دور المرأة في الدعوة والجهاد [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى أراد لهذا الجنس البشري الاستخلاف في الأرض، والتكليف بالتكاليف، وأن يجعله أشرف خلائق العالم السفلي كله، ففضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وكان بالإمكان أن يكون هذا الجنس البشري كل فرد منه مستقلاً بذاته، ولكن أراد الله سبحانه وتعالى ربط وشائجه واتصال قرباه، فجعل البشر جميعاً من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، ثم بعد ذلك أهبطهما إلى هذه الأرض واستخلفهما فيها، فقد خلق الله آدم بيمينه من طين، وقد مكث منجدلاً في طينته أربعين سنة، ثم نفخ الله فيه من روحه، وأخرج منه حواء من ضلعه، ثم أهبطهما إلى هذه الأرض ليستخلفا فيها، وليقوما بهذه الوظيفة التي من أجلها خلق الله لهما ما في الأرض جميعاً، وقد بث الله منهما رجالاً كثيراً ونساءً، وامتن على البشر بذلك، فقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

فأنزل الله تعالى الشرائع، وأرسل بها الرسل، وأنزل الكتب المنزلة من عند الله تعالى لبيان ما يحتاج إليه هذا الجنس الجديد الذي أهبط إلى هذه الأرض، وقد جاء هذا الجنس في الأصل غريباً، جاء من بعيد، فقد أهبط من الجنة، وجاء إلى هذه الأرض وكل احتياجاته مستوردة، فقد أنزل الله له من الأنعام ثمانية أزواج، وأنزل له الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وأنزل له كذلك اللباس: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْر [الأعراف:26].

ثم بعد هذا سخر الله لهذا الجنس ما في هذه الأرض من أنواع الخيرات، ويسر له استغلال ذلك على الوجه الصحيح، بما جاء من عند الله سبحانه وتعالى، من الأنظمة التي تنظم علاقات العباد فيما بينهم، وتنظم علاقاتهم ببارئهم سبحانه وتعالى، وتشرع لهم ما هم بحاجة إليه من أمور دنياهم ومن أمور دينهم؛ وبذلك تكاملت هذه البشرية ووصلت إلى نضجها بعدما مرت به من الأطوار، وهذه الأطوار كثيرة جداً.

فالفرد يمر في أصل خلقته بتسعة أطوار بينها الله تعالى بقوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12-16].

وكذلك التطور العمراني البشري يمر بمراحل متنوعة متعددة، فمنها الرقي والانحطاط، والتقدم والتأخر، والثقافة والتخلف، وكل ذلك مر بالبشرية، حتى إذا وصلت إلى نضجها وأكملت أطوار مسيرتها، بعث الله إليها محمداً صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، واقتراب من الساعة، وجهالة من الناس، فجاء بالحنيفية السمحة ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وهذا الدين الذي جاء به هو الدين الحقيقي عند الله، فكل ما سواه من الأديان كان إعداداً له، وقد كان في مراحل نمو البشرية وتطورها، فهو بمثابة أثواب الصبي تكون على مقاسه في فترة صغره ثم إذا تقدم به العمر خيطت له ملابس أخرى على مقاسه الجديد، وهكذا حتى يصل إلى نضجه وكماله، فجاءت هذه الشريعة الإسلامية كافلة لحقوق أنواع البشر، وبينت حاجتهم، والفرق بين الأطوار التي يمرون بها، فهذه الأطوار منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير؛ فلذلك يشرع من الأحكام ما يوافق الثابت ويشرع منها ما يوافق المتغير، ثم يغير ما يحتاج إلى التغيير من ذلك؛ ولهذا قال الله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]، وقال تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل:101].

وقد جعل الله سبحانه وتعالى الخلائق كلها مقسومة إلى زوجين متقابلين، وقسم بينهما أنواع الصلاحيات، وأنواع المسئوليات، فكما أن العالم غطاؤه السماء غطاؤه الأرض، وقد قسم الله الخلائق بين السماء والأرض، فجعل في العالم العلوي أربعة أصناف، وفي العالم السفلي أربعة أصناف تقابلها ليقع التوازن، فقال تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ[فصلت:9-10]، فهذه أربعة أصناف هي التي تمثل العالم السفلي، هي: الأرض، والجبال، والبركات التي في الأرض، والأقوات التي فيها بما فيها: الأكسجين والماء والثمرات وغير ذلك، أربعة أصناف، يقابلها أربعة في العالم العلوي.

ولذلك قال الله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ[فصلت:11-12]، فهذه أربعة أجناس أيضاً من الخلق في العالم العلوي بها يقع التوازن بين العالمين، وكذلك البشر لا بد أن يقع التوازن بينهم، فجعل الله تعالى البشر كغيره من سائر الخلائق مقسوماً بين صنفين، بين ذكور وإناث، وجعل لكل واحد من الصنفين اختصاصاته وواجباته، وجعل لكل واحد منهما تشريفه وتكليفه على أساس ذلك.

تحقيق التوازن بين صنفي الذكور والإناث

ومن هنا خص الله تعالى الرجال بأشرف ما في المعنويات، وخص النساء بأشرف ما في الماديات؛ لأن الأمور الدنيوية أيضاً كلها مجبولة على الازدواجية، فالله سبحانه وتعالى هو الفرد لا ند له، لكن المخلوقات كلها تنقسم إلى ندين متقابلين دائماً؛ فلذلك ما في الأرض من الخلائق منه ماديات ومنه معنويات، فأشرف ما في الأرض من المعنويات: القيادة والقوامة، وقد خص الله بهما الرجال، وأشرف ما في الأرض من الماديات: الذهب والحرير، وقد خص الله بهما النساء، فوقع التوازن بين القسمين، ولم يعتد أحد القسمين على أحد الصنفين على الآخر؛ لأن كل واحد منهما قد نال ما يرضيه.

ثم بعد هذا جاءت التكاليف ، فما كان منها من الثوابت المتعلقة بأصل البشرية فالرجال والنساء فيه سواء، وقد بينا من قبل أن الأوامر الشرعية، منها ما هو من الثوابت كأصول الاعتقاد والتعبدات والمعاملات، فهذه الرجال والنساء فيها سواء، عقيدة الرجال وعقيدة النساء سواء، عبادة الرجال وعبادة النساء سواء، المعاملات وما يشرع من البيع والشراء والإجارة وغير ذلك الرجال والنساء فيه سواء، فهذه أحكام مشتركة جعلها الشارع لجميع الخلائق، وهي التي تنظم علاقاتهم ولا يمكن أن يستغنوا عنها، ثم بعد ذلك خص كل طائفة بما يناسبها من الأحكام المتغيرة، والمقصود بتغيرها هنا أنه لا تشمل كل البشر، فيرد الخطاب بها إلى بعضهم دون بعض، فهذه منها الفرائض الكفائية التي إن قام بها بعض البشر سقط الخطاب عن الباقين ولم يطالبوا بأن يفعلوا، كإنقاذ الغريق إذا انغمس في البحر، فإذا أنقذه شخص واحد، ما فائدة انغماس الآخرين لإنقاذه بعد أن أنقذ، فهذا النوع هو الذي يسمى بفروض الكفاية، والمقصد الشرعي تحققها وحصولها بغض النظر عن فاعلها، بخلاف الصلاة والصيام والزكاة والحج، فهذه فرائض عينية، لا يقصد مجرد تحققها ووقوعها، بل يقصد أن يشارك فيها كل أحد وأن يؤدي الحق الذي عليه فيها، فهذا النوع من الخطاب وهو الفرائض الكفائية هي التي يقع فيها هذا التفاضل بحسب نعمة الله على الإنسان وطاقته، فكما أن الإنسان العادم للعقل قد رفعت عنه التكاليف جملة وتفصيلاً، وكما أن الإنسان العادم للسمع أو للبصر أو للمشي رفع عنه بعض التكاليف في مقابل ذلك، كما قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17].

وكما أن الغني جعل عليه من التكاليف ما ليس على الفقير، في مقابل ذلك من كانت لديه قوة وطاقة لا توجد لدى غيره فالتكاليف على مقابل تلك القوة والطاقة تختص به، وليس هذا جوراً ولا ظلماً، ولا نقصاً للطرف الآخر؛ لأن هذا التكليف رتب على نعمة، فهذه النعمة على قدرها يكون التكليف، كما أن الرجلين الذين أحدهما غني والآخر فقير تكاليفهما غير متساوية، فكذلك الرجال والنساء من هذا القبيل، ما أوتي الرجال من الطاقات المختصة عليهم فيه من التكاليف ما ليس على النساء، وما أوتي النساء من الطاقات المختصة عليهن فيه من التكاليف ما ليس على الرجال، ومن هنا تحسم الجدلية التي يراها بعض الناس حين يرون الفرق الفسيولوجي بين الرجال والنساء مؤثراً في الأحكام أو داعياً إلى النزاع والصراع، يرون الآن من هذا الكلام أن هذه الجدلية لا أساس لها، فالجميع لم يشاور أحد منهم في خلقته، لم يشاور الله أحداً من خلقه: كيف أخلقك ذكراً أم أنثى؟ كبيراً أو صغيراً؟ أبيض أو أسود؟ لم يشاور الله أحداً في ذلك، وقد قال الله تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]، وقال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]، فكل ذلك بأمر الله وحده لا يمكن أن يتدخل أحد من خلقه، وهو قسمة كما قسم الله الأرزاق والأخلاق بين الناس، كذلك قسم الخلقة على نحو ما أراد، ومن هنا فكما أن السماء لا تبأى بخلقتها على الأرض، وكما أن النبات لا يبأى بعضه بخلقته على بعض، فكذلك هذه الأجناس البشرية، ولا بد أن يدرك أن الفرق الحاصل بينها ليس فرقاً إرادياً واختيارياً، وإنما هو فرق في الخلقة قدره الله سبحانه وتعالى، كما قدر الغنى والفقر، وطول العمر وقصره، والصحة والسقم، كل ذلك من تدبيره لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

رضا الإنسان بالهيئة التي خلقه الله عليها

فعلى كل صنف أن يرضى بالهيئة التي خلق عليها، وأن يباشر صلاحياته ومسؤولياته على وفق ما أوتي، وأن لا تطمح نفسه لما فوق ذلك، فقد قال الله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32]، فكل له نصيب مما اكتسب، وبعد ذلك الجميع مطالبون بأن يسألوا الله من فضله، والله يفضل من يشاء، فالتفاضل الدنيوي مدته محصورة يسيرة، وبعده أحوال أهل الدنيا متقاربة وأحوال أهل الآخرة متباعدة، إذا كان الإنسان في هذه الدار مسوداً، فليس معنى ذلك أن يكون مسوداً في الدار الآخرة، قد يكون سيداً في هذه الدار ويكون مسوداً حقيراً ذليلاً في الآخرة، وقد يكون أيضاً حقيراً ذليلاً مسوداً في هذه الدار ثم يكون سيداً عزيزاً في الدار الآخرة يوم القيامة.

والشرف والعزة إنما تحصل لمن أوتي كتابه بيمينه وبيض الله وجهه، ثم أدخله جنته، ثم جعل وجهه من الوجوه الناضرة الناظرة إلى وجه الله الكريم، ومن وصل إلى هذا المقام ليس عليه من بأس، سواءً كان من قبل ذكراً أو أنثى، سواءً كان غنياً أو فقيراً، سواءً كان صحيحاً أو سقيماً، سواء كان عالماً أو جاهلاً، سواءً كان قوي الجسم أو ضعيف البنية، هذا التفاوت كله مدته محصورة بهذا العمر الدنيوي.

اعتبار الإنسان بأحوال أهل البرزخ وموقفهم يوم القيامة

ولذلك لا بد أن ننظر نظرة عجلى إلى أحوال أهل البرزخ، فإننا إذا رأينا المقبورين لم نميز بين قبر الذكر والأنثى، والغني والفقير، والصحيح والضعيف، فقبورهم متساوية، وبذلك يعلم أن التفاوت إنما هو لمدة محصورة يسيرة في هذه الحياة الدنيا، كما ذكرت من قبل أن مثال تفاوت أهل الدنيا وأحوالهم فيها، مثال قوم ركبوا في سيارة، فكان بعضهم في مقدمها وبعضهم في مؤخرها، قطعوا مائة كيلو ثم نزلوا عن السيارة يمشون، فالذين كانوا في المقدم لم تبق تكت معلقة على صدورهم أنهم كانوا في المقدم، والذين كانوا في المؤخر كذلك ليس لهم ما يذلهم ويحقرهم بأنهم كانوا في مؤخر السيارة، فالجميع وصلوا في وقت واحد، وتلاحقوا وتداركوا، فكذلك حال الناس بعثوا إلى هذه الأرض لمهمة ليس بأيديهم الابتعاث فيها، ولم يشاوروا فيها، ثم بعد ذلك يحشرون إلى الله فيحاسبهم على ما كلفهم به، وكل إنسان منهم يأتي فرداً ليس تابعاً لأحد وليس معه أحد يصارع عنه ولا يجادل عنه، وليس له محام ولا شفيع: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل:111].

حينئذٍ يأتي كل إنسان فرداً كما قال الله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:95]، وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَينَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تزْعُمُونَ [الأنعام:94].

ومن هنا خص الله تعالى الرجال بأشرف ما في المعنويات، وخص النساء بأشرف ما في الماديات؛ لأن الأمور الدنيوية أيضاً كلها مجبولة على الازدواجية، فالله سبحانه وتعالى هو الفرد لا ند له، لكن المخلوقات كلها تنقسم إلى ندين متقابلين دائماً؛ فلذلك ما في الأرض من الخلائق منه ماديات ومنه معنويات، فأشرف ما في الأرض من المعنويات: القيادة والقوامة، وقد خص الله بهما الرجال، وأشرف ما في الأرض من الماديات: الذهب والحرير، وقد خص الله بهما النساء، فوقع التوازن بين القسمين، ولم يعتد أحد القسمين على أحد الصنفين على الآخر؛ لأن كل واحد منهما قد نال ما يرضيه.

ثم بعد هذا جاءت التكاليف ، فما كان منها من الثوابت المتعلقة بأصل البشرية فالرجال والنساء فيه سواء، وقد بينا من قبل أن الأوامر الشرعية، منها ما هو من الثوابت كأصول الاعتقاد والتعبدات والمعاملات، فهذه الرجال والنساء فيها سواء، عقيدة الرجال وعقيدة النساء سواء، عبادة الرجال وعبادة النساء سواء، المعاملات وما يشرع من البيع والشراء والإجارة وغير ذلك الرجال والنساء فيه سواء، فهذه أحكام مشتركة جعلها الشارع لجميع الخلائق، وهي التي تنظم علاقاتهم ولا يمكن أن يستغنوا عنها، ثم بعد ذلك خص كل طائفة بما يناسبها من الأحكام المتغيرة، والمقصود بتغيرها هنا أنه لا تشمل كل البشر، فيرد الخطاب بها إلى بعضهم دون بعض، فهذه منها الفرائض الكفائية التي إن قام بها بعض البشر سقط الخطاب عن الباقين ولم يطالبوا بأن يفعلوا، كإنقاذ الغريق إذا انغمس في البحر، فإذا أنقذه شخص واحد، ما فائدة انغماس الآخرين لإنقاذه بعد أن أنقذ، فهذا النوع هو الذي يسمى بفروض الكفاية، والمقصد الشرعي تحققها وحصولها بغض النظر عن فاعلها، بخلاف الصلاة والصيام والزكاة والحج، فهذه فرائض عينية، لا يقصد مجرد تحققها ووقوعها، بل يقصد أن يشارك فيها كل أحد وأن يؤدي الحق الذي عليه فيها، فهذا النوع من الخطاب وهو الفرائض الكفائية هي التي يقع فيها هذا التفاضل بحسب نعمة الله على الإنسان وطاقته، فكما أن الإنسان العادم للعقل قد رفعت عنه التكاليف جملة وتفصيلاً، وكما أن الإنسان العادم للسمع أو للبصر أو للمشي رفع عنه بعض التكاليف في مقابل ذلك، كما قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17].

وكما أن الغني جعل عليه من التكاليف ما ليس على الفقير، في مقابل ذلك من كانت لديه قوة وطاقة لا توجد لدى غيره فالتكاليف على مقابل تلك القوة والطاقة تختص به، وليس هذا جوراً ولا ظلماً، ولا نقصاً للطرف الآخر؛ لأن هذا التكليف رتب على نعمة، فهذه النعمة على قدرها يكون التكليف، كما أن الرجلين الذين أحدهما غني والآخر فقير تكاليفهما غير متساوية، فكذلك الرجال والنساء من هذا القبيل، ما أوتي الرجال من الطاقات المختصة عليهم فيه من التكاليف ما ليس على النساء، وما أوتي النساء من الطاقات المختصة عليهن فيه من التكاليف ما ليس على الرجال، ومن هنا تحسم الجدلية التي يراها بعض الناس حين يرون الفرق الفسيولوجي بين الرجال والنساء مؤثراً في الأحكام أو داعياً إلى النزاع والصراع، يرون الآن من هذا الكلام أن هذه الجدلية لا أساس لها، فالجميع لم يشاور أحد منهم في خلقته، لم يشاور الله أحداً من خلقه: كيف أخلقك ذكراً أم أنثى؟ كبيراً أو صغيراً؟ أبيض أو أسود؟ لم يشاور الله أحداً في ذلك، وقد قال الله تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]، وقال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]، فكل ذلك بأمر الله وحده لا يمكن أن يتدخل أحد من خلقه، وهو قسمة كما قسم الله الأرزاق والأخلاق بين الناس، كذلك قسم الخلقة على نحو ما أراد، ومن هنا فكما أن السماء لا تبأى بخلقتها على الأرض، وكما أن النبات لا يبأى بعضه بخلقته على بعض، فكذلك هذه الأجناس البشرية، ولا بد أن يدرك أن الفرق الحاصل بينها ليس فرقاً إرادياً واختيارياً، وإنما هو فرق في الخلقة قدره الله سبحانه وتعالى، كما قدر الغنى والفقر، وطول العمر وقصره، والصحة والسقم، كل ذلك من تدبيره لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

فعلى كل صنف أن يرضى بالهيئة التي خلق عليها، وأن يباشر صلاحياته ومسؤولياته على وفق ما أوتي، وأن لا تطمح نفسه لما فوق ذلك، فقد قال الله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32]، فكل له نصيب مما اكتسب، وبعد ذلك الجميع مطالبون بأن يسألوا الله من فضله، والله يفضل من يشاء، فالتفاضل الدنيوي مدته محصورة يسيرة، وبعده أحوال أهل الدنيا متقاربة وأحوال أهل الآخرة متباعدة، إذا كان الإنسان في هذه الدار مسوداً، فليس معنى ذلك أن يكون مسوداً في الدار الآخرة، قد يكون سيداً في هذه الدار ويكون مسوداً حقيراً ذليلاً في الآخرة، وقد يكون أيضاً حقيراً ذليلاً مسوداً في هذه الدار ثم يكون سيداً عزيزاً في الدار الآخرة يوم القيامة.

والشرف والعزة إنما تحصل لمن أوتي كتابه بيمينه وبيض الله وجهه، ثم أدخله جنته، ثم جعل وجهه من الوجوه الناضرة الناظرة إلى وجه الله الكريم، ومن وصل إلى هذا المقام ليس عليه من بأس، سواءً كان من قبل ذكراً أو أنثى، سواءً كان غنياً أو فقيراً، سواءً كان صحيحاً أو سقيماً، سواء كان عالماً أو جاهلاً، سواءً كان قوي الجسم أو ضعيف البنية، هذا التفاوت كله مدته محصورة بهذا العمر الدنيوي.

ولذلك لا بد أن ننظر نظرة عجلى إلى أحوال أهل البرزخ، فإننا إذا رأينا المقبورين لم نميز بين قبر الذكر والأنثى، والغني والفقير، والصحيح والضعيف، فقبورهم متساوية، وبذلك يعلم أن التفاوت إنما هو لمدة محصورة يسيرة في هذه الحياة الدنيا، كما ذكرت من قبل أن مثال تفاوت أهل الدنيا وأحوالهم فيها، مثال قوم ركبوا في سيارة، فكان بعضهم في مقدمها وبعضهم في مؤخرها، قطعوا مائة كيلو ثم نزلوا عن السيارة يمشون، فالذين كانوا في المقدم لم تبق تكت معلقة على صدورهم أنهم كانوا في المقدم، والذين كانوا في المؤخر كذلك ليس لهم ما يذلهم ويحقرهم بأنهم كانوا في مؤخر السيارة، فالجميع وصلوا في وقت واحد، وتلاحقوا وتداركوا، فكذلك حال الناس بعثوا إلى هذه الأرض لمهمة ليس بأيديهم الابتعاث فيها، ولم يشاوروا فيها، ثم بعد ذلك يحشرون إلى الله فيحاسبهم على ما كلفهم به، وكل إنسان منهم يأتي فرداً ليس تابعاً لأحد وليس معه أحد يصارع عنه ولا يجادل عنه، وليس له محام ولا شفيع: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل:111].

حينئذٍ يأتي كل إنسان فرداً كما قال الله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:95]، وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَينَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تزْعُمُونَ [الأنعام:94].




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع