عوامل التفرقة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى أخبر في سورة الشورى: أن جميع أنبياء الله الذين أرسلهم لهداية الناس جاءوا بأصلين عظيمين:

الأول منهما: إقامة الدين لله.

والثاني: اتفاق واتحاد الكلمة.

فقد قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى:13].

وقد أخبر الله سبحانه وتعالى ببراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].

وجعل التفرقة ضرباً من ضروب العذاب، فقال: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65]، وجعلها منافيةً للرحمة، فقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119]، وجعلها سبباً من أسباب الفشل والهزيمة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45-46].

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التفرقة وسماها الحالقة فقال: ( لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين )؛ ولذلك فهذه الأمة أمة واحدة كما وصفها الله بذلك: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92]، رسولها واحد، ودينها واحد، وكتابها واحد، وقبلتها واحدة؛ فلذلك لا يمكن أن تنال عزاً ولا قوةً إلا بتوحدها واتفاقها على منهج الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.

هذا الزمان الذي نحن فيه زمان التكتلات، فالأمريكان لما أرادوا غزو العراق لم يشاءوا أن يفعلوا ذلك حتى جمعوا تحالفاً دولياً يساعدهم في مهمتهم، مع أن لديهم من القوات ما هو كفيل بهذه المهمة، وأوروبا أصبحت الآن دولةً واحدة، والعالم كله يتجه في هذا الاتجاه، فلماذا تزداد الفرقة والشقاق بين المسلمين؟ إنه سؤال محير، فلا هو موافق للشرع، ولا هو موافق للمصلحة والفطرة، بل الشرع يحثنا على التوحد والاتفاق، والمصلحة تقتضي ذلك، ولا يمكن أن تقع للمسلمين، ولا أن تتحقق لهم أية مصلحة إلا بهذا الاتفاق.

لذلك لا بد أن نبحث عن عوامل التفرقة من أين جاءت؟ وما هي؟

إبليس ودوره في التفرقة بين المسلمين

لا شك أن أخطر هذه العوامل: هو إبليس الذي لا يرضى بمصلحة للجنس البشري كله؛ لأنه يسعى لإغواء الناس، وقد علم أن التفرقة هي من أولى ما يشتغل به؛ لأنها تؤدي إلى قطيعة الأرحام، وتؤدي إلى الاعتداء والظلم، وتؤدي إلى الاقتراف لمحرمات الله جل جلاله؛ فلذلك ركز إبليس هجومه على هذه الأمة بالتحريش فيما بينهم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك سيقع، فقال: ( إن إبليس أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم )، فهو إذاً مركز على هذا التحريش، ولا بد أن نسد عليه هذا الباب؛ لأننا نعلم جميعاً أنه عدو لنا، فقد أخبرنا الله بذلك فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، ونهانا الله عن اتباع خطواته ومراده فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21].

شبهة التعصب للأقوال ودعوى احتكار الحق

وكذلك من هذه الأسباب التي تنتشر في كثير من الأحيان ثم تزول ما يقع من الشبهات التي هي في الأصل من إلقاء إبليس ، ولكنها يتشبث بها بعض الناس، فتكون سبباً للتفرقة بين القلوب، فمن هذه الشبهات ما يتعلق باحتكار الحق ودعوى أنه محصور في رأي شخص بعينه، فنحن جميعاً نعلم أن هذه الأمة ليس فيها معصوم بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل من دونه يؤخذ من قوله ويرد، وأنه هو وحده الذي لا يمكن أن يرد عليه قول، أما من دونه أبو بكر الصديق ، عمر بن الخطاب ، عثمان بن عفان ، علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم ومن دونهم من الصحابة جميعاً ما فيهم أحد يلزم الإنسان أن يقلده في كل ما قال وفي كل ما ذهب إليه، بل يمكن أن يأخذ الإنسان ببعض أقوالهم ويخالفهم في بعض أقوالهم؛ ولذلك فإن الصحابة رضوان الله عليهم خالفوا الخلفاء الراشدين في بعض الأمور، وكان رأي الجمهور على خلاف رأيهم، وعندما رأى علي رضي الله عنه رأياً مخالفاً لما كان عليه رأيه في عهد عمر قال له عبيدة السلماني رحمه الله: يا أمير المؤمنين! رأيك في الاتفاق أحب إلينا من رأيك في الفرقة. فضحك علي بذلك، ولم يكن أحد منهم يأنف أن يرد عليه في قوله؛ لأنهم جميعاً يطلبون الحق، ويبحثون عنه، ويعلمون أنه غير معصوم.

وكذلك أئمة التابعين من بعدهم فإنهم جميعاً كانوا يرد بعضهم على بعض، ويبحثون عن الصواب والحق، ويتبعونه إذا لاح لهم الدليل عليه، ولا يجدون غضاضةً في الرجوع إلى الحق إذا ظهر، وقد أرشد إلى ذلك عمر رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري في القضاء، فقد قال فيه: ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

نماذج للعلماء في نبذ التعصب وادعاء الحق

فقد كان عدد من التابعين يرون آراءً، فلما بدا لهم مخالفتها للدليل، أو ترجح لديهم الطرف الآخر رجعوا عن أقوالهم، وهكذا أئمة الاجتهاد بعدهم من أتباع التابعين، فـأبو حنيفة رحمه الله كان يقول: إذا أتانا قول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركنا له أقوالنا، وإذا جاءنا قول عن أصحابه تركنا له أقوالنا، فإذا جاءنا عن زر بن حبيش و عبيدة و الشعبي فهم رجال ونحن رجال. يقصد التابعين.

وكذلك مالك بن أنس رحمه الله كان يقول: ما منا أحد إلا وهو راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك رجع مالك رحمه الله في مسائله التي أفتى فيها في المدونة والعتبية فقط عن مائة وتسعين مسألة أفتى فيها بقول، ونقل عنه، ثم رجع عنه، وبعضها يسمى الممحوات, أي: التي أمر مالك بمحوها لرجوعه عن اجتهاده الأول فيها. وكذلك الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله كان له مذهب بالعراق، ثم لما انتقل إلى مصر كان له المذهب الجديد بمصر، فرجع عن مذهبه الأول، وألف كتباً تغاير رأيه في كتبه الأولى، ولذلك لدى الشافعية المذهب القديم والمذهب الجديد.

وقال الشافعي : حيث صح الحديث فذلك مذهبي. أي: هو مستعد للرجوع إلى الحديث حيثما صح.

وكذلك أحمد بن حنبل إمام أهل السنة رحمهم الله أجمعين، فإنه كان يقول: إذا خالف قولي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط. فكان رحمه الله يرجع عن قوله في مجلسه إذا سئل عن مسألة فأفتى فيها ثم بدا له خلاف قوله فيرجع عنها في نفس المجلس الذي هو فيه.

وكذلك أتباعهم من بعدهم، فالتعصب لقول غير قول المعصوم، والتشبث به ودعوى احتكار الحق فيه هو سبيل من سبل الضلالة، وسبيل من سبل الفرقة والخلاف، فقد اختلف المجتهدون في العصور السابقة ولم يبق بينهم تناحر ولا تقاتل، ولا كفر بعضهم بعضاً، ولا فسقه، ولا بدعه، بل قد قال الشافعي رحمه الله: أنا أقبل شهادة كل أهل الأهواء، إلا الخطابية؛ فإنهم يستحلون الكذب لنصرة من وافقهم في مذهبهم.

وكذلك فإن خلافهم الفقهي كان سبباً لأن ينصف بعضهم بعضاً، وأن يعدل في معاملته، كالخلاف بين مالك و الليث في مسائل كثيرة، فعندما ذكر لـمالك أنه أباح مسألةً حرمها الليث قال: علم زاد أو ورع نقص، علم زاد معناه: لعلي اطلعت على علم في المسألة لم يطلع عليه الليث ، أو ورع نقص، لعل لدي ورعاً أنقص مما لدى الليث ، فتورع الليث من الإباحة فيها فأخذ بالتشدد، وهذا إنصاف، فالاحتمال لا يخلو من هذين الأمرين: إما أن يكون علماً زاد، وإما أن يكون ورعاً نقص.

وقد كان الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله يذهب إلى مذهب أبي حنيفة وفيه: أن العلة القاصرة لا تصلح للتعليل، فيرى أن كل نجس خرج من البدن إذا تفاحش فهو ناقض للوضوء، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، فإذا جرح الإنسان فخرج منه دم فذلك ناقض للوضوء إذا تفاحش عندهم؛ لأنهم يرون أن النجس إذا خرج من أي مكان من البدن فتفاحش فهو ناقض.

ومذهب مالك و الشافعي : أن العلة قاصرة تصلح للتعليل، فالنجس لا ينقض الوضوء إلا إذا خرج من أحد السبيلين، أي: من سبيل البول وسبيل الغائط، وعندما شرح ذلك أبو يوسف وبينه قيل له: أرأيت لو أتيت الحجاز فرأيت إماماً يصلي وساقه يجري منها الدم أفأصلي وراءه؟ قال: سبحان الله! ألا تصلي خلف مالك ؟ يقصد أن هذا مذهب من مذاهب الأئمة المجتهدين المتبوعين، فلا بد من احترامه وتقديره، ولا يستطيع هو أن يحتكر الحق فيما رآه، ولو كان يرى هذا المذهب مرجوحاً.

وكذلك قال أحمد للذي سأله في مسألة من مسائل الطلاق فأفتاه فيها بمذهبه، فقال: أرأيت إن ذهبت إلى حلقة المدنيين -وهم أصحاب مالك - فأفتوني بغير ما تقول أأعمل بقولهم؟ قال: سبحان الله، ألا تعمل بقول مالك ؟! فلذلك لم يكونوا يحتكرون الحق، ولم يكونوا يرون غضاضةً في الرجوع عنه، ولم يكونوا أيضاً يجدون غضاضةً في المناقشة فيه، والبحث عن قوة الدليل، وعن المعارض، وهذا يشمل المسائل الفقهية والمسائل العقدية.

فالمسائل العقدية التي اختلفوا فيها كلها ليست من أصول العقائد ولا من أمهاتها, بل هي من المسائل القابلة للاجتهاد، وعندما يقع فيها الاختلاف بين أئمة الدين نعلم أنها ليست من القطعيات؛ لأن القطعيات لا يقع فيها الخلاف بين المجتهدين، وكل مسألة اختلف فيها أهل الاجتهاد فهذا دليل على أنها من المسائل الاجتهادية، ومن القواعد المسلمة: أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فالمسائل الخلافية التي الخلاف فيها ناشئ عن اجتهاد لا إنكار فيها، فإذا ارتكب إنسان المرجوح فيها وعمل به فنصيحته بأن يعمل بالراجح هي أمر بمعروف وليست نهي عن منكر، ويلزم التفريق بين الأمرين، فالنهي عن المنكر هو الذي يتشدد فيه الإنسان، والأمر بالمعروف ليس للإنسان أن يتشدد فيه؛ لأنه زيادة خير لكن ليس فيه ضير بالمخالفة؛ فلذلك يتشدد الإنسان في النهي عن المنكر، ولا يتشدد في الأمر بالمعروف.

أدب التخاطب بين العلماء ونبذ الفرقة والاختلاف بينهم

كذلك فإن أئمتنا في تلك العصور السابقة مع ما كان يحصل بينهم من الخلاف كان ردهم مؤدباً، إذا رد بعضهم على بعض يكون ذلك بأسلوب مهذب مؤدب، ولم يكن أحد منهم ينال من عرض الآخر ولا يتكلم في غيبته بغيبته، بل كان كل إنسان منهم يحمي للآخر عرضه، ويمنع الكلام فيه، حتى إن مالكاً كتب في رسالته إلى الليث : إن الخلاف في الاجتهاد لا يفسد للود قضية، أي: الود والمحبة فيما بيننا قائمة، ولو اختلفنا في المسائل الاجتهادية، فالخلاف في المسائل الاجتهادية لا يفسد للود قضية.

ولا شك أن احتكار الحق هو من شبه الشيطان، وأنه مدعاة للغرور، فالإنسان الذي يظن أنه هو على الحق دائماً، وأن كل من خالفه على الباطل مغرور، والغرور باب من أبواب مداخل الشيطان على الإنسان، ويدل على عجب الإنسان برأيه وذلك من أشراط الساعة كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن إعجاب كل ذي رأي برأيه من أشراط الساعة، هي من الأمور العشرة التي ينتظرها الإنسان بين يدي الساعة، ومنها: إعجاب كل ذي رأي برأيه.

دعوى احتكار الحق يقتضي تحجير الواسع

وكذلك لا شك أن احتكار الحق ودعوى انحصاره في مذهب أو في قول يقتضي تحجير الواسع، ولا شك أن الله تعالى يقول في كتابه: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، وقد نقل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه، وتفرقوا في الأمصار، ولم يكن أحد ليجمع ما لديه من العلم جميعاً؛ ولذلك فإن مالكاً حين أمره المنصور أن يؤلف الموطأ وأراد أن يحمل الناس عليه وأن يجمعهم عليه فنهاه مالك عن ذلك، وقال: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد نقلوا علمه، وقد تفرقوا في الأمصار، فلا يمكن أن يجتمعوا على قول رجل واحد. فمالك هو مؤلف الكتاب، وهو يقتنع بكل ما فيه، وهو صحيح لديه، ولكن مع ذلك لا يرضى أن يجبر الناس على الأخذ بمذهبه، ولا على الأخذ بقوله؛ لأنه يعلم أن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم غير محصور في كتابه، بل هو متفرق في الأمصار، ولدى كل عالم منهم ليس لدى غيره، والله سبحانه وتعالى قسم الأرزاق ومنها: العلم والفهم، فكل يؤتيه الله سبحانه وتعالى بحسب ما تقدم في سابق قدره، وعلى نحو ما يصلح له، ومن المعلوم أن داود و سليمان عندما عرضت عليهما مسألة واحدة لم يكن رزقهما فيها متساوياً، بل قال الله فيها: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:78-79]، فكل آتاه الله حكماً وعلماً، ولكن هذه المسألة بالخصوص كانت من حظ سليمان ، ففهمه الله بها ما لم يفهم أباه داود عليهما السلام.

وقد قال ابن مالك رحمه الله: وإذا كانت العلوم منحاً إلهية ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عثر على كثير من المتقدمين.

الترويج والتشنيع ومحاولة إبطال الرأي المخالف

وكذلك فإن من أسباب الفرقة المذمومة إذا رأى الإنسان رأياً خالف فيه غيره أن يبدأ للترويج والتشنيع، والمخاصمة عن رأيه، ومحاولة إقناع الناس به، وإقناعهم ببطلان الرأي الآخر، فهذه الطريقة ليست طريقةً علميةً مقبولة.

والطريقة العلمية إذا رأى الإنسان رأياً مخالفاً لرأي غيره أن يبحث عن دليله، ويسأل الآخر عن دليله، ويجلس على مجلس سواء، ويبين كل واحد منهما حجته، ولا يأنف أحدهما من الرجوع إلى الحق إذا ظهر، ويعلمون جميعاً أنه ليس أحد منهم معصوماً، والذي تفوق في هذه المسألة قد يكون أيضاً غير متفوق في المسألة التي تليها، وقد قال الشافعي رحمه الله: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.

وقال: ما ناظرت أحداً إلا سألت الله أن يظهر الحق على لسانه. قيل: ولم؟ قال: إن ظهر على لسان خصمي عرفت الحق ولم أفتن، وإن ظهر على لساني خشيت أن أفتن.

فلذلك لا بد أن يكون بحث المسائل العلمية فيما بين أهل العلم، وليس من الشأن أن يذاع بين عوام الناس، ولا أن تفرق قلوبهم به، ولا أن تملأ قلوبهم بالحقد والضغائن من غير وجه شرعي، بل الأصل أن يبين الإنسان رأيه لمن يخالفه، ويبين له دليله، ويكون مستعداً لقبول الحق إذا سمعه من أي أحد، فالله تعالى أثنى على الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فقال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18].

فالذين يستمعون القول من أي إنسان صدر، ثم بعد ذلك يعملون عقولهم فيما أراهم الله أنه أقرب لرضاه، وأولى بالدليل، وأقرب للصواب أخذوا به، وإن استطاعوا أن يقنعوا الطرف الآخر بدليلهم فبها ونعمت، وإن لم يستطيعوا دل ذلك على أن الأمر غير محسوم بالدليل؛ لأن الأمر المحسوم بالدليل لا يمكن أن يختلف فيه أهل الإيمان والورع والصدق، وإذا حسم الدليل المسألة فلا يستطيع أحد أن يرد على الله ورسوله، ولا يستطيع أن يأنف على أن يقبل الحق، فلا بد أن يكون المؤمن وقافاً عند الحق، وقافاً عند كتاب الله، إذا جاءته آية في كتاب الله أو حديث صحيح صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلم له وانقاد، فقد قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

وإذا لم يستطع الإنسان إقناع خصمه بالمسألة وعرف أنها غير محسومة بالدليل حينئذ سهل عليه أن يسامح أخاه، وأن ينصفه؛ لأنه يعلم أنه متمسك بدليل آخر ولو كان هو لم يظهر له رجحانه، لكن على الأقل لم يستطع أيضاً إقناعه برجحان دليله، فبقي الطرفان كلاهما متمسك بدليل، وبذلك ينصف كل واحد منهما الآخر، ويرى أنه إما مصيب له أجران، وإما مخطئ في اجتهاده له أجر واحد، وكلاهما ليس عليه إثم فيما وقع فيه من الخطأ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر ).

المرجعية عند حدوث الاختلاف

كذلك لا بد من معرفة أن حسم المسائل إنما يكون بإرجاعها إلى الراسخين في العلم، الذين أحال الله إليهم عند وجود الخلاف، فقد قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83]، فلم يقل: لعلموه جميعاً بل قال: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فأهل الاستنباط الصالحون لذلك هم الذين يمكن أن يعلموا وجه الحق في المسألة، ومن سواهم ليس أهلاً للاستنباط ولا لأخذ المسائل من أدلتها؛ فلذلك ينبغي أن يتقاصر من ليس أهلاً لهذا الشأن عن مكانه، وقديماً قال الحكيم:

أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا.

فكل يعمل على شاكلته، والله سبحانه وتعالى يوفق من يشاء لما يشاء، وقد قال ابن متالي رحمه الله:

وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل

فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزلي

ولذلك فإن ابن القاسم وهو من أشد أصحاب مالك تعلقاً به ومحبةً له كان يخالفه في كثير من المسائل ويقول: سمعت فيها من مالك كذا ولا أراه. أي: لا أرى ما ذهب إليه مالك ، فخالفه وهو من أتباعه، ومن أشد الناس نشراً لمذهبه ونصراً له، ولم يجعله ذلك خارجاً عن مذهب مالك ، ولم يجعله معتدياً على حرمة مالك ، بل الحق أحق أن يتبع وهو أولى بالنصرة والرجوع إليه مهما كان الحال.

التعصب الناتج عن الاقتناع بالرأي الواحد في مسألة من المسائل

وكذلك من هذه الأسباب التي هي من جنس الشبهات: ما يعرض لبعض الناس من التعصب، فبعض الناس إذا ابتدئ بمسألة من المسائل ملأت قلبه؛ لأن قلبه ضيق فيمتلئ قلبه بها ولا يبقى فيه مكان لغيرها؛ وبذلك يقول ما قال الشاعر:

عرفت هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا

فلا يستطيع التخلص منها، ولا الخروج منها؛ لأنها قد أسرت قلبه، وبذلك يصاب بالتعصب، والتعصب يعمي ويصم، فيعمي الإنسان عن رؤية الحق ويصمه عن سماعه، فيبقى راكباً لهواه متبعاً له، وقد حذر الله من ارتكاب الهوى، فقال تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26].

إجبار الآخرين على قبول الرأي بالقوة وبدون حجة مقنعة

وكذلك من هذه الشبهات التي تكون سبباً للفرقة والنزاع: أن بعض الناس في بعض المواقف يرى موقفاً معيناً صواباً، ويسير عليه، ويكون فعلاً محقاً فيما رأى، ولكنه يريد أن يجبر الآخرين على الأخذ بالموقف نفسه دون أن يكون له دليل يقدر به على إجبارهم، فلا يجد حجةً قويةً يمكن أن يقنع بها الآخرين، فيحتاج حينئذ إلى إعمال القوة، فيرفع صوته بالخصومة أو يمارس قوة في الإجبار على رأيه. وهذه ليست وسيلةً علميةً للإقناع بالرأي، فمن أراد إقناع آخر برأيه فعليه أن يقنعه بالدليل، ولا داعي للمعارك والملاكمات فيما يتعلق بمسائل الرأي، ومسائل الرأي لا يمكن أن يقنع فيها أحد بإعمال القوة، فهذه الوسيلة إنما هي وسائل المتخلفين الذين لديهم تخلف عقلي، أو نقص في التفكير، فهم الذين إذا غلبوا في الحجة لم يكن بين أيديهم إلا أن يذهبوا إلى قوة العضلات، أو رفع الأصوات والخصومات.

وقد كان المشركون يعملون ذلك، فعندما أقام عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجة ولم يستطيعوا رد أي شيء مما جاء به، ولم يستطيعوا إقامة أي دليل على ما يزعمونه لم يبق لهم إلا إعمال القوة، فحاولوا أذاه وأذى أصحابه، وكذلك كانوا يرفعون أصواتهم عليه ويلغون فيه، وقد قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت:26-27]، وليسوا أسوةً صالحةً ولا قدوةً حسنة يؤتسى بها فيما يتعلق بالرأي، فالمسائل تنقسم إلى قسمين:

إلى مسائل حسمها النص وجاء فيها الوحي من عند الله سبحانه وتعالى، فيلزم التسليم فيها للوحي والأخذ بذلك.

ومسائل وسع فيها الشارع الأمر فلم يحسمها النص، بل جاءت فيها نصوص متعارضة، أو جاءت فيها نصوص غير قطعية الدلالة، أو جاءت فيها نصوص غير قطعية الورود، أو لم يرد فيها نص أصلاً.

فهذه المسائل من حكمة الله أن لا تحسم، وأن يبقى الخلاف فيها موجوداً، وهو باب واسع وسع الله فيه على المؤمنين، وأراد فيه أن يكون في الأمر فسحة، ولم يشأ الله تعالى أن يجعل شريعته كالقوانين التي هي مرتبة المادة رقم واحد، المادة رقم اثنين، المادة رقم ثلاثة، لم يرد الله ذلك، بل أراد أن يأتي بالتشريع بهذا الأسلوب المرتبط فيه الأمر والنهي بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب، وأن يكون من الأسلوب ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، منه ما هو واضح الدلالة ومنه ما هو خفي، وهذه حكمة الله البالغة، ولا مغير لحكمه لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

ومن أراد أن يغير هذا التشريع بعد ألف وأربعمائة سنة وزيادة, وأراد أن يجعل المسلمين جميعاً على قول واحد، فكأنما يريد أن يخرج هذه الأمة بشرقها وغربها من ثقب إبرة، وهذا ما لا يمكن أن يتم أبداً، فلا بد أن يبقى الخلاف قائماً، ولا بد أن تبقى المسائل التي لم تحسم مداراً للخلاف ومسرحاً لآراء المجتهدين وأقوالهم، ولا بد أن تتفاوت درجاتهم في الاجتهاد من موسع ومضيق، وقد قال أحد العلماء رحمه الله: للشريعة سوران هما: سور الرخصة، وسور العزيمة، فإذا رأيت المجتهدين اختلفوا في مسألة من المسائل بين محل ومحرم, فاعلم أن الذي أحل قد اقترب إلى جدار الرخصة، والذي حرم قد اقترب إلى جدار العزيمة، وكل بين هذين السورين لم يخرج من بينهما.

وهذا الرأي منصف جداً، وهو واضح في البيان، فإذا عرفنا أن للشريعة هذين السورين، وأن أقوال أهل العلم لا تخلو من ترخص أو من أخذ بالعزائم، وكل في داخل إطار الشريعة ويجد صاحبه مسلكاً ملائماً، فالجميع أهل لأن ينصف وأن يعلم أنه إذا كان صاحب صدق وإخلاص وعرف منه ذلك في المستقبل، فلا يضره خطؤه لو وقع في خطأ اجتهادي، وكل من عرف بالصلاح والاستقامة والورع والخوف من الله سبحانه وتعالى فهو مأمون على الدين، ونحن نعلم أن هذا الوحي هو أشرف ما في الأرض، ولم يكن الله ليأتمن عليه المفلسين، فإذا اختار الله عبداً من بين عباده أو أمةً من بين إمائه لحفظ الوحي المقدس المطهر فمعنى ذلك أن هذا الشخص الذي اختاره الله أهل لهذه الأمانة العظيمة؛ لأن الله يعلم السر وأخفى، وهو أعلم بمواطن الأمور، ولا تخفي عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره يعلم السر وأخفى، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد؛ ولذلك لا يمكن أن يخفي عليه الإنسان أي صفة من صفاته، فإذا اختاره الله وائتمنه على وحيه دل ذلك على أنه أهل لأن يؤتمن على الوحي، فالله لم يكن ليأتمن على وحيه المفلسين، فنحن نعلم أن العقلاء منا إذا كان لأحدهم مال أو أمر مهم فأراد أن يودعه لا يمكن أن يختار سارقاً يودعه لديه، ولا يمكن أن يختار معروفاً بالتعدي والغصب فيودعه لديه، ولا يمكن أن يختار من ليس أهلاً للثقة فيودعه لديه، فيختار أهل الأمانة والصدق والإخلاص، وأهل الحصانة والنظافة فهم الذين يأتمنهم على مهماته، والله سبحانه وتعالى أعلم بخفايا الناس من الناس؛ فلذلك لا يمكن أن يأتمن المفلسين على وحيه، وبهذا يعلم أن ما يقع فيه أهل الاجتهاد من بعض الأخطاء لا تنقص شيئاً من قدرهم ومكانتهم؛ فإن الله تعبدهم بطلب الحق والتماسه, وقد أعملوا آراءهم، فما وصلوا إليه يتعبدون الله به سواءً كان موافقاً للصواب في علم الله وباطن الأمر أو لم يكن كذلك؛ ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: زلات العلماء أقذار، وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فالعلماء هم بمثابة البحار، وزلاتهم هي أقذار قليلة ويسيرة، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، فكيف بالبحار الزاخرة؟ فلذلك لا بد من التماس أحسن المخارج لهم، وألا يظن بهم ظن السوء.

بغض الأشخاص وكراهيتهم وعدم قبول أي شيء منهم بعد ذلك

كذلك فإن من هذه الشبهات أيضاً: أن كثيراً من الناس يبغض شخصاً ما بالاختلاف معه في مسألة، وبعد ذلك لا يمكن أن يقبل له صرفاً ولا عدلاً، ولا أن يسمع منه أية مسألة فيما بعد، هل أنه عصى الله تعالى وتاب؟ أو هل أنه عصى وأبدل السيئة بالحسنة، فعمل عملاً آخر؟ أليس باب التوبة مفتوحاً؟ أليست المغفرة أوسع من الذنب؟ فرحمة الله سبحانه وتعالى واسعة، ونحن لا نستطيع تضييقها، والله تعالى يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]، لا يستطيع أحد أن يحجر رحمة الله الواسعة، فالرحمة الدنيوية وهي واحدة في مقابل تسع وتسعين رحمةً في الآخرة، هذه الرحمة الدنيوية وحدها من آثارها الليل والنهار، والمطر والهواء، وكل ما في الدنيا من الأرزاق والبركات كل ذلك من آثار رحمة واحدة، بها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [القصص:73]، فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:50].

فإذا عرفنا سعة رحمة الله فعلينا ألا نجعل الإنسان بمجرد وقوعه في خطأ واحد قد أوجب وتجاوز القنطرة إلى الضفة اليسرى، ولم يعد يقبل منه صرف ولا عدل، فهذا الحكم غير صحيح، وليس للإنسان أن يتجهمه، ولا أن يتجاسر عليه، بل قد قال الله تعالى في أصحاب أحد: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، (ولقد عفا الله عنهم) فهنا أسدل الستار على ما سبق من سيئاتهم جميعاً؛ لأن الله عفا عنهم وهو صاحب الحق، وهو الذي يملكهم ويملك أعمالهم، وقد عفا عنهم ما وقع منهم، فلا يمكن بعد ذلك أن نضيق نحن واسعاً، ولا أن نحجر ما فتحه الله سبحانه وتعالى لعباده من الرحمة، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2].

نحن نعلم أنك قد تخالف إنساناً في مسألة، فتشنع عليه في هذه المسألة بذاتها، لكن لم لا تشنع عليه في مسائل أخرى وترى كل ما يصدر منه من الباطل؟ إن هذا قريب من كفران العشير الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر اتصاف كثير من النساء به، فيقول: ( تكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط ).

فعلينا أن نكون أهل إنصاف، وقد قال الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

وقديماً قال الشاعر:

أجاعلة أم التويرخ زايةً علي فراري أن لقيت بني عبس

لقيت أبا عوف وعوفاً ومالكاً وكعباً فجاشت من لقائهم نفسي

لقونا فضموا جانبينا بصادق من الضرب فعل النار بالحطب اليبس

وليس فرار اليوم عاراً على الفتى إذا علمت منه الشجاعة بالأمس

فلذلك لا بد أن يترك للإنسان سابقته وما قدم، وأن يعلم أن له صواباً في بعض الأمور، وله خطأ في بعض الأمور، فيعامل بالعدل والإنصاف، وهذا الحال مطلوب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي التابعين لهم بإحسان، وفي أئمة الدين، وفي العلماء في كل زمان ومكان، وفي الداعين إلى الله تعالى، وفي المسلمين عموماً يلتمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن الظنون، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار بالخصوص أن يقبل من محسنهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، فقد أدوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم.

مقابلة البغض والكراهية بالبغض والكراهية وعدم الإحسان

كذلك من هذه الشبهات المفرقة ما يحصل لدى بعض الناس من ظنه أن إنساناً ما يبغضه أو يكرهه فيجازيه هو بالإساءة والكراهية، هل لأنه يبغضك ويكرهك؟! أليس مقابلة ذلك بالإحسان أولى؟ وقد قال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35].

إن هذه الشريعة المطهرة شرعت لنا مقابلة السيئات بالإحسان في حق المؤمنين، فكل مؤمن أساء إليك، فينبغي أن تحسن إليه في مقابل ذلك، ولا يؤدبه شيء ما يؤدبه ذلك، إذا أساء إليك إنسان فأحسنت إليه لا يمكن أن يؤدبه شيء مثل ما يؤدبه ذلك؛ ولهذا كان أوس بن حارثة بن لام ، وهو رجل من طيء كان مشهوراً بالكرم في الجاهلية فحصلت بينه وبين القطاني الشاعر مشكلة، فهجاه القطاني بقصائده، فقاتل بنو طيء قوم القطاني فأخذ أسيراً فجيء به إلى أوس بن حارثة بن لام ، فلما جيء به إليه قال له: ما ظنك أني فاعل بك وقد هجوتني؟ فتلكأ الرجل لا يدري ماذا يقول؟ فقال: أرأيت إن أطلقت سراحك ووهبتك مائةً من الإبل وفرساً وسيفاً أكنت كافأتك على معروفك؟ فبكى الرجل، فأطلق سراحه وأعطاه مائةً من الإبل وفرساً وسيفاً، فنذر ألا يقول فيما بعد شعراً إلا في مدح هذا الرجل، ومدحه طيلة عمره، يقول:

أكفراً بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاع

ويقول فيه:

إلى أوس بن حارثة بن لام ليقضي حاجتي ولقد قضاها

فما وطئ الثرى مثل ابن سعدى ولا لبس النعال ولا احتواها

وكذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه لما جيء بـالأشعث بن قيس بن جبلة مأسوراً، وكان ملكاً من ملوك كندة في اليمن جيء به إليه مأسوراً في حروب الردة، وقال له: ما ظنك يا أشعث ! أني فاعل بك؟ قال: خيراً والله، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: هو ذاك؟ فأطلق أبو بكر سراحه، وزوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة ، وأكرمه أبو بكر رضي الله عنه، فاستطاع بذلك تأليف قلوب أصحابه جميعاً وعشيرته، فكانوا جميعاً من المجاهدين في سبيل الله، والذابين عن حوزة هذا الدين، والمقاتلين في الشام والعراق حتى انتصر بهم هذا الدين، وهذا من سياسة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحكمته. والعدل به قامت السموات والأرض، وقد أمر الله به في كتابه، فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

والتفرق لا يأتي بخير أبداً، فلا بد أن يدرك الإنسان إذا قصد مثلاً إبطال باطل، أو إزهاقه، أو أن يرد على قول إنسان أن يتذكر ما يترتب على ذلك من المصالح والمفاسد فيوازنهما، فإذا كانت المفسدة راجحةً فماذا عمل؟ وما الربح المجني من مفسدة هي أكبر؟ فليس ذلك مقصداً شرعياً ولا مطلوباً، بل المقصد الشرعي هو بهذه الموازنة؛ ولذلك قال العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعده: فسق الأئمة يتفاوت، فمن كان فسقه بالاعتداء على الأنفس فهو أعظم ممن فسقه بالاعتداء على الأبضاع، ومن فسقه بالاعتداء على الأبضاع فهو أعظم ممن فسقه بالاعتداء على الأموال، فيرتكب أدنى المفسدتين، وأقل الحرامين، والقاعدة الشرعية واضحة في ذلك وهي ارتكاب أخف الحرامين والضررين، فقد قال الله تعالى في قصة لوط عليه السلام: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود:78]، فلوط عليه السلام عرض هذا العرض؛ لأنه رأى إما الاعتداء على الملائكة، أو تزوج الكفار بالمسلمات، ولا شك أن الاعتداء على الملائكة أعظم من تزوج الكفار بالمسلمات، فاختار أدنى الحرامين وأقل الضررين، ونظير ذلك قول الله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، فسب آلهة المشركين مقصد شرعي، وفيه تحذير من هذا التنفير، وفيه إزهاق للباطل، وفيه تنفير من الشرك، لكن إذا كان يؤدي إلى سب الله جل جلاله فقد أدى إلى مشكلة أكبر من أصل المشكلة؛ فلذلك نهى الله عنه فأصبح حراماً، وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك: ( أن من شر الناس من يسب أباه وأمه، قيل: كيف ذلك؟ أيسب الرجل أباه وأمه

وكذلك من هذه الأسباب التي تنتشر في كثير من الأحيان ثم تزول ما يقع من الشبهات التي هي في الأصل من إلقاء إبليس ، ولكنها يتشبث بها بعض الناس، فتكون سبباً للتفرقة بين القلوب، فمن هذه الشبهات ما يتعلق باحتكار الحق ودعوى أنه محصور في رأي شخص بعينه، فنحن جميعاً نعلم أن هذه الأمة ليس فيها معصوم بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل من دونه يؤخذ من قوله ويرد، وأنه هو وحده الذي لا يمكن أن يرد عليه قول، أما من دونه أبو بكر الصديق ، عمر بن الخطاب ، عثمان بن عفان ، علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم ومن دونهم من الصحابة جميعاً ما فيهم أحد يلزم الإنسان أن يقلده في كل ما قال وفي كل ما ذهب إليه، بل يمكن أن يأخذ الإنسان ببعض أقوالهم ويخالفهم في بعض أقوالهم؛ ولذلك فإن الصحابة رضوان الله عليهم خالفوا الخلفاء الراشدين في بعض الأمور، وكان رأي الجمهور على خلاف رأيهم، وعندما رأى علي رضي الله عنه رأياً مخالفاً لما كان عليه رأيه في عهد عمر قال له عبيدة السلماني رحمه الله: يا أمير المؤمنين! رأيك في الاتفاق أحب إلينا من رأيك في الفرقة. فضحك علي بذلك، ولم يكن أحد منهم يأنف أن يرد عليه في قوله؛ لأنهم جميعاً يطلبون الحق، ويبحثون عنه، ويعلمون أنه غير معصوم.

وكذلك أئمة التابعين من بعدهم فإنهم جميعاً كانوا يرد بعضهم على بعض، ويبحثون عن الصواب والحق، ويتبعونه إذا لاح لهم الدليل عليه، ولا يجدون غضاضةً في الرجوع إلى الحق إذا ظهر، وقد أرشد إلى ذلك عمر رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري في القضاء، فقد قال فيه: ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.