وساوس الشيطان


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأقامه حُجة على كل من بلغ، فجاء بمنهجٍ ربانيٍ فيه حلول لكل ما ينتاب البشر، فما يحتاج الناس إليه مما ينظم علاقاتهم بربهم فصله رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيدةً وعبادة، وما يحتاج الناس إليه مما ينظم علاقاتهم فيما بينهم فصله معاملة وأخلاقاً، وقد كان هو تطبيقاً لهذا المنهج الرباني الذي جاء به من عند الله تعالى، فلذلك وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه ذكر وبأنه قرآن، فقال تعالى في سورة الطلاق: ذِكْرًا[الطلاق:10] رَسُولًا[الطلاق:11]، فجعل الرسول بدلاً من الذكر، فهو ذكر من الله سبحانه وتعالى، أي: كأنما هو قرآن منزل، وكذلك أبدل منه القرآن فقال في سورة الإسراء: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا[الإسراء:106].

وذلك عطف على ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا * وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الإسراء:104-105] هذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين الله أنه أرسله للناس لهذه المهمات وختمها بقوله: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا[الإسراء:106].

وقد وصفت عائشة رضي الله عنها أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، فكل ما يرضى الله من عباده عقيدة وعبادة ومعاملة وسلوكاً وأخلاقاً فقد مثله رسول الله صلى الله عليه وسلم بهديه، ومن أراد أن يسلك الطريق المرضي عند الله سبحانه وتعالى فليتبع ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طبقه وهو غير مجهول، بل هو معلوم مروي لا يختلف فيه اثنان، ولذلك فهو صراط مستقيم مثله النبي صلى الله عليه وسلم بلاحبٍ بين سورين، وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور، وفي كل بابٍ داعٍ يدعو إليه، وفوق السورين منادي الله ينادي: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لم تخرج منه.

فالطريق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم معبد مسهل، وهو سائر بين سورين عظيمين، وهذان السوران كلاهما فيه أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور، وفي كل بابٍ داعٍ يدعو المارين من هذا الصراط أن يدخلوا إليه إلى ذلك الباب لينحرفوا يميناً أو شمالاً في بنيات الطريق، وفوق السورين منادي الله وهو المذكر والمنذر ينادي: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لم تخرج منه، ولذلك على المسلم أن يسلك هذا الصراط وأن يصبر عليه، سواءً كان ذكراً أو أنثى، كبيراً أو صغيراً، وليعلم أن هذا الصراط هو تمثيل للصراط الأخروي، فالصراط الأخروي جسر منصوب على متن جهنم، أرق من الشعر وأحد من السيف وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدوا، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناجٍ مسلّم ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.

وبقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، فالذي يثبت على هذا الصراط ويجاهد نفسه وشيطانه وإخوانه وملذاته وشهواته ويجاهد دنياه ويصبر عما يخالف منهج الله حتى يلقى الله سبحانه وتعالى على هذا الطريق، وإذا وقع في زلة تاب وبادر إلى التوبة، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[الأعراف:201]، فإن الله سبحانه وتعالى يوفقه ويسدده على الصراط الأخروي فيمر عليه ناجياً، ويكون بذلك من أهل الجنة.

ومن لم يصبر على هذا الصراط فكان عُرضة للسقوط يميناً أو شمالا، فيسقط في الشبهات تارةً وفي الشهوات تارة، فإنه عُرضة للسقوط عن الصراط يوم القيامة، مع ارتفاعه ومع سحق جهنم تحته، فبينه وبين جهنم مسافات شاسعة، وهو مرتفع فوقها، والذي يمر فوق الصراط يرد جهنم فيمر فوقها؛ لأن الله تعالى يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا[مريم:71]، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الورود بالعبور، فبين أن هذا الورود لجهنم الذي لا ينجو منه أحد هو العبور فوق الصراط، لكن إذا حصل هذا العبور فالناس بين ناجٍ وهالك، كما قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا[مريم:71-72]، والذي يميل ذات اليمين أو ذات الشمال قد سلك بنيات الطريق ولم يرضَ بمهيع الله ومنهجه، وإنما اتبع شيطانه وهواه، ولذلك هو عُرضة لئلا يرجع أبداً، فالذي يدخل في ذلك الباب لا يستطيع الخروج منه، فأصحاب الشبهات لا يزدادون إلا غياً في شبهتهم. والشبهات قسمان:

شبهات في التعامل مع الله، وشبهات في التعامل مع الناس.

فالشبهات في التعامل مع الله تنقسم إلى قسمين:

إلى شبهات عقدية وشبهات تعبدية.

الشبهات العقدية

أما الشبهات العقدية فإن الشيطان لا يزال بالإنسان يقول له: من خلق كذا؟ فيقول: الله، حتى يقول له: من خلق الله؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.

وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثير من الناس يدخل عليهم الشيطان من هذا الوجه -وهو وجه الشبهة العقدية- فيشككهم في المعاد الأخروي أو في يوم القيامة أو فيما يتعلق به، أو في رؤية الله أو في بعض صفاته أو أسمائه، أو أفعاله، أو تصرفاته في الكون، أو يجعلهم يعترضون على بعض قضائه وقدره، وهو الحكم العدل لا معقب لحكمه، ولا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فكل ذلك من الشبهات العقدية.

الوساوس والأوهام ضمن الشبهات التعبدية

أما الشبهات التعبدية -وهي القسم الثاني من الشبهات المتعلقة بالمعاملة مع الله تعالى- فمنها: الوساوس والأوهام، فإن الشيطان يسعى بالإنسان لأن يشك في طهارته وفي صلاته، وإذا لم يشك في ذلك شك في عدم قبولها وفي عدم الخشوع فيها، وأيضاً في بعض الأحيان تكون وساوسه على عكس هذا، فيعجب الإنسان بنسه وأنه خاشع وأن طهارته صحيحة وأن صلاته صحيحة، ومن هنا يبدأ الملاحظة على الآخرين والنقد، فكأنه قد نجا على الصراط، وكأن الآخرين ما زالوا في الطريق؛ فهو يقوم سلوكهم ويراجع أخطائهم، وقد جعل الله على البشر ملائكة يحصون عليهم أخطاءهم ولم يكلف بعضهم بإحصاء أخطاء بعض، فقد قال الله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12]، وقال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18].

فكل واحدٍ من البشر معه واحد وعشرون من الملائكة يحصون أعماله ويعدونها، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى شهادتهم، فهو الحكم العدل وعلمه محيط بجميع الكائنات إجمالاً وتفصيلا، ولكنه أقام بهم الحجة على الإنسان، فإن كل إنسان يأتي معه سائق وشهيد يوم القيامة، فالسائق من الملائكة والشهيد من الرسل، يشهد عليه بعمله وهو لا يستطيع الطعن ولا الجرح، وذلك إعذار إليه ليعلم الإنسان عدل الله سبحانه وتعالى، فالإنسان الآن يوسوس له الشيطان فيقول: أنت ضعيف وأنت فقير وأنت ذميم قبيح، وترى غيرك قد خصه الله بهذه المزايا وشرفهم بهذا التشريف، فيعترض على قسمة الله سبحانه وتعالى للأرزاق والأخلاق، وهذا الاعتراض هو من الوساوس التي يلقيها الشيطان من عداوته للإنسان، والله سبحانه وتعالى إنما يتكرم بهذه الأمور على من شاء من عباده، وذلك فضله يؤتيه من يشاء، ولا معقب لحكمه ولا اعتراض على تصرفه، فإنه لم يظلم أحداً شيئاً ولم يمنع أحداً شيئاً من حقه، وإنما يُعطي زيادةً على الحقوق ما شاء لمن شاء من عباده ويبتليهم بذلك: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35].

أمن مكر الله تعالى وأثر ذلك على أداء الطاعات

ثم من هذه الوساوس في العبادات كذلك ما يؤدي إلى أمن مكر الله، فكثير من الناس يُفرط في طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته ويسوف له الشيطان بأنه سيتقدم به العمر ويكون من الصالحين، وأنه إذا ضعف عن شهوته فإنه سيرجع إلى الطاعة، ولكن الواقع أنه إذا ضعف عن مقتضيات الشهوة فإنه سيضعف أيضاً عن مقتضيات الطاعة، فكل ضعف يشمله في جانب المعصية سيشمله أيضاً في جانب الطاعة.

وأيضاً فقد لا يبلغ ذلك العمر الذي يؤمله، وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ[الأعراف:185]، فالإنسان العاقل يرى كل يومٍ بعثاً يُنقلون إلى الدار الآخرة لا يرجعون إلا عند البعث ليوم القيامة، ويرى فيهم من هو أكبر منه ومن هو أصغر ومن هو معاصر له، ومن هو أغنى منه، ومن هو أفقر، ومن هو أعلم منه، ومن هو أجهل، ويرى فيهم المشغولين وغيرهم، ويرى فيهم الكبار والصغار.

لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيبُ

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحدُ

هو الموت ما منه ملاذ ومهربُ إذا حُط ذا عن نعشه ذاك يركبُ

فالنعوش جاهزة، وهي تحمل الناس أفواجاً إلى الدار الآخرة، يُحملون عليها، منهم من يموت بالحوادث، ومنهم من يموت بالأمراض، ومنهم من يموت من غير علة، والكثير من الذين يضحكون ويتصرفون الآن أكفانهم موجودة على الرفوف قد جُلبت ونسجت وبيعت واشتريت، وهي جاهزة لا يدرون متى يُدرجون فيها، والشيطان يشغل الإنسان بهذا التسويف وبطول الأمل ليقصر في جنب الله وليأمن مكره، وقد قال الله تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[الأعراف:99].

وسواس احتقار النفس وأثر ذلك في القنوط من رحمة الله

وكذلك فإن من هذه الوساوس أن الشيطان يسعى أيضاً مع الإنسان باحتقاره لنفسه ليقنط من رحمة الله تعالى، فيحتقر الإنسان عمله، ويحتقر علمه ويحتقر طاعته وعبادته، ويذكره الشيطان بعبادة العابدين وبإعراضه هو وإدباره في أوقات ضعفه، وحينئذٍ كثيراً ما ييأس ويقنط من روح الله، وقد قال الله تعالى: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ[يوسف:87]، وقال تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ[الحجر:56]، فالذين لا يعرفون الله سبحانه وتعالى هم الذين يقنطون من رحمته فهو غني عن عباده ولا يحتاج إلى عبادتهم، ولا يزيد في ملكه طاعة الطائعين ولا ينقص من ملكه عصيان العاصين، ولذلك روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح القدسي أنه قال: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحدٍ منهم مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

فإذاً لا بد أن يحذر المؤمن والمؤمنة من إساءة التعامل مع الله سبحانه وتعالى، وهو يعلم أن سوء التعامل معه منتشر موجود في العباد، وأن سوء الأدب معه منتشر، فلذلك لا بد من الحذر من هذه الشبهات في المعاملة مع الله.

أما الشبهات العقدية فإن الشيطان لا يزال بالإنسان يقول له: من خلق كذا؟ فيقول: الله، حتى يقول له: من خلق الله؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.

وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثير من الناس يدخل عليهم الشيطان من هذا الوجه -وهو وجه الشبهة العقدية- فيشككهم في المعاد الأخروي أو في يوم القيامة أو فيما يتعلق به، أو في رؤية الله أو في بعض صفاته أو أسمائه، أو أفعاله، أو تصرفاته في الكون، أو يجعلهم يعترضون على بعض قضائه وقدره، وهو الحكم العدل لا معقب لحكمه، ولا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فكل ذلك من الشبهات العقدية.

أما الشبهات التعبدية -وهي القسم الثاني من الشبهات المتعلقة بالمعاملة مع الله تعالى- فمنها: الوساوس والأوهام، فإن الشيطان يسعى بالإنسان لأن يشك في طهارته وفي صلاته، وإذا لم يشك في ذلك شك في عدم قبولها وفي عدم الخشوع فيها، وأيضاً في بعض الأحيان تكون وساوسه على عكس هذا، فيعجب الإنسان بنسه وأنه خاشع وأن طهارته صحيحة وأن صلاته صحيحة، ومن هنا يبدأ الملاحظة على الآخرين والنقد، فكأنه قد نجا على الصراط، وكأن الآخرين ما زالوا في الطريق؛ فهو يقوم سلوكهم ويراجع أخطائهم، وقد جعل الله على البشر ملائكة يحصون عليهم أخطاءهم ولم يكلف بعضهم بإحصاء أخطاء بعض، فقد قال الله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12]، وقال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18].

فكل واحدٍ من البشر معه واحد وعشرون من الملائكة يحصون أعماله ويعدونها، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى شهادتهم، فهو الحكم العدل وعلمه محيط بجميع الكائنات إجمالاً وتفصيلا، ولكنه أقام بهم الحجة على الإنسان، فإن كل إنسان يأتي معه سائق وشهيد يوم القيامة، فالسائق من الملائكة والشهيد من الرسل، يشهد عليه بعمله وهو لا يستطيع الطعن ولا الجرح، وذلك إعذار إليه ليعلم الإنسان عدل الله سبحانه وتعالى، فالإنسان الآن يوسوس له الشيطان فيقول: أنت ضعيف وأنت فقير وأنت ذميم قبيح، وترى غيرك قد خصه الله بهذه المزايا وشرفهم بهذا التشريف، فيعترض على قسمة الله سبحانه وتعالى للأرزاق والأخلاق، وهذا الاعتراض هو من الوساوس التي يلقيها الشيطان من عداوته للإنسان، والله سبحانه وتعالى إنما يتكرم بهذه الأمور على من شاء من عباده، وذلك فضله يؤتيه من يشاء، ولا معقب لحكمه ولا اعتراض على تصرفه، فإنه لم يظلم أحداً شيئاً ولم يمنع أحداً شيئاً من حقه، وإنما يُعطي زيادةً على الحقوق ما شاء لمن شاء من عباده ويبتليهم بذلك: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35].

ثم من هذه الوساوس في العبادات كذلك ما يؤدي إلى أمن مكر الله، فكثير من الناس يُفرط في طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته ويسوف له الشيطان بأنه سيتقدم به العمر ويكون من الصالحين، وأنه إذا ضعف عن شهوته فإنه سيرجع إلى الطاعة، ولكن الواقع أنه إذا ضعف عن مقتضيات الشهوة فإنه سيضعف أيضاً عن مقتضيات الطاعة، فكل ضعف يشمله في جانب المعصية سيشمله أيضاً في جانب الطاعة.

وأيضاً فقد لا يبلغ ذلك العمر الذي يؤمله، وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ[الأعراف:185]، فالإنسان العاقل يرى كل يومٍ بعثاً يُنقلون إلى الدار الآخرة لا يرجعون إلا عند البعث ليوم القيامة، ويرى فيهم من هو أكبر منه ومن هو أصغر ومن هو معاصر له، ومن هو أغنى منه، ومن هو أفقر، ومن هو أعلم منه، ومن هو أجهل، ويرى فيهم المشغولين وغيرهم، ويرى فيهم الكبار والصغار.

لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيبُ

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحدُ

هو الموت ما منه ملاذ ومهربُ إذا حُط ذا عن نعشه ذاك يركبُ

فالنعوش جاهزة، وهي تحمل الناس أفواجاً إلى الدار الآخرة، يُحملون عليها، منهم من يموت بالحوادث، ومنهم من يموت بالأمراض، ومنهم من يموت من غير علة، والكثير من الذين يضحكون ويتصرفون الآن أكفانهم موجودة على الرفوف قد جُلبت ونسجت وبيعت واشتريت، وهي جاهزة لا يدرون متى يُدرجون فيها، والشيطان يشغل الإنسان بهذا التسويف وبطول الأمل ليقصر في جنب الله وليأمن مكره، وقد قال الله تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[الأعراف:99].

وكذلك فإن من هذه الوساوس أن الشيطان يسعى أيضاً مع الإنسان باحتقاره لنفسه ليقنط من رحمة الله تعالى، فيحتقر الإنسان عمله، ويحتقر علمه ويحتقر طاعته وعبادته، ويذكره الشيطان بعبادة العابدين وبإعراضه هو وإدباره في أوقات ضعفه، وحينئذٍ كثيراً ما ييأس ويقنط من روح الله، وقد قال الله تعالى: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ[يوسف:87]، وقال تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ[الحجر:56]، فالذين لا يعرفون الله سبحانه وتعالى هم الذين يقنطون من رحمته فهو غني عن عباده ولا يحتاج إلى عبادتهم، ولا يزيد في ملكه طاعة الطائعين ولا ينقص من ملكه عصيان العاصين، ولذلك روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح القدسي أنه قال: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحدٍ منهم مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

فإذاً لا بد أن يحذر المؤمن والمؤمنة من إساءة التعامل مع الله سبحانه وتعالى، وهو يعلم أن سوء التعامل معه منتشر موجود في العباد، وأن سوء الأدب معه منتشر، فلذلك لا بد من الحذر من هذه الشبهات في المعاملة مع الله.

وأما الشبهات في التعامل مع الناس فهي قسمان:

الإفراط في إعطاء الناس بعض صفات الإلهية

القسم الأول منها: إلى جهة الإفراط فيهم، فكثير من الناس يُفرطون في بعض الناس فيمنحونهم بعض صفات الإلهية، ويعطونهم ما ليس لهم من الحقوق، ويمدحونهم بما ليس فيهم، ويلتمسون منهم ما لا يقدرون عليه، وقد حذر الله من ذلك وسماه شركاً في كتابه فقال: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].

التفريط في حق الناس واحتقارهم وغمطهم

والجانب الثاني من الشبهة في التعامل مع الناس: هو التفريط فيهم باحتقارهم وازدرائهم، وذلك محرم، فالإنسان لا يدري من المقبول عند الله سبحانه وتعالى ولا من الناجي، وإذا وقف على القبور، فإنه يعلم أن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون حفرةً من حفر النار، ولا يدري هو عن ذلك، فمن لم يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة من المؤمنين فلا ندري هل هو في نعيم أو عذابٍ في قبره، نرجو له ونخاف عليه، فمن عرفنا منه الصلاح والاستقامة والطاعة ومجانبة المعصية نرجو أن يتقبل الله منه وأن يضاعف حسناته، ونخاف عليه أيضاً ألا يكون مخلصاً في العمل لله وأن يرد الله عليه عمله، فالله تعالى لا يُستعظم عليه ذلك.

فلذلك التفريط في البشر بازدرائهم واحتقارهم وعدم تقديرهم وعدم معرفة حقوقهم هو من الشبهات التي يلقيها الشيطان في التعامل مع الناس، والله تعالى حذر من السخرية بالرجال والنساء، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ[الحجرات:11]، ومعنى هذه الآية أن الذين يسخرون -أي: الرجال الذين يسخرون- من النساء أو من الرجال لا يدرون لعل المسخور منه أفضل عند الله سبحانه وتعالى من الساخر، وكذلك النساء اللواتي يسخرن من النساء أو من الرجال لا يدرين لعل المسخور منه أفضل، وأكمل عند الله سبحانه وتعالى، فلذلك نهى الله عن السخرية مطلقا، حتى لو كان الساخر في الباطن وفي علم الله أفضل؛ فإن السخرية تنقص قدره وتوقعه فيما حرم الله عليه.

ولذلك ما من أحدٍ من الناس من المؤمنين إلا وفيه خير، ومع ذلك فهو غير معصوم فيمكن أن يقع منه الغير، فلهذا يجب بقدر حبه لله سبحانه وتعالى وطاعته له، ويُكره ما وقع فيه من المحرمات والمخالفات الشرعية، لكن لا يتشدد في ذلك بحسب حاله، فإذا كان قد تاب منها فقد خرج منها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا كان مصراً عليها فلا بد من السعي لهدايته ونصيحته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، ولا يمكن أن يحقق الإنسان النصيحة إلا إذا كان حريصاً على الناس جميعاً، يحب لهم الجنة ويحب لهم رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده، ويحب لهم النجاة على الصراط، ويحب لهم التمسك بهذا الصراط الدنيوي ويحب لهم أن يكونوا ممن يحشروا تحت لواء الحمد لواء النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ويحب لهم الخير في الأمر كله، ويحب لهم حسن الخاتمة، ويحب لهم جميل العاقبة، ويحب لهم العافية: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

ومن واقع هذه المحبة يستطيع الإنسان النصح والإرشاد، ويستطيع الآخرون السماع منه والانتفاع بنصيحته، أما إذا كان الإنسان مقصراً في حقوق الآخرين وعدم نصحهم فإنه حينئذٍ لا يُقبل منه قوله، فالنصيحة إذا قُصد بها أمر آخر كالفضيحة وإظهار المعايب، أو قُصد بها غرض للإنسان نفسه فإنها غير مقبولة ولا هي من العبادة ولا هي من الدين، فالنصيحة التي هي من الدين ما كان الدافع إليها والحامل عليها الحرص على الإنسان وعلى هدايته واستقامته ونجاته من عذاب الله، وهذا الحرص هو الذي وصف الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128]، فهو حريص على هداية الناس أجمعين وحريص على نجاتهم من النار، ولذلك ثبت عنه أنه قال: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار).

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على الناس وحريصاً على دخولهم جميعاً الجنة وعلى تحقيقهم لرضوان الله سبحانه وتعالى، وكان رحيماً بهم، فرحمته بالمؤمنين عجيبة، يسعى لمساعدتهم بما يستطيع، ويمن عليهم بكل ما يملك، ويدعو لهم ويصلي عليهم، ويقول: ( إن هذه القبور مظلمة على أهلها، وإن الله ينورها عليهم بصلاتي ودعائي )، ويقول: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره منكم)، وفي رواية: (ما يكون عندي من خيرٍ فلن أدخره عنكم).

ويسعى بكل جهده لإنقاذهم من الضلالة ولتعليمهم الخير فيعظهم ويذكرهم. ( خرج إلى السوق ذات يوم فرأى جدياً أسك ميتاً، وفي أصل خلقته عيب وهو نقص في أذنيه، فقال: من يشتري هذا الجدي بدرهم؟ فقيل له: لو كان حياً لكان عيباً، فكيف به وهو ميت جيفة لا أحد يشتريه )، فبين لهم أن ما يتنافسون فيه من شأن الدنيا هو مثل هذا الجدي الميت الأسك المعيب.

ودخل إلى السوق يوماً فرأى رجلاً يبيع قمحاً وله منه صُبرة أي كومة، فأدخل يده فيها فأخرج منها شيئاً قد مسه البلل، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وسأله لماذا لا يُظهر ذلك؟ وقال: ( فمن غشنا فليس منا).

ولذلك فكل من لم ينصح الناس ولم يسعَ لهدايتهم فإنما هو غاش لهم، كأنه يراهم يردون في غير مورد، ويعلم أن المياه إلى هذه الجهة وهم يذهبون إلى هذه الجهة، فيسكت ويتركهم للضياع، وبذلك يكون مشاركاً فيما يصيبهم من العطب ومسؤولاً عنهم، وهذا سبب من أسباب الضمان كترك تخليص مستهلك من نفسٍ أو مال.

القسم الأول منها: إلى جهة الإفراط فيهم، فكثير من الناس يُفرطون في بعض الناس فيمنحونهم بعض صفات الإلهية، ويعطونهم ما ليس لهم من الحقوق، ويمدحونهم بما ليس فيهم، ويلتمسون منهم ما لا يقدرون عليه، وقد حذر الله من ذلك وسماه شركاً في كتابه فقال: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].

والجانب الثاني من الشبهة في التعامل مع الناس: هو التفريط فيهم باحتقارهم وازدرائهم، وذلك محرم، فالإنسان لا يدري من المقبول عند الله سبحانه وتعالى ولا من الناجي، وإذا وقف على القبور، فإنه يعلم أن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون حفرةً من حفر النار، ولا يدري هو عن ذلك، فمن لم يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة من المؤمنين فلا ندري هل هو في نعيم أو عذابٍ في قبره، نرجو له ونخاف عليه، فمن عرفنا منه الصلاح والاستقامة والطاعة ومجانبة المعصية نرجو أن يتقبل الله منه وأن يضاعف حسناته، ونخاف عليه أيضاً ألا يكون مخلصاً في العمل لله وأن يرد الله عليه عمله، فالله تعالى لا يُستعظم عليه ذلك.

فلذلك التفريط في البشر بازدرائهم واحتقارهم وعدم تقديرهم وعدم معرفة حقوقهم هو من الشبهات التي يلقيها الشيطان في التعامل مع الناس، والله تعالى حذر من السخرية بالرجال والنساء، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ[الحجرات:11]، ومعنى هذه الآية أن الذين يسخرون -أي: الرجال الذين يسخرون- من النساء أو من الرجال لا يدرون لعل المسخور منه أفضل عند الله سبحانه وتعالى من الساخر، وكذلك النساء اللواتي يسخرن من النساء أو من الرجال لا يدرين لعل المسخور منه أفضل، وأكمل عند الله سبحانه وتعالى، فلذلك نهى الله عن السخرية مطلقا، حتى لو كان الساخر في الباطن وفي علم الله أفضل؛ فإن السخرية تنقص قدره وتوقعه فيما حرم الله عليه.

ولذلك ما من أحدٍ من الناس من المؤمنين إلا وفيه خير، ومع ذلك فهو غير معصوم فيمكن أن يقع منه الغير، فلهذا يجب بقدر حبه لله سبحانه وتعالى وطاعته له، ويُكره ما وقع فيه من المحرمات والمخالفات الشرعية، لكن لا يتشدد في ذلك بحسب حاله، فإذا كان قد تاب منها فقد خرج منها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا كان مصراً عليها فلا بد من السعي لهدايته ونصيحته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، ولا يمكن أن يحقق الإنسان النصيحة إلا إذا كان حريصاً على الناس جميعاً، يحب لهم الجنة ويحب لهم رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده، ويحب لهم النجاة على الصراط، ويحب لهم التمسك بهذا الصراط الدنيوي ويحب لهم أن يكونوا ممن يحشروا تحت لواء الحمد لواء النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ويحب لهم الخير في الأمر كله، ويحب لهم حسن الخاتمة، ويحب لهم جميل العاقبة، ويحب لهم العافية: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

ومن واقع هذه المحبة يستطيع الإنسان النصح والإرشاد، ويستطيع الآخرون السماع منه والانتفاع بنصيحته، أما إذا كان الإنسان مقصراً في حقوق الآخرين وعدم نصحهم فإنه حينئذٍ لا يُقبل منه قوله، فالنصيحة إذا قُصد بها أمر آخر كالفضيحة وإظهار المعايب، أو قُصد بها غرض للإنسان نفسه فإنها غير مقبولة ولا هي من العبادة ولا هي من الدين، فالنصيحة التي هي من الدين ما كان الدافع إليها والحامل عليها الحرص على الإنسان وعلى هدايته واستقامته ونجاته من عذاب الله، وهذا الحرص هو الذي وصف الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128]، فهو حريص على هداية الناس أجمعين وحريص على نجاتهم من النار، ولذلك ثبت عنه أنه قال: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار).

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على الناس وحريصاً على دخولهم جميعاً الجنة وعلى تحقيقهم لرضوان الله سبحانه وتعالى، وكان رحيماً بهم، فرحمته بالمؤمنين عجيبة، يسعى لمساعدتهم بما يستطيع، ويمن عليهم بكل ما يملك، ويدعو لهم ويصلي عليهم، ويقول: ( إن هذه القبور مظلمة على أهلها، وإن الله ينورها عليهم بصلاتي ودعائي )، ويقول: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره منكم)، وفي رواية: (ما يكون عندي من خيرٍ فلن أدخره عنكم).

ويسعى بكل جهده لإنقاذهم من الضلالة ولتعليمهم الخير فيعظهم ويذكرهم. ( خرج إلى السوق ذات يوم فرأى جدياً أسك ميتاً، وفي أصل خلقته عيب وهو نقص في أذنيه، فقال: من يشتري هذا الجدي بدرهم؟ فقيل له: لو كان حياً لكان عيباً، فكيف به وهو ميت جيفة لا أحد يشتريه )، فبين لهم أن ما يتنافسون فيه من شأن الدنيا هو مثل هذا الجدي الميت الأسك المعيب.

ودخل إلى السوق يوماً فرأى رجلاً يبيع قمحاً وله منه صُبرة أي كومة، فأدخل يده فيها فأخرج منها شيئاً قد مسه البلل، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وسأله لماذا لا يُظهر ذلك؟ وقال: ( فمن غشنا فليس منا).

ولذلك فكل من لم ينصح الناس ولم يسعَ لهدايتهم فإنما هو غاش لهم، كأنه يراهم يردون في غير مورد، ويعلم أن المياه إلى هذه الجهة وهم يذهبون إلى هذه الجهة، فيسكت ويتركهم للضياع، وبذلك يكون مشاركاً فيما يصيبهم من العطب ومسؤولاً عنهم، وهذا سبب من أسباب الضمان كترك تخليص مستهلك من نفسٍ أو مال.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3895 استماع