تفسير سورة الغاشية


الحلقة مفرغة

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً [الغاشية:1-11].

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

دلالة الاستفهام في قوله تعالى: (هل أتاك) وما ورد فيه

فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه خرج ذات ليلة في المدينة، فمر على باب عجوز من الأنصار تقرأ القرآن، فإذا هي تقرأ سورة الغاشية، فقرأت قول الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أتاني، نعم أتاني، وما زال يبكي على بابها ).

وهذا الاستفهام للنبي صلى الله عليه وسلم ليس استخبارياً، وإنما هو تنبيه على ما نزل إليه من أخبار القيامة، والقيامة هي الغاشية، وقد سماها الله بكثير من الأسماء المفظعة المروعة في كتابه، فسماها: القارعة، والواقعة، والآزفة، والصاخة، والطامة، والغاشية، وغير ذلك من الأسماء.

والمقصود بالإتيان هنا، الإتيان من عند الله تعالى بالوحي.

معنى الحديث في اللغة والاصطلاح

والحديث في اللغة يطلق على ضد القديم، يقال: خبر قديم، وخبر حديث، ويطلق على القول، فالأقوال كلها تسمى حديثاً، سواء كان ذلك القول مفيداً أو غير مفيد، فمن إطلاقها على المفيد قول الله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ[الأعراف:185]، أي: بعد القرآن، ومن إطلاقه على غير المفيد قول الشاعر:

وحديثها السحر الحلال لو انه لم يجنِ قتل المسلم المتحرز

إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ودَّ المحدث أنها لم توجزِ

ويطلق على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمى في الأصل حديثاً وقد توسع الناس فيه فأطلقوه على كل ما أثر عنه، فيشمل ذلك الأقوال والأفعال والتقريرات، فكلها تسمى في الاصطلاح حديثاً، وإن كان الحديث في الأصل، للأقوال فقط.

وجمعه أحاديث، ومفرده حديث، وإن كان يطلق على الجمع، إلا أنه يجمع أيضاً، وذلك عند قصد التنويع، فإذا قصد التنويع جمع إلى أحاديث الركبان، ومن هذا قول الشاعر:

ولما قضينا من منىً كل حاجة ومسّح بالأركان من هو ماسح

وشدت على عوج المطايا رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح

ومفرده في الغالب يسمى حديثاً، وقد يسمى أحدوثةً، وقد ذكر أهل الحديث أنه لا يجوز إطلاق ذلك على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأفعولة في اللغة إنما تطلق على التافه، كالأكذوبة والأعجوبة، والأضحوكة، فهذه للأمر التافه.

فلا يطلق ذلك على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يطلق على أحاديث الناس، ويقال: سمعت من فلان أحدوثةً، أي قصةً، أو نحو ذلك.

معنى حديث الغاشية

وهنا حديث الغاشية، أي: شأنها وخبرها، فيشمل ذلك كل ما قصه الله عنها في القرآن، قبل نزول هذه السورة، والغاشية: فاعلة من غشي الشيء إذا ألم به، والغشي يطلق على العرق الشديد، ومنه قول أسماء رضي الله عنها: فقمت حتى علاني الغشي، أي: العرق الشديد، وهي تغشى الناس، أي: تأتيهم بغتةً، ولا تأتي إلا كذلك، كما قال الله تعالى: لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف:187]، فلذلك سميت الغاشية.

ومن حديث الغاشية ما بينه بعد هذا السؤال الذي يدل على العناية والاهتمام فقط.

فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه خرج ذات ليلة في المدينة، فمر على باب عجوز من الأنصار تقرأ القرآن، فإذا هي تقرأ سورة الغاشية، فقرأت قول الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أتاني، نعم أتاني، وما زال يبكي على بابها ).

وهذا الاستفهام للنبي صلى الله عليه وسلم ليس استخبارياً، وإنما هو تنبيه على ما نزل إليه من أخبار القيامة، والقيامة هي الغاشية، وقد سماها الله بكثير من الأسماء المفظعة المروعة في كتابه، فسماها: القارعة، والواقعة، والآزفة، والصاخة، والطامة، والغاشية، وغير ذلك من الأسماء.

والمقصود بالإتيان هنا، الإتيان من عند الله تعالى بالوحي.

والحديث في اللغة يطلق على ضد القديم، يقال: خبر قديم، وخبر حديث، ويطلق على القول، فالأقوال كلها تسمى حديثاً، سواء كان ذلك القول مفيداً أو غير مفيد، فمن إطلاقها على المفيد قول الله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ[الأعراف:185]، أي: بعد القرآن، ومن إطلاقه على غير المفيد قول الشاعر:

وحديثها السحر الحلال لو انه لم يجنِ قتل المسلم المتحرز

إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ودَّ المحدث أنها لم توجزِ

ويطلق على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمى في الأصل حديثاً وقد توسع الناس فيه فأطلقوه على كل ما أثر عنه، فيشمل ذلك الأقوال والأفعال والتقريرات، فكلها تسمى في الاصطلاح حديثاً، وإن كان الحديث في الأصل، للأقوال فقط.

وجمعه أحاديث، ومفرده حديث، وإن كان يطلق على الجمع، إلا أنه يجمع أيضاً، وذلك عند قصد التنويع، فإذا قصد التنويع جمع إلى أحاديث الركبان، ومن هذا قول الشاعر:

ولما قضينا من منىً كل حاجة ومسّح بالأركان من هو ماسح

وشدت على عوج المطايا رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح

ومفرده في الغالب يسمى حديثاً، وقد يسمى أحدوثةً، وقد ذكر أهل الحديث أنه لا يجوز إطلاق ذلك على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأفعولة في اللغة إنما تطلق على التافه، كالأكذوبة والأعجوبة، والأضحوكة، فهذه للأمر التافه.

فلا يطلق ذلك على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يطلق على أحاديث الناس، ويقال: سمعت من فلان أحدوثةً، أي قصةً، أو نحو ذلك.

وهنا حديث الغاشية، أي: شأنها وخبرها، فيشمل ذلك كل ما قصه الله عنها في القرآن، قبل نزول هذه السورة، والغاشية: فاعلة من غشي الشيء إذا ألم به، والغشي يطلق على العرق الشديد، ومنه قول أسماء رضي الله عنها: فقمت حتى علاني الغشي، أي: العرق الشديد، وهي تغشى الناس، أي: تأتيهم بغتةً، ولا تأتي إلا كذلك، كما قال الله تعالى: لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف:187]، فلذلك سميت الغاشية.

ومن حديث الغاشية ما بينه بعد هذا السؤال الذي يدل على العناية والاهتمام فقط.

قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:2-4]، هذا تنويع للناس، وبيان لحالهم يوم القيامة، فقد بين الله سبحانه وتعالى: أن الناس ينقسمون إذ ذاك إلى قسمين: فمنهم شقي وسعيد: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:106-108].

معنى كلمة (وجوه)

والوجوه جمع وجه، ويطلق على ما يقابلك من الشيء، فتقول: سر في هذا الوجه، أي فيما يقابلك من الأرض.

ومن ذلك قول الشاعر:

خذا وجه هرشا أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشا لهن طريق

وجه هرشا: أي ما يقابلك من هذه الثنية، وهرشا ثنية بين مكة والمدينة، جاء ذكرها في حجة الوداع عندما مر النبي صلى الله عليه وسلم على ثنية فسأل عنها فقال: (ما اسم هذه الثنية؟ قيل: هرشا، فقال: لكأني أنظر إلى موسى بن عمران يجزع بطن هذه الثنية، على ناقة له حمراء خطامها من ليف، له عجيج بالتلبية).

والوجوه هنا في الإطلاق العام تطلق على العضو البشري المعهود، وهو الذي يلزم غسله في الوضوء، لقول الله تعال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، وهو المستدير ما بين الناصية والذقن والأذنين، في حق من لا لحية له، أو من ليس له عذاران، وما بين العذارين في حق من له عذاران، وقيل: يدخل ما وراء العذار في الوجه مطلقاً، في حق من له لحية ومن لا لحية له، فيجب غسله، ومن المعلوم أن الوجه مشتق من المواجهة، كما ذكرنا، فإذا كانت اللحية تستر ما وراءها، فما بين العذار والأذن لا يواجهك عند رؤيتك لوجه صاحبك.

والوجه: هو محل المحاسن من الإنسان وفيه منافعه، كالسمع والبصر والذوق والشم، والكلام، وأيضاً هو مكان التكريم منه، ولهذا يسمى تكريم الإنسان وجاهةً.

وإذا كانت الوجوه كذلك فإنها تذكر بالنعيم والعذاب، كما ذكر هنا.

و يَوْمَئِذٍ [الغاشية:2]، أي: يوم القيامة، يوم الغاشية، وهي كما سبق ظرف مضاف إلى ظرف آخر، وهو: إذ، الذي هو ظرف للاستقبال، والذي هو ظرف ملازم للإضافة إلى الجمل، واستغني بتنوينه هنا عن المضاف إليه الذي هو جملة محذوفة، فالمعنى: وجوه يومئذ تقوم الغاشية، أو تقوم القيامة.

معنى خاشعة

خَاشِعَةٌ [الغاشية:2]، أي: ذليلة، وهذا خبر وجوه، ولما كانت الوجوه جمعاً، أخبر عنها بالمؤنث، فلو أخبر بالمذكر، لكان ذلك إفرادً لها، فأخبر عنها بالمؤنث، وهذا الذي يطلقه بعض النحويين فيقول: كل جمع مؤنث، ومنه قول الزمخشري :

إن قومي تجمعوا وبقتلي تحدثوا ما أبالي بجمعهم كل جمع مؤنث

وخاشعة من خشع بمعنى: ذل وانقاد، والمقصود هنا ما يغشى تلك الوجوه من القتر، والإظلام يوم القيامة، وقد بين الله ذلك في كتابه في قوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:27].

والوجوه جمع وجه، ويطلق على ما يقابلك من الشيء، فتقول: سر في هذا الوجه، أي فيما يقابلك من الأرض.

ومن ذلك قول الشاعر:

خذا وجه هرشا أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشا لهن طريق

وجه هرشا: أي ما يقابلك من هذه الثنية، وهرشا ثنية بين مكة والمدينة، جاء ذكرها في حجة الوداع عندما مر النبي صلى الله عليه وسلم على ثنية فسأل عنها فقال: (ما اسم هذه الثنية؟ قيل: هرشا، فقال: لكأني أنظر إلى موسى بن عمران يجزع بطن هذه الثنية، على ناقة له حمراء خطامها من ليف، له عجيج بالتلبية).

والوجوه هنا في الإطلاق العام تطلق على العضو البشري المعهود، وهو الذي يلزم غسله في الوضوء، لقول الله تعال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، وهو المستدير ما بين الناصية والذقن والأذنين، في حق من لا لحية له، أو من ليس له عذاران، وما بين العذارين في حق من له عذاران، وقيل: يدخل ما وراء العذار في الوجه مطلقاً، في حق من له لحية ومن لا لحية له، فيجب غسله، ومن المعلوم أن الوجه مشتق من المواجهة، كما ذكرنا، فإذا كانت اللحية تستر ما وراءها، فما بين العذار والأذن لا يواجهك عند رؤيتك لوجه صاحبك.

والوجه: هو محل المحاسن من الإنسان وفيه منافعه، كالسمع والبصر والذوق والشم، والكلام، وأيضاً هو مكان التكريم منه، ولهذا يسمى تكريم الإنسان وجاهةً.

وإذا كانت الوجوه كذلك فإنها تذكر بالنعيم والعذاب، كما ذكر هنا.

و يَوْمَئِذٍ [الغاشية:2]، أي: يوم القيامة، يوم الغاشية، وهي كما سبق ظرف مضاف إلى ظرف آخر، وهو: إذ، الذي هو ظرف للاستقبال، والذي هو ظرف ملازم للإضافة إلى الجمل، واستغني بتنوينه هنا عن المضاف إليه الذي هو جملة محذوفة، فالمعنى: وجوه يومئذ تقوم الغاشية، أو تقوم القيامة.

خَاشِعَةٌ [الغاشية:2]، أي: ذليلة، وهذا خبر وجوه، ولما كانت الوجوه جمعاً، أخبر عنها بالمؤنث، فلو أخبر بالمذكر، لكان ذلك إفرادً لها، فأخبر عنها بالمؤنث، وهذا الذي يطلقه بعض النحويين فيقول: كل جمع مؤنث، ومنه قول الزمخشري :

إن قومي تجمعوا وبقتلي تحدثوا ما أبالي بجمعهم كل جمع مؤنث

وخاشعة من خشع بمعنى: ذل وانقاد، والمقصود هنا ما يغشى تلك الوجوه من القتر، والإظلام يوم القيامة، وقد بين الله ذلك في كتابه في قوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:27].

قال تعالى: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3]، هذه الوجوه التي هي خاشعة ذليلة يوم القيامة، مع ذلك هي عاملة، أي قد عملت واجتهدت، والمقصود بذلك: في وقت العمل الذي هو الدنيا، فعمر الدنيا هو عمر الامتحان بالعمل، والدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا عمل، فإنما كانت عاملةً في الحياة الدنيا، وكانت مجتهدةً في ذلك، فالله تعالى قال: إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، فمن عمل سيئاً، فسيجازى بسيئه يوم القيامة.

عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3]، أي: مرهقة متعبة في العمل، فنصب ولغب إذا تعب في العمل، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:2-3]، وكل هذه أخبار ولم تعطف بالواو؛ لأنها لو تعاطفت لاقتضى ذلك التنويع، وهي غير متنوعة، بل كل هذه الصفات لكل واحد منها، فكل وجه منها خاشع عامل ناصب، وذلك بالاجتهاد في العمل السيء، أو العمل الصالح في ظاهره الذي لا يقبل عند الله تعالى.

والعمل أربعة أقسام:

القسم الأول منه: ما جمع بين الإخلاص والمتابعة، فأخلص فيه صاحبه لله سبحانه وتعالى، وتابع فيه ما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فحقق صاحبه مقتضى الشهادتين، فبالإخلاص يحقق مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وبالمتابعة يحقق مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، وهذا العمل ينفع صاحبه في الدنيا بإسقاط التكليف، والعقوبة، وفي الآخرة بالقبول والجزاء.

النوع الثاني: العمل الذي خلا منهما معاً، خلا من الإخلاص وخلا من المتابعة، فلم يكن صاحبه مخلصاً لله، ولم يكن متابعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختل فيه مقتضى الشهادتين معاً، وهذا لا ينفع في الدنيا، ولا ينفع في الآخرة، فلا ينفع في الدنيا في إسقاط العقوبة وإسقاط التكليف لبطلانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، وفي رواية: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه )، فلذلك لا ينفع هذا العمل أيضاً في الآخرة؛ لأن صاحبه لم يخلص فيه لله، بل أشرك فيه غيره.

النوع الثالث: ما خلا من الإخلاص وحصلت فيه المتابعة، فأداه صاحبه على وجه السنة، ولكنه لم يكن مخلصاً فيه لله عز وجل، وهذا العمل ينفع في الدنيا في إسقاط العقوبة وإسقاط الإعادة أيضاً، ولكنه لا ينفع في الآخرة لبطلانه، لحديث أبي هريرة القدسي السابق.

النوع الرابع: ما حصل فيه الإخلاص وانعدمت فيه المتابعة، كما يبتدعه الناس من الأعمال التي يقصد بها أصحابها المبالغة في التعبد لله تعالى، ويخلصون فيها لله، ولكنها زيادة على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست اتباعاً له، فهذا النوع من الأعمال لا ينفع في الدنيا قطعاً؛ لأن صاحبه قد خالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، لكنه ينتفع به في الآخرة بأجر نيته فقط، لا بأجر العمل ذاته، فإذا نوى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى والخوف منه، فإن خشيته ولو مع المعصية تنفعه، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً كان فيمن قبلنا، كان عاصياً لله تعالى، ولم يعمل خيراً قط، فلما أدركه الموت جمع أولاده فأخذ عليهم العهود والمواثيق إذا هو مات، أن يحرقوا جثته، وأن يقسموا رماده نصفين، فيذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، قال: فلئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين -يشك في قدر الله- فلما مات صنعوا به ما أوصى، قسموا رماده نصفين، وذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فأمر الله البر، فجمع ما فيه، والبحر فجمع ما فيه، فقام بشراً سوياً فقال له: أي عبدي! ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له )، فالخشية هنا اقتضت المغفرة من عند الله سبحانه وتعالى، لهذا الشخص الذي كان صادقاً في الخشية، وإن كان عاصياً في الفعل، ففعله وعمله لا خير فيه، ولكن مع ذلك كان صادقاً في نيته، فتقبل الله منه، وقد صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه لما ذهب إلى الشام لفتح بيت المقدس، رأى الرهبان في الأديرة يبكون ويتعبدون، فبكى عمر بكاءً شديداً، وقرأ آيات سورة الكهف: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا[الكهف:103-105].

قال تعالى: تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:4]، تَصْلَى [الغاشية:4]، أي: تدخل النار، والصلاء في الأصل تسخين الشيء، فـصلّى العود على النار، وأصلاه عليها إذا سخنه عليها؛ ليقومه، والمقصود بذلك: دخولها النار، نسأل الله السلامة والعافية، وذلك أن هذه الوجوه تغشاها النار أول ما تشاهدها كما قال الله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:8-9]، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104]، لذلك قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:24]، والنار تشمل ما يراه الناس منها في المحشر، حين يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، وما يرونه ويشاهدونه عند دخولهم النار، فإنها تسفع بلهبها الوجوه، وقد سماها الله تعالى: لَوَّاحَةٌ للْبَشَرِ[المدثر:29] و(اللواحة): التي تزيل الجلد وتأكله، و(البشر)، الجنس واحدته بشرة، أي: ما يبدو من الجلد، فيشمل ذلك وجه الجلد، فإن النار تأكله بسرعة هائلة، فهذا ما سميت به: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ [المدثر:29].

وهذه النار، وصفت هنا بقوله: حامية، والحامية الشديدة الحر أو البرد، فهي تحمي الداخل فيها من الخروج، وتحمي الخارج من الدخول؛ لشدة حرها، ولشدة بردها، بحسب طبقاتها، وأنواعها، ففيها الجحيم وفيها الزمهرير، والجحيم: شديد الحر، والزمهرير: شديد البرد.

قال تعالى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5]، تُسْقَى [الغاشية:5]، أي: يسقى أصحابها، وأطلقت الوجوه هنا على الناس قوله: مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5]، (( مِنْ عَيْنٍ )) وهي مكان الماء وعين الماء، والآنية المتغيرة، وذلك بماء النار الذي خالطه عرقهم وصديدهم، وهو الذي يسمى بالغسلين، نسأل الله السلامة والعافية، فمنه يشرب أهل النار، وهذا الماء: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:20]؛ لشدة حره، فلا يزيدهم إلا ظمأً، ومع ذلك لا يتخلصون من أنفسهم، فلا موت لهم، بل مع كل ما يحصل من الاحتراق، وأكل النار لأجسامهم، تنبت وتعود في نفس اللحظة، قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].