التقوى


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن موضوع التقوى هو من الموضوعات التي يجب تدارسها؛ لأنها وصية الله للأولين والآخرين، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ[النساء:131]، وقد ربط الله تعالى أوامره في القرآن بالتقوى؛ فيأمر بالتقوى قبل الأمر ثم يأمر بالتقوى بعده أيضاً, كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ[الحشر:18]؛ فيأتي الأمر بالتقوى مكرراً في مثل هذا النوع من الآيات، وكل ذلك يدل على العناية بالتقوى.

والتقوى في الأصل: (وقوى) من الوقاية، وهي مؤنثة؛ لأنها مصدر، ومعناها: أن تجعل بينك وبين سخط الله وقاية بطاعة الله.

وهي أربعة أقسام: اجتناب ما نهى الله عنه في الظاهر؛ أي: فيما يتعلق بالبدن، واجتناب ما نهى الله عنه في الباطن؛ أي: فيما يتعلق بالقلب، وامتثال ما أمر الله به في الظاهر, وامتثال ما أمر الله به في الباطن، فهذه أربعة أقسام ولا يمكن أن يكون الإنسان متقياً إلا إذا جمعها.

والتقوى سر دخول الجنة، والله سبحانه وتعالى أمرنا بها, وأمر بها من قبلنا, وأوصى بها الأولين والآخرين؛ فدل ذلك على العناية بها, وأنها مطلوبة للجميع, وأنه لا يستطيع أحد أن يحقق مراد الله من عباده إلا باتقاء ما نهى الله عنه, والسعي إلى امتثال أوامره؛ فلذلك كان لزاماً علينا أن نتدارس التقوى, وأن نحرص على أداء ما نسمع؛ ففائدة سماع مثل هذا النوع من الدروس إنما هو تطبيق ما يسمعه الإنسان؛ بعرض الإنسان نفسه على هذه النصوص التي يسمعها من الوحي، ثم بعد ذلك يطبق ما استطاع تطبيقه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

إن التقوى لا يمكن أن تكتب للإنسان إلا بالتدريب والمجاهدة؛ لأن الإنسان خلق في الأصل قابلاً للتحلي بالصفات الحميدة, وقابلاً للتحلي بالصفات الذميمة كذلك، ولا يستطيع التخلي عن الصفات الذميمة والتحلي بالصفات الحميدة إلا إذا درب نفسه على ذلك، وهذا التدريب هو المجاهدة التي أمر الله بها، وهي من جهاد النفس الذي هو أولى مراتب الجهاد، ولابد أن يتعود الإنسان عليه.

تربية القلب على التقوى

فلابد إذاً من تقسيم ما يتقى على الجوارح حتى يستطيع الإنسان محاسبة كل جارحة وحدها، وليبدأ الإنسان أولاً بالقلب؛ لأنه مناط الصلاح, كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: ( وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )؛ فيحتاج الإنسان إلى أن يبدأ أولاً بمحاسبة قلبه على الأوامر والنواهي فيعرضها عليه, ومن هنا يحتاج إلى أن يعرض على نفسه أولاً: ما أمر الله به من الإيمان, فيراجع إيمانه حتى يتحقق أنه مؤمن, وأن قلبه قد شرب هذا الإيمان واقتنع به؛ فيعرض على نفسه الإيمان بالله, والإيمان بملائكته, والإيمان بكتبه, والإيمان برسله, والإيمان بقدره خيره وشره, والإيمان باليوم الآخر وما تضمنه؛ فإذا وجد نفسه قد اقتنع بهذه الأركان الستة, ووجد قلبه قد اطمأن إليها, ونزلت فيه السكينة بها؛ فليعلم أن هذا هو بداية الأمر، وبعد ذلك يستطيع أن يعمل على محاسبة جوارحه, فهذا في الامتثال.

ثم بعد ذلك في الاجتناب أيضاً: لابد أن يعرض على قلبه التخلي عن أنواع الشرك؛ فلابد أن يعرض على قلبه أولاً: أن يتخلى عن التوكل على غير الله سبحانه وتعالى, والاعتماد على غيره، وأن يعرض على قلبه كذلك ترك الاستغاثة بغير الله واللجوء إليه حتى لو كان ذلك بحوائج الدنيا؛ فالإنسان المؤمن بالله يعلم أنه هو الغني الحميد, وأنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين؛ فيعلق جميع حوائجه بالله سبحانه وتعالى, ويستغني به عمن سواه؛ أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ[الزمر:36]، فلذلك لابد أن يعرض الإنسان هذه الآية على نفسه، وعلى قلبه؛ هل هو مستغن بالله تعالى عمن سواه، وهل التجاؤه إلى الله تعالى صادق، وهل توجهه إليه صادق؛ فإذا حصل ذلك فليحمد الله فإن ذلك بداية طريق التقوى.

ثم بعد هذا يعرض على قلبه الاتصاف بصفات المؤمنين, والتخلي عن صفات الكافرين والمنافقين؛ فلابد أن يعرض على قلبه الاتصاف بالصدق في التعامل مع الله؛ فالقناعات التي يقتنع بها الإنسان إذا لم يصاحبها عمل فهي ضائعة لا فائدة فيها؛ فلذلك لابد أن يعرض الإنسان على نفسه قناعاته جميعاً؛ فأنت تقتنع بأن الصدق واجب, وأنه من صفات المؤمنين, وتقتنع بأن الكذب حرام, وأنه من صفات المنافقين، فاعرض ذلك على عملك, وانظر هل أنت عامل بمقتضى قناعتك هذه أو لست عاملاً بها؛ فإذا كنت عاملاً بمقتضى قناعتك فاحمد الله تعالى؛ فهذا بداية التقوى، وإذا كنت غير عامل بمقتضى قناعتك فاعلم أن ذلك صفة من صفات المنافقين لابد من التخلي عنها, ومعالجتها قبل أن تتفاقم وتزداد, وهكذا في كل صفة من صفات المؤمنين, وفيما يقابلها من صفات المنافقين والمشركين لابد من عرض ذلك على القلب جميعاً، ومحاسبة القلب عليه محاسبة دقيقة.

إن كثيراً من المفاهيم تختلط في المجتمعات كلها نتيجة بعض المفاهيم المستوردة أو الموروثة, فتختلط في أذهان الناس فتشوش الإيمان في القلب, فيحتاج القلب إلى تصفية هذه المفاهيم, ومعرفة من أين حصلت هذه القناعة.

فقناعتك يا أخي! بالإيمان لابد أن تكون منبثقة من نفسك ومن داخلك, حتى لا تكون من المقلدين الذين إذا سئلوا في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هاه.. هاه! لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، لابد أن تكون قناعاتك منبثقة منك, وأن تكون مؤصلة بالأدلة الشرعية؛ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]؛ فإذا حصل ذلك فاعلم أن ذلك بداية تقوى الله سبحانه وتعالى.

تربية الجوارح على التقوى

ثم بعد مراجعة القلب اعدل إلى الجوارح, فانظر إلى البصر ماذا رتب الله عليه من الأوامر, وماذا رتب عليه من النواهي؛ فاعرضها عليه بدقة ومحاسبة كما يفعل التاجر الشحيح مع شريكه؛ فإذا وجدت العين مطيعة لا تنظر إلا ما أذن الله بالنظر إليه, وتترك النظر إلى ما نهى الله عن النظر إليه فاعلم أن ذلك من التقوى، ثم اعدل إلى السمع أيضاً فاعرض على سمعك ألا يسمع إلا ما أذن الله بسماعه, وأن يترك سماع كل ما نهى الله عن سماعه؛ فإذا استجاب السمع لذلك فقد قطعت شوطاً آخر من أشواط التقوى، ثم اعرض ذلك كذلك على اللسان, واعلم أنه من أخطر هذه الجوارح؛ لكثرة روغانه وشروده؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وتؤثم الجوارح اللسان تقول: اتق الله فينا فإننا بك؛ إن استقمت استقمنا, وإن اعوججت اعوججنا )، وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فوجده يجذب لسانه؛ فقال: يا خليفة رسول الله! ماذا تعمل؟! فقال: إن هذا أوردني الموارد، يحاسب لسانه فيمسك به وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له, وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة, وحل عليه رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده, ومع ذلك يؤثم لسانه فيقول: إن هذا أوردني الموارد، وكذلك فإن أصحاب السنن أخرجوا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديثه الطويل الذي قال فيه: ( ألا أدلك على جماع ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله؛ فأمسك بلسانه وقال: أمسك عليك هذا، قلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم ).

فلهذا لابد أن يجلس الإنسان جلسة مصارحة مع لسانه, ويقومه على اجتناب ما نهى الله عنه من الأقوال, وعلى امتثال ما أمر به من الأقوال، وحتى إذا تعدى هذه المرحلة فليحاسبه أيضاً على اللغو الذي لا خير فيه من الكلام؛ فالله تعالى جعل لك عينين وأذنين ويدين ورجلين ولم يجعل لك إلا لساناً واحداً؛ ليكون ما تقوله أقل مما تسمعه ومما تراه؛ ولهذا لابد أن تعود نفسك على الإمساك عن الكلام حتى تعرف نتيجته وما يترتب عليه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة الواحدة من سخط الله لا يلقي لها بالاً ) أي: لا يظن أنها عظيمة، وليس معنى (لا يلقي لها بالاً) أي: لا يلقي لها نية؛ لأن الأعمال كلها بالنيات؛ فالمقصود هنا: لا يلقي لها بالاً أي: لا يقدرها ولا يظن أنها عظيمة، ( يتكلم بالكلمة الواحدة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم ).

فلذلك لا يمكن أن يكون الإنسان متقياً حتى يمسك بزمام لسانه, وحتى يمنعه عن الكلام فيما لا خير فيه، وقد أخرج مالك في الموطأ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذات الله فتقسو قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب, وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى؛ فارحموا أهل البلاء, واحمدوا الله على العافية.

ثم بعد ذلك لابد من محاسبة بقية الجوارح، ويجمعها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( استحيوا من الله حق الحياء؛ أتدرون ما الاستحياء من الله حق الحياء؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: أن تحفظ الرأس وما وعى, والبطن وما حوى, وأن تؤثر الآخرة على الأولى )؛ فالرأس وما وعى يشمل ذلك السمع والبصر والكلام والشم، والبطن وما حوى يشمل ذلك ما يأكله الإنسان وما يشربه، ثم ما يتعلق بفرجه؛ فهو كذلك مما لابد من محاسبته, فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ[المؤمنون:5-7]؛ فلهذا لابد من محاسبة هذه الجوارح جميعاً, وأطرها على اتقاء ما نهى الله عنه, وتعويدها على الاكتفاء بما أحل الله تعالى.

ثم بعد ذلك محاسبة اليدين على ما تعملان, والرجلين على ما تمشيان إليه، ولا يستطيع الإنسان تقويم ذلك إلا بالتدبر والتذكر, فإذا أراد أن يخطو خطوة فلابد أن ينظر إلى أي الكفتين هي، هل هي إلى كفة السيئات أو إلى كفة الحسنات، فإذا استطعت ذلك استطعت إمساك كثير من جوارحك فيما بعد، وأعرف رجلاً من العلماء بترت رجله -نسأل الله أن يغفر له ويرحمه- فلما بترت دعا بها فجيء بها إليه؛ فقبلها وقال: مرحباً بهذه الرجل التي لم تمش بي إلى معصية أربعين سنة؛ فلذلك يحتاج الإنسان إلى إمساك رجله عن أن تمشي به إلى معصية، وأنتم تعرفون أن هذه الطاقات والقوى التي منحنا الله تعالى إنما هي لطاعته؛ ( فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أتى سعد بن أبي وقاص يعوده وهو مريض؛ وضع يده على رأسه وقال: اللهم ارفع عبدك هذا؛ ينكأ لك عدواً أو يمشي لك إلى صلاة )، فقوة الإنسان يقصد بها أمران: أن ينكأ عدواً لله أي: أن يضر عدواً لله، وهذا تحقيق ولاية الله، أو أن يمشي إلى صلاة، والصلاة تشمل كل القرب؛ فالصلاة المقصود بها الطاعة؛ فإذا تذكر الإنسان أن مشيه إنما هو إلى نكاية عدو لله أو إلى قربة يتقرب بها إلى الله؛ استطاع أن يمسك نفسه عن الذهاب إلى ما لا ينفعه من المشاهد, وكل مشهد يشهده الإنسان سيعرض عليه ويقرؤه في طائره يوم القيامة؛ فيحتاج إلى إمساك نفسه عن تلك المشاهد التي لا خير له فيها.

التربية على التقوى في علاقات الإنسان بغيره

ثم بعد هذا لابد كذلك في مجال التقوى من مراجعة العلاقات جميعاً؛ علاقات الإنسان مع أهله, وعلاقاته مع والديه, وعلاقاته مع أولاده, وعلاقاته مع أصحابه, وعلاقاته مع جيرانه، كل هذه العلاقات لابد أن يحقق الإنسان فيها التقوى؛ بأن يجتنب ما نهى الله عنه منها, وأن يمتثل ما أمر الله به منها, وأن يأطر نفسه على ذلك أطراً, ويحاسب نفسه عليه، وهذا الأطر قد لا يتيسر للإنسان وحده في خاصة نفسه، لكنه بإعانة إخوانه على ذلك يستطيع التغلب على هذه النوازع؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه؛ فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[المائدة:78-79] )، ثم قال: ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر, ولتأطرن الظالم على الحق أطراً, ولتقصرنه على الحق قصراً؛ أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضاً ثم ليلعنكم كما لعنهم ). فمساعدة الإنسان غيره على أطر نفسه على الحق تعينه على سلوك هذا الطريق.

فلابد إذاً من تقسيم ما يتقى على الجوارح حتى يستطيع الإنسان محاسبة كل جارحة وحدها، وليبدأ الإنسان أولاً بالقلب؛ لأنه مناط الصلاح, كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: ( وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )؛ فيحتاج الإنسان إلى أن يبدأ أولاً بمحاسبة قلبه على الأوامر والنواهي فيعرضها عليه, ومن هنا يحتاج إلى أن يعرض على نفسه أولاً: ما أمر الله به من الإيمان, فيراجع إيمانه حتى يتحقق أنه مؤمن, وأن قلبه قد شرب هذا الإيمان واقتنع به؛ فيعرض على نفسه الإيمان بالله, والإيمان بملائكته, والإيمان بكتبه, والإيمان برسله, والإيمان بقدره خيره وشره, والإيمان باليوم الآخر وما تضمنه؛ فإذا وجد نفسه قد اقتنع بهذه الأركان الستة, ووجد قلبه قد اطمأن إليها, ونزلت فيه السكينة بها؛ فليعلم أن هذا هو بداية الأمر، وبعد ذلك يستطيع أن يعمل على محاسبة جوارحه, فهذا في الامتثال.

ثم بعد ذلك في الاجتناب أيضاً: لابد أن يعرض على قلبه التخلي عن أنواع الشرك؛ فلابد أن يعرض على قلبه أولاً: أن يتخلى عن التوكل على غير الله سبحانه وتعالى, والاعتماد على غيره، وأن يعرض على قلبه كذلك ترك الاستغاثة بغير الله واللجوء إليه حتى لو كان ذلك بحوائج الدنيا؛ فالإنسان المؤمن بالله يعلم أنه هو الغني الحميد, وأنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين؛ فيعلق جميع حوائجه بالله سبحانه وتعالى, ويستغني به عمن سواه؛ أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ[الزمر:36]، فلذلك لابد أن يعرض الإنسان هذه الآية على نفسه، وعلى قلبه؛ هل هو مستغن بالله تعالى عمن سواه، وهل التجاؤه إلى الله تعالى صادق، وهل توجهه إليه صادق؛ فإذا حصل ذلك فليحمد الله فإن ذلك بداية طريق التقوى.

ثم بعد هذا يعرض على قلبه الاتصاف بصفات المؤمنين, والتخلي عن صفات الكافرين والمنافقين؛ فلابد أن يعرض على قلبه الاتصاف بالصدق في التعامل مع الله؛ فالقناعات التي يقتنع بها الإنسان إذا لم يصاحبها عمل فهي ضائعة لا فائدة فيها؛ فلذلك لابد أن يعرض الإنسان على نفسه قناعاته جميعاً؛ فأنت تقتنع بأن الصدق واجب, وأنه من صفات المؤمنين, وتقتنع بأن الكذب حرام, وأنه من صفات المنافقين، فاعرض ذلك على عملك, وانظر هل أنت عامل بمقتضى قناعتك هذه أو لست عاملاً بها؛ فإذا كنت عاملاً بمقتضى قناعتك فاحمد الله تعالى؛ فهذا بداية التقوى، وإذا كنت غير عامل بمقتضى قناعتك فاعلم أن ذلك صفة من صفات المنافقين لابد من التخلي عنها, ومعالجتها قبل أن تتفاقم وتزداد, وهكذا في كل صفة من صفات المؤمنين, وفيما يقابلها من صفات المنافقين والمشركين لابد من عرض ذلك على القلب جميعاً، ومحاسبة القلب عليه محاسبة دقيقة.

إن كثيراً من المفاهيم تختلط في المجتمعات كلها نتيجة بعض المفاهيم المستوردة أو الموروثة, فتختلط في أذهان الناس فتشوش الإيمان في القلب, فيحتاج القلب إلى تصفية هذه المفاهيم, ومعرفة من أين حصلت هذه القناعة.

فقناعتك يا أخي! بالإيمان لابد أن تكون منبثقة من نفسك ومن داخلك, حتى لا تكون من المقلدين الذين إذا سئلوا في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هاه.. هاه! لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، لابد أن تكون قناعاتك منبثقة منك, وأن تكون مؤصلة بالأدلة الشرعية؛ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]؛ فإذا حصل ذلك فاعلم أن ذلك بداية تقوى الله سبحانه وتعالى.

ثم بعد مراجعة القلب اعدل إلى الجوارح, فانظر إلى البصر ماذا رتب الله عليه من الأوامر, وماذا رتب عليه من النواهي؛ فاعرضها عليه بدقة ومحاسبة كما يفعل التاجر الشحيح مع شريكه؛ فإذا وجدت العين مطيعة لا تنظر إلا ما أذن الله بالنظر إليه, وتترك النظر إلى ما نهى الله عن النظر إليه فاعلم أن ذلك من التقوى، ثم اعدل إلى السمع أيضاً فاعرض على سمعك ألا يسمع إلا ما أذن الله بسماعه, وأن يترك سماع كل ما نهى الله عن سماعه؛ فإذا استجاب السمع لذلك فقد قطعت شوطاً آخر من أشواط التقوى، ثم اعرض ذلك كذلك على اللسان, واعلم أنه من أخطر هذه الجوارح؛ لكثرة روغانه وشروده؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وتؤثم الجوارح اللسان تقول: اتق الله فينا فإننا بك؛ إن استقمت استقمنا, وإن اعوججت اعوججنا )، وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فوجده يجذب لسانه؛ فقال: يا خليفة رسول الله! ماذا تعمل؟! فقال: إن هذا أوردني الموارد، يحاسب لسانه فيمسك به وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له, وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة, وحل عليه رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده, ومع ذلك يؤثم لسانه فيقول: إن هذا أوردني الموارد، وكذلك فإن أصحاب السنن أخرجوا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديثه الطويل الذي قال فيه: ( ألا أدلك على جماع ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله؛ فأمسك بلسانه وقال: أمسك عليك هذا، قلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم ).

فلهذا لابد أن يجلس الإنسان جلسة مصارحة مع لسانه, ويقومه على اجتناب ما نهى الله عنه من الأقوال, وعلى امتثال ما أمر به من الأقوال، وحتى إذا تعدى هذه المرحلة فليحاسبه أيضاً على اللغو الذي لا خير فيه من الكلام؛ فالله تعالى جعل لك عينين وأذنين ويدين ورجلين ولم يجعل لك إلا لساناً واحداً؛ ليكون ما تقوله أقل مما تسمعه ومما تراه؛ ولهذا لابد أن تعود نفسك على الإمساك عن الكلام حتى تعرف نتيجته وما يترتب عليه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة الواحدة من سخط الله لا يلقي لها بالاً ) أي: لا يظن أنها عظيمة، وليس معنى (لا يلقي لها بالاً) أي: لا يلقي لها نية؛ لأن الأعمال كلها بالنيات؛ فالمقصود هنا: لا يلقي لها بالاً أي: لا يقدرها ولا يظن أنها عظيمة، ( يتكلم بالكلمة الواحدة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم ).

فلذلك لا يمكن أن يكون الإنسان متقياً حتى يمسك بزمام لسانه, وحتى يمنعه عن الكلام فيما لا خير فيه، وقد أخرج مالك في الموطأ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذات الله فتقسو قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب, وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى؛ فارحموا أهل البلاء, واحمدوا الله على العافية.

ثم بعد ذلك لابد من محاسبة بقية الجوارح، ويجمعها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( استحيوا من الله حق الحياء؛ أتدرون ما الاستحياء من الله حق الحياء؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: أن تحفظ الرأس وما وعى, والبطن وما حوى, وأن تؤثر الآخرة على الأولى )؛ فالرأس وما وعى يشمل ذلك السمع والبصر والكلام والشم، والبطن وما حوى يشمل ذلك ما يأكله الإنسان وما يشربه، ثم ما يتعلق بفرجه؛ فهو كذلك مما لابد من محاسبته, فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ[المؤمنون:5-7]؛ فلهذا لابد من محاسبة هذه الجوارح جميعاً, وأطرها على اتقاء ما نهى الله عنه, وتعويدها على الاكتفاء بما أحل الله تعالى.

ثم بعد ذلك محاسبة اليدين على ما تعملان, والرجلين على ما تمشيان إليه، ولا يستطيع الإنسان تقويم ذلك إلا بالتدبر والتذكر, فإذا أراد أن يخطو خطوة فلابد أن ينظر إلى أي الكفتين هي، هل هي إلى كفة السيئات أو إلى كفة الحسنات، فإذا استطعت ذلك استطعت إمساك كثير من جوارحك فيما بعد، وأعرف رجلاً من العلماء بترت رجله -نسأل الله أن يغفر له ويرحمه- فلما بترت دعا بها فجيء بها إليه؛ فقبلها وقال: مرحباً بهذه الرجل التي لم تمش بي إلى معصية أربعين سنة؛ فلذلك يحتاج الإنسان إلى إمساك رجله عن أن تمشي به إلى معصية، وأنتم تعرفون أن هذه الطاقات والقوى التي منحنا الله تعالى إنما هي لطاعته؛ ( فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أتى سعد بن أبي وقاص يعوده وهو مريض؛ وضع يده على رأسه وقال: اللهم ارفع عبدك هذا؛ ينكأ لك عدواً أو يمشي لك إلى صلاة )، فقوة الإنسان يقصد بها أمران: أن ينكأ عدواً لله أي: أن يضر عدواً لله، وهذا تحقيق ولاية الله، أو أن يمشي إلى صلاة، والصلاة تشمل كل القرب؛ فالصلاة المقصود بها الطاعة؛ فإذا تذكر الإنسان أن مشيه إنما هو إلى نكاية عدو لله أو إلى قربة يتقرب بها إلى الله؛ استطاع أن يمسك نفسه عن الذهاب إلى ما لا ينفعه من المشاهد, وكل مشهد يشهده الإنسان سيعرض عليه ويقرؤه في طائره يوم القيامة؛ فيحتاج إلى إمساك نفسه عن تلك المشاهد التي لا خير له فيها.

ثم بعد هذا لابد كذلك في مجال التقوى من مراجعة العلاقات جميعاً؛ علاقات الإنسان مع أهله, وعلاقاته مع والديه, وعلاقاته مع أولاده, وعلاقاته مع أصحابه, وعلاقاته مع جيرانه، كل هذه العلاقات لابد أن يحقق الإنسان فيها التقوى؛ بأن يجتنب ما نهى الله عنه منها, وأن يمتثل ما أمر الله به منها, وأن يأطر نفسه على ذلك أطراً, ويحاسب نفسه عليه، وهذا الأطر قد لا يتيسر للإنسان وحده في خاصة نفسه، لكنه بإعانة إخوانه على ذلك يستطيع التغلب على هذه النوازع؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه؛ فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[المائدة:78-79] )، ثم قال: ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر, ولتأطرن الظالم على الحق أطراً, ولتقصرنه على الحق قصراً؛ أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضاً ثم ليلعنكم كما لعنهم ). فمساعدة الإنسان غيره على أطر نفسه على الحق تعينه على سلوك هذا الطريق.

إن امتثال الإنسان لأوامر الله تعالى واجتنابه لنواهيه درجات كثيرة؛ فيبدأها الإنسان أولاً: بامتثال الواجبات واجتناب المحرمات، وبعد ذلك يصل إلى مقام آخر يزيد فيه بالتزام السنن جميعاً وترك المكروهات جميعاً, ثم بعد ذلك يصل إلى مقام أعلى من هذا فيلتزم المندوبات ويترك خلاف الأولى, ويحرص على استغلال العمر في الطاعة، ثم يصل إلى مقام أعلى من هذا فيشتغل بالأفضل فالأفضل؛ فيقدم الأفضل من المندوبات على غيره؛ لأنه تاجر يعامل الله سبحانه وتعالى, ويحرص على الربح في أوقاته, وفي كل ما وهبه الله تعالى من الطاقات والنعم؛ فلا يريد أن تذهب نعمة مما أنعم الله به عليه في الوجه الآخر في كفة السيئات، بل يحرص على أن تكون جميعاً عوناً على الطاعة وامتثال أمر الله واجتناب نهيه؛ وبهذا يكون الإنسان من المتقين.

إن ما ذكر عملية شاقة, ولا يمكن أن يكون الإنسان من المتقين إلا بعد المرور بها, ومعالجة نفسه عليها، لكن لذلك علامات يمكن أن يعرف الإنسان بها هل هو متق أو لا:

السرور عند عمل الحسنة والحزن عند عمل السيئة

أول هذه العلامات: ما حدده النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( المؤمن من سرته حسنته, وساءته سيئته )، فإذا كان الإنسان تسره حسنته, وتسوؤه سيئته فهذا مقام يدل على صدق التوجه في البداية، فإذا انتظر الصلاة بعد الصلاة في المسجد احتسبها نعمة لله تعالى عليه, وشكرها لله, وسر بها، وإذا استيقظ في جوف الليل والناس نيام فذكر الله وتوضأ وقام يصلي سره ذلك، وإذا وفق بأية طاعة من الطاعات أو صدقة من الصدقات سر بذلك؛ فليعلم أن هذا بداية طريق التقوى.

التأثر بالقرآن الكريم

ثم بعد هذا من علامة التقوى: أن يكون الإنسان متأثراً بهذا القرآن؛ فهذا القرآن كما وصفه الله سبحانه وتعالى: الــم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ[البقرة:1-2]؛ فإن ما يهتدي به من كان من أهل التقوى؛ فإذا كنت كلما سمعت شيئاً من القرآن أو قرأت شيئاً منه نفعك الله به, فانتفعت في كل آية تسمعها أو في كل مقطع تسمعه أو في كل سورة تسمعها ازددت بذلك هداية ونوراً؛ فاعلم أنك من المتقين؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقد أنزل علي الليلة آيات ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن، خواتم سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[آل عمران:190-191] ).

لذلك لابد أن يحرص الذي يريد أن يكون من المتقين على الهداية بالقرآن, وأن يهتدي به, وينتفع مما فيه من الخيرات, فقد قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهمْ عَذَابًا أَلِيمًا[الإسراء:9-10].

كف النفس عن المعصية

كذلك من علامات التقوى: أن يستطيع الإنسان كف نفسه عن المعصية عندما تعرض عليه؛ فإذا كان الإنسان الذي عرضت بين يديه المعصية فاستطاع أن يكف نفسه عنها فليعلم أنه من أهل التقوى؛ فقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ[الأعراف:201-202]، فقوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا[الأعراف:201]: هم المتقون، إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ[الأعراف:201]: الطائف هو الهواء والنسيم الذي يمر في الأفق؛ فإنه يمر مروراً سريعاً، إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ[الأعراف:201]، وشبه وسواس الشيطان الذي يحصل في القلب بالطائف الذي يلم من النسيم؛ وفي القراءة السبعية الأخرى: (إذا مسهم طيف من الشيطان), والطيف: الخيال الذي يرى في المنام، وهو خفيف جداً، فكذلك لمة الشيطان هي مثل الطيف الذي يأتي الإنسان في نومه، إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا[الأعراف:201] أي: ذكروا الله سبحانه وتعالى فأقلعوا عن ذلك الطيف ولم يستمرئوه ولم يستحلوه.

تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[الأعراف:201]: يزيدهم الله نوراً وبصيرة فيرون ضرر ما كانوا سيقدمون عليه, ويرون نعمة الله عليهم حين صرفهم عنه.

وَإِخْوَانُهُمْ[الأعراف:202] أي: إخوان الشياطين، يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ[الأعراف:202] أي: يزيدونهم فيه، ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ[الأعراف:202] أي: لا يتراجعون عن غيهم، نسأل الله السلامة والعافية.

ترك انتهاك حرمات الله في الخلوة

كذلك من علامات التقوى: أن يكون الإنسان إذا خلا بمحارم الله لم ينتهكها؛ فالذين إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها لم يستشعروا رقابة الله سبحانه وتعالى ولم يتقوه؛ لأنهم إنما تركوا هذه المحارم بحضرة الناس خوفاً من الناس أو خجلاً منهم أو خوفاً من العار والذنب، أما إذا كان الإنسان يترك محارم الله في خلواته فإذا خلا بمحارم الله لم ينتهكها؛ فهذه علامة من علامات التقوى.

الحرص على الازدياد من الخير

كذلك من علامات التقوى: أن يحرص الإنسان على الازدياد من الخير؛ فيحرص على أن يكون يومه خيراً من أمسه, وأن يكون غده خيراً من يومه؛ فيحاول الازدياد من الاعتياد على الخير كلما تقدم به العمر.

ورجي الفتى للخير ما إن رأيته على السن خيراً لا يزال يزيد