خطب ومحاضرات
الربانية
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله تعالى يقول في كتابه: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79], فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى بأن نكون ربانيين، ومعنى ذلك: المنتسبون إلى الرب جل جلاله، وهم الذين يعملون بمنهجه، فيمتثلون أوامره، ويجتنبون نواهيه، ويعتمدون عليه في أمورهم كلها، ويقدمون أمره جل جلاله على أمر خلقه، وقليل ما هم أولئك من عباد الله، فكثير من عباد الله شغلوا عن الله سبحانه وتعالى، وأعرضوا عنه، وقليل منهم هم الذي هداهم الله لمنهجه، فكانوا ربانيين, أقبلوا على الله تعالى بقلوب سليمة، وعملوا بمقتضى أوامره، فامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، وهؤلاء وفقهم الله للأنس به, ولسلوك طريق الأنبياء، فأنسوا بالله سبحانه وتعالى، ورضوا به رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، فشاهدوا آثار صنعته في هذا الكون كله، فيعلمون أنه ما من شيء يتحرك ولا يسكن في هذا العالم إلا بقضاء الله وقدره، وأن كل ما في هذا الكون من الخير هو بفضل الله، وكل ما يقع فيه من الشر فهو من عدل الله جل جلاله.
وبذلك لا ينسبون الأشياء إلى الأسباب، وإنما ينسبونها إلى مسبب الأسباب جل جلاله، فينسبون إليه كل نعمة، ويقرون له بها، ويبوؤون له بذنوبهم، ويقبلون عليه جل جلاله، ولا ينشغلون عنه بمن دونه، وهذه الربانية هي التي تقتضي الإخلاص لله تعالى في العمل، فتقتضي من الإنسان الرباني ألا يبالي بالخلائق جميعاً، فلا يرغب فيما لديهم، ولا يرهب ما عندهم مما يخاف؛ لعلمه أن الله عز وجل وحده هو الذي ينبغي أن يخاف منه، وهو الذي ينبغي أن يرجى ما لديه، وهو الذي ينبغي أن يحب جل جلاله، فلذلك يتخلص الرباني من جميع القيود والعراقيل، ويقبل على الله تعالى فيكون صادقاً إذا قال:
فيتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
فهذا الحال من الربانية هو حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فـنوح عليه السلام قال لقومه لما اجتمع عليه أهل الأرض جميعاً على عداوته وأعلنوا ذلك، قال: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71]، وكذلك هود عليه السلام، قال لعاد الأقوياء الأشداء حين اجتمعوا عليه، وفيهم تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قال لهم هود عليه السلام: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].
وكذلك إبراهيم عليه السلام لما اجتمع عليه قومه، فأوقدوا النار، وبنوا لها بنياناً عظيماً، وملؤه بالحطب، وأوقدوا هذه النار العظيمة, حتى إن الطير لا يستطيع المرور بينها وبين السماء؛ لشدة لهبها، ووضعوه بالمنجنيق، وأرادوا رميه في النار، فلما رفعوه على العمد عرض له جبريل عليه السلام، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، فلما رموه قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70]، فنجاه الله تعالى من كيدهم.
وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قال لهم الناس: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:173-174].
وهذه الربانية نجدها حاضرة عند يونس عليه السلام، وهو في بطن الحوت في الليلة الظلماء، في جوف البحر، في ظلمات ثلاث، فيقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجاب الله دعاءه، وأخرجه إلى الأرض، فحقق له مراده، فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:145-148].
ربانية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكذلك التابعون للرسل، فهم جميعاً على هذا المنهج الرباني، فيسلمون الأمور كلها لله تعالى، على غرار ما كان ابن رواحة رضي الله عنه يقول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينشده هو وأصحابه، فيقول:
والله لو الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
إن الألى قد بغوا علينا إن يطلبونا فتنة أبينا
وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( أبينا، ويمد بها صوته )، وفي رواية: ( ويرفع بها صوته )، فهذه الربانية كانت بارزة في حياتهم، وفي شأنهم كله، فهم لا ينسبون الأمور إلا إلى الله، فـعبد الله بن عتيك وأصحابه حين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتل كعب بن الأشرف أتاه ابن عتيك يبشره فقال: إن الله قد قتل عدوه، فلم يقل: نحن قتلنا عدو الله، بل قال: إن الله قد قتل عدوه، وذلك من هذه الربانية الحاضرة في ذهنه، فهو ينسب الأمور كلها لله تعالى.
ونظير هذا أيضاً ما حصل لـخبيب بن عدي بن جحجبا رضي الله عنه عندما اعتقله المشركون في الرجيع، وباعوه بمكة، فحبس حتى تنتهي الأشهر الحرم، وكان في حبسه وبه السلاسل والقيود لا يفتر عن ذكر الله تعالى، وكانت المرأة التي حبس في بيتها تتعجب من قوته وجلده على الذكر، فتقول: لقد ذاق خبيب في هذه الكلمات التي يرددها لذة ما ذاقها أحد، وكانت تأتيه فتجد أطباق العنب بين يديه، وما بمكة يومئذ عنب، وكان بربانيته متصلاً بالرحمة للضعفاء، فأتاه ولد هذه المرأة الصغير فأجلسه في حجره، وأهداه إليه من فاكهته، وهي تتعجب من ذلك، فهو محبوس في سلاسل ليذبح ويقتل، ومع ذلك يأتيه ولد من أولاد الذين يريدون قتله فيكرمه، ويجعله في حجره، ويعطيه فاكهته، ثم لما خرجوا به إلى الحل ليقتلوه، ونصبوا له الخشبة لصلبه عليها استأذنهم في أمر واحد، لم يستأذنهم في المفاوضة، ولا في المناقشة، ولا في أن يفتدي منهم بمال، استأذنهم في أمر واحد، وهو أن يتوضأ ويصلي ركعتين، فأذنوا له فصلاهما، فقال: لولا أن تظنوا بي جبناً لزدت أي: لولا أن يخافوا أنه جبان، وأنه يتأخر عن القتل لزاد، ثم لما اقترب منه أبو سفيان بن حرب قال له: يا خبيب ! أتحب أنك الآن في قومك، وفي مكانتك وعزك، وأن محمداً لدينا نقتله ونصلبه، فانتفض، وقال: والله ما أود لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصيبه شوكة في مكانه الذي هو فيه فأنجو مما أنا فيه هنا، ثم لما رفعوه على الخشبة أنشد بيتيه العجيبين، يقول فيهما:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
وكذلك كان القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أهل بير معونة، فإنهم لما عبر عامر بن الطفيل وأصحابه، وأحاطوا بهم، كان من أول القتلى: المنذر بن عمرو، وهو سيد القراء وأميرهم يومئذ، فلما قتل رغب الآخرون جميعاً في الموت، وقال أحدهم: أترغبون عن مكان قتل فيه المنذر بن عمرو، فلما مس أحدهم السيف في رأسه نضح الدم على وجهه، وقال: فزت ورب الكعبة، وكذلك فإنهم جميعاً كانوا يسألون الله تعالى أن يبلغ سلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم على هذا الحال، وهم تحت ظلال السيوف، يسألون الله أن يبلغ سلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخبره عنهم، فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى، وكان في القرآن ثم نسخ لفظه، وهو: بلغوا قومنا أننا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا، فقد أنزل الله فيهم هذه البشارة العجيبة، ومن هؤلاء القوم: عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، ومنهم: حرام بن ملحان وأخوه سليم بن ملحان أخوا أم سليم وأم حرام، ومنهم كذلك- من الذين نجوا -: عمرو بن أمية الضمري وافد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك التابعون للرسل، فهم جميعاً على هذا المنهج الرباني، فيسلمون الأمور كلها لله تعالى، على غرار ما كان ابن رواحة رضي الله عنه يقول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينشده هو وأصحابه، فيقول:
والله لو الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
إن الألى قد بغوا علينا إن يطلبونا فتنة أبينا
وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( أبينا، ويمد بها صوته )، وفي رواية: ( ويرفع بها صوته )، فهذه الربانية كانت بارزة في حياتهم، وفي شأنهم كله، فهم لا ينسبون الأمور إلا إلى الله، فـعبد الله بن عتيك وأصحابه حين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتل كعب بن الأشرف أتاه ابن عتيك يبشره فقال: إن الله قد قتل عدوه، فلم يقل: نحن قتلنا عدو الله، بل قال: إن الله قد قتل عدوه، وذلك من هذه الربانية الحاضرة في ذهنه، فهو ينسب الأمور كلها لله تعالى.
ونظير هذا أيضاً ما حصل لـخبيب بن عدي بن جحجبا رضي الله عنه عندما اعتقله المشركون في الرجيع، وباعوه بمكة، فحبس حتى تنتهي الأشهر الحرم، وكان في حبسه وبه السلاسل والقيود لا يفتر عن ذكر الله تعالى، وكانت المرأة التي حبس في بيتها تتعجب من قوته وجلده على الذكر، فتقول: لقد ذاق خبيب في هذه الكلمات التي يرددها لذة ما ذاقها أحد، وكانت تأتيه فتجد أطباق العنب بين يديه، وما بمكة يومئذ عنب، وكان بربانيته متصلاً بالرحمة للضعفاء، فأتاه ولد هذه المرأة الصغير فأجلسه في حجره، وأهداه إليه من فاكهته، وهي تتعجب من ذلك، فهو محبوس في سلاسل ليذبح ويقتل، ومع ذلك يأتيه ولد من أولاد الذين يريدون قتله فيكرمه، ويجعله في حجره، ويعطيه فاكهته، ثم لما خرجوا به إلى الحل ليقتلوه، ونصبوا له الخشبة لصلبه عليها استأذنهم في أمر واحد، لم يستأذنهم في المفاوضة، ولا في المناقشة، ولا في أن يفتدي منهم بمال، استأذنهم في أمر واحد، وهو أن يتوضأ ويصلي ركعتين، فأذنوا له فصلاهما، فقال: لولا أن تظنوا بي جبناً لزدت أي: لولا أن يخافوا أنه جبان، وأنه يتأخر عن القتل لزاد، ثم لما اقترب منه أبو سفيان بن حرب قال له: يا خبيب ! أتحب أنك الآن في قومك، وفي مكانتك وعزك، وأن محمداً لدينا نقتله ونصلبه، فانتفض، وقال: والله ما أود لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصيبه شوكة في مكانه الذي هو فيه فأنجو مما أنا فيه هنا، ثم لما رفعوه على الخشبة أنشد بيتيه العجيبين، يقول فيهما:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
وكذلك كان القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أهل بير معونة، فإنهم لما عبر عامر بن الطفيل وأصحابه، وأحاطوا بهم، كان من أول القتلى: المنذر بن عمرو، وهو سيد القراء وأميرهم يومئذ، فلما قتل رغب الآخرون جميعاً في الموت، وقال أحدهم: أترغبون عن مكان قتل فيه المنذر بن عمرو، فلما مس أحدهم السيف في رأسه نضح الدم على وجهه، وقال: فزت ورب الكعبة، وكذلك فإنهم جميعاً كانوا يسألون الله تعالى أن يبلغ سلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم على هذا الحال، وهم تحت ظلال السيوف، يسألون الله أن يبلغ سلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخبره عنهم، فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى، وكان في القرآن ثم نسخ لفظه، وهو: بلغوا قومنا أننا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا، فقد أنزل الله فيهم هذه البشارة العجيبة، ومن هؤلاء القوم: عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، ومنهم: حرام بن ملحان وأخوه سليم بن ملحان أخوا أم سليم وأم حرام، ومنهم كذلك- من الذين نجوا -: عمرو بن أمية الضمري وافد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن هذه الربانية- أيضاً - برزت في فتوح البلدان، وفي غزوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل الأمصار، فأصحاب مؤتة لما أتاهم العدو بما لا قبل لهم به، فكانوا ثلاثة آلاف، وجاءهم مائة وعشرون ألفاً، وأحاطوا بهم من كل الجهات، وقام زيد بن حارثة رضي الله عنه فقال: اليوم أري الله من نفسي خيراً، فجاهد حتى قتل، فتقدم جعفر بن أبي طالب فأخذ اللواء وقال: وأنا أري الله من نفسي خيراً اليوم، فتقدم فقطعت يمينه، فحمل اللواء بيساره فقطعت، فأمسكه بحضنه حتى قتل، وقد عقر فرسه قبل أن يتقدم، ثم تقدم ابن رواحة رضي الله عنه، وهو ينشد:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عقابها علي إن لاقيتها ضرابها
ثم قال: غداً نلقى الأحبة؛ محمداً وحزبه، فتقدم فقاتل حتى قتل، ثم بعد ذلك قام ثابت بن أقرم فأخذ اللواء, وقال للمسلمين: اشترطوا على رجل منكم يأخذكم به، فاصطلحوا على خالد بن الوليد فجعل الميمنة الميسرة، والميسرة الميمنة، فظن الروم أن المسلمين قد جاءهم المدد، فاندحروا وانهزموا، وتراجع خالد بالجيش إلى معسكره، فرجع المسلمون بسلامة وأمن، بعد أن رأوا الموت قد أحاط بهم من كل جانب، وما ذاك إلا لما علم الله من صدقهم وإخلاصهم، وقد بلغ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ما حصل، وأعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس على المنبر.
وهذا الحال -أيضاً- حصل بعد هذا في الغزوات كلها، فقد كان اعتمادهم على إيمانهم بالله، وتوكلهم عليه، ولم يعتمدوا قط على قوة السلاح، ولا على كثرة العدد والعدد، فأنتم تعلمون أن أهل بدر الذين حقق الله لهم أعظم فتح وأكبره في تاريخ هذه الأمة، كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ولم يكن لهم من السيوف إلا ثمانية، ولم يكن لهم من الخيل إلا ثلاثة، ولم يكن لهم من الإبل إلا مائة بعير، وكان يعتقب على كل بعير ثلاثة رجال، وكان زادهم ورق الشجر، وقليل من الحنطة.
وكذلك أهل الغزوات الأول، فقد قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: والله إني لأول من رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما لنا زاد إلا ورق الشجر، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، خبت إذاً وضل سعيي.
وكذلك فإن العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه لما خرج بجيشه إلى الخليج، وأرادوا قطع البحر، فوجدوا السفن قد هدمتها الفرس، قال: يا حليم يا عليم، يا غفور يا تواب، فيبس البحر من أمامه حتى قطعه يمشي على رجليه.
وكذلك فإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما خرج إلى القادسية وجد جسراً قد قطع أمامه، وهو جسر أبي عبيد فما كان منه إلا أن اقتحم بفرسه البحر، فقطع به البحر, وقال: أنت مرسل ونحن مرسلون، فالبحر يجري مرسل من عند الله، ونحن مرسلون، فنحن مرسلون بهذه الرسالة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخاضت الخيل البحر على أثر فرس سعد بن أبي وقاص، والفرس ينظرون، فما رأوا منظراً أرعب من هذا! الخيل تخوض البحر وتقطعه! ونظير هذا ما حصل للروم أيضاً عندما رأوا إيمان المؤمنين باليرموك، فقد قام فيهم خالد بن الوليد خطيباً، وبعد أن أعدهم للقتال، قال: يا إخوتي! هل ترجون إلا إحدى الحسنيين: إما النصر، وإما الشهادة في سبيل الله، فتقدموا على بركة الله، وادحروا عدو الله، فهجم هو وهجم معه المسلمون، فإذا الروم قد ربطوا أنفسهم بالسلاسل، فماتوا موتة رجل واحد.
ونظير هذا أيضاً ما حصل في وقعة ذات الصواري، فإنها أول معركة في البحر للمسلمين عموماً، وقائدها عبد الله بن أبي السرح وليس له إلا الصواري القليلة يركبها المؤمنون معه، فجاء الروم في أسطول عظيم من السفن، فكان تدبيره أن قال لأصحابه: يا قوم من كان منكم يؤمن بالله ولقائه، ويؤمن بجنته وناره، فليقتحم على الروم في سفنهم، وليربط كل قوم قائدهم في سفينة من سفن الروم، ومن كان لا يؤمن بالله ولا لقائه، ولا جنته ولا ناره، فلينظرنا هنا على اليبس حتى نعود إليه، فهجموا جميعاً، ولم يبق منهم أحد، فربطوا جميع القوراب في السفن، واقتحموا السفن على الروم، فقتلوهم في سفنهم وجاءوا بها، فكانت أول معركة بحرية يشارك فيها المسلمون.
وهكذا ما حصل في ما بعدهم، فإن طارق بن زياد لما استقبله الروم، وهم سكان أوروبا جميعاً، وقد جاءوا لنصرة الإسبان في الأندلس قال لهم: يا قوم! العدو من أمامكم، والبحر من ورائكم، فاختاروا إحدى الميتتين: إما ميتة الإدبار -الغرق في البحر- وإما ميتة الشهادة في سبيل الله في وجه العدو، فاختاروا هذه الميتة، فانهزم العدو أمامهم.
فهذه الربانية آثارها بليغة عجيبة، والذين ذاقوا طعمها تقربوا من الله سبحانه وتعالى، فتقرب إليهم، فإنه جل جلاله يقول فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً )، سبحانه جل جلاله ما أكرمه وأحلمه! فأولئك القوم عرفوا الله تعالى فتقربوا إليه، فقربهم جل جلاله، وأحيا قلوبهم بنور الإيمان، وملأ جوارحهم بالطاعة، فكانوا أسوة وقدوة صالحة لكل من يأتي بعدهم.
إن هذه المظاهر التي رأيناها، والتي نعلم أنها يقين وحق، تقتضي منا أن نحرص على أن نكون ربانيين، كيف نكون ربانيين حتى ندرك أولئك الرهط؟ كيف نلحق بهذا الركب الذي تقدم؟ ألسنا ممن يأتي بعدهم؟ ألسنا من الذين ينبغي أن نكون من أتباعهم بإحسان؟ إن الله تعالى أثنى على هذه الأمة، وامتن عليها ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة الجمعة، فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجمعة:2-3]، وآخرين منهم: هم أنتم، لما يلحقوا بهم، و(لما) لنفي الماضي المنقطع فمعناه: وسيلحقون بهم.
فمعنى هذا: أن من سلك هذا الطريق لابد أن يلحق بهم، فتعالوا بنا نلحق بهذا الركب، تعالوا بنا نلقى الأحبة محمداً وحزبه، كيف يكون ذلك؟
تعلم الحبل المتين والتمسك به والسير على طريقه
إنما يكون بتعلم هذا الحبل المتين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، والتمسك به، والسير على طريقه، وعدم الميل عنه يميناً ولا شمالًا، فالإنسان إذا رغب في أمر من الأمور الدنيوية سيبذل فيه جهوده حتى يصل إليه، ولا شك أن من بين الحاضرات والحاضرين كثيراً ممن رغبوا -مثلاً- في النجاح في الامتحان، فحصل لهم ما أرادوا، أو رغبوا في إقامة مشروع أياً كان فحصل لهم ما أرادوا، وما ذلك إلا لأنهم رغبوا في أمر فبذلوا فيها جهودهم حتى وصلوا إليه، وأكبر مشروع يرغب في الإنسان هو هذا المشروع الذي يحقق له الربانية، والاتصال بالله، والوصول إلى شاطئ السلامة، والالتحاق بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين والأنصار، والركب الأول، والرعيل الأول من هذه الأمة، وهذا الأمر ميسور سهل؛ لأن هذا الطريق معبد، وقد سلك قبلنا، فلسنا أهل بدعة، ولسنا من يسلك طريقاً جديداً لم يسلك من قبل، فهذا الطريق سلكه الأنبياء من قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقال الله فيهم: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9].
فسلكه الأنبياء من قبله، ثم سلكه هو ومهده لنا، وسلكه أصحابه والتابعون لهم بإحسان، وقال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تركتم على مثل البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ), فهذا الطريق محجة بيضاء واضحة، لكن لا ينالها إلا من حرص عليها، فلا يمكن أن يسلكها إلا من تعلمها، فالجاهل المعرض الذي لا يرفع رأساً بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يهتم به، كيف يكون من الذين قال الله فيهم: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة:3]؟ إنه ليس منهم؛ لأنه أعرض عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فلذلك لابد لتحقيق هذه الربانية أولاً: أن نحرص عليها، وأن نحرص على هذا المنهج السوي.
تعلم طريق الربانية
ثانياً: لابد من تعلم هذا الطريق، ولهذا قال الله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]، فتعلم الكتاب وتعليمه ودراسة العلم سبب من أسباب الربانية، وهو سبب ميسور سهل، فالإنسان إذا أعطى وقتاً من يومه وليلته لتعلم هذا المنهج الرباني؛ فإن ذلك الوقت اليسير يبارك الله فيه، وتكون ثماره أكبر منه، فأربع وعشرون ساعة عمر مديد، إذا قسمها الإنسان بين واجباته، وراحة بدنه، وهموم دنياه، ولم يفعل فيها شيئاً لدراسة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلمه كانت حجة عليه ووبالاً يوم القيامة، وإذا جعل فيها جزءاً لتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما هو إلا وقت يسير، وإذا هو قد لحق بالركب.
في الأمس القريب شهدت حفلاً هنا في نواكشوط لإحدى الأخوات الطيبات، وهي كبيرة في السن، عزمت على أن تحفظ كتاب الله، وخصصت جزءاً من وقتها لذلك، فلم تنشغل عنه حتى حفظته، فأقامت حفلاً لحفظ كتاب الله أمس، وكذلك أمها من قبلها، فهذا أمر ميسور جداً لمن يسره الله له، وإذا عزم الإنسان على سلوك طريقهم، وأن يكون منهم، فإن بداية طريقه هي: تعلم ما كانوا عليه، فلا يمكن أن يكون الإنسان مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وصهيب وعمار وسعد بن أبي وقاص وهو لم يتعلم ما كانوا يفعلون، ولم يفعله، ولم يلجه، فهذا مستحيل.
فلذلك لابد أولاً: أن نتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نعطيه جزءاً من أوقاتنا، ثم بعد ذلك لابد أن نعلمه ونحمله، فهو أمانة في أعناقنا نحملها أولاً إلى أولادنا، ووالدينا، وأزواجنا، وجيراننا، وأهل بيوتنا، فهي النور الذي اؤتمنا عليه، ولا يمكن أن يأتمن الله على وحيه المفلسين، فأنتم تعلمون أن من لديه مال نفيس لا يمكن أن يختار لصاً من اللصوص أو سارقاً من السراق فيودع هذا المال عنده، بل يبحث عن أورع الناس وأتقاهم فيودعه ماله، والله تعالى يعلم السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فلا يمكن أن يختار لهذا الوحي المفلسين الذي لا يؤتمنون عليه، بل يختار لهم من كان أهلاً للأمانة، ويعلمهم هذا الوحي، وييسره لهم، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ[القمر:17].
الازدياد من العمل الصالح
ثم بعد ذلك من أسباب هذه الربانية أيضاً: الازدياد من العمل الصالح، فكلما ازداد الإنسان علماً ينبغي أن يزداد عملاً، وكلما قامت عليه الحجة بشيء مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يكون صادقاً مؤمناً به حقاً إلا إذا كان يعمل به، فنحن الآن إذا سمعنا هذا الدرس، وسمعنا آثار الربانية، وكيف كانت صفة بارزة في رسل الله وأنبيائه، وكيف كانت صفة بارزة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصنا عليها وأحببناها، لكن لم نعمل بشيء من هذا الأسباب التي تؤدي إليها، فما فائدة تعلمنا؟! اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع!
فلذلك لابد أن يحرص الإنسان على العمل بما تعلمه، فيعمل بكل ما قامت به الحجة عليه، قبل أن يخاصمه ذلك العلم بين يدي الله يوم القيامة.
ثم بعد هذا فالتنافس في العمل مما يقتضي من الإنسان صدقاً؛ لأنه امتحان واضح، فالذي ينام ملء جفونه، ولا يترك شهوة من شهواته إلا اتبعها، كلما اشتهى اشترى، وأعظم همه وأعظم انشغاله كسب هذه الحياة الدنيا، والتنافس فيها، كيف يكون من الذين ينفقون أوقاتهم الثمينة في التقرب إلى الله؟ وكيف يكون من الناجحين في هذا الامتحان؟ إن أهل هذا الامتحان هم الناجحون في الآخرة لا في الدينا، فالله تعالى يقول: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83], فالذي يريد الدنيا، ويحرص عليها، لا يمكن أن يكون حريصاً على الآخرة بنفس المستوى، بل إذا حرص على الآخرة ليس ذلك مانعاً له من حظه من الدنيا، فما كتب الله له من الرزق في الدنيا سيناله، وما كتب له من النجاح في الدنيا سيناله، ويزداد زيادة على ذلك، وهي حرث الآخرة، كما قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:18-19], وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20].
فلهذا لابد أن يكون هذا التنافس بارزاً في العمل وفي الطاعات؛ بالحفاظ على فرائض الله، وتتميمها بما يتممها من النوافل، وأن يكون الإنسان حريصاً على أن يكون من السابقين الأولين في كل باب من أبواب الخير، فليحرص الإنسان على أن يكون من أهل قيام الليل، وليحرص على أن يكون من أهل صيام النفل، وليحرص على أن يكون من أهل القرآن الذين يجودنه آناء الليل وأطراف النهار، وليحرص على أن يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وليحرص على أن يكون من المصدقين والمصدقات، وأقرضوا الله قرضاً حسناً، وليحرص على أن يكون من الذين يجيبون نداء الله، ويحضرون الدروس، ويستمعون إلى العلم بقلوب سليمة خاشعة، فكل هذا من أوجه الخير التي تورث هذه الربانية.
الخلوة بالله ومحاسبة النفس
كذلك مما يورث هذه الربانية: الخلوة بالله، وهي ساعة لا يستغني عنها مؤمن ولا مؤمنة؛ أن ينفصل وقتاً من الأوقات من هذه الحياة الدنيا فيميل إلى العزلة ولو لحظة، فينفصل عن الناس وما هم فيه، ويجلس في غرفة خالية، فيذكر الله خالياً فتفيض عيناه، يتذكر وحدته في قبره، وأنه في ذلك الوقت محتاج إلى الأنس بالله، يتذكر عندما ينحط في قبره والناس يحملونه، ثم يصب عليه التراب صباً.
ثم بعد ذلك: ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائم، وما هنالك من الوحشة والظلمة, والدود في ظلمة اللحود، فيخلو الإنسان بنفسه في هذا اللحظة، ويتخلص من زخرف الدنيا، ومن انشغالاتها، فيغلق عليه باباً، وينقطع عن أسباب الدنيا، وعن أهلها، فحينئذ تغلق في وجهه إلا باب الملك الديان جل جلاله، فيناجيه مناجاة صادق، ويسأله حوائجه، ويثني عليه بما هو أهله، ويعاهد الله تعالى على طاعته وعبادته، وتحبب إلى الله بخلوته، فنحن الآن في كلامنا مع العامة يدخله كثير من الدخن والانشغال؛ لأن الإنسان مشغول بمخالطة الناس، لكن عندما ينفصل الإنسان ويبقى وحده، سيجد متعة في إقباله على الله تعالى، ولذة عظيمة في مناجاته له جل جلاله، وبذلك يحقق المحبة الحقيقة لله سبحانه وتعالى، وكل من أحب الله أحبه الله سبحانه وتعالى، من أحبه صادقاً أحبه الله، وهذه اللحظة -وهي لحظة الخلوة- يأخذ منها الإنسان جزءاً للمحاسبة، فيحاسب نفسه على أربع وعشرين ساعة من عمره، كيف كانت خطته؟ وماذا كان عليه من الواجبات والسنن والمندوبات؟ وماذا وقع فيه من المحرمات والمكروهات، ومن خلاف الأولى، فيتوب من الثانية، ويحمد على الأولى، وما حصل منه من تقصير بادر إلى التوبة منه، وتدارك ما يمكن تداركه منه.
ثم بعد ذلك يبدأ نشاطاً جديداً، فإذا فتح الباب يتوقع أنه قد كان مات وانتقل إلى الدار الآخرة، ثم عاد إلى الدنيا من جديد، فما الذي سيصنعه من قد خرج من القبر وشاهد وأيقن؟ ليتصور كل واحد منا لو أنه مات فشاهد مشاهد القيامة الصغرى، وأتاه الملكان العظيمان: منكر ونكير للسؤال، وشاهد ما هنالك، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، ثم بعد ذلك خير فاختار الرجوع إلى الدنيا، فرجع إليها، فحل عينيه فإذا هو بين أهله، وفي مجتمعه، ماذا سيعمل؟ أليس سيفتح صفحة جديدة، وسيترك كثيراً مما كان عليه مما يسوؤه في آخرته، ويبادر إلى الإتقان والإحسان في كثير من ما كان مفرطاً فيه في جنب الله، فبعد ساعة الخلوة يخرج الإنسان من خلوته كأنما كان في قبره، فيعود من جديد إلى الدنيا بنشاط الجد والتشمير والعمل، ويبادر الوقت، فقد كان كثير من الصالحين في ساعة ما بعد العصر يحفر قبراً، فيجلس ينظر إليه ويحاسب نفسه فيه.
وقد شاهدت هنا في نواكشوط رجلاً من الصالحين، ومن العلماء، وهو الشيخ: محمد عثمان، شاهدته واقفاً على حفير قد حفرته مؤسسة الأشغال العمومية على طرف الشارع، فإذا هو يتردد عليه كأنه سقط خاتمه في ذلك المكان، أو سقطت ساعته، فسألته عن ماذا تبحث؟ فقال: أنا أتذكر هذا، فهو أول منازل الآخرة، ويتذكر به القبر، وهذا هو أول منازل الآخرة، فهو يخرج من بيته ليس له حاجة إلا أن يقف على ذلك الحفير الذي حفرته الأشغال العمومية، فيتردد عليه ويطوف به ليتذكر به قبره، وخرجت معه في الحج، فلما أتينا المدينة كان معي في الروضة في وقت الضحى، فقال: تعال نزور فلاناً رجلاً من أهل العزلة والعبادة، فذهبنا إليه، فلما دخلنا عليه -وهو ابن عمه- أراد السلام عليه، وتحديثه عن أهله، فلم يقطع قراءته للقرآن، الرجل الذي يزوره لم يقم من جلسته، ولم يقطع قراءته للقرآن، وأشار إلينا أنه مشغول فيما هو أهم من السلام علينا، فوقفنا عليه ساعة، ونحن ننظر، ثم انصرفنا، فلما انصرفنا قال لي الشيخ: هذا بقية العقلاء، ثم أنشد قول الشاعر:
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطناً
جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
فهذا سبب من أسباب الربانية.
قراءة سير الصالحين
كذلك من أسباب الربانية التي تحدثها في القلب: قراءة سير الصالحين، فهي جند من جنود الله، يثبت الله بها قلوب عباده، وقد قال الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120], فإذا عاش في ظلال القرآن، وعاش مع أنبياء الله حياتهم، وما حدث الله به عنهم، وما حدث به عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته وشمائله الشريفة، فإنه يجد من ذلك خير عون له على سلوك طريقهم.
وقد حدثني بعض طلاب العلم أنه كان ضعيف الإيمان، فأهدى إليه رجل كتاب تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي، قال: فلما أهداه إلي استحييت ألا أقرأه، فبدأت أقرأ فيه، فلما قرأت منه ترجمة أو ترجمتين استهواني أسلوبه، فقرأته كاملاً، ثم عدت إليه فقرأته مرة أخرى، فكان ذلك سبب ارتفاع همته، وعلو كعبه في العلم، وهذا الكتاب فيه تراجم للحفاظ من هذه الأمة، فما قرأ تراجمهم أدى به ذلك إلى أن يحاول سلوك طريقهم، فالاطلاع على حياة الأحياء منهم علم، وهم قليل مما يعين على ذلك، فزيارة الإنسان للمشتغلين بالله تعالى، والمبزرين في الطاعة والعبادة والعلم والدعوة، مما يزيده حرصاً على طريق الخير، ولذلك يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله:
زيارة أرباب التقى مرهم يبري ومفتاح أسباب الهداية والخير
وتحدث في القلب الخلي ولادة وتشرح صدراً ضاق من شدة الوزر
فإذا رأى الإنسان المشتغلين بالله تعالى، والذين كأنهم في مجلس الرحمن جل جلاله يقرءون القرآن ويذكرون ربهم، ولا يستطيعون مخالفته في أمره، ولا يستطيعون الوقوع في منكر مما نهى عنه، فكل هذا يقتضي منه حياة القلب، والإقبال على الله سبحانه وتعالى، وقد حرص عدد كثير من السلف في الوصول إلى هؤلاء، فكانوا يسافرون إليهم لمجرد رؤيتهم، فقد سافر عدد من الناس إلى رابعة العدوية ليروا عبادتها وطاعتها.
وسافر آخرون إلى إبراهيم بن أدهم، وقد حدث عن نفسه أنه كان في خلوته في لبنان يعبد الله تعالى، وبينما هو في آخر ليلة من الليالي إذ جاءه طارق يخبرها أن عليه أن يتجه إلى بيت المقدس، فخرج إلى المسجد الأقصى فجاءه، فلما دخل بابه وجد قوماً من أصحاب المكوس والضرائب، فآذوه وضربوه، ثم جروه برجله حتى أخرجوه إلى مكان بجانب المسجد الأقصى، فإذا فيه رجل يقول: يا رب أسألك أن ألقى إبراهيم بن أدهم، فقال: قد أتاك الله به يجر برجله، والرجل يريد بذلك: أن يتعلم من هديه وسلوكه وعبادته، فرآه بذلك، فيقول هذا الرجل: إنه لما صحب إبراهيم بن أدهم صلى معه, فكان الرجل يصلي من قبل مثل تلك الصلاة، لكن الذي شد انتباهه هو الصدق في وقت الدعاء، فإنه لما انتهى من صلاته مد يديه إلى الله، فأنشد يقول:
إلهي عبدك العاصي أتاك مقراً بالذنوب وقد دعاك
فإن تغفر فأنت لذاك أهل وإن تأخذ فمن نرجو سواك
وبكى بكاء شديداً، فقال الرجل: هذا الذي فاتنا به إبراهيم ؛ الصدق في الدعاء، والبكاء فيه.
وكذلك فإن رجلاً من أهل المغرب أيضاً ذهب إلى السهيلي في الأندلس يريد أن يرى عبادته، وكان السهيلي ضريراً لا يبصر، فأتاه بعد صلاة العشاء, فصلى ركعتين خفيفتين ثم نام، فتعجبوا منه، فقام الرجل يصلي -وكان من أهل قيام الليل الذين يطيلون القيام- فلما كان وسط الليل تعار السهيلي رحمه الله، فقام فاستاك وتوضأ، ثم صلى ما شاء الله أن يصلي، ثم أقبل على الله يسأله ويبكي، وهو يقول:
بجمال وجهك سيدي أتشفع ولباب جودك بالدعاء أتضرع
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن ملكه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن منعت فأي باب أقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لمجدك أن تقنط داعياً فالفضل أجزل والمواهب أوسع
فكان الرجل يقول: بهذا الدعاء كأنما تشم فيه رائحة الإجابة.
وهذه الكلمة -اشتمام رائحة الإجابة من الدعاء الصادق- قد سمعتها من شيخنا محمد عالي رحمة الله عليه, عندما أنشد بين يديه قصيدة للشيخ: أوفى بن يحظيه بن عبد الودود رحمة الله عليهما، فأنشدت هذه القصيدة بين يديه، وفيها كثير من الضراعة لله تعالى، يقول فيها:
وكم حاز مهديها خيولاً كثيرة وقاد بها خيلاً وساق وسائقاً
فقال الشيخ: في هذه القصيدة رائحة الإجابة، وهذا الصدق مع الله سبحانه وتعالى في الدعاء يحصل من مخالطة الصالحين ومجالستهم، ولذلك قال لقمان لابنه: يا بني! جالس العلماء، وزاحمهم بالركب؛ فإن الحكمة تخرج من أفواههم.
وقد كان عدد من الأئمة رضوان الله عليهم يذهبون إلى محمد بن مسلم بن شهاب الزهري فيجلسون في مجلسه، فإذا انتهى مجلس التحديث خرجوا إليه في مجلسه للوعظ والتذكير، وكان يذكر الناس، وكذلك بعده كان عدد منهم يذهب إلى الفضيل بن عياض، وفي كثير من الأحيان لا يستطيع أن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من البكاء، فيجلسون إليه، لا يسمعون إلا بكاءه، ثم ينصرفون، وقد استفادوا حينما تعلموا هذه الربانية منه.
ولذلك قال مالك بن أنس رحمه الله: لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، فقد أدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة، فإذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك، ولا عرفته، وأدركت محمداً بن المنكدر وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصفر وجهه، وغشيه الرحضاء حتى قمنا عنه ورحمناه، فقد كانوا يجلون رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً عظيماً، وإذا ذكروه بكوا بكاء شديداً، وهذا الحال هو حال أصحابه من بعده، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج ذات ليلة يعس في المدينة، فسمع عجوزاً من الأنصار تخيط وبراً لها، وهي تنشد فتقول:
على محمد صلاة الأبرار صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواماً بكيَّ الأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل يجمعني وحبيبي الدار
فجلس عمر يبكي بكاء شديداً.
وكذلك عندما جاء بلال من الشام أذن مرة واحدة في خلافة عمر رضي الله عنه، فلما سمع أهل المدينة أذانه تذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق أحد منهم إلا بكى بكاء شديداً؛ حين ذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن المتأخرين من الربانيين كانوا يتأثرون هذا التأثر البالغ، فيظهر ذلك على سلوكهم وتصرفاتهم، فهذا العلامة: أحمد بن محمد بن محمد سالم المجلسي رحمة الله عليهم أجمعين، يقول في قصيدته في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر شمائله، يقول:
أتذري عينه فضض الجمان غراماً من تذكره المغاني
مغان للعقيق إلى المنقى إلى أحد تذكرها شجاني
ومن تذكار منزلة بسلع إلى الجمَّا تعاني ما تعاني
فهل عزم يصول على التواني وهل بعد التباعد من تداني
وهل أغدو بكور الطير رحلي على وجناء دوسرة هجاني
تبذ العيس لاحقة كلاها وتطوي البيد مسنفة اللباني
ترى بعد الدؤوب كأخدري بيمؤود أرن على أتان
حداها شوق دار الفتح مثوى إمام الرسل مأمن كل جان
بعيشك صف شمائله فإني أحن إلى شمائله الحسان
فما شمس الظهيرة غب دجن تحاكي وجنتيه ولا تداني
ولا بدر التمام إذا تبدى وحاك الوجه ليلة أضحيان
فإنه تذكر هذه المواضع التي كانت ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يتنفس في هوائها، وكان يسير بينها، فأثرت هذا التأثير البالغ، فهذا التأثير هو من هذه الربانية، وهذا الأثر الرباني يحصل حتى من مشاهدة عجائب الكون، فإذا شاهد الإنسان عجائب هذا الكون تذكر صنعة الله تعالى وقدرته، وتمام تدبيره، فيكون ذلك حافزاً له لمحبته والاتصال به.
وقد حدثني بعض الثقات أن الشيخ أحمد غربة لما أراد الفرنسيون إيذاءه في السنغال أرسل إليه أحد المشايخ قوماً يأتون به؛ يريد أن ينجيه من أذاهم، وأن يؤويه لديه، فلما جاءه أولئك القوم حملوه على جمل، فكان كلما مر بقطعة من الأرض فيها حفرة، قال: سبحان الله ما أحسن هذا المكان! جدير بنا أن نسجد لله في هذا المكان، فيصلي، وكان إذا صلى يأخذ عدة ساعات في السجود، وعدة ساعات في الركوع؛ لطول صلاته، فتأخروا تأخراً بالغاً، حتى إنهم استطالوا هذا السفر، ونفدت أزوادهم فيه، فأتاهم رجل حكيم، فقال: لكم رأي واحد، وهو أن تسيروا بالشيخ في الليلة الظلماء حتى لا يرى الأماكن الخضراء، فكانوا في النهار يسمرون ولا يسافرون، وفي الليل يقطعون المسافة كلها بالشيخ في الليل، حتى وصل إلى مبتغاهم.
وهذه الربانية العجيبة من بدائع الكون وعجائبه، تقتضي من الإنسان في وقت الإقبال على الله استجابة الدعاء، وهو أثر من آثار هذه الربانية، ولذلك أحد المشايخ رحمة الله عليه أيضاً لما أراد الفرنسيون إيذاءه، وجعلوه في زورق يسمى: (بني), وهو زورق بحري عسكري للأسارى، فلما عرف أنهم يريدون الخروج به إلى بلادهم أقبل على الله سبحانه وتعالى، وقال:
أقول لما أتى دار الوقوف بني وغرب عنها وهو منجذل
يقصر الطرف عنه وهو مجتهد عدواً ويقصر عنه العربد الرعل
تلقي دواخله من خلفه ظللاً من فوقها ظلل من تحتها ظلل
الله صاحبنا سفراً وحافظنا رب العباد إليه الوجه والعمل
ولم يخب أمل بالله معتلق ولم يضع من على الرحمن يتكل
إحياء السنن المماتة والاشتغال بالطاعات التي أعرض عنها الناس
ومن أسباب الحصول على هذه الربانية: الاشتغال بالطاعات التي يعرض عنها الناس، وإحياء السنن المماتة، فكل من اشتغل بإحياء السنن المماتة، واشتغل بالطاعات التي يعرض عنها الناس، فإن الله يفتح له أبواباً عظيمة من أبواب الخير؛ لأنه في الغالب يكون محتاجاً إلى اللجوء إلى الله، والتوكل عليه أكثر من غيره؛ لأنه لابد أن يجد معادياً كما قال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك نصرتك نصراً مؤزراً.
فلذلك كان الذين يحيون السنن المماتة في كل عصر من العصور يتصفون بهذه الربانية، فيجدون لها أثراً بالغاً في سلوكهم وحياتهم، فمنهم -مثلاً- في بلادنا هذه المجيدري رحمة الله عليه، هذا الرجل جاء بتجديد السنن المماتة، والانشغال بالحديث والقرآن، والعلم وتعليم الناس، وتربيتهم على المنهج النبوي، ونبذ البدع في العقائد والسلوك، فوجد كثيراً من العداوة في عصره، وتألب عليه كثير من الناس، لكن وجد أثر هذه الربانية عندما أحيا السنن المماتة، فحقق له اللجوء إلى الله والاتصال به، فظهر ذلك في طلابه من بعده، فمن طلابه الشيخ: المأمون بن محمد الصوفي بن عبد الله المجاور اليعقوبي فقد كان هذ الرجل آية من آيات الله في حفظ القرآن والحديث والاشتغال بهما، حتى إن الشيخ محمد المامي يرثيه فيقول:
ريح تقاصر دونه لبنان ويهون دون ترابه المرجان
يا ريع لو نبت الحديث ببلدة نبت الحديث عليك والقرآن
يقول: كأنه بذر القرآن والحديث، فلما دفن في أرض فكأنه وضع فيه بذر القرآن والحديث، فلو نبت القرآن والحديث في بلد لنبت على هذا القبر.
يا ريع لو نبت الحديث ببلدة نبت الحديث عليك والقرآن
والشيخ المجيدري يقول عن نفسه:
لو كنت بدعياً لما كان الصواب عندي الأحاديث الصحاح والكتاب
وتلميذه: مولود بن أحمد الجواد رحمة الله عليهما اتصف أيضاً بهذه الربانية, وهو الذي يقول:
أستودع الحافظ المستودع الوالي ديني ونفسي وإخواني وأموالي
وأسأل المتعالي أن يوفقني وأن يسدد أفعالي وأقوالي
أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه رب قوي فكان الضعف أقوى لي
ما ذل من ذل من بالله عز وكم ذل العزيز بأعمام وأخوال
وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالأموال
متى تفز بموالاة الإله يدي فعاد يا أيها المخلوق أو وال
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4839 استماع |
بشائر النصر | 4291 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4133 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4062 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4003 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3947 استماع |
عداوة الشيطان | 3935 استماع |
اللغة العربية | 3932 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3908 استماع |
القضاء في الإسلام | 3898 استماع |