المعالم المنجية من شؤم المعصية


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:71].

الحمد لله رب العالمين، فلقد بدأ المسجد والحلقة والمحاضرة والمركز والمجلس العلمي، يختطف جمهور الكرة والأغنية والشاشة وغيرها، وأصبحنا نشهد انتصار الإسلام صباح مساء من خلال هذه الجموع التي تحرص على استماع الكلمة الطيبة، وتحرص على حضور المحاضرة والدرس والموعظة، في حين أصبحت المجالات الأخرى تفقد جمهورها شيئاً فشيئا، وهذه خطوات محمودة في طريق انتصار الإسلام في هذه البلاد وفي كل البلاد بإذن الله تعالى، قال تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88].

عنوان هذه المحاضرة التي تلقى في هذه الليلة، ليلة الخميس 27 من شهر ذي القعدة لعام 1410هجرية في هذا المسجد وهو جامع الخليل بـالدمام، "المعالم المنجية من شؤم المعصية" وأستسمحكم عذراً إذ أقول: إننا حين نتكلم عن المعصية، فكأننا حذاقها وفلاسفتها والخبراء فيها، فهي أرض قد ترددنا فيها وبلاد قد عرفناها، ويا ليتنا إذ نتكلم عن الطاعة ووسائلها وأسبابها ومعالمها، نعلم من ذلك ما نعلمه من شأن المعاصي.

لقد خلق الله عز وجل المعصية في هذه الدنيا بحكمته، فالله تعالى قادر على أن يجعل الخلق كلهم على قلب رجل واحد، وقد فعل سبحانه وتعالى ذلك فيما يتعلق بالملائكة، فقد خلق خلقاً عنده شأنهم كما ذكر في كتابه: عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27] وقال الله عز وجل: مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] ولكنه تعالى خلق الخلق وقدر أن يكون الإنسان قابل للهدى والضلال، والخير والشر: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3] وقال تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] وقال تعالى أيضاً: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29].

الابتلاء والاختبار

ولذلك فإن أعظم حكمة في خلق المعصية هي الابتلاء والاختبار، بحيث أإن الإنسان ليس مكرهاً على الطاعة مجبولاً عليها بفطرته، كلا؛ بل هو بفطرته قابل للهدى والضلال، ولو شاء الله عز وجل لجعل الخلق كلهم أمة واحدة كما قال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [هود:118] يعني: على الهدى، ثم قال: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:119] يعني: للابتلاء الذي يترتب عليه اختلافهم وانقسامهم، ثم قال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45].

إذاً لا حيلة، فكما أن هناك جنة فهناك نار، وكما أن هناك طاعة فهناك معصية، وكما أن هناك ملائكة فهناك شياطين، وكما أن هناك أبرار فهناك فجار، ولا بد من هذا، وهذه حكمة الله عز وجل وهذا هو الذي يتحقق به الابتلاء والاختبار والتمييز، وإلا فلو كان الناس كلهم مجبولين على الطاعة لما تميز أحد عن أحد، ولا مدح طائع، ولا ذم عاص؛ لأن الخلق كلهم صاروا على قلب رجل واحد.

إبراز فضل المؤمنين ومكانتهم

ومن أعظم حكم وجود المعصية وخلقها أيضاً: إبراز فضل المؤمنين ومكانتهم واستقامتهم، فلولا طغيان فرعون وجبروته وظلمه، لما ظهر فضل موسى عليه الصلاة والسلام وإيمانه وتقواه وكرمه وصبره، ولولا تسلط النمرود وتألهه وتعاظمه وادعاؤه، لما ظهر للناس فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وصبره ومكانته عند الله عز وجل حتى إنه يلقى في النار فيصبر لله عز وجل ويقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.

قال ابن عباس-رضى الله عنه-: [[حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]]]. ولولا ظلم اليهود وبطشهم وماديتهم وقسوتهم وفسادهم، لما ظهر للناس فضل عيسى عليه الصلاة والسلام وصبره، وتواضعه، وتسامحه، وإيمانه، وبره، وتقواه. ولولا ظلم قريش، وطغيانها، وكفرها، وتمردها، وعنادها، ومن ورائها الدنيا كلها، لما ظهر للناس فضل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصبرهم على دين الله عز وجل، وتحملهم المشاق في سبيله، وتضحيتهم بالغالي والنفيس في سبيل الله تعالى، فإن من أعظم حكم وجود المعصية أن يظهر الله تعالى فضل الفضلاء، فيبرز الأنبياء الصادقون، ويبرز المجاهدون، والمؤمنون، والمتقون، فتبين حقائق الرجال، وتظهر جواهرهم ومعادنهم وتتميز، هذا في الدنيا.

أما في الآخرة فكما قال الله عز وجل: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:21] يقول القائل:

وإذا أراد الله نشر فضيلة      طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت      ما كان يعرف فضل عرف العود

يعني هذا العود الذي يتبخر به الناس، لولا أن النار تشتعل فيه فتظهر رائحته وطيبه ما عرف الناس ذلك، إذن كذلك الأبرار والصالحون، إذا مسهم أذى الفجار وظلمهم وإيذاؤهم وطغيانهم ظهرت معادنهم وحقائقهم، وتميزت وصفت، فبانوا أصفى من الزجاج، وأبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأقوى إيماناً، وأرسخ من الجبال الراسيات.

تحقيق الوحدانية لله عزوجل

ومن أعظم حكم وجود المعصية وخلقها، تحقيق الوحدانية لله عز وجل في ربوبيته وألوهيته، وأنه بيده القضاء والقدر، فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، فإن العبد حينئذ يحصل له من التسليم والانقياد لله عز وجل وإدراكه للعجز التام المطلق عن الحول والطول والقوة إلا بالله تعالى، فيفزع من الله تبارك وتعالى إليه، ولذلك يقول العبد: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك} لأنه يدرك بوجود المعصية أن الله تعالى هو الذي خلق المعصية، وهو مصرف العباد، ومقلب قلوبهم وموجهها على حسب ما تقتضيه حكمته جلَّ وعلا وعدله، وحينئذ يدرك العبد أن الألوهية الحقة هي لله، وأن الربوبية والملك والتدبير هي لله جلَّ وعلا، فيفزع من الله تبارك وتعالى­ إليه، لهذا يقول الله عز وجل في آخر سورة التوبة: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة:117] إلى أن قال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة:118] لاحظ، ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن العبد إذا رأى المعصية سواء في نفسه أم في غيره، أدرك أن مقامه مقام العبودية، والعجز، والتسليم، والانقياد، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله جلَّ وعلا.

تحقيق معاني أسماء الله وصفاته

ومن حِكم وجود المعصية: تحقيق معاني أسماء الله تعالى وصفاته، فإن الله تعالى من أسمائه الخالق، وهذا الاسم يتجلى في خلق السماوات والأرض، والأملاك، والأفلاك، والبشر، والبهائم، والدواب، والملائكة، وغيرها.

ومن أسمائه الرزَّاق، ومن مظهر وأثر هذا الاسم أن الله تعالى يرزق الطير في ثكناتها، ويرزق السباع، ويرزق الحيات في جحورها، ويرزق الإنسان، ولو كُتِبَ للعبد رزق في أعماق أعماق البحار لقيضه الله تعالى له فيصل إليه.

ومن أسمائه تعالى أنه المحيي المميت، فهو من شأنه أن يحيي ويميت، وفي كل لحظة في الدنيا يحيي الله تعالى آلاف الأحياء، ويميت آلافاً أخرى، فلا تزال الدنيا كلها في حركة متجددة من الحياة والموت بإذن الواحد القهار جل وعلا!.

وكذلك من أسمائه جل وعلا أنه الرحمن الرحيم، وهذه الرحمة تتجلى في صور شتى منها رحمته تعالى بالعصاة، ومن أسمائه الغفور ولو لم يكن هناك أناس يخطئون فيستغفرون فيغفر لهم، لما ظهر أثر هذا الاسم الجليل العظيم "الغفور"!.

ومن أسمائه "الحليم" فلو لا أن هناك من يخطئ في جنب الله تعالى، ويظلم نفسه، ويعصي ويبارز الله تعالى فيحلم الله تبارك وتعالى عليه، ويعفو عنه، ولا يعاجله بالعقوبة، لما ظهر للناس شرف هذا الاسم وعظمته وقدره.

وهكذا كان من حكم وجود المعصية ظهور آثار أسماء الله تعالى الحسنى، مثل الرحمن والرحيم والغفور والحليم، ولذلك قال عيسى عليه الصلاة والسلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] وورد في السنن عن أبي ذر {أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة كاملة حتى أصبح يقرأ هذه الآية ويبكي إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] } ولاحظ كيف ختم الآية بقوله: أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] ولم يقل أنت الغفور الرحيم؛ ليشعر بأن مغفرته جل وعلا للعصاة من عباده، ليست عن عجز عن المعاقبة، كلا! وليست عن عدم معرفة بالحق، كلا! وإنما يغفر لهم مع أنه العزيز الذي قهر وغلب وقَدِرَ جل وعلا، ومع أنه الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، ومع ذلك كله فإنه يغفر لعباده ولا يعاجلهم بالعقوبة.

إظهار الإيمان وتقوية شواهده

ومن أعظم حكم خلق المعصية: إظهار حقيقة الإيمان وتقوية شواهده للمؤمنين والصادقين، وذلك حين يرون آثار الطاعة والمعصية في حياتهم، فإن الله عز وجل ذكر في كتابه، بل وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث أثر الطاعة وأثر المعصية، أثر الطاعة على الأفراد وعلى الجماعات وعلى الأمم في استقامة أحوالها، سواء فيما يتعلق بقلوبهم وسعادتهم واطمئنانهم وروحهم وإيمانهم، أم فيما يتعلق برزقهم وسعة ما يعطيهم الله تعالى من المأكل والمشرب والمطاعم والملاذ، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96] وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً [الجن:16] وبالمقابل قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].

قال بعض السلف: المعيشة الضنك هي عذاب القبر، والواقع أن المعيشة الضنك هي أوسع من هذا كله، فالمعيشة الضنك في الدنيا بضيق الصدر والهم والحزن والقلق الذي يخيم على قلب العاصي، حتى كأن الدنيا في عينه أضيق من ثقب إبرة، ولو أجلبت وراءه الشُّرَط والأعوان، والأنصار، والأموال، والدنيا، والمواكب، فإن هذا الإنسان يعيش قلبه في ضيق لا يعلمه إلا الله، كما قال الإمام الحسن البصري -رحمه الله- وقد مر به موكب من بعض العصاة قال: [[إنهم وإن هَمْلَجَتْ بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه]]. ولذلك إذا رأيت العاصي رأيت في نفسه من الذل والصغار، مصداق ما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وأحمد بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وجُعل الذلة والصغار علىمن خالف أمري} وبالمقابل إذا رأيت المطيع رأيت فيه من العزة والقوة والمنطق والإيمان والثقة والثبات، ما يليق بموقعه عبداً مطيعاً مخبتاً لله جل وعلا.

والمقصود أن من حِكَم خلق المعصية أن يرى الناس بأعينهم مصداق هذا، فإن عصى الإنسان ربه وجد أن أثر المعصية في نفسه، وفي ولده، وفي زوجته، وفي ماله، وفي خدمه، وفي عبيده، وفي سيارته، وفي كل شيء، حتى قال بعض السلف: والله إني لأعصى الله عز وجل فأرى أثر ذلك في خُلُقِ زوجتي، وفي سير دابتي، فإن عصى الله تعالى أصبح ينظر أين عقوبة هذه المعصية؟!! فيجد اليوم زوجته قد أساءت معاملته، وتكلمت عليه بكلام قاس، وبكلام شديد، وأغلظت له، ولم تجهز له الطعام كما ينبغي، وما حققت له ما يريد، ودخل عليها يريد أن يرى الابتسامة التي تعوَّد عليها، ويرى الصدر المنشرح، ويرى الكلمة الطيبة، فوجد الاكفهرار، والتقطيب، والإعراض، ما هو السبب؟ السبب: تعلمه أنت، وهي لا تعلمه، لكن العبد مسير في هذه الأمور، فالله عز وجل أظهر أثر المعصية في خلق زوجتك، وفي دابتك، وفي سيارتك، وفي رزقك.

كم من إنسان يذهب يطلب الرزق؟ اليوم أسس شركة، فيجد بعد فترة أن الشركة قد انهارت ولا بد من التصفية، فذهب يحاول أن يشتغل بالزراعة، فكانت النتيجة واحدة، وذهب في طريق ثالث، ورابع، وخامس، فوجد أن الأبواب كلها مغلقة أمامه، فنقول له: ارجع حاسب نفسك، وانظر فإن البلاء في نفسك، والبلاء في داخلك!.

وهذه ليست قاعدة مطردة، فأنت قد تجد كافراً موسعاً له في الرزق، لكن هذه القاعدة إنما تصدق في شأن من أراد الله به خيراً، فإن الله تعالى يرسل له النذر، والتعليمات، والتوجيهات، والتنبيهات، أما الإنسان الذي لا يحبه الله فلا يبالي به في أي واد هلك، فإن الله تعالى يمد له من الدنيا مدا، وكلما زاد في المعصية ربما زاد الله له في الرزق، ووسَّع عليه وأعطاه حتى يقبضه الله عز وجل وهو أكفر ما كان، وأعصى ما كان، وأقسى ما كان، كما قال الله عز وجل: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55] فيمد الله تعالى لهم في الدنيا مدا، حتى يلقوا الله تعالى بآثامهم وذنوبهم كاملة موفورة، فيأخذهم بها أخذ عزيز مقتدر.

فإن رأى العبد أثر المعصية في نفسه وفي مجتمعه، وفي أسرته، وفيمن حوله، أدرك صدق ما جاءت به الرسل، وأن الأمر حق لا مرية فيه، وهذا لا يحدث إلا لمن في قلبه بعض الحياة، وإلا فإن الإنسان الذي قلبه قد مات والعياذ بالله فإنه يفسر الأمور تفسيراً مادياً؛ لأنه لا يؤمن بما وراء الأحداث المشهودة من قدر الله وإرادته وتدبيره، فإذا رأى في الأمور الدنيوية تعكيراً أو تأخيراً فسره تفسيراً معيناً، فيقول: والله هذا الأمر بسبب سوء الحسابات، وعطل السيارة وبسبب كذا وكذا، وخلق الزوجة بسبب كذا، وهكذا يفسر الأمور تفسيراً مادياً قريباً، ويغفل عما وراء الأحداث، ونحن لا ننكر الأسباب، ولكن وراء الأسباب أسباب، ووراء الأسباب مسبب الأسباب وخالقها جل وعلا والمؤمن يدرك هذه المعاني ويلحظها، أما الغافل فإنه يمضي قدماً لا يلوي على شيء حتى يهلك في قبره.

انظر مثلاً إلى ما ذكره بعض الصالحين، ذكر الإمام المنذري في الترغيب والترهيب قصة عن الإمام البيهقي أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن المبارك -رضى الله عنه وأرضاه- وقال له: يا أبا عبد الرحمن إن في ركبتي قرحه قد نبتت منذ سبع سنين، وقد عرضتها على جميع الأطباء، وذهبت وجئت وعالجت، وما تركت أحداً إلا أتيته، فما نفع ذلك ولا أجد شيئاً فماذا ترى لي يا أبا عبد الرحمن بارك الله فيك؟ قال له عبد الله بن المبارك: اذهب إلى مكان يحتاج الماء فاحفر فيه بئراً وسبلها للناس، فإن شاء الله تعالى كلما خرج الماء وانتفع به الناس نقص هذا الدم الذي يخرج من ركبتك وشفاك الله تعالى، ففعل هذا الرجل، فما هي إلا أزمنة يسيرة حتى شفاه الله تعالى.

هذه القصة في ميزان الطب، حين تأتي للطب كعلم محدث فليست عنده خانة معينة لهذا الأمر، لكن في مجال الأمور الشرعية والمشاهدات الحسية، فإن هذا الأمر يرى عياناً لا شك فيه ولا تردد، ولسنا في حاجة إلى قصة حصلت في عهد عبد الله بن المبارك، أو قصة أخرى، أو ثالثة، أو رابعة، أو عاشرة، فإن كل امرئ منا يرى في حياته من مثل هذه القصة الأشياء الكثيرة، حتى العلم الحديث بدأ يحاول أن يفسر هذه الأمور ويجد لها موقعاً صحيحاً، لأنها حقائق لا تقبل الجدل والخلاف حولها.

ومثل هذه القصة التي تدل على أثر الطاعة في صحة الإنسان واستقامة حاله، وشفائه مما يعانى من أمراض، ما ذكره البيهقي، عن الشيخ أبا عبد الله الحاكم، وهو شيخ البيهقي، وهو صاحب المستدرك أنه نبت في وجهه قروح وجروح أيضاً، وعرض نفسه على الأطباء فما نفع ذلك شيئاً، فجاء إلى الإمام أبي عثمان الصابوني وهو من أئمة أهل السنة والجماعة وهو في مجلسه يوم الجمعة، وفي مجلسه خلق كثير، فقال له: يا أبا عثمان قد ترى ما في وجهي من القروح والجروح، فلو دعوتم الله تبارك وتعالى لي؛ لعل الله تعالى أن يشفيني من هذا الأمر الذي شوهني، فرفع أبو عثمان الصابوني -رحمه الله- يديه ودعا وأمن الحضور وضجوا رجالاً ونساء بالبكاء والدعاء للإمام أبي عبد الله الحاكم؛ لأنه من أئمة الإسلام، ومن رجاله العظام، ومن شيوخ أهل السنة والجماعة، فلما كانت الجمعة الثانية كتبت امرأة ورقة وألقت بها في المجلس، وإذا بها تقول: إنني بعد أن رجعت إلى بيتي دعوت الله عز وجل لـأبا عبد الله الحاكم أن يشفيه، فلما نمت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: قولي لـأبي عبد الله الحاكم يتصدق وليسق المسلمين الماء، لعل الله أن يشفيه، فأخبرت أبا عبد الله الحاكم بذلك فتصدق وحفر الآبار وأجراها على المسلمين، فما هو إلا وقت يسير حتى شفاه الله تبارك وتعالى وعافاه.

أيضاً: قصة أبي عبد الله الحاكم هذه لما تبحث عن خانتها في الطب أو أي صيدلية تصرف مثل هذا فلا يوجد، لكن الذي يعلم أمور التشريع يدرك أنه، كما قال الله عز وجل: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] فالعلم لا يزال يحبو، حتى علم الطب مع أنه من العلوم المتقدمة لا يزال يحبو وأمامه مجالات واسعة ومجاهيل كبيرة، هو فيها يحتاج إلى دليل، وهذا الدليل هو الشرع والوحي والنص السماوي.

ومن عجيب وغريب ما يروى في هذا الباب -أيضاً- ما ذكره الطرطوشي وغيره: أن هناك رجلاً كان اسمه نظام الملك، وكان وزيراً لأحد سلاطين السلاجقة، فكان نظام الملك هذا رجلاً صالحاً يتصدق بالأموال على الفقراء، والمساكين، والمحتاجين، وطلاب العلم، والدعاة، والمصلحين، حتى قيل إنه كان يدفع سنوياً ستمائة ألف دينار يوزعها على هؤلاء من خزينة بيت مال المسلمين، يوزعها عليهم ولا يترك طالب علم، ولا محتاج، ولا إمام، ولا عالم، ولا داعيه، إلا أجرى له من ذلك شيئاً كثيراً، فجاءه يوماً السلطان السلجوقي وهو أبو الفتوح، وكان شاباً أصغر منه سناً، فقال له: يا أبتِ! -يعني: يسميه هكذا من باب الإجلال لكبر سنه- قد بلغني أنك تصرف ستمائة ألف دينار من خزينتنا على هؤلاء الناس الذين لا ينفعوننا بشيء، فلا هم جنود في أيديهم سلاح، ولا هم حراس، ولا شرط، ولا أعوان، ولا كتاب، ولا شيء، وهم هناك في المساجد، أو في حلق العلم، أو في دروس العلم، أو في غير ذلك، فلماذا تصرف هذا المال لهم كلهم؟! فقال له نظام الملك: يا ولدي أنا شيخ كبير السن أعجمي لو عرضتُ في سوق من يزيد -يعني كما نقول نحن في لسان العصر الحاضر في سوق الحراج- لا أساوي خمسة دراهم، وأنت كذلك غلام تركي، لو عرضت في سوق من يزيد لعلك لا تساوى ثلاثين درهماً، فقيمتنا رخيصة، ومع ذلك فأنت منهمك في معاصيك وملذاتك، وما يرفع إلى الله عز وجل من معاصيك أكثر مما يرفع من طاعتك، وجنودك الذين تصرف لهم المال، ما هم جنودك؟! ثم قال: والله لجنودك الذين تعطيهم هذا المال يكافحون عنك بسيف أخسر من المترين، وبسهم لا يصل رميه إلى ثلاثين متراً، ومع ذلك فهم منهمكون في المعاصي والخمور والمجالس السيئة والغناء واللهو واللعب والعبث، فهؤلاء لا ينفعونك بشيء، أما أنا فإنني أصرف هذه المبالغ الطائلة على رجال إذا نام جندك في الليل قاموا في محاربهم، ومدوا أكف الضراعة إلى الله جل وعلا، وهطلت دموعهم بالبكاء، ودعوا الله أن يحفظك ويحفظ جندك، وينصر أعوانك، فأنت وجيشك الذي يحميك في خفارة هذه الجنود الذين هم جيوش الليل، ولولاهم لكنت أنت وجندك في خبر كان، فلما قال الرجل هذا الكلام، بكى السلطان السلجوقي، وقال بلهجته الأعجمية: شاباش يا أبت شاباش -يعني أحسنت جيدٌ هذا. أَكْثَرْ من هذا الجيش الذي هو جيش الليل.

إذاً ليست القضية فيما يتعلق بقيام الدول وانتصارها، وتحقيقها للمكاسب الدنيوية، وليست القضية قضية مادية بحتة، فقد نقيم المصنع، ونقيم المدرسة، ونقيم المعمل والمختبر، لكن هل يتحقق بذلك لنا القوة والعزة والدولة والسلطان؟! كلا! هاهم الغرب الآن وإن نجحوا وتقدموا في ماديتهم، إلا أننا نجد أنهم أنفسهم أصبحوا يصرخون ويصيحون، ويهددون بالويل والثبور، وينذرون بالكوارث العظيمة اللاحقة بحضارتهم، والكلام في هذا يطول ليس هذا مجاله.

والمقصود أن الإنسان يرى أثر المعصية في نفسه، وفي أهله، وفي أسرته، وفي مجتمعه ومدينته، وفي دولته، وفي أمته، بل وفي الخلق كلهم.

تصوروا أن من الأخبار العلمية التي يتكلم عنها الناس الآن، ما يسمى بالثقب في طبقة الأوزون في الفضاء، وهذا من أحدث الأخبار التي أصبح العالم كله يضطرب من أجلها، ويهدد بكوارث هائلة على كافة المستويات في العالم، وهذه قضية علمية عندما تدرسها دراسة علمية، لا تستطيع أن تتجاهل البعد الشرعي، وأن المعاصي التي يرتكبها الناس والمخالفات الشرعية، هي من أهم الأسباب في ذلك، والمعاصي كلمة شاملة تشمل المعصية الفردية من الغيبة، والنميمة، والكذب، إلى آخره، وتشمل المعاصي الاجتماعية من الظلم، والطغيان، وتشمل معاصي الأمم، والجماعات، من المبالغة في الشيء، ومن ظلم هذه الشعوب المهضومة، فكلمة المعصية كلمة شاملة أوسع مما قد يدور في ذهن بعضهم، فالإنسان إذا اغتاب أحداً، فهذه معصية لا شك، أو أسبل ثوبه فهذه معصية، أو أكل مالاً حراماً فهذه معصية، ولكن هناك معاص كبيرة أعظم على مستوى الجماعات، مثل الظلم، وبخس الناس أشياءهم، ومثل ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهناك معاصي على مستوى الدول، وهناك معاص على مستوى الأمم، وكل هذه المعاصي مجتمعة، تحدث من الآثار العظيمة الرهيبة ما يشهد بصدق ما جاء به الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام.

تحقيق الرحمة بالعصاة

ومن أعظم حكم الله تعالى في خلق المعصية: تحقيق الرحمة بالعصاة، فأنتم تجدون، ونجد هذا في نفوسنا، أن الإنسان إذا كان مستقيماً وظل أشهراً على حاله من الاستقامة والطاعة والإخبات لله جل وعلا، وهو كما يقع في رمضان في النهار صائم وفي الليل قائم ومن قراءة القرآن إلى تسبيح إلى صدقة إلى عمرة، فيكون له إشراق وإيمان وقرب من الله تعالى، فإذا رأى العاصي فإنه ينفر منه، ويبغضه، ويمقته، ويقسو عليه، حتى إن من الناس من يدعو على العصاة بأن الله تعالى يهلكهم، ويأخذهم، ويبتليهم، وهكذا يقسو عليهم ويشتد، حتى إنه لو استطاع أن يقتلهم لقتلهم؛ ليحول بينهم وبين المعصية، فإذا كتب الله تعالى أن يقع العبد في شيء من معصية الله تعالى، أدركه ذل المعصية، وأدركه من الله تعالى روح، فأدرك أن هؤلاء الذين وقعوا في المعصية أحوج إلى الرحمة في بداية الأمر منهم إلى القسوة، مع أن هذا لا يمنعه من أن يقيم حدود الله تعالى عليهم، فإن كانوا قد وقعوا فيما حرم الله واستحقوا عقاباً أو تعزيراً أو حداً أو توبيخاً فعل، ولكنه مع ذلك يفعل بروح الذي يرحمهم، ويخصص لهم من وقته ما يدعوهم به إلى الله تعالى، ويتمنى لهم الشفاء العاجل، وبدلاً من أن يدعو عليهم أصبح يدعو لهم بالهداية، ويدعو لهم بالصلاح، ويدعو لهم بأن يوفقهم الله تعالى للإقلاع عما هم فيه من المعاصي، فينتقل من القسوة والغلظة إلى مقام الرحمة والشفقة على هؤلاء، والحرص على إنقاذهم مما هم فيه، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع ما لقي من المشركين، حتى إنهم أخرجوه من مكة بلده، وحاربوه وطردوه، حتى إن أبا سفيان لما أسلم، ألقى قصيدة أمام النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها:

لعمرك إني يوم أحمل راية      لتغلب خيل اللات خيل محمد

لكالمدلج الحيران أظلم ليله     فهذا أواني حين أهدى فأهتدي

هداني هاد غير نفسي ودلني     على الله من طرّدته كل مطرد

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {نعم أنت طردتني كل مطرد} أخرجوه من بلده صلى الله عليه وسلم، وشجوا وجهه، وكسروا رباعيته، وأدخلوا حلق المغفر في وجنتيه الطاهرتين عليه الصلاة والسلام، فقال: {كيف يفلح قوم شجوا نبيهم} وسقط عليه الصلاة والسلام في الحفرة، ومع هذا كله عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح عن ابن مسعود قال:{كأني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه} الله أكبر! وهو يمسح الدم عن وجهه، هل يقول اللهم العنهم اللهم اخذلهم؟! لا! يمسح الدم عن وجهه ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} كالمعتذر لهم، لا يريد أن يعاجلهم الله تعالى بالعقوبة، لعل الله أن يتوب عليهم، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عائشة لما أخرجوه إلى الطائف حاربوه حتى خرج إلى الطائف فذهب إلى الطائف فلقَّوه شر لقاء، حتى قال قائل منهم: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟! وقال آخر: إذا كنت أنت صادق فأنا أمزق ثياب الكعبة، وهكذا ردوه شر رد، وأساءوا إليه، ثم أغروا به غلمانهم وصبيانهم وسفهاءهم يلحقون به في الشارع، ويضربونه بالحجارة، حتى أدموا عقبيه الطاهرتين صلى الله عليه وسلم. فما وجد أحداً ينصره من البشر، وما وجد أحداً يأويه، حتى أوى عليه الصلاة والسلام إلى حائط، ثم رجع أدراجه إلى مكة يائساً منهم، وحينئذ أظلته غمامة، وكان صلى الله عليه وسلم في شبه غيبوبة من الحزن الذي لحقه؛ لأنه أصابه همٌ عظيم.

دعوة الله ودعوة السماء ورسالة الحق تُرَدُّ هذا الرد السيئ؟! وأصابه عليه الصلاة والسلام من ذلك غم شديد، قال عليه الصلاة والسلام: { فلم أستفق إلا وأنا بـقرن الثعالب وإذا سحابة قد أظلتني فنـزل منها ملكان، وإذا بجبريل فسلم عليَّ وقال: يا محمد، هذا مَلَك الجبال، فسلم عليه ملك الجبال، وقال: يا محمد، إن الله تعالى سمع قول قومك لك وما ردوا عليك فمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -وهما جبلان بـمكة-؛ -لأن أهل مكة هم السبب في كل ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم- إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، -أي: تذهب مكة في خبر كان هي ومن فيها-، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم -وقد استأنى بهم- بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا} الله أكبر! الله أكبر! وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

فالمهم: أن العبد يدرك بمعصيته الرحمة للعصاة، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضرابه من الأنبياء والمرسلين، فلم يكونوا بحاجة إلى أن يذوقوا المعصية حتى يرحموا العصاة، ويدعوا الله تعالى لهم بالتوبة، وأن يغفر الله تعالى لهم، ويوفقهم للإقلاع عنها، فلم يكونوا بحاجة إلى ذلك، أما سائر البشر فإن كثيراً من الناس إذا غلب عليه التعبد والصلاح والتقوى والورع، ربما جفا في حق العصاة، حتى إنك تجد اليوم من الناس من يشتد على العصاة إلى حد أنه يخرجهم من الملة والعياذ بالله وقد رأيت بعيني، وسمعت بأذني، من غلاة الناس من يكفر أهل المعاصي بمعاصيهم، وهذا الإنسان الذي يكفر بالمعصية، مثلاً يكفر الزاني فهذا الإنسان لو كُتِبَ عليه بسبب ضعفه وجبلته وتسلط الشيطان عليه والهوى وانتشار الفواحش، لو كتب عليه أن ينظر نظرة حرام، أو يخاطب امرأة بكلمة حرام، أو يُقَبِّلْ أو يقع فيما هو فوق ذلك، لربما أعاد حساباته السابقة، وأعرض عما كان يقوله في شأن كفر أهل المعاصي.

تحقيق الذل والانكسار للعبد

ومن حكم الله تعالى في خَلْقِ المعصية: تحقيق الذل والانكسار للعبد، فإن العبد لو أتى الله تعالى بأعمال الثقلين من الطاعات والقربات، فإنه لا يمكن أن يدخل على الله تعالى إلا من باب الذل والانكسار، لذلك قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: ومن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.

أنت لا تدخل على الله لأنك تقول: والله لقد أتيت -الآن- بما أستحق به الجنة! لا.

ما للعباد عليه حق واجب           كلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذِّبوا فبعد له أو نعموا           فبفضله وهو الكريم الواسع

فأنت لا تدخل الجنة؛ لأنك صليت الصلوات الخمس، ولا لأنك صمت رمضان، أو حججت البيت الحرام، أو تصدقت أو فعلت، ووالله الذي لا إله غيره لو قضيت حياتك من يوم عقلت، إلى أن تموت راكعاً ساجداً قائماً، ذاكراً لله عز وجل ما كنت مستحقاً للجنة بذلك، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل}. إذاً لا تدخل الجنة بأعمالك، إنما تدخلها برحمة الله تعالى، وأعظم ما يتأهل به العبد لرحمة الله تعالى والجنة، هو مقام الذل والانكسار بين يدي الله تعالى.

ولذلك قد يتحقق -أحياناً- للعاصي من الذل والانكسار الشيء العظيم، حتى إن العاصي إذا كان في قلبه شيء من الحياة، ينظر في نعم الله تعالى، فيقول: أنا الآن أبارز الله بالمعاصي، نَفَسِي يتردد بإذن الله تعالى، ورزقي من فضل الله تعالى، ومعيشتي الهنيئة من الله تعالى ووظيفتي من الله تعالى وتوفيقي من الله تعالى وكل ما عندي من الله، قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53] وأنا والله لست أهلاً لشيء من ذلك، فينظر في نفسه فيهضمها ويعرف قدرها، ويدرك عظيم نعمة الله تبارك وتعالى عليه، فيقع له من ذلك شيء عظيم، حتى يكون شأنه مثل شأن شاب نشأ في حجر والده مدللاً يغذيه أبوه بأطيب النعم في الصباح والمساء، ولديه سيارة فخمة، وملابس جميلة، وخدمات متكاملة، وهذا الشاب لو أستطاع أبوه أن لا يهبَّ عليه النسيم والهواء لفعل، فيومٌ من الأيام خرج هذا الشاب فلقيه أعداء فأمسكوا به وقبضوا عليه، وسجنوه، ووضعوه في الحديد، وأصبحوا يضربونه، ويعطونه بدلاً من الطعام الذي كان يغذى به الضرب بالسياط، فيضربونه بالسياط صباحاً ومساء، ولا يزالون يوقدون تحته من جحيم الأذى والتعذيب والاضطهاد، حتى إن هذا الشاب إذا تذكر الأيام التي قضاها في كنف والده هطلت دموعه، وسالت وبكى، وقال: رحمة الله عليك يا أبي، أين أنت حتى ترى ما أنا فيه الآن، بعد أن أخذني العدو واختطفني من بين يديك؟! رحمة الله عليك يا أبي، ونظر الشاب وهو يتأمل ما كان عليه في عهد والده، وما صار إليه الآن وهو في قبضة عدوه، فإذا بأبيه يُقْبِلُ من بعيد، وما زال حتى رآه وتحقق أنه والده، فإذا بهذا الشاب يقوم سريعاً وهو يصرخ وينتحب ويبكي، ويلقى بنفسه بين يدي والده، ويقول له: يا أبت كيف لو رأيت ما صنعوا بي؟! كيف تبدل سروري هماً، كيف تبدل نعيمي عذاباً؟! كيف لو رأيت يا أبي ما فعلوا بي؟! ويبكى حينئذ ويشهق، ويضم والده إليه.

هل تتوقعون أن والده -وهو الذي يحبه- سوف يركله برجله ويتخلى عنه، ويقول: لا شأن لي بك، كلا، بل إنَّ والده سوف يمسك به، ويحفظه ولا يدعه لعدوه بحال من الأحوال، ولله المثل الأعلى، فكذلك العبد إذا انكسر بين يدي الله، وانطرح، وعفر وجهه بالتراب، ودمع لله عز وجل، وذل وافتقر، فإنه يدخل على الله تبارك وتعالى من أوسع الأبواب. ولذلك يقول بعضهم: أنين المذنبين، خير من زجل المسبحين.

وهذا الكلام ليس صحيحاً على الإطلاق، وهو ينسب إلى بعض الصوفية، يقولون: (أنين المذ

ولذلك فإن أعظم حكمة في خلق المعصية هي الابتلاء والاختبار، بحيث أإن الإنسان ليس مكرهاً على الطاعة مجبولاً عليها بفطرته، كلا؛ بل هو بفطرته قابل للهدى والضلال، ولو شاء الله عز وجل لجعل الخلق كلهم أمة واحدة كما قال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [هود:118] يعني: على الهدى، ثم قال: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:119] يعني: للابتلاء الذي يترتب عليه اختلافهم وانقسامهم، ثم قال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45].

إذاً لا حيلة، فكما أن هناك جنة فهناك نار، وكما أن هناك طاعة فهناك معصية، وكما أن هناك ملائكة فهناك شياطين، وكما أن هناك أبرار فهناك فجار، ولا بد من هذا، وهذه حكمة الله عز وجل وهذا هو الذي يتحقق به الابتلاء والاختبار والتمييز، وإلا فلو كان الناس كلهم مجبولين على الطاعة لما تميز أحد عن أحد، ولا مدح طائع، ولا ذم عاص؛ لأن الخلق كلهم صاروا على قلب رجل واحد.

ومن أعظم حكم وجود المعصية وخلقها أيضاً: إبراز فضل المؤمنين ومكانتهم واستقامتهم، فلولا طغيان فرعون وجبروته وظلمه، لما ظهر فضل موسى عليه الصلاة والسلام وإيمانه وتقواه وكرمه وصبره، ولولا تسلط النمرود وتألهه وتعاظمه وادعاؤه، لما ظهر للناس فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وصبره ومكانته عند الله عز وجل حتى إنه يلقى في النار فيصبر لله عز وجل ويقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.

قال ابن عباس-رضى الله عنه-: [[حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]]]. ولولا ظلم اليهود وبطشهم وماديتهم وقسوتهم وفسادهم، لما ظهر للناس فضل عيسى عليه الصلاة والسلام وصبره، وتواضعه، وتسامحه، وإيمانه، وبره، وتقواه. ولولا ظلم قريش، وطغيانها، وكفرها، وتمردها، وعنادها، ومن ورائها الدنيا كلها، لما ظهر للناس فضل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصبرهم على دين الله عز وجل، وتحملهم المشاق في سبيله، وتضحيتهم بالغالي والنفيس في سبيل الله تعالى، فإن من أعظم حكم وجود المعصية أن يظهر الله تعالى فضل الفضلاء، فيبرز الأنبياء الصادقون، ويبرز المجاهدون، والمؤمنون، والمتقون، فتبين حقائق الرجال، وتظهر جواهرهم ومعادنهم وتتميز، هذا في الدنيا.

أما في الآخرة فكما قال الله عز وجل: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:21] يقول القائل:

وإذا أراد الله نشر فضيلة      طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت      ما كان يعرف فضل عرف العود

يعني هذا العود الذي يتبخر به الناس، لولا أن النار تشتعل فيه فتظهر رائحته وطيبه ما عرف الناس ذلك، إذن كذلك الأبرار والصالحون، إذا مسهم أذى الفجار وظلمهم وإيذاؤهم وطغيانهم ظهرت معادنهم وحقائقهم، وتميزت وصفت، فبانوا أصفى من الزجاج، وأبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأقوى إيماناً، وأرسخ من الجبال الراسيات.

ومن أعظم حكم وجود المعصية وخلقها، تحقيق الوحدانية لله عز وجل في ربوبيته وألوهيته، وأنه بيده القضاء والقدر، فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، فإن العبد حينئذ يحصل له من التسليم والانقياد لله عز وجل وإدراكه للعجز التام المطلق عن الحول والطول والقوة إلا بالله تعالى، فيفزع من الله تبارك وتعالى إليه، ولذلك يقول العبد: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك} لأنه يدرك بوجود المعصية أن الله تعالى هو الذي خلق المعصية، وهو مصرف العباد، ومقلب قلوبهم وموجهها على حسب ما تقتضيه حكمته جلَّ وعلا وعدله، وحينئذ يدرك العبد أن الألوهية الحقة هي لله، وأن الربوبية والملك والتدبير هي لله جلَّ وعلا، فيفزع من الله تبارك وتعالى­ إليه، لهذا يقول الله عز وجل في آخر سورة التوبة: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة:117] إلى أن قال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة:118] لاحظ، ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن العبد إذا رأى المعصية سواء في نفسه أم في غيره، أدرك أن مقامه مقام العبودية، والعجز، والتسليم، والانقياد، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله جلَّ وعلا.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع