الشكر وسيلة للتنمية
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
الشُّكرُ وَسيلةٌ للتَّنميةجاءت الشريعة الإسلاميةُ بأمر مهم للغاية في مجال التنمية المستدامة بشكل عام، وفي تنمية الموارد البشرية بشكل خاص، وهو (الشكر) حيث ربطت الزيادة في مقدار التنمية بقدر ما يقدم الإنسان من شكر لله سبحانه وتعالى، يقول الله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
وبالنظر لأهمية الشكر بالنسبة للإنسان فقد جعله الله - جلا جلاله - بعد العبادة، فحين أمر الله - جلا جلاله - العبد أن يعبد الله وحده لا شريك له، أمره مباشرة أن يكون من الشاكرين؛ لأهمية الشكر وارتباطه بمفهوم العبادة ارتباطاً وثيقاً من جهة، ولأهمية الشكر في تقدم الإنسان ومستقبله من جهة أخرى، ويتجلى هذا الفهم بوضوح في قوله تعالى: ﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 66].
ولكن الإنسان من فرط جهله لا يعمل بهذه الحقيقة، أما لجهله بها أو لتمرده، أو ربما لأسباب أخرى، لذلك يقرر القرآن الكريم أن هذا الصنف من البشر (الشاكرين) قليلٌ، فيقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13].
بل يعود القرآن الكريم مرة أخرى ليؤكد في أكثر من سورة على أنَّ أكثر الناس (لا يشكرون)، وهذه طامة كبرى نازلة بالناس وهم لا يشعرون بها، فيقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 243].
وإنَّ هذه الحقيقة نصّاً وردت أحيانا كآية وأحياناً كجزء من آية في كل من سورة غافر 61، و النمل 7، ويوسف 38، ويونس 60، وإنَّ الأنبياء عليهم السلام من هؤلاء القلة من البشر لإيمانهم بأن الإنسان لا ينبغي له إلا أن يكون شاكراً لله - جلا جلاله - لأن ذلك هو السبيل الضامن لتطوره وتقدمه، وذلك هو السرُّ الذي وعاه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام حين دعا لأهله حين أمره الله أن يسكنهم بذلك الوادي المقفر، والأرض الجدب، وختم دعاءه بقوله ﴿ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾، كما جاء في القرآن الكريم: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37].
كما أقرَّ الإسلام حقيقة أخرى هي أنَّ نتائج شكر الله الإيجابية والتنموية يكون عائدها للإنسان حصراً، وليس غير ذلك، بمعنى أنَّ ذلك لا يزيد من ملك الله - جلا جلاله - شيئاً وإنما هو لفائدة الإنسان، وبخاصة في الآخرة فجعل ثوابها مرتبطاً بالشكر، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 145].
وكذلك في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [لقمان: 12] وللشكر أركان لابد للإنسان أن يحققها حتى يكون من الشاكرين وهذه الأركان هي:
الركن الأول: أن يقرَّ الإنسانُ ويعترف أنه في نعمة على الحال الذي هو عليه، فينظر إلى من هو أدنى منه في الدنيا فسيرى أنه بنعمة، ومثال ذلك من منحه الله عيناً واحدةً عليه أن ينظر إلى من لا عين له، ومن منحه الله ديناراً واحداً فلينظر إلى من لا يملك حتى ثمن رغيف الخبز، يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]، فلما كان النظر للأدنى في الدنيا هو عامل مثبط عن التنافس والتنمية، فإن هناك عامل مختلف يكون محفزاً للتنافس وهو التنافس في أمور الآخرة، لأن الأصل أن ينظر للأعلى فيها، فيشتد التنافس وتبرز عوامل التنمية.
الركن الثاني: أن يؤمن إيماناً راسخاً لا يقبل الشك أن هذه النعمة من الله وحده لا من غيره، فلا يقول: بجهدي، أو: بفضل فلان، إنما الجهد وفلان أسبابٌ يجعلها الله لإيصال هذه النعمة للإنسان، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل:53].
وقد فهم سليمان عليه السلام هذا القصد حين قام ذلك الشخص بنقل عرش بلقيس أمامه، يقول الله سبحانه وتعالى في هذه القصة: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40].
الركن الثالث: أن ينفق هذه النعمة مهما كان شكلها وحجمها ونوعها في طاعة الله، لا في عصيانه أو في طاعة غيره، كما نرى الكثير والكثير من الناس ممن ينفق أو يسخِّر نعماً كبيرة أسبغ الله عليه بها بغير ثمن وبلا مسألة منه وكان له حظٌّ وافرٌ منها ولكنه يسخرها لخدمة بشر مثله لا يضرون ولا ينفعون..
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [لأعراف: 144].
والشكر والتنمية من الله - جلا جلاله -، ولن تتحقق التنمية إلا بالشكر، وهذا فهم لا يصل إليه إلا أصحاب العقول النيرة، والهمم العالية، ومنهم داود عليه السلام، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الفضيل رضي الله عنه قال: (قال داود عليه السلام: يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة منك؟ قال: الآن شكرتني حين علمت أن النعم مني)[1].
[1] الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، ج6، ص680.