدق له ومكذب. فقلت: لم تشف لي غليلاً، فقعدت على راحلتي فأتيت مكة فاستقبلني الملأ من قريش، فقالوا: لعلك غريب بهذا الوادي. قلت: أجل. قالوا: إن بهذا الوادي رجلاً هو أسحر خلق الله, فحذاري أن تسمع شيئاً من كلامه لئلا يسحرك. فجعلت في أذني القطن؛ لئلا أسمع كلامه، فجلست عند الكعبة, فلما كان في وقت الظهيرة أتاني علي بن أبي طالب وكان شاباً حدثاً، فقال: لعلك غريب بهذا الوادي؟ قلت: أجل. قال: هل لك في من يضيفك؟ قلت: نعم, وددت ذلك. فقال: اتبعني. فلم يشأ أن يسايره لئلا يكون في ذلك انكشاف، فأمره أن يتبعه, فإذا رأى من يتابعه عدل علي إلى ظل الجدار فجعل كأنه يصلح نعله، وأبو ذر يتبعه، حتى أدخله على النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فلما دخلت عليه رأيت وجهه فعرفت أنه ليس وجه كذاب. وهذا من الأمور البينة، فالوجه لا يخفي شيئاً، فهو رأى وجه النبي صلى الله عليه وسلم مباشرةً، فعرف أنه ليس وجه كذاب، فجعل ينتزع القطن من أذنيه, ويسمع من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيب، فهداه الله للإسلام فانشرح صدره فآمن، وأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب فأسلم، فقال: ( اذهب إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي، فإني أخاف عليك قريشاً )، فقال: والذي بعثك بالحق لأرمين بها بين أظهرهم، فخرج إلى الكعبة فوجد الملأ من قريش قد اجتمعوا فصاح فيهم: ألا إني أسلمت وتابعت محمداً، فقاموا إليه يضربونه حتى وقع على الأرض, فجاء العباس بن عبد المطلب فانكب عليه فمنعهم من قتله، فمكث حتى اجتمعوا مرة أخرى فقام فصاح فيهم: ألا إني أسلمت وتابعت محمداً، فقاموا إليه يضربونه ويريدون قتله، فجاء أبو بكر فحال بينهم وبينه، وقال: أتقتلون رجلاً من غفار وتجارتكم تمر على غفار. فجعلها في إطار التجارة والأمر المادي، ثم أمره أن ينصرف فانصرف أبو ذرٍ وبقي في قومه حتى سمع بالهجرة فجاء مهاجراً إلى المدينة.

ومن هؤلاء أيضاً الطفيل بن عمرو الدوسي، وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فعرض عليه الإسلام فأسلم، فدعا له فجعل الله نوراً في وجهه، فكان يخترق به الظلام، فخاف أن يظن الناس به عاهةً, فتحول ذلك النور في رأس عصاه, فكانت كالمصباح في يده، فجاء إلى قومه من الليل، قال: فاستقبلني أبي, فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني. قال: ولم يا بني؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه. قال: ديني دينك. فاستقبلتني أمي فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني. قالت: ولم يا بني؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه. قالت: ديني دينك. فاستقبلتني صاحبتي فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني. قالت: ولم؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه. قالت: ديني دينك.

وبهذا تعلمون أن الطفيل بن عمرو رضي الله عنه كان صاحب استعجال وعلانية، فلم يكن يصلح لهذا العمل الذي بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم تربوياً في دار الأرقم يخفيه ويكتمه على أهل مكة، وكذلك عرفتم قصة أبي ذر لماذا لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم التحاقه بأهل دار الأرقم؟ لأنه قال: والذي بعثك بالحق لأرمين بها بين أظهرهم. وهذا ليس نقصاً في دين الرجلين ولا في إيمانهما، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي ذر: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر )، وقال: (رحم الله أبا ذر يعيش وحده, ويموت وحده, ويبعث وحده)، وكذلك الطفيل بن عمرو فهو من السابقين الأولين, ومن ذوي الفضل والمكانة في الإسلام، ولكن إنما يتحمل الإنسان ما يطيق، فمن لا يستطيع شيئاً لا يكلفه، فلذلك من كان على شاكلة هذين الرجلين العظيمين، وكان على ما هما عليه من الصراحة والشجاعة والعلانية لا يصلح إذ ذاك لتلك المرحلة، فلذلك لم يدخلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا العمل.

وكذلك من هؤلاء عمرو بن عبسة وهو أخو أبو بكر الصديق من الرضاع، وكان يقول عن نفسه أنه ربع الإسلام أي: رابع من أسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون في قومه حتى إذا علم أن الله أظهره فليلحق به، فجاءه بعد الهجرة بسنة أو بسنتين فقال: أعرفتني يا رسول الله؟ قال: نعم, وكان عهده إذ ذاك ثلاث عشرة سنة.

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الجهرية في مكة

الهجرة إلى الحبشة

وصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأذى حتى بلغ قمته وشدته بعد عشر سنين من هذه الدعوة، فأذن لبعض أصحابه في الهجرة إلى الحبشة؛ فإن بها ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، فخرجوا مهاجرين فركبوا البحر وفيهم رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي زوجة عثمان بن عفان، وفيهم أم سلمة وأم حبيبة، وهما إذ ذاك زوجتان لرجلين من المهاجرين هما: أبو سلمة بن عبد الأسد وكانت تحته أم سلمة، وعبيد الله بن جحش وكانت تحته أم حبيبة، ولكنه تنصر بأرض الحبشة فمات على النصرانية -نسأل الله السلامة والثبات-، وفيهم الزبير بن العوام وعدد كبير من الذين أسلموا إذ ذاك، وقد مكثوا فترة، فقيل لهم: إن أهل مكة أسلموا وذلك حين أنزلت سورة النجم، فرجع بعضهم إلى مكة ثم علموا أن الأمر قد ازداد شدة فرجعوا في الهجرة الثانية إلى الحبشة، وقد بقي بعضهم لم يهاجر الهجرة الثانية، وازداد العدد أيضاً بقوم لم يهاجروا في الهجرة الأولى.

دخول النبي صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي

واحتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى من يدافع عنه فدخل في جوار المطعم بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف وهو ابن عمه من بني نوفل، فكان يدافع عنه، فمكث بذلك أشهراً ثم رد عليه جواره؛ لأنه أحس أن المطعم سيضغط عليه، فبادر النبي صلى الله عليه وسلم, وكان كريماً فلم يشأ أن يرد عليه هذا الأمر بعد الضغط، وإنما جاء فبادر فرد عليه جواره، وكذلك رد أبو بكر الجوار على رجلٍ كان جاوره.

حصار المسلمين في شعب أبي طالب

ثم بعد ذلك اشتد بهم الحال، وقد كتبت قريش الصحيفة من قبل ذلك في حياة أبي طالب، وحاصروا المؤمنين ومعهم أبو طالب في شعب أبي طالب وهو قريب من الصفا وراءها، فبقوا في ذلك الحصار لا يشتري منهم أحد ولا يبيع لهم, ولا يتزوج إليهم ولا يزوجهم. واشتد بهم الحال, وقد قتل منهم إذ ذاك نفر يسير, منهم ياسر وزوجته سمية، ومنهم عمرو بن هند وهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعمرو بن أبي هالة وهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من بني عمرو بن تميم، وقد قتل عند الركن اليماني يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوكسه رجال من قريش فوقع فمات، وكانوا أول الشهداء, ولم يفرض إذ ذاك الدفاع، بل قد فرض الله في ذلك الوقت الغفران، فقال: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[الجاثية:14]، وما ذلك إلا تعويد للمؤمنين على الصبر، وتدريب لهم على ما سيعانونه في ما بعد من أنواع البلاء، وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.