مشاهد القيامة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الإنسان يسير إلى مستقر له هو لاقيه لا محالة، فعليه أن يتدبر فيما أمامه، وأن يتذكر تلك المشاهد التي تنتظره؛ لأن ذلك مدعاة للإعداد لها، ولذلك فإن: ( رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في جنازة فلما وضع الميت في قبره نظر إلى أصحابه، فقال: أي إخواني! أعدوا لمثل هذه الضجعة )، فعلى الإنسان أن يستعد لهذه المشاهد التي يؤمن بها، ويعلم أنها آتية لا محالة، وأنه ليس له ملجأ ولا مفر، وليس له ملتحد عنها، فهي أمامه في طريقه لابد أن يمر عليها، فيحتاج إلى التفكر فيها والتدبر، فهو ما يلين الله به القلوب الغليظة، ونحن محتاجون إلى لين قلوبنا فما أقساها! يقرأ علينا القرآن الذي لو عرض على الجبال لتفجرت بالماء، ولا نتأثر به وقد قال الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21].

فلابد إخواني! من ساعات يدور فيها أمر الآخرة في خلد الإنسان، فيفكر في عرضه على الله سبحانه وتعالى ماشياً، حافياً، عارياً، أغرل، ليس معه إلا عمله، وأن نفكر في مشاهد القيامة وتباين نتائج الامتحان، فنحن اليوم في هذه الدار في دار الامتحان، وقد وزعت علينا صحائفنا وأقلامنا، وكل إنسان منا يبادر إلى ما ينجيه، أو يبادر إلى ما يرديه، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، والنتائج تعلن ليس فيها تزوير ولا غش، ينادي المنادي على رؤوس الأشهاد: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ[يس:59].

والفصل حينئذ لا معقب له؛ فإنه يضرب بين أهل الجنة وأهل النار بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فتلك النتائج ليس فيها تعقيب ولا طعن؛ ولذلك لابد أن نستعد لها من الآن مادامت الفرصة سانحة، والعمر مواتياً، فسيحال بين الإنسان وبين أن يقول: لا إله إلا الله! فلابد أن يبادر مادام يمكن أن يقدم شيئاً لنفسه، وأن يتدارك ذلك قبل فوات الأوان.

إن القيامة قيامتان: قيامة صغرى، وقيامة كبرى، فالقيامة الصغرى هي الموت، إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الأعراب فيسألونه: ( متى الساعة؟ فينظر إلى أصغرهم فيقول: لا تقوم الساعة حتى يموت هذا حتى تقوم قيامته )، ( فسئل عن ذلك؟ فقال: إذا مات ابن أدم فقد قامت قيامته )، وذلك أن الإنسان بمجرد الموت تنكشف عنه الغشاوة، فيرى ما لم يكن يحتسب، ويبدو له ما كان عنه غائباً، كما قال الله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47]، كثير من الناس يرى الأجداث، فيرى القبور الضيقة وقد وضعت فيها الجنائز ثم رد عليها التراب، وذرت عليها السوافي وهجرها أهلها، وانقطعت أخبار أهلها، فلا اتصال ولا أخبار، ولا سلام ولا إجابة.

فلئن صرت لا تحير جواباً لبما قد ترى وأنت خطيب

حقيقة الموت

فيرى هذا الأمر فيظنه هيناً، وأنه مجرد انتقال من حال إلى حال، أو أنه فناء وانعدام، وكل ذلك محض هراء، فإن الإنسان بمجرد الموت يدخل في مسلسل من الانشغالات لا حصر لها، فالموت ينسيه كل ما سبق، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أكثروا من هاذم اللذات الموت، فما ذكر في سعة إلا ضيقها، وما ذكر في ضيق إلا وسعه )، أكثروا من ذكر هذام اللذات الموت، هادم اللذات، أي: قاطعها، فهو يقطع على الإنسان لذاته ومشاريعه وآماله، مادام الإنسان حياً يؤمل أن يعيش ويؤمل أن يعمل كثيراً من الأعمال، حتى يأتي الموت فسينقطع به الأمل، ولذلك: ( خط رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس خطاً، ثم خط خطاً مربعاً، فجعل ذلك الخط في وسطه، ثم أخرج منه خطاً خارجاً، وأدخل فيه خطوطاً صغيرة عن يمينه وعن شماله، فوضع يده على الخط الذي داخل المربع، فقال هذا ابن آدم، ووضع إصبعه على الخط الخارج منه فقال: وهذا أمله، ووضع إصبعه على الخط المربع، فقال: وهذا أجله، ثم أشار إلى الخطوط الصغيرة فقال: وهذه أعراض، إن أخطأه هذا أصابه هذا )، فأنتم تشهدون في حياتكم هذه كثيراً من الأعراض والأمراض، يمر بالإنسان السرور والحزن، واللذة والألم، والرخاء والفقر، والفراغ والإشغال، والصحة والضعف، وانشغال البال وسعادته، كل ذلك يمر على الإنسان في اليوم الواحد.

خروج الروح واستلام الملائكة لها

وبعد ذلك تأتي التقلبات التي لا حصر لها ولا تخطر على بال الإنسان بمجرد الموت، بخروجه من هذه الدار، فالإنسان إذا تصور أنه لو أخرج من دار أهله فجرد من كل ما يعرفه من ملابسه وغطيت عيناه وأذناه، ثم رمي به في الصين مثلاً، ولا يعرف اللغة الصينية، أليست الدنيا ستظلم في وجهه، وستتغير عليه أحواله، لا يعرف شيئاً فيراه، لا يسمع كلاماً يفهمه، ولا يرى شيئاً من الملابس التي يعهدها، ولا من المطاعم التي يعهدها ولا من المشارب ولا من المنازل والمساكن، كل شيء يتغير لديه، خرج وعهده بالشمس في رابعة النهار، فجاء في ليل دامس، وألقي في نفس اللحظة في ذلك المكان الموحش، هذا لا شك مؤثر في حياة الإنسان، فكيف بالانتقال بالكلية من هذه الدار إلى دار أخرى تغايرها بالكلية! هذه الدار فيها الكذب، وفيها المعاذير، وفيها الضحك، وفيها البكاء، وفيها الأعذار، والدار الآخرة ليس فيها شيء من ذلك؛ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ[النجم:59-61]، تتغير الأحوال على الإنسان بالكلية، وتزول الغشاوة عن عينيه وهو يشاهد ما لم يكن يخطر له على بال، كما قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22]، ينكشف الغطاء عن الإنسان فبصره في ذلك اليوم حديد، يرى من الأمور ما لا يمكن أن يدرك بالبصر في الحياة الدنيا؛ وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47].

وهذه القيامة الصغرى مشاهدها تبدأ من إدبار الدنيا وإقبال الآخرة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن العبد إذا كان في منقطع من الدنيا وإقبال من الآخرة أتاه ملك الموت فإن كان محسناً جلس عند رأسه فقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30]، فتتهوع نفسه كما تتهوع القطرة من في السقاء، فتكون في يد ملك الموت، فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى ملائكة كأن وجوههم الشموس قد جلسوا مد البصر، وهم باسطوا أيديهم، فيضعونها في كفن من أكفان الجنة ويعطرونها بها إلى السماء، فيستأذنون فتفتح لهم أبواب السماء، ويقال: مرحباً بالنفس الطيبة! حتى تخر ساجدةً تحت العرش، ثم يؤذن لها في الرجوع إلى سؤال الملكين، وإن كانت النفس خبيثة جلس عند رأسه فقال: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة، فتتفرق في البدن فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى أولئك الملائكة وهم: بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ[الأنعام:93-94]، فيضعونها في سفط من أسفاط النار، ويضعون عليها من قطران النار، ويرتفعون بها فيستأذنون عند باب السماء فلا تفتح لهم أبواب السماء؛ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41] ).

ثم بعد هذا عندما تقبض روحه، وتسير في هذه الرحلة إما أن تقبل فتفتح لها أبواب السماء، وإما أن ترد فلا تفتح لها أبواب السماء، ترجع وقد بدأ الدفن فيصل إلى القبر وهو أول منازل الآخرة وهو أعظم من كل ما قبله وأعظم منه كل ما بعده، فكل درجة من درجات السلم هي أعظم من سابقتها تنسي الإنسان كل ما مر عليه من قبل، ولذلك فإن الإنسان عند موته يبشر بمقعده من الجنة، أو بمقعده من النار، فملك الموت يقول: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:28-29]، وإن كانت خبيثة قال لها: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة، لكن الإنسان ينسى هذا بمجرد وضعه في القبر، ثم بعد ذلك كل مشهد من مشاهد القيامة الصغرى ينسي الإنسان ما مر به من قبل، يعرض عليه مقعده من الجنة ومعقده من النار، فينسى ذلك، وفي المحشر لا يتذكر الإنسان مصيره، فلا يدري إما إلى جنة وإما إلى نار؛ لأن كل المشاهد وإن كان قد عرفها من قبل مصيره ورآها بعيني رأسه، كل مشهد ينسيه كل ذلك، ولذلك فكل ما مر على الإنسان من النعيم، وكل ما مر عليه من الأذى والإهانة في هذه الدار ينساه بتلك الضجعة في قبره قبل أن يوارى في التراب، فإذا وضع هنالك وعاد إلى التراب التي منها خلق كما قال الله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[طه:55].

فيرى هذا الأمر فيظنه هيناً، وأنه مجرد انتقال من حال إلى حال، أو أنه فناء وانعدام، وكل ذلك محض هراء، فإن الإنسان بمجرد الموت يدخل في مسلسل من الانشغالات لا حصر لها، فالموت ينسيه كل ما سبق، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أكثروا من هاذم اللذات الموت، فما ذكر في سعة إلا ضيقها، وما ذكر في ضيق إلا وسعه )، أكثروا من ذكر هذام اللذات الموت، هادم اللذات، أي: قاطعها، فهو يقطع على الإنسان لذاته ومشاريعه وآماله، مادام الإنسان حياً يؤمل أن يعيش ويؤمل أن يعمل كثيراً من الأعمال، حتى يأتي الموت فسينقطع به الأمل، ولذلك: ( خط رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس خطاً، ثم خط خطاً مربعاً، فجعل ذلك الخط في وسطه، ثم أخرج منه خطاً خارجاً، وأدخل فيه خطوطاً صغيرة عن يمينه وعن شماله، فوضع يده على الخط الذي داخل المربع، فقال هذا ابن آدم، ووضع إصبعه على الخط الخارج منه فقال: وهذا أمله، ووضع إصبعه على الخط المربع، فقال: وهذا أجله، ثم أشار إلى الخطوط الصغيرة فقال: وهذه أعراض، إن أخطأه هذا أصابه هذا )، فأنتم تشهدون في حياتكم هذه كثيراً من الأعراض والأمراض، يمر بالإنسان السرور والحزن، واللذة والألم، والرخاء والفقر، والفراغ والإشغال، والصحة والضعف، وانشغال البال وسعادته، كل ذلك يمر على الإنسان في اليوم الواحد.

وبعد ذلك تأتي التقلبات التي لا حصر لها ولا تخطر على بال الإنسان بمجرد الموت، بخروجه من هذه الدار، فالإنسان إذا تصور أنه لو أخرج من دار أهله فجرد من كل ما يعرفه من ملابسه وغطيت عيناه وأذناه، ثم رمي به في الصين مثلاً، ولا يعرف اللغة الصينية، أليست الدنيا ستظلم في وجهه، وستتغير عليه أحواله، لا يعرف شيئاً فيراه، لا يسمع كلاماً يفهمه، ولا يرى شيئاً من الملابس التي يعهدها، ولا من المطاعم التي يعهدها ولا من المشارب ولا من المنازل والمساكن، كل شيء يتغير لديه، خرج وعهده بالشمس في رابعة النهار، فجاء في ليل دامس، وألقي في نفس اللحظة في ذلك المكان الموحش، هذا لا شك مؤثر في حياة الإنسان، فكيف بالانتقال بالكلية من هذه الدار إلى دار أخرى تغايرها بالكلية! هذه الدار فيها الكذب، وفيها المعاذير، وفيها الضحك، وفيها البكاء، وفيها الأعذار، والدار الآخرة ليس فيها شيء من ذلك؛ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ[النجم:59-61]، تتغير الأحوال على الإنسان بالكلية، وتزول الغشاوة عن عينيه وهو يشاهد ما لم يكن يخطر له على بال، كما قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22]، ينكشف الغطاء عن الإنسان فبصره في ذلك اليوم حديد، يرى من الأمور ما لا يمكن أن يدرك بالبصر في الحياة الدنيا؛ وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47].

وهذه القيامة الصغرى مشاهدها تبدأ من إدبار الدنيا وإقبال الآخرة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن العبد إذا كان في منقطع من الدنيا وإقبال من الآخرة أتاه ملك الموت فإن كان محسناً جلس عند رأسه فقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30]، فتتهوع نفسه كما تتهوع القطرة من في السقاء، فتكون في يد ملك الموت، فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى ملائكة كأن وجوههم الشموس قد جلسوا مد البصر، وهم باسطوا أيديهم، فيضعونها في كفن من أكفان الجنة ويعطرونها بها إلى السماء، فيستأذنون فتفتح لهم أبواب السماء، ويقال: مرحباً بالنفس الطيبة! حتى تخر ساجدةً تحت العرش، ثم يؤذن لها في الرجوع إلى سؤال الملكين، وإن كانت النفس خبيثة جلس عند رأسه فقال: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة، فتتفرق في البدن فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى أولئك الملائكة وهم: بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ[الأنعام:93-94]، فيضعونها في سفط من أسفاط النار، ويضعون عليها من قطران النار، ويرتفعون بها فيستأذنون عند باب السماء فلا تفتح لهم أبواب السماء؛ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41] ).

ثم بعد هذا عندما تقبض روحه، وتسير في هذه الرحلة إما أن تقبل فتفتح لها أبواب السماء، وإما أن ترد فلا تفتح لها أبواب السماء، ترجع وقد بدأ الدفن فيصل إلى القبر وهو أول منازل الآخرة وهو أعظم من كل ما قبله وأعظم منه كل ما بعده، فكل درجة من درجات السلم هي أعظم من سابقتها تنسي الإنسان كل ما مر عليه من قبل، ولذلك فإن الإنسان عند موته يبشر بمقعده من الجنة، أو بمقعده من النار، فملك الموت يقول: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:28-29]، وإن كانت خبيثة قال لها: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة، لكن الإنسان ينسى هذا بمجرد وضعه في القبر، ثم بعد ذلك كل مشهد من مشاهد القيامة الصغرى ينسي الإنسان ما مر به من قبل، يعرض عليه مقعده من الجنة ومعقده من النار، فينسى ذلك، وفي المحشر لا يتذكر الإنسان مصيره، فلا يدري إما إلى جنة وإما إلى نار؛ لأن كل المشاهد وإن كان قد عرفها من قبل مصيره ورآها بعيني رأسه، كل مشهد ينسيه كل ذلك، ولذلك فكل ما مر على الإنسان من النعيم، وكل ما مر عليه من الأذى والإهانة في هذه الدار ينساه بتلك الضجعة في قبره قبل أن يوارى في التراب، فإذا وضع هنالك وعاد إلى التراب التي منها خلق كما قال الله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[طه:55].

ضمة القبر

فأول ما يشهده في القبر ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، ضمة شديدة، تهيئ الإنسان لاستقبال الملكين وكلامهما في تلك الصورة المروعة المرعبة، وهما: منكر و نكير ، صوتهما كالرعد القاصف، وبصرهما كالبرق الخاطف، وهما يكلمانه بذلك الكلام المفظع الذي لم تسمعه أذنه من قبل، وتفهمه كل شعرة منه وكل عظمة، الآن للإنسان فقط جهاز خفيف في طبلة أذنه تستقبله، وإذا فات الأذن لم يسمعه شيء من البدن، وكلام الملكين تسمعه كل شعرة من الإنسان، وكل عظمة، وكل موضع منه، فيستوعب الكلام الموجه إليه تماماً، فهذا الكلام يسألانه به بعد أن تقع أكفانه في حقويه، يناديانه، فيقولان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟

امتحانات الملكين في القبر

ثلاثة امتحانات: الامتحان الأول: ما ربك؟ وهذا الامتحان إنما يذكر فيه الإنسان ما عظم في نفسه، فإن كان يعظم غير الله في هذه الحياة فسيجيب بما كان يعظم من دون الله، وإن كانت عظمة الله تعالى قاضية على كل تعظيم لديه، فإن الله سيثبته بالقول الثابت، كما قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27]، فإن كان مؤمناً، موقناً، فإنه يجيب فيقول: ربي الله؛ فهو يعرف ربه سبحانه وتعالى فيجيب به، ثم يجيب عن السؤال الثاني إذا قيل له: وما دينك؟ فإن كان له انتماء في هذه الحياة الدنيا يؤثره على الدين، ويقدمه عليه ذكر انتماءه، سواءً كان نسبياً أو أيديولوجياً أو حزبياً أو غير ذلك، يذكر انتماءه؛ لأنه حقق انتماءه في هذه الحياة لذلك الذي ينتمي إليه، لقومية أو لوطنية أو لأيدلوجية أو لحزب أو لقبيلة أو لغير ذلك، فسيذكر انتماءه، فهو دينه الذي ينتمي إليه، وإن كان حقق الانتماء لدين الله فسيثبته الله بالقول الثابت، فيقول: ديني الإسلام، ثم يسأل السؤال الثالث: وما كنت تقول في هذا الرجل؟ بصيغة الإبهام التي تقتضي منه أن يتذكر أعظم رجل في حياته، فإن كان يتعلق برجل آخر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيحضر في باله ذلك الرجل الذي يتعلق به فهو أول رجل يذكره، فيسمي ذلك الرجل الذي يتعلق به، وإن كان مؤمناً موقناً، فإنه يقول: والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد.. هو محمد.. هو محمد.. ثلاثاً جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا.

ولاحظوا أن الأسئلة ثلاثة وهي منوعة، فالسؤالان الأول والثاني مقتضبان، كلاهما مختصر فيكفي في جوابه كلمة واحد، ما ربك؟ فالجواب: ربي الله، وما دينك؟ الجواب: ديني الإسلام، لكن السؤال الثالث مفصل؛ فلا يكفي فيه الكلمة المقتضبة، السؤال الثالث: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فليس السؤال: من هذا الرجل حتى يقول محمد فقط صلى الله عليه وسلم، بل لابد من السؤال ما كنت تقول فيه؟ أي: في الحياة، ما كنت تعتقد فيما جاء به؟ هل كنت مقتنعاً بأن ما جاء به هو الحق من عند الله؟ هل كنت مطيعاً له متبعاً لما جاء به؟ هل كنت تؤثر أمره على أمر من سواه؟ هل كنت تنصح له وتقدم سنته على غيرها؟ هل سعيت يوماً من الأيام لإعزازه وإظهاره والتمكين له؟ هل نصرته يوماً من الأيام؟ طيلة أيام حياتك عشت على الأرض ستين سنة أو سبعين سنة أو خمسين سنة أو عشرين سنة، كل سنة فيها ثلاثمئة وخمسة وستون يوماً، كل يوم فيه أربع وعشرين ساعة، هل نصرت النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة من هذه الساعات، في يوم من هذه الأيام، في شهر من هذه الشهور، في سنة من هذه السنوات؟ فلذلك لابد أن يسأل بالتفصيل: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فالمؤمن يقول: هو محمد.. هو محمد.. هو محمد.. ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، فآمنا، وإلى الآن آمنا كل إنسان مؤمن يمكن أن يدعي هذا، لكن المشكلة ما بعدها: (واتبعنا) فالإيمان مرتبط بالعمل، وأية قناعة لا يصحبها عمل فهي زائلة لا يمكن أن تبقى مع صاحبها، بل لابد أن تذهب وتزول؛ فلذلك لابد أن يكون الاتباع لما علمه الإنسان وما سمعه هو محط الأمر ونهايته، فالإنسان الآن قد يسمع الموعظة فيتعظ بها، وقد يسمع مشهداً من مشاهد القيامة وهو يؤمن به ويصدق فيعلم أنه الحق؛ فينتفض في داخله، لكن مالم يصحب ذلك عمل، فإن رجع إلى بيته فعمل أي عمل تذكر إلى أي الكفتين سيذهب هذا العمل، إن أراد أن يقول قولاً وزنه في أي الكفتين هو، إن أراد أن يتصرف أي تصرف عرف هل هذا التصرف محمود العاقبة أو مذمومها، ما نتيجته الحتمية عند النهاية، فهذا الذي ينتفع بالموعظة والذكرى، وأما من سواه فقد ينتفع الآن، أو يتأثر الآن، ولكن يذهب ذلك هباء منثوراً، لا يبقى معه منه أثر، فهذا لا ينتفع بالذكرى، والذكرى إنما ينتفع بها المؤمنون.

نتائج امتحانات الملكين

ثم بعد هذا الامتحان إن نجح قال له الملكان: صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً، ويقولان له: نم نومة عروس، وهو الذي لا يوقظه إلا أحب الناس إليه، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، والمنافق يقول: هاه.. هاه! لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، موقف مخز والله، ويقتضي غاية الندم، نسأل الله السلامة والعافية! يقول: هاه.. هاه! لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فهو كان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله، ويقرأ القرآن ويذكر الله، لكنه كان يفعل ذلك كله تقليداً، رأى الناس يفعلون ففعل، وسمعهم يقولون فقال؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فهذا النوع من التقليد مشكلة عظمى، يتردى بها صاحبها إلى هذا المستوى، فيقولان له: لا دريت ولا تليت! ويضربانه بين فوديه بمرزبة معهما، لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها، وفي رواية في حديث أسماء في الصحيحين: ( ويضربانه بمطارق بين فوديه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن )، يصيح صيحة عظيمة يسمعها من يليه، أي: الخلائق الأخرى من العالم الآخر، فالإنس والجن بينهم وبين الميتين برزخ إلى يوم القيامة، كما قال الله تعالى: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:100]، فهذا البرزخ يحول بين الإنسان وبين الوصول إلى الأموات والسماع منهم وأسماعهم، لكن غير الإنس والجن من الخلائق يسمعون هذه الصيحة المؤثرة العظيمة، (يسمعها من يليه إلا الإنس والجن) ثم بعد ذلك يملآن عليه قبره من الحيات والتنانين والعقارب.

عرض العمل

فإذا انصرف عنه الملكان جاء مشهد آخر من مشاهد القيامة الصغرى، وهو عرض العمل، فإن كان محسناً أتاه عمله في أحسن صورة، وأحسن رائحة، فقال له: أبشر بخير، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح وأنا أنيسك في غربتك، وإن كان مسيئاً جاءه عمله السيء في أقبح صورة، وأنتن رائحة، فيقول له: أبشر بسوء، فيقول: وجهك الذي يبشر بسوء؛ فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك السيء وأنا صاحبك في غربتك، ويعرض عليه مقعداه: مقعده من الجنة، ومقعده من النار، فإن كان محسناً قيل له: هذا مقعدك من النار، قد أبدلك الله خيراً منه، ويعرض عليه بعده مقعده من الجنة، وإن كان مسيئاً قيل له: هذا مقعدك من الجنة، لكنك أبيت عنه فأبدلك الله شراً منه، ويعرض عليه مقعده من النار.

ما بعد عرض العمل

بعد هذا فإن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة فيه من روحها وريحانها ونعيمها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يوسعه الله على أهله مد البصر، ويدخل عليه السرور فيه بكل أنواعه، ويسعد فيه سعادة لا شقاء بعدها، ويكون صاحبه في راحة عجيبة، قد استراح من هموم الدنيا ومشاقها، فلا هو يخاف الموت، ولا يخاف المرض، والألم ، وقد ارتاح من الأعمال أيضاً، فالتكاليف رفعت عنه وعطلت الأقلام، وهو يرى صحائفه وقد طويت وختم عليها، فأيامه ولياليه في نعيم وراحة، هو ينتظر البعث على ذلك، وإن كان القبر حفرة من حفر النار نسأل الله السلامة والعافية! فسيصل إليه من فيح جهنم وحرها ونتنها وبردها ما لا يمكن أن يخطر على قلب أحد، ثم بعد ذلك يضيق عليه ضيقاً شديداً لا يمثله إلا ضيق الصدر عند بالموت عند الحشرجة، فإن النفس عندما تحشر في الصدر؛ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي [القيامة:26]، وانتزعها الملائكة في ذلك الوقت؛ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً [النازعات:1-2]، يضيق بها مخرجها من الحلقوم ضيقاً شديداً.

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فذلك الضيق مثله عمرو بن العاص رضي الله عنه عند موته، عندما سأله ولده عبد الله فقال: يا أبتي! إنك كنت تتمنى أن ترى رجلاً عاقلاً عند الموت حتى يصف لك الموت، وها أنت الرجل العاقل؛ فصف لنا الموت! فقال: (أحس بشوك يسحب في عظامي حتى يدخل في كل مفصل من مفاصلي) كأنه تجرجر الأشواك في داخل عظامه، فيحس بذلك الألم الذي لا يمثله شيء، (وأحس أن السماء قد أطبقت على الأرض على صدري فجعلت بينهما) كأن السماء وضعت على الأرض من الضيق، فهذا فقط في سكرات الموت، ( إن للموت لسكرات )، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات ).

فيبقى المعذب في قبره -نسأل الله السلامة والعافية- في ذلك العذاب الذي لا ينتظر إلا شراً منه، فهو على عذابه يعلم أن العذاب الذي هو فيه هو من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، فهو يخاف أن يحشر؛ لأن الحشر فيه العذاب الأكبر، نسأل الله السلامة والعافية! وقد قال الله تعالى في عذاب القبر: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ[السجدة:21].

فأول ما يشهده في القبر ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، ضمة شديدة، تهيئ الإنسان لاستقبال الملكين وكلامهما في تلك الصورة المروعة المرعبة، وهما: منكر و نكير ، صوتهما كالرعد القاصف، وبصرهما كالبرق الخاطف، وهما يكلمانه بذلك الكلام المفظع الذي لم تسمعه أذنه من قبل، وتفهمه كل شعرة منه وكل عظمة، الآن للإنسان فقط جهاز خفيف في طبلة أذنه تستقبله، وإذا فات الأذن لم يسمعه شيء من البدن، وكلام الملكين تسمعه كل شعرة من الإنسان، وكل عظمة، وكل موضع منه، فيستوعب الكلام الموجه إليه تماماً، فهذا الكلام يسألانه به بعد أن تقع أكفانه في حقويه، يناديانه، فيقولان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟

ثلاثة امتحانات: الامتحان الأول: ما ربك؟ وهذا الامتحان إنما يذكر فيه الإنسان ما عظم في نفسه، فإن كان يعظم غير الله في هذه الحياة فسيجيب بما كان يعظم من دون الله، وإن كانت عظمة الله تعالى قاضية على كل تعظيم لديه، فإن الله سيثبته بالقول الثابت، كما قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27]، فإن كان مؤمناً، موقناً، فإنه يجيب فيقول: ربي الله؛ فهو يعرف ربه سبحانه وتعالى فيجيب به، ثم يجيب عن السؤال الثاني إذا قيل له: وما دينك؟ فإن كان له انتماء في هذه الحياة الدنيا يؤثره على الدين، ويقدمه عليه ذكر انتماءه، سواءً كان نسبياً أو أيديولوجياً أو حزبياً أو غير ذلك، يذكر انتماءه؛ لأنه حقق انتماءه في هذه الحياة لذلك الذي ينتمي إليه، لقومية أو لوطنية أو لأيدلوجية أو لحزب أو لقبيلة أو لغير ذلك، فسيذكر انتماءه، فهو دينه الذي ينتمي إليه، وإن كان حقق الانتماء لدين الله فسيثبته الله بالقول الثابت، فيقول: ديني الإسلام، ثم يسأل السؤال الثالث: وما كنت تقول في هذا الرجل؟ بصيغة الإبهام التي تقتضي منه أن يتذكر أعظم رجل في حياته، فإن كان يتعلق برجل آخر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيحضر في باله ذلك الرجل الذي يتعلق به فهو أول رجل يذكره، فيسمي ذلك الرجل الذي يتعلق به، وإن كان مؤمناً موقناً، فإنه يقول: والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد.. هو محمد.. هو محمد.. ثلاثاً جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا.

ولاحظوا أن الأسئلة ثلاثة وهي منوعة، فالسؤالان الأول والثاني مقتضبان، كلاهما مختصر فيكفي في جوابه كلمة واحد، ما ربك؟ فالجواب: ربي الله، وما دينك؟ الجواب: ديني الإسلام، لكن السؤال الثالث مفصل؛ فلا يكفي فيه الكلمة المقتضبة، السؤال الثالث: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فليس السؤال: من هذا الرجل حتى يقول محمد فقط صلى الله عليه وسلم، بل لابد من السؤال ما كنت تقول فيه؟ أي: في الحياة، ما كنت تعتقد فيما جاء به؟ هل كنت مقتنعاً بأن ما جاء به هو الحق من عند الله؟ هل كنت مطيعاً له متبعاً لما جاء به؟ هل كنت تؤثر أمره على أمر من سواه؟ هل كنت تنصح له وتقدم سنته على غيرها؟ هل سعيت يوماً من الأيام لإعزازه وإظهاره والتمكين له؟ هل نصرته يوماً من الأيام؟ طيلة أيام حياتك عشت على الأرض ستين سنة أو سبعين سنة أو خمسين سنة أو عشرين سنة، كل سنة فيها ثلاثمئة وخمسة وستون يوماً، كل يوم فيه أربع وعشرين ساعة، هل نصرت النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة من هذه الساعات، في يوم من هذه الأيام، في شهر من هذه الشهور، في سنة من هذه السنوات؟ فلذلك لابد أن يسأل بالتفصيل: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فالمؤمن يقول: هو محمد.. هو محمد.. هو محمد.. ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، فآمنا، وإلى الآن آمنا كل إنسان مؤمن يمكن أن يدعي هذا، لكن المشكلة ما بعدها: (واتبعنا) فالإيمان مرتبط بالعمل، وأية قناعة لا يصحبها عمل فهي زائلة لا يمكن أن تبقى مع صاحبها، بل لابد أن تذهب وتزول؛ فلذلك لابد أن يكون الاتباع لما علمه الإنسان وما سمعه هو محط الأمر ونهايته، فالإنسان الآن قد يسمع الموعظة فيتعظ بها، وقد يسمع مشهداً من مشاهد القيامة وهو يؤمن به ويصدق فيعلم أنه الحق؛ فينتفض في داخله، لكن مالم يصحب ذلك عمل، فإن رجع إلى بيته فعمل أي عمل تذكر إلى أي الكفتين سيذهب هذا العمل، إن أراد أن يقول قولاً وزنه في أي الكفتين هو، إن أراد أن يتصرف أي تصرف عرف هل هذا التصرف محمود العاقبة أو مذمومها، ما نتيجته الحتمية عند النهاية، فهذا الذي ينتفع بالموعظة والذكرى، وأما من سواه فقد ينتفع الآن، أو يتأثر الآن، ولكن يذهب ذلك هباء منثوراً، لا يبقى معه منه أثر، فهذا لا ينتفع بالذكرى، والذكرى إنما ينتفع بها المؤمنون.

ثم بعد هذا الامتحان إن نجح قال له الملكان: صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً، ويقولان له: نم نومة عروس، وهو الذي لا يوقظه إلا أحب الناس إليه، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، والمنافق يقول: هاه.. هاه! لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، موقف مخز والله، ويقتضي غاية الندم، نسأل الله السلامة والعافية! يقول: هاه.. هاه! لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فهو كان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله، ويقرأ القرآن ويذكر الله، لكنه كان يفعل ذلك كله تقليداً، رأى الناس يفعلون ففعل، وسمعهم يقولون فقال؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فهذا النوع من التقليد مشكلة عظمى، يتردى بها صاحبها إلى هذا المستوى، فيقولان له: لا دريت ولا تليت! ويضربانه بين فوديه بمرزبة معهما، لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها، وفي رواية في حديث أسماء في الصحيحين: ( ويضربانه بمطارق بين فوديه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن )، يصيح صيحة عظيمة يسمعها من يليه، أي: الخلائق الأخرى من العالم الآخر، فالإنس والجن بينهم وبين الميتين برزخ إلى يوم القيامة، كما قال الله تعالى: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:100]، فهذا البرزخ يحول بين الإنسان وبين الوصول إلى الأموات والسماع منهم وأسماعهم، لكن غير الإنس والجن من الخلائق يسمعون هذه الصيحة المؤثرة العظيمة، (يسمعها من يليه إلا الإنس والجن) ثم بعد ذلك يملآن عليه قبره من الحيات والتنانين والعقارب.

فإذا انصرف عنه الملكان جاء مشهد آخر من مشاهد القيامة الصغرى، وهو عرض العمل، فإن كان محسناً أتاه عمله في أحسن صورة، وأحسن رائحة، فقال له: أبشر بخير، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح وأنا أنيسك في غربتك، وإن كان مسيئاً جاءه عمله السيء في أقبح صورة، وأنتن رائحة، فيقول له: أبشر بسوء، فيقول: وجهك الذي يبشر بسوء؛ فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك السيء وأنا صاحبك في غربتك، ويعرض عليه مقعداه: مقعده من الجنة، ومقعده من النار، فإن كان محسناً قيل له: هذا مقعدك من النار، قد أبدلك الله خيراً منه، ويعرض عليه بعده مقعده من الجنة، وإن كان مسيئاً قيل له: هذا مقعدك من الجنة، لكنك أبيت عنه فأبدلك الله شراً منه، ويعرض عليه مقعده من النار.

بعد هذا فإن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة فيه من روحها وريحانها ونعيمها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يوسعه الله على أهله مد البصر، ويدخل عليه السرور فيه بكل أنواعه، ويسعد فيه سعادة لا شقاء بعدها، ويكون صاحبه في راحة عجيبة، قد استراح من هموم الدنيا ومشاقها، فلا هو يخاف الموت، ولا يخاف المرض، والألم ، وقد ارتاح من الأعمال أيضاً، فالتكاليف رفعت عنه وعطلت الأقلام، وهو يرى صحائفه وقد طويت وختم عليها، فأيامه ولياليه في نعيم وراحة، هو ينتظر البعث على ذلك، وإن كان القبر حفرة من حفر النار نسأل الله السلامة والعافية! فسيصل إليه من فيح جهنم وحرها ونتنها وبردها ما لا يمكن أن يخطر على قلب أحد، ثم بعد ذلك يضيق عليه ضيقاً شديداً لا يمثله إلا ضيق الصدر عند بالموت عند الحشرجة، فإن النفس عندما تحشر في الصدر؛ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي [القيامة:26]، وانتزعها الملائكة في ذلك الوقت؛ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً [النازعات:1-2]، يضيق بها مخرجها من الحلقوم ضيقاً شديداً.

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فذلك الضيق مثله عمرو بن العاص رضي الله عنه عند موته، عندما سأله ولده عبد الله فقال: يا أبتي! إنك كنت تتمنى أن ترى رجلاً عاقلاً عند الموت حتى يصف لك الموت، وها أنت الرجل العاقل؛ فصف لنا الموت! فقال: (أحس بشوك يسحب في عظامي حتى يدخل في كل مفصل من مفاصلي) كأنه تجرجر الأشواك في داخل عظامه، فيحس بذلك الألم الذي لا يمثله شيء، (وأحس أن السماء قد أطبقت على الأرض على صدري فجعلت بينهما) كأن السماء وضعت على الأرض من الضيق، فهذا فقط في سكرات الموت، ( إن للموت لسكرات )، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات ).

فيبقى المعذب في قبره -نسأل الله السلامة والعافية- في ذلك العذاب الذي لا ينتظر إلا شراً منه، فهو على عذابه يعلم أن العذاب الذي هو فيه هو من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، فهو يخاف أن يحشر؛ لأن الحشر فيه العذاب الأكبر، نسأل الله السلامة والعافية! وقد قال الله تعالى في عذاب القبر: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ[السجدة:21].




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع