الموبقات السبع


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى كلف عباده بعبادته وطاعته، وأقام عليهم الحُجة ببعثة الرسل وتنزيل الكتب وبيان الأحكام، وتكليفه لعباده ينقسم إلى قسمين: إلى أوامر ونواهٍ.

فالنواهي: ما أمر الله عباده باجتنابه وتركه، والأوامر: ما أمر الله عباده بفعله.

المقدم من الأوامر والنواهي

والنواهي مقدمة على الأوامر لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، فلا بد أن يتعلم الناس الأوامر والنواهي، ولا بد أن يعملوا بما تعلموا؛ لأن العلم حُجة على الإنسان أو له، فما سمعه الإنسان مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، فقد قامت به الحجة عليه؛ لأنه لا يستطيع أن يعتذر لله سبحانه وتعالى بالجهل في ذلك، ومن هنا كان طلب العلم والتماسه فريضة على كل مسلم، ويحتاج المسلمون في كل وقت إلى مراجعة العلوم وبيانها ومدارسة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله.

والموضوع الذي اقترحه الشيخ لحلقة هذا اليوم موضوع مهم يتعلق بكبريات الذنوب، فأنتم تعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في حديث ابن عمر أركان الإسلام العملية، فقال: ( بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)، فهذه خمسة أركان هي أركان الإسلام العملية.

أما الأركان التركية التي تخالفها فهي كبائر الإثم والفواحش، وقد ذكرها الله في كتابه في موضعين: أحدهما: في سورة الشورى يقول فيه: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ[الشورى:37]، والآخر: في سورة النجم وقد قال فيه: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ[النجم:32]، وذكرها ضمناً في سورة النساء في قوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ[النساء:31]، فالمقصود بالسيئات الصغائر.

سند حديث السبع الموبقات ولفظه

أحدثكم الآن بما حدثني به جدي محمد علي بن عبد الودود عن يحظيه بن عبد الودود ، عن محمد بن محمد سالم المجلسي ، عن حامد بن عمر ، عن الفقيه الخطاب ، عن القاضي ابن علي ممو السباعي ، عن شيخ الشيوخ الفاضل بن أبي الفاضل الحسني ، عن علي بن الأجوري ، عن البرهان العلقمي ، عن جلال الدين السيوطي ، عن زكريا الأنصاري ، عن الحافظ أحمد بن علي بن حجرٍ العسقلاني ، عن إبراهيم التنوخي ، عن أحمد بن أبي طالب الحجار ، عن أبي الوقت عبد الأول بن عيسى السجزي عن الحسين بن المبارك ، عن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، عن عبد الله بن أحمد السرخسي ، عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري ، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري قال في صحيحه في ثلاثة مواضع من الصحيح: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، قال: حدثني إسماعيل و بلال ، عن ثور بن زيد المدني ، عن أبي الغيث ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، أخرجه البخاري بهذا الإسناد في ثلاثة مواضع، الموضع الأوسط منها كان مختصراً ذكر بعض هذه الموبقات ولم يكملها، والموضعان الآخران كمل فيهما الحديث، والاختصار في الحديث جائز من نهايته وآخره إجماعاً، ومن وسطه محل خلاف، و البخاري رحمه الله يرى جواز الاختصار من الوسط.

بلاغة النهي بالاجتناب عن غيره من الألفاظ

وهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمره للمؤمنين -وهم أتباعه- باجتناب هذه الأمور السبعة، وحذرهم منها، وبين خطرها وضررها، فلذلك قال: (اجتنبوا )، ومعنى الاجتناب البعد عن كل ما يوصل من الأمر، فليس المقصود بالاجتناب مجرد الترك كما يتبادر إلى بعض الأذهان، بل المقصود ما يوصل إليه ويقربه، فالنهي عن الشرك ليس نهياً عن الوقوع في الشرك، بل نهي عن كل ما يقرب من الشرك، وذلك يقتضي من الإنسان الحذر منه، وبغضه وبغض أهله، وبغض عواقبه، وبغض آثاره، وبغض أخلاق أهله، وبغض كل ما يترتب عليه، وهكذا في كل هذه الموبقات، فليس المقصود أن تجتنبها أنت ثم تسكت عن الآخرين يمارسونها، بل لا يتحقق الاجتناب إلا إذا كرهتها وكرهت من يمارسها، وكرهت ما تؤدي إليه، وكرهت ما يؤدي إليها، فهذا الذي تكون به مجتنباً.

علاقة القناعة بالفعل والترك

فلا بد إذاً من تحقيق ذلك في أنفسنا أولاً؛ لأن العمل لا يكون إلا تابعاً للقناعة، وقد ذكرت لكم من قبل أن الإنسان مؤلف من ثلاثة عناصر هي: العقل الذي به شرفه على سائر الحيوانات، والجسم الذي هو من تراب، والروح التي هي نفخة غيبية من أمر الله.

وأن هذه العناصر الثلاثة مجتمعة هي حقيقة الإنسان، وكل عنصرٍ منها لم يهمله الشارع الحكيم، بل وجه الخطاب إلى العناصر الثلاثة، فجاء الإيمان خطاباً للعقل، وجاء الإسلام خطاباً للبدن، وجاء الإحسان خطاباً للروح، فلذلك لا يمكن أن يكون الإنسان مطيعاً بعقله فقط، فأنتم تعرفون الفلاسفة الكبار الذين آمنوا وصدقوا بقلوبهم، ولكن لم يتبعوا ذلك عملاً ولم يعملوا للشرع، وقد قال فيهم ابن تيمية رحمه الله: "إنهم أعطوا ذكاءً ولم يعطوا زكاءً"، عندهم ذكاء لكن ليس عندهم الزكاء، وهو التطهير، لم يطهرهم الله من الشرك ولا من الفجور والفسق، فقد أُعطوا ذكاءً ولم يُعطوا زكاءً، وكذلك لا يمكن أن يكون الإنسان مطبقاً لأعمال الإسلام الظاهرة ببدنه دون أن يصدق ذلك بقلبه ودون أن يعتقده بعقله.

وكذلك لا يمكن أن يكون الإنسان محسناً متقناً لعبادته، يعبد الله كأنه يراه، وهو غير مصدق بعقله أو غير عاملٍ بجوارحه، هذا مستحيل، فلا بد من الاجتماع بين هذه الأركان الثلاثة؛ لأن بعضها يكمل بعضاً ويتممه، ولا يمكن أن تفصل ولا أن تجزأ.

فلذلك بُنيت أعمال الجوارح على عمل القلب، ونحن في تعريفنا للتربية نقول: إنها عبارة عن عملية نسخ، فهذا الجهاز فيه موضعان لتسجيل المعلومات، أحدهما ذاكرة الجهاز، والثاني ذاكرة الشريحة، فيمكن أن تسجل معلومات على ذاكرة الجهاز، ثم تطلب الخيارات، فيعرض لك خيار النسخ، فتعطيه الموافقة على النسخ فينسخه إلى الذاكرة الأخرى، فكذلك أنت الآن لديك ذاكرة بعقلك وذاكرة لعاطفتك ومحبتك بقلبك.

فالتربية هي: عبارة عن نسخ في ذاكرة العقل إلى ذاكرة العاطفة، فأنتم الآن لو سألتم أي إنسان من أهل الشارع عن حكم الكذب أو عن حكم أكل المال العام، أو عن حكم أكل الربا لقال: حرام، لكن يعتقد ذلك بعقله ولا يصل إلى عاطفته، فمهمة أهل التربية أن ينقلوا هذه القناعة العقلية حتى تصل إلى العاطفة، فيحب الإنسان المأمور به حباً شديداً، ويكره المنهي عنه كراهةً شديدة، وهذا الذي يؤدي به إلى الامتثال والاجتناب.

كل من لا يحب الصلاة لا بد أن يتكاسل عنها، لكن إذا أحبها بكل قلبه -وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: ( أرحنا بها يا بلال )- ووجد بها لذة المناجاة ولذة الأنس بالله سبحانه وتعالى سيكون قلبه معلقاً بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل قلبه معلق بالمساجد)، والإنسان إذا كره الربا لا يمكن أن يكون شاهداً لزور، ولا يمكن أن يكون كاتباً له، ولا يمكن أن يكون آكلاً له، ولا يمكن أن يكون موكلاً له، ولا مجاوراً لمن يفعل ذلك، فيكرهه كراهة شديدة فيفر منه كما يفر من الأسد.

وهكذا.. فإذاً لا بد أن نحصل جميعاً في أنفسنا إذا أردنا تربيتها محبتنا لكل ما أمر الله به، وكراهتنا لكل ما نهى الله عنه، فالإنسان الآن يمارس بعض الأعمال التي فيها مضرة عليه، فأنتم تعرفون بعض الناس يمارس عادة التدخين، وعادة التدخين مُضرة بالبدن، فهي سبب لكثيرٍ من الأمراض والمشكلات، وليس فيها أي نفع؛ لأنها ليست علاجاً ولا غذاءً وليس فيها أي نفع، لماذا يمارسها صاحبها؟ لأنه أحبها فباشرت شغاف قلبه، ولو علم أنها تُضر به فإنه لا يستطيع تركها لمحبته إياها، فكذلك إذا أحببت الطاعة كحب صاحب التدخين للتدخين، فإذا حان الوقت ستستيقظ، وأنا أعرف رجلاً كان محباً للشاي حباً شديداً، فكان ينام، فإذا حان الوقت استيقظ وبدأ يعد الشاي، وفي وقتٍ من الأوقات نام فلم يستيقظ في وقته الاعتيادي فغضب غضباً شديداً على أهله وهجرهم وكاد يضربهم؛ لأنهم لم يوقظوه على وقت الشاي، ومن محبته له كان إذا دخل إلى المغتسل يريد الاغتسال يفتح نافذة المغتسل ويقول: أدخلوا لي كأس الشاي إذا حان إعداده من هذه النافذة.

الذي يحب الصلاة إذا حان وقتها لن ينام عنها، إذا سمع المؤذن يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح سيكون مثل هذا الشخص في محبته للشاي، وهكذا في كل طاعة من الطاعات إذا أحبها الإنسان حباً شديداً لا يستطيع أن يمسك نفسه عنها، والحب ليس مجرد عاطفة وليس مجرد صدفة، بل يستطيع الإنسان أن يفتعله لنفسه ثم يقتنع به بعد ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا ديار المغضوب عليهم إلا باكين أو متباكين)، فالتباكي يورث البكاء، وهكذا في كل الأمور إذا أردت أن تتعلم الخشوع فلا بد أن تتخاشع في البداية، وأن تمسك جوارحك، وأن تنزل السكينة بنفسك ثم بعد ذلك يصبح الأمر خلقاً له، فكذلك هنا محبة الصلاة محبة الطاعة أياً كانت لا بد أن تفتعلها لنفسك حتى تعودها عليها، ثم تُصبح خلقاً لديك.

فإذا كنت تحب صوت المؤذن تحب أن تسمع: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فلن تصبر على المكان الذي يُسمع فيه هذا، كما يفعل أصحاب المعازف والموسيقى إذا سمعوا ما يعجبهم من تلك الأصوات، لا يستطيعون أن يمسكوا أنفسهم عنها، وهكذا أيضاً في المقابل في معصية الله، ما نهى الله عنه لا بد أن تكرهه كراهةً شديدة، وهذا الذي يعينك على اجتنابه بالكلية، فأنتم الآن لا شك أن كل واحدٍ منكم يتذكر عندما كان صغيراً كان يُضرب ليترك بعض الأمور، وبعض الأخلاق والأفعال كان والداه يضربانه عليها، وهو الآن تعود على كراهتها وهو في بيته، كرهها كراهة شديدة، والسبب أنها ارتبطت في ذهنه بالألم الذي كان يحصل له من الضرب، فأصبح يتذكر أن هذا الفعل مقترن بالألم فيجتنبه.

الوسائل المعينة على فعل المأمور وترك المحظور

فكذلك إذا تذكرنا أن معصية الله مقترنة بسخطه وغضبه وعذابه وناره، وما يترتب عليها من المشكلات الدنيوية أيضاً، فإننا سنكره المعصية كراهةً شديدة، ونفر منها أشد مما نفر من الأسد، الأسد إذا مر من مكان فرآه الناس فيه هجروا ذلك المكان مدةً طويلة وليس فيها أسد، لكن لأنهم رأوا الأسد ذات يوم مر منه فقط، فكذلك هنا لا بد أن تكون كراهتنا لمعصية الله بهذا الحال، والإنسان يستطيع أن يعود نفسه على ذلك، فإذا بدأ أولاً بالحياء من الله، وحاول الاستحياء من هذه المعاصي، وأن لا يطلع أحد على ما يمارسه منها، وأن لا يفعلها بحضرة أحد، فهذه مرحلة من اجتنابها؛ لأنها تؤمن بكراهته لها، ثم بعد ذلك يراجع نفسه، فيقول: كيف أستحيي من الناس الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟ ولا أستحي من الله جل جلاله الذي: َيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ[الحج:65]، ويُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا[فاطر:41]، فذلك سيعود نفسه على الحياء من الله بعد أن كان يستحيي من الناس أولاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن ).

لزوم تعلم ما يؤمر باجتنابه

وهذا الاجتناب الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه السبع، يقتضي من الإنسان أن يتعلمها أولاً، فالذي لا يعرف ما هو الربا كيف يجتنبه؟ فلا بد أن نتعلم أحكامها، وأن نتعرف عليها ثم نتركه، كثير من الناس يكره الشرك كراهةً شديدة، لكن لا يعرف ما هو الشرك، فلذلك لا بد أن ندرس الشرك حتى نجتنبه، وتعرفون ما أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني)، فلا بد أن نخاف الشر وأن نتعلمه حتى لا نقع فيه، فلذلك قال: ( اجتنبوا الموبقات )، هذا هو وجه التحذير منها، وبيان خطرها: أنها موبقات، ومعنى الموبقات أي: المسقطات في النار، كأنها تمسك صاحبها من فوق الصراط فتكبه على وجهه في قعر نار جهنم.

معنى الموبقات وحد الكبيرة

أوبقه بمعنى: أهلكه وأسقطه، وهذه الموبقات سُميت بذلك لكثرة من تسقطه في النار، ولكثرة عقوبة الله لأهلها بناره، فلهذا حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوجه من التحذير، فقال: ( اتقوا السبع الموبقات).

وعدها عداً وبينها ليكون ذلك أذكر لنا وأعون لنا على حفظها، فكان بالإمكان أن يقول لنا: اتقوا الشرك، والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، لكنه أراد ما يعيننا على الحفظ، فلذلك ذكر لنا العدد، والعدد هو سبعة، فإذا أسقطت واحدةً تبين لك النقص، فلا بد أن تراجع الحفظ مرة أخرى.

وأيضاً سكت ولم يبينها حتى يسألوا؛ لأن النيل بعد اليأس أبلغ في النفس، يعني: الشيء الذي ناله الإنسان مباشرة دون تعب عليه ولا مشكلة يسهل عليه التخلص منه، لكن الشيء الذي ما ناله إلا بشق الأنفس والتعب سيكون عزيزاً على نفسه ويكون محباً له، فلذلك كان أسلوباً نبوياً من أساليب التعليم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن تتمكن القلوب من المعلومة يذكرها وينوه بها، ولكن لا يفصلها حتى يُسأل عنها، ليكون ذلك عوناً لأصحابه ومن بعدهم على تعلمها وضبطها.

وهذه الموبقات ليست هي الكبائر فقط، بل كبائر الإثم أكثر من ذلك، وقد سُئل ابن عباس عن الكبائر فقيل: أهي السبع الموبقات؟ قال: هن إلى السبعين أقرب. أي: فهي أقرب إلى السبعين.

والكبائر جمع كبيرة وهي السيئة الكبيرة، ومعنى الكبيرة: الثقيلة في الميزان في كفة السيئات يوم القيامة، ولم يحددها الله سبحانه وتعالى ولا حددها النبي صلى الله عليه وسلم بعدد، ولكن الله ذكرها في مواضع من القرآن وحذر منها، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر منها كذلك في عدد من الأحاديث الصحيحة.

فاصطلح أهل العلم على أن الكبيرة هي: ما توعد الله عليه بنارٍ، أو رُتبت عليه اللعنة، أو رُتب عليه حد في الدنيا، فهذه ثلاثة ضوابط، إذا وجدتم واحداً من هذه الضوابط الثلاثة في أمرٍ من الأمور فاعلموا أنه من كبائر الذنوب: ما توعد الله عليه بنار، أو رُتبت عليه اللعنة، أو رُتب عليه حد من حدود الله، فهذه كلها كبائر.

والفرق بين الفواحش والكبائر حاصل؛ لأن الله عطف بعضها على بعض، والعكس يقتضي المغايرة، فقال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ[النجم:32]، قال: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ[الشورى:37]، فإذاً الكبائر ليست هي الفواحش، إلا أن بعض أهل العلم قالوا: العطف هنا من باب عطف العام على الخاص، فالعام قد يُعطف على الخاص نتيجة للخاص، وقد يُعطف الخاص على العام أيضاً نتيجةً للخاص، مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ[البقرة:98]، فجبريل من ملائكته ومن رسله، اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج:75]، وجبريل منهم قطعاً، فهو من رسل الله ومن ملائكته، وقد عُطف هنا كذلك من عطف الخاص على العام، الذي يفيد مزية في الخاص، والعكس كذلك صحيح، فقد يُعطف العام على الخاص فيُذكر الخاص أولاً، ثم يُعطف عليه العام، وهذا كثير في النصوص الشرعية.

فإذاً قد تكون الكبائر داخلةً في نطاق الفواحش، فتكون الفواحش أعم من الكبائر، فكل كبيرة فاحشة من غير عكس، وعموماً الخلاف في الفرق بين الكبائر والفواحش هو نظير الخلاف في الفرق بين النبوة والرسالة، فإن الراجح فيه عند أهل السنة أنه ما من رسول إلا وهو نبي، لكن بعض الأنبياء غير رسل، فكذلك هنا ما من كبيرةٍ إلا وهي فاحشة، أي: متعدية للحد في الكراهة، لكن يوجد بعض الفواحش غير كبائر.

ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم هذه السبع، فبدأها بأعظمها وأثقلها في الميزان: وهو الشرك بالله، فقال: (الشرك).

الفرق بين (هي) و(هن) في الاستعمال اللغوي

وأصحابه سألوه فقالوا: وما هن يا رسول الله؟ وهنا قالوا: وما هن ولم يقولوا: وما هي، ما الفرق بين الضميرين؟ الفرق بين الضميرين أن العدد اليسير من غير العاقل الأفصح فيه أن يُقال فيه هنّ، والعدد الكبير يُقال فيه هي، وأما العاقلات مطلقاً من المؤنث فيُقال فيهن: هنّ، ولا يُقال: هي، وهذا الذي يقول فيه ابن مالك في التسهيل:

ثم فعلت ونحوه أولى من فعلن ونحوه بأكثر جمعه وأقله والعاقلات مطلقاً بالعكس

(أقله) أقل الجمع من غير العاقل، والعاقلات مطلقاً بالعكس، أي: الأفصح فيهما أن يقال: (هنّ)، يؤتى بنون الإناث.

فلذلك قالوا: وما هنّ يا رسول الله؟ لأن عددهن قليل، وهذا يؤخذ منه أن حد القلة ما دون العشرة، فما كان عشرة ففوق، فهو داخل في حد الكثرة، وما كان دون العشرة فهو داخل في حد القلة.

والنواهي مقدمة على الأوامر لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، فلا بد أن يتعلم الناس الأوامر والنواهي، ولا بد أن يعملوا بما تعلموا؛ لأن العلم حُجة على الإنسان أو له، فما سمعه الإنسان مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، فقد قامت به الحجة عليه؛ لأنه لا يستطيع أن يعتذر لله سبحانه وتعالى بالجهل في ذلك، ومن هنا كان طلب العلم والتماسه فريضة على كل مسلم، ويحتاج المسلمون في كل وقت إلى مراجعة العلوم وبيانها ومدارسة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله.

والموضوع الذي اقترحه الشيخ لحلقة هذا اليوم موضوع مهم يتعلق بكبريات الذنوب، فأنتم تعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في حديث ابن عمر أركان الإسلام العملية، فقال: ( بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)، فهذه خمسة أركان هي أركان الإسلام العملية.

أما الأركان التركية التي تخالفها فهي كبائر الإثم والفواحش، وقد ذكرها الله في كتابه في موضعين: أحدهما: في سورة الشورى يقول فيه: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ[الشورى:37]، والآخر: في سورة النجم وقد قال فيه: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ[النجم:32]، وذكرها ضمناً في سورة النساء في قوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ[النساء:31]، فالمقصود بالسيئات الصغائر.

أحدثكم الآن بما حدثني به جدي محمد علي بن عبد الودود عن يحظيه بن عبد الودود ، عن محمد بن محمد سالم المجلسي ، عن حامد بن عمر ، عن الفقيه الخطاب ، عن القاضي ابن علي ممو السباعي ، عن شيخ الشيوخ الفاضل بن أبي الفاضل الحسني ، عن علي بن الأجوري ، عن البرهان العلقمي ، عن جلال الدين السيوطي ، عن زكريا الأنصاري ، عن الحافظ أحمد بن علي بن حجرٍ العسقلاني ، عن إبراهيم التنوخي ، عن أحمد بن أبي طالب الحجار ، عن أبي الوقت عبد الأول بن عيسى السجزي عن الحسين بن المبارك ، عن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، عن عبد الله بن أحمد السرخسي ، عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري ، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري قال في صحيحه في ثلاثة مواضع من الصحيح: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، قال: حدثني إسماعيل و بلال ، عن ثور بن زيد المدني ، عن أبي الغيث ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، أخرجه البخاري بهذا الإسناد في ثلاثة مواضع، الموضع الأوسط منها كان مختصراً ذكر بعض هذه الموبقات ولم يكملها، والموضعان الآخران كمل فيهما الحديث، والاختصار في الحديث جائز من نهايته وآخره إجماعاً، ومن وسطه محل خلاف، و البخاري رحمه الله يرى جواز الاختصار من الوسط.

وهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمره للمؤمنين -وهم أتباعه- باجتناب هذه الأمور السبعة، وحذرهم منها، وبين خطرها وضررها، فلذلك قال: (اجتنبوا )، ومعنى الاجتناب البعد عن كل ما يوصل من الأمر، فليس المقصود بالاجتناب مجرد الترك كما يتبادر إلى بعض الأذهان، بل المقصود ما يوصل إليه ويقربه، فالنهي عن الشرك ليس نهياً عن الوقوع في الشرك، بل نهي عن كل ما يقرب من الشرك، وذلك يقتضي من الإنسان الحذر منه، وبغضه وبغض أهله، وبغض عواقبه، وبغض آثاره، وبغض أخلاق أهله، وبغض كل ما يترتب عليه، وهكذا في كل هذه الموبقات، فليس المقصود أن تجتنبها أنت ثم تسكت عن الآخرين يمارسونها، بل لا يتحقق الاجتناب إلا إذا كرهتها وكرهت من يمارسها، وكرهت ما تؤدي إليه، وكرهت ما يؤدي إليها، فهذا الذي تكون به مجتنباً.

فلا بد إذاً من تحقيق ذلك في أنفسنا أولاً؛ لأن العمل لا يكون إلا تابعاً للقناعة، وقد ذكرت لكم من قبل أن الإنسان مؤلف من ثلاثة عناصر هي: العقل الذي به شرفه على سائر الحيوانات، والجسم الذي هو من تراب، والروح التي هي نفخة غيبية من أمر الله.

وأن هذه العناصر الثلاثة مجتمعة هي حقيقة الإنسان، وكل عنصرٍ منها لم يهمله الشارع الحكيم، بل وجه الخطاب إلى العناصر الثلاثة، فجاء الإيمان خطاباً للعقل، وجاء الإسلام خطاباً للبدن، وجاء الإحسان خطاباً للروح، فلذلك لا يمكن أن يكون الإنسان مطيعاً بعقله فقط، فأنتم تعرفون الفلاسفة الكبار الذين آمنوا وصدقوا بقلوبهم، ولكن لم يتبعوا ذلك عملاً ولم يعملوا للشرع، وقد قال فيهم ابن تيمية رحمه الله: "إنهم أعطوا ذكاءً ولم يعطوا زكاءً"، عندهم ذكاء لكن ليس عندهم الزكاء، وهو التطهير، لم يطهرهم الله من الشرك ولا من الفجور والفسق، فقد أُعطوا ذكاءً ولم يُعطوا زكاءً، وكذلك لا يمكن أن يكون الإنسان مطبقاً لأعمال الإسلام الظاهرة ببدنه دون أن يصدق ذلك بقلبه ودون أن يعتقده بعقله.

وكذلك لا يمكن أن يكون الإنسان محسناً متقناً لعبادته، يعبد الله كأنه يراه، وهو غير مصدق بعقله أو غير عاملٍ بجوارحه، هذا مستحيل، فلا بد من الاجتماع بين هذه الأركان الثلاثة؛ لأن بعضها يكمل بعضاً ويتممه، ولا يمكن أن تفصل ولا أن تجزأ.

فلذلك بُنيت أعمال الجوارح على عمل القلب، ونحن في تعريفنا للتربية نقول: إنها عبارة عن عملية نسخ، فهذا الجهاز فيه موضعان لتسجيل المعلومات، أحدهما ذاكرة الجهاز، والثاني ذاكرة الشريحة، فيمكن أن تسجل معلومات على ذاكرة الجهاز، ثم تطلب الخيارات، فيعرض لك خيار النسخ، فتعطيه الموافقة على النسخ فينسخه إلى الذاكرة الأخرى، فكذلك أنت الآن لديك ذاكرة بعقلك وذاكرة لعاطفتك ومحبتك بقلبك.

فالتربية هي: عبارة عن نسخ في ذاكرة العقل إلى ذاكرة العاطفة، فأنتم الآن لو سألتم أي إنسان من أهل الشارع عن حكم الكذب أو عن حكم أكل المال العام، أو عن حكم أكل الربا لقال: حرام، لكن يعتقد ذلك بعقله ولا يصل إلى عاطفته، فمهمة أهل التربية أن ينقلوا هذه القناعة العقلية حتى تصل إلى العاطفة، فيحب الإنسان المأمور به حباً شديداً، ويكره المنهي عنه كراهةً شديدة، وهذا الذي يؤدي به إلى الامتثال والاجتناب.

كل من لا يحب الصلاة لا بد أن يتكاسل عنها، لكن إذا أحبها بكل قلبه -وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: ( أرحنا بها يا بلال )- ووجد بها لذة المناجاة ولذة الأنس بالله سبحانه وتعالى سيكون قلبه معلقاً بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل قلبه معلق بالمساجد)، والإنسان إذا كره الربا لا يمكن أن يكون شاهداً لزور، ولا يمكن أن يكون كاتباً له، ولا يمكن أن يكون آكلاً له، ولا يمكن أن يكون موكلاً له، ولا مجاوراً لمن يفعل ذلك، فيكرهه كراهة شديدة فيفر منه كما يفر من الأسد.

وهكذا.. فإذاً لا بد أن نحصل جميعاً في أنفسنا إذا أردنا تربيتها محبتنا لكل ما أمر الله به، وكراهتنا لكل ما نهى الله عنه، فالإنسان الآن يمارس بعض الأعمال التي فيها مضرة عليه، فأنتم تعرفون بعض الناس يمارس عادة التدخين، وعادة التدخين مُضرة بالبدن، فهي سبب لكثيرٍ من الأمراض والمشكلات، وليس فيها أي نفع؛ لأنها ليست علاجاً ولا غذاءً وليس فيها أي نفع، لماذا يمارسها صاحبها؟ لأنه أحبها فباشرت شغاف قلبه، ولو علم أنها تُضر به فإنه لا يستطيع تركها لمحبته إياها، فكذلك إذا أحببت الطاعة كحب صاحب التدخين للتدخين، فإذا حان الوقت ستستيقظ، وأنا أعرف رجلاً كان محباً للشاي حباً شديداً، فكان ينام، فإذا حان الوقت استيقظ وبدأ يعد الشاي، وفي وقتٍ من الأوقات نام فلم يستيقظ في وقته الاعتيادي فغضب غضباً شديداً على أهله وهجرهم وكاد يضربهم؛ لأنهم لم يوقظوه على وقت الشاي، ومن محبته له كان إذا دخل إلى المغتسل يريد الاغتسال يفتح نافذة المغتسل ويقول: أدخلوا لي كأس الشاي إذا حان إعداده من هذه النافذة.

الذي يحب الصلاة إذا حان وقتها لن ينام عنها، إذا سمع المؤذن يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح سيكون مثل هذا الشخص في محبته للشاي، وهكذا في كل طاعة من الطاعات إذا أحبها الإنسان حباً شديداً لا يستطيع أن يمسك نفسه عنها، والحب ليس مجرد عاطفة وليس مجرد صدفة، بل يستطيع الإنسان أن يفتعله لنفسه ثم يقتنع به بعد ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا ديار المغضوب عليهم إلا باكين أو متباكين)، فالتباكي يورث البكاء، وهكذا في كل الأمور إذا أردت أن تتعلم الخشوع فلا بد أن تتخاشع في البداية، وأن تمسك جوارحك، وأن تنزل السكينة بنفسك ثم بعد ذلك يصبح الأمر خلقاً له، فكذلك هنا محبة الصلاة محبة الطاعة أياً كانت لا بد أن تفتعلها لنفسك حتى تعودها عليها، ثم تُصبح خلقاً لديك.

فإذا كنت تحب صوت المؤذن تحب أن تسمع: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فلن تصبر على المكان الذي يُسمع فيه هذا، كما يفعل أصحاب المعازف والموسيقى إذا سمعوا ما يعجبهم من تلك الأصوات، لا يستطيعون أن يمسكوا أنفسهم عنها، وهكذا أيضاً في المقابل في معصية الله، ما نهى الله عنه لا بد أن تكرهه كراهةً شديدة، وهذا الذي يعينك على اجتنابه بالكلية، فأنتم الآن لا شك أن كل واحدٍ منكم يتذكر عندما كان صغيراً كان يُضرب ليترك بعض الأمور، وبعض الأخلاق والأفعال كان والداه يضربانه عليها، وهو الآن تعود على كراهتها وهو في بيته، كرهها كراهة شديدة، والسبب أنها ارتبطت في ذهنه بالألم الذي كان يحصل له من الضرب، فأصبح يتذكر أن هذا الفعل مقترن بالألم فيجتنبه.