آيات من سورة العنكبوت بتفسير الزركشي
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
آيات من سورة العنكبوت بتفسير الزركشي﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 3]
قوله تعالى: ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ التقدير: لا تعلم خبرهم نحن نعلم خبرهم، فليعلمنّ الله صدق الذين صدقوا، وليعلمن الله نفاق المنافقين[1].
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 9]
قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴾، هاهنا إضمار؛ لأن قائلاً لو قال: "من عمل صالحا جعلته في جملة الصالحين" لم يكن فائدة! وإنما المعنى: لندخلنهم في زمرة الصالحين[2].
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [العنكبوت: 12]
قوله تعالى: ﴿ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ﴾ أي ونحن حاملون، بدليل قوله: ﴿ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ والكذب إنما يرد على الخبر[3].
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 14].
قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾، إن في الإخبار عن المدة بهذه الصيغة تهويلاً على السامع؛ ليشهد عذر نوح - عليه السلام - في الدعاء على قومه.
وحكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة: تعظيم للمدة ليكون أول ما يباشر السمع ذكر "الألف"، واختصار اللفظ؛ فإن لفظ القرآن أخصر من "تسعمائة وخمسين عامًا"، ولأن لفظ القرآن يفيد حصر العدد المذكور ولا يحتمل الزيادة عليه ولا النقص[4]، وقد ذكر في مدة اللبث "السنة"، وفي الانفصال "العام"؛ للإشارة إلى أنه كان في شدائد في مدته كلها إلا خمسين عامًا قد جاءه الفرج والغوث، فإن السنة تستعمل غالبًا في موضع الجدب، ولهذا سموا شدة القحط "سنة".
قال السهيلي[5]: ويجوز أن يكون الله سبحانه قد علم أن عمره كان ألفًا، إلا أن الخمسين منها كانت أعوامًا، فيكون عمره ألف سنة ينقص منها ما بين السنين الشمسية والقمرية في الخمسين خاصة؛ لأن الخمسين عامًا بحسب الأهلة أقل من خمسين سنة شمسية بنحو عام ونصف.
وابْنِ على هذا المعنى قوله: ﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج: 4] [6] وقوله: ﴿ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [السجدة: 5] [7] فإنه كلام ورد في موضع التكثير والتتميم بمدة ذلك اليوم، والسنة أطول من العام[8].
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 16]
قال الله تعالى ذاكرًا عن إبراهيم قوله: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ﴾ ثم اعترض تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [العنكبوت: 18][9] وذكر آيات إلى أن قال:﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ﴾ [10] يعنى قوم إبراهيم فرجع إلى الأول[11].
﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 17].
قال القاضي أبو بكر[12] في "التقريب"[13]: لا يجوز تعارض أي القرآن والآثار وما توجبه أدلة العقل؛ فلذلك لم يجعل قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: 62] [14] معارضًا لقوله: ﴿ وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ﴾ [15] وقوله: ﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ ﴾ [المائدة: 110] [16] وقوله: ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14] [17] لقيام الدليل العقلي أنه لا خالق غير الله تعالى، فيتعين تأويل ما عارضه فيؤول قوله: ﴿ وَتَخْلُقُونَ ﴾ بمعنى تكذبون؛ لأن الإفك نوع من الكذب، وقوله: ﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ ﴾ [18] أي: تصور[19].
﴿ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ﴾ [العنكبوت: 21]
قوله تعالى: ﴿ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ﴾ اقتضت الحكمة في هذه الآية تقديم ذكر العذاب ترهيبًا وزجرًا؛ لأنها في سياق حكاية إنذار إبراهيم لقومه، وذلك خلافًا لقاعدة البدء بذكر الرحمة[20].
﴿ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [العنكبوت: 31]
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ ، فإنه لمّا كان المراد في مدائن لوط إهلاك القرى؛ صرّح في الموضعين بذكر القرية التي يحل بها الهلاك؛ كأنها اكتسبت الظلم معهم واستحقت الهلاك معهم، إذ للبقاع تأثير في الطباع[21].
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [العنكبوت: 42].
قال الخليل[22] في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ "ما": استفهام، أي: أي شيء تدعون من دون الله؟[23].
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
قوله تعالى: ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ أي: من كل شيء[24].
﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 46].
قوله تعالى: ﴿ آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ﴾ أي: والذي أنزل إليكم؛ لأن ﴿ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾ ليس هو الذي "أنزل إلى من قبلنا" ولذلك أعيدت "ما" بعد "ما" في قوله: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [البقرة: 136][25]، وهو نظير قوله: ﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [النساء: 136][26].
﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48].
قوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾، معناه: لو كان كذلك لارتاب المبطلون[27]، أو: ولو يكون وخططت إذن لارتاب[28].
﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51] قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾، فأخبر أنّ الكتاب آيةٌ من آياته، وأنه كافٍ في الدلالة، قائم مقام معجزات غيره وآيات سواه من الأنبياء[29].
﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].
قوله سبحانه ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾، المراد بذكر اللهو واللعب زمان الدنيا، وأنه سريع الانقضاء قليل البقاء، ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ أي: الحياة التي لا أبدَ لها ولا نهاية لأبدها؛ فبدأ بذكر اللهو؛ لأنه في زمان الشباب، وهو أكثر من زمان اللعب؛ وهو زمان الصبا[30].
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾ [العنكبوت: 67].
قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ﴾ أي: مأمونا[31].
[1] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - عَلِم العرفانية 4/ 99.
[2] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنونه البليغة - حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه 3/ 98.
[3] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنونه البليغة - وضع الطلب موضع الخبر 3/ 219.
[4] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - الاستثناء والاستدراك 3/ 34.
[5] الروض الأنف للسهيلي 3/ 176-177.
[6] سورة المعارج: 4.
[7] سورة السجدة: 5.
[8] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - مشاكلة اللفظ للمعنى 3/ 239.
[9] سورة العنكبوت: 18.
[10] سورة العنكبوت: 24.
[11] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - الاعتراض 3/ 43.
[12] هو القاضي أبو بكر محمد بن الطَّيب بن محمد بن جعفر المشهور بابن الباقلاني، البصري المالكي الأصولي، المتكلم صاحب المصنفات، روى عن أبي بكر القطيعي، وأخذ علم النظر عن أبي عبد الله بن مجاهد الطائي صاحب الأشعري وكانت له بجامع المنصور حلقة عظيمة، قال الخطيب: كان ورده في الليل عشرين ترويحة في الحضر والسفر، فإذا فرغ منها كتب خمسًا وثلاثين ورقة من تصنيفه، كان ورعًا لم تحفظ عنه زلة ولا نقيصة، وكان باطنه معمورًا بالعبادة والديانة والصيانة، قال ابن تيمية: القاضي أبو بكر محمد بن الخطيب الباقلاني المتكلم، وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده، مات عام 403هـ.
رحمه الله ورضي عنه.
شذرات الذهب لابن العماد 5/ 20.
[13] التقريب والإرشاد، للباقلاني، مؤسسة الرسالة، بيروت/ لبنان، ط/ 2 ت/ 1418هـ-1998م، ج/ 3 ص/ 260-261 "بتصرف في العبارة".
[14] سورة الزمر: 62.
[15] سورة العنكبوت: 17.
[16] سورة المائدة: 110.
[17] سورة المؤمنون: 14.
[18] سورة المائدة: 110.
[19] البرهان: معرفة موهم المختلف - القول عند تعارض أي القرآن والآثار 2/ 34.
[20] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - الرحمة والعذاب في القرآن 4/ 43.
[21] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنونه البليغة - الخروج على خلاف الأصل وأسبابه 2/ 307.
[22] المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني 2/ 619 كتاب الميم.
[23] البرهان: الكلام على المفردات من الأدوات - ما الاستفهامية 4/ 245.
[24] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنونه البليغة- حذف الجار والمجرور 3/ 100.
[25] سورة البقرة: 136.
[26] سورة النساء: 136.
البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة- حذف الموصول 3/ 104
[27] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة- حذف الحرف 3/ 138.
[28] المصدر السابق: الكلام على المفردات من الأدوات - لو 4/ 228.
[29] المصدر السابق: معرفة إعجازه 2/ 59.
[30] البرهان: علم المتشابه - المتشابه باعتبار الأفراد 1/ 96.
[31] المصدر السابق: بيان حقيقته ومجازه - إقامة صيغة مقام أخرى 3/ 177.