الاستخلاف في الأرض


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهدية، واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى هو أحكم الحاكمين، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، وقد شاء بحكمته أن يجعل هذه الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل، ومن أجل ذلك خلق النار وخلق لها أهلها، وخلق الجنة وخلق لها أهلها، وأهبط آدم و حواء و إبليس إلى الأرض، ومنذ إهباطهم إلى الأرض بدأ الصراع، وكانت الدنيا مسرحاً لهذا الصراع، ولا يمكن أن يحسم الصراع فيها إلا بنهايتها؛ لأنه لو توقف التدافع لحظة واحدةً لفسدت الأرض، كما قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251]، وذلك أنه لو تغلب الحق على الأرض فلم يبقَ للباطل فيها وجود لنزح أهل الأرض حينئذٍ جميعاً، واستحقوا أن ينتقلوا عن دار الفناء والأوساخ والأقذار إلى دار البقاء والاستقرار، ولو تغلب الباطل على الأرض فلم يبقَ عليها إلا شرك أو معصية أو فجور لحق على أهل الأرض سخط الله ومقته وعذابه؛ فلهذا لا بد أن يبقى على الأرض الإيمان والكفر، ولا بد أن يبقى عليها الطاعة والمعصية، ولا بد أن يبقى عليها الظلم والاستبداد والجهاد، فلا بد أن يبقى عليها هذا الصراع بطرفيه.

اصطفاء وتوفيق وعرقلة وتثبيط

ويختار الله سبحانه وتعالى من كل جيل الذين يوفقهم لنصرة دينه وإعلاء كلمته، ويلهمهم رشدهم، فيعلي بهم الحق ويرفع بهم لواءه، ويخذل من كل جيل الذين لا يرتضي خدمتهم للدين، ولا يريد بهم الخير، فيكره الله سبحانه وتعالى منهم الطاعة كما يكره منهم المعصية، ولذلك قال الله تعالى: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]، كره الله انبعاثهم في الخروج للجهاد في سبيل الله، فإذا كانت طاعتهم مكروهة مبغوضة لدى الله جل جلاله، فكيف بمعصيتهم وشركهم؟

فالذين لا يرتضي الله خدمتهم للدين يضع في وجوههم العراقيل والعقبات، ويردهم على أدبارهم ويمنعهم من سلوك طريق الحق، كما قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا[الأعراف:146]، وقال الله تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، أي: يصرف عن طريق الحق من علم الله صرفه وأراده به، وكما قال الله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ[العنكبوت:10]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ[الحج:11].

أعظم كرامة

ومن هنا كانت الاستقامة على منهج الله سبحانه وتعالى أعظم كرامة يكرم الله بها عبده، فيمكن أن يهتدي العبد هداية إرشاد، ولكنه لا يستقيم فيرجع على عقبيه كحال ثمود الذين قال الله فيهم: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى[فصلت:17]، ويمكن أن يمكث الإنسان مدة سالكاً لطريق الحق مستقيماً عليه، ثم يضيع في غيات الطريق فينحرف يميناً أو شمالاً، وحينئذٍ العبرة بخواتيم الأمور ونهاياتها، لا بمبادئها وابتداءاتها، فالذين يثبتهم الله بالقول الثابت ينالون الاستقامة على طريق الحق، فيكون يومهم خيراً من أمسهم، ويكون غدهم خيراً من يومهم، وكلما ازدادوا في العمر ازدادوا من الله قرباً، وكلما ازدادوا محبة وشوقاً إليه جل جلاله وأنساً به، فهم متقدمون على طريق الحق صابرون عليه حتى يلقون الله جل جلاله على هذا الطريق.

ويختار الله سبحانه وتعالى من كل جيل الذين يوفقهم لنصرة دينه وإعلاء كلمته، ويلهمهم رشدهم، فيعلي بهم الحق ويرفع بهم لواءه، ويخذل من كل جيل الذين لا يرتضي خدمتهم للدين، ولا يريد بهم الخير، فيكره الله سبحانه وتعالى منهم الطاعة كما يكره منهم المعصية، ولذلك قال الله تعالى: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]، كره الله انبعاثهم في الخروج للجهاد في سبيل الله، فإذا كانت طاعتهم مكروهة مبغوضة لدى الله جل جلاله، فكيف بمعصيتهم وشركهم؟

فالذين لا يرتضي الله خدمتهم للدين يضع في وجوههم العراقيل والعقبات، ويردهم على أدبارهم ويمنعهم من سلوك طريق الحق، كما قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا[الأعراف:146]، وقال الله تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، أي: يصرف عن طريق الحق من علم الله صرفه وأراده به، وكما قال الله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ[العنكبوت:10]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ[الحج:11].

ومن هنا كانت الاستقامة على منهج الله سبحانه وتعالى أعظم كرامة يكرم الله بها عبده، فيمكن أن يهتدي العبد هداية إرشاد، ولكنه لا يستقيم فيرجع على عقبيه كحال ثمود الذين قال الله فيهم: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى[فصلت:17]، ويمكن أن يمكث الإنسان مدة سالكاً لطريق الحق مستقيماً عليه، ثم يضيع في غيات الطريق فينحرف يميناً أو شمالاً، وحينئذٍ العبرة بخواتيم الأمور ونهاياتها، لا بمبادئها وابتداءاتها، فالذين يثبتهم الله بالقول الثابت ينالون الاستقامة على طريق الحق، فيكون يومهم خيراً من أمسهم، ويكون غدهم خيراً من يومهم، وكلما ازدادوا في العمر ازدادوا من الله قرباً، وكلما ازدادوا محبة وشوقاً إليه جل جلاله وأنساً به، فهم متقدمون على طريق الحق صابرون عليه حتى يلقون الله جل جلاله على هذا الطريق.

وقد بين الله سبحانه وتعالى، أنه جعل آدم خليفة في الأرض، ومعنى هذا الاستخلاف أن الله خلق الأرض وما عليها لمصلحة هذا الجنس البشري، وجعل في الأرض أنواعاً من الخلائق، مرجعها ومركز ثقلها وتوازنها هو الجنس البشري، ففي الأرض من أنواع الخلائق ما هو أقوى من البشر: كالوحوش المفترسة والفيلة والأسود، وكالحيوانات من الأنعام القوية كالإبل التي ذللها الله لبني آدم وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:72]، وفيها كذلك الجن، وفيها أنواع الطير وأنواع البهائم والدواب، ولكن الله جعل الإنسان هو أشرف سكان الأرض، فلذلك خصصه الله سبحانه وتعالى بالقيادة والإمارة على الأرض، فقال تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29]، ومعنى هذا أن كل ما في الأرض، نكتته وحكمة خلقه ابن آدم، إما انتفاعاً كما في الأرض من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات، وغيرها مما ينتفع به الجنس البشري، وإما اعتباراً كما في الأرض مما لا ينفع ولا يضر، وإنما يتعظ به الإنسان فيكون ذلك تنميةً لفكره، وإشراقاً لروحه وبصيرته، وإما اختباراً كما في الأرض مما يضر الإنسان، كالسباع والهوام والسموم والأوبئة والجراثيم والمكروبات وغيرها مما هو ضار للبشر، فحكمة الله في خلقه أن جعله اختباراً و ابتلاءً لهذا الجنس البشري، وامتحاناً له، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].

فإذا عرف ذلك عرف أن هذا الجنس البشري شريف كريم على الله جل جلاله، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى نوه بهذا الجنس في بداية النشأة، فقد خلق آدم بيمينه ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم بين للملائكة أنه جعله خليفة في الأرض: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30].

تشريف ومسئولية

فهذا التشريف والتكريم اقتضى أن يكون الإنسان مسئولاً عن هذه الأرض، وذلك يقتضي حرصاً على أداء هذه المسئولية، فالإنسان إذا وظف في وظيفة سامية عالية، ولكنه لم يرد منها إلا أخذ الراتب ولم يرد أن يقدم أية خدمة، ولا أن يمارس أية صلاحيات منحت له، هل هو مستفيد من وظيفته؟ هل لهذه الوظيفة شرف في حقه؟ فلذلك الإنسان ذكراً كان أو أنثى، كبيراً أو صغيراً، عالماً أو جاهلاً، ذكياً أو بليداً، هو مستخلف في هذه الوظيفة العمومية العامة ذات الشرف الكبير والمكانة السامقة، فلا بد أن يستشعر مسئوليته عما في الأرض، وأن يحرص على أن يترك فيها بصماته وآثاره، وأن يؤدي الحق الذي جعله الله عليه، فإنه لو ولي على مصر من الأمصار، أو انتخب رئيساً لبلد من البلدان ولم يقدم لشعبه أية خدمة، ومكث محتجباً في قصره يأخذ راتبه عند نهاية الشهر، لم يكن لانتخابه معنىً ولا قيمة، ولن يعود الناخبون لانتخابه مرة أخرى.

فلذلك هذا الإنسان لا بد أن يستشعر أنه في وظيفة كبيرة، وأن عليه مسئوليات جسيمة، وأنه لا بد أن يمارسها قبل فوات الأوان، وذلك أن الأوان، أوان امتحان والأقلام معملة، والوقت ضيق، والعمر قصير، وفي العمل تقصير، والناقد بصير، فيحتاج الإنسان للمبادرة قبل فوات الأوان، ولذلك شرع الله للبشر المسابقة والمبادرة إلى الخيرات، فقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة:148]، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وقال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، وقال تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحض على المبادرة والمسارعة بالأعمال الصالحة.

فلذلك لا بد أن يستشعر الإنسان مسئوليته، وأن يستشعر كذلك ضيق الأمد لأداء المهمة، فأنت أتيت إلى الأرض ولست من أهلها، أهبطت إليها إهابطاً، ووصلت إليها في تأشيرة مدتها محددة هي مدة العمر، وهي مجهولة بالنسبة لك، وفي أعمالٍ ووظائف محددة، فإذا أتقنت هذه الأعمال والوظائف وأديتها على أحسن الوجوه، قبل انقضاء التأشيرة، فإن بقية التأشيرة ستكون ربحاً وزيادة وامتداداً في الخير، وإذا جلست إلى آخر مدة التأشيرة ثم بدأت في مزاولة العمل الذي من أجله أتيت، فقد غامرت وخاطرت، ويمكن أن تنقضي التأشيرة قبل أداء مهمتك، كما يفعله كثير من المسوفين الذين يقولون: نحن شباب وسنترك المبادرة إلى الطاعات والأعمال الصالحة حتى نشيب ويتقدم بنا العمر، فيقال: من يضمن لكم أنكم ستوصلون إلى ذلك، أو إذا وصلتم إليه فمن يضمن لكم الاستمرار على طريق الهداية، ومن يضمن لكم ألا تصابوا بالأمراض التي تمنع من الطاعات، ومن يضمن لكم ألا تصابوا بأمراض الإيمان وأمراض القلوب التي تحول بين الإنسان وبين المسابقة في الخير.

فلذلك لا بد أن يستشعر الإنسان ضيق وقت التأشيرة، وأن كثيراً من العوائق تحول دون إتمام العمل والمهمة الشاقة، التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، ولم يكف أنهن أَبَيْنَ أن يحملنها، بل مع ذلك أشفقن منها، والإشفاق يقتضي خوفاً وقشعريرة واستعظاماً للأمر وهولاً منه، فكل ذلك ينبغي أن يستشعره الإنسان عند ممارسته لهذه الأمانة التي جعلت في عنقه.

فهذا التشريف والتكريم اقتضى أن يكون الإنسان مسئولاً عن هذه الأرض، وذلك يقتضي حرصاً على أداء هذه المسئولية، فالإنسان إذا وظف في وظيفة سامية عالية، ولكنه لم يرد منها إلا أخذ الراتب ولم يرد أن يقدم أية خدمة، ولا أن يمارس أية صلاحيات منحت له، هل هو مستفيد من وظيفته؟ هل لهذه الوظيفة شرف في حقه؟ فلذلك الإنسان ذكراً كان أو أنثى، كبيراً أو صغيراً، عالماً أو جاهلاً، ذكياً أو بليداً، هو مستخلف في هذه الوظيفة العمومية العامة ذات الشرف الكبير والمكانة السامقة، فلا بد أن يستشعر مسئوليته عما في الأرض، وأن يحرص على أن يترك فيها بصماته وآثاره، وأن يؤدي الحق الذي جعله الله عليه، فإنه لو ولي على مصر من الأمصار، أو انتخب رئيساً لبلد من البلدان ولم يقدم لشعبه أية خدمة، ومكث محتجباً في قصره يأخذ راتبه عند نهاية الشهر، لم يكن لانتخابه معنىً ولا قيمة، ولن يعود الناخبون لانتخابه مرة أخرى.

فلذلك هذا الإنسان لا بد أن يستشعر أنه في وظيفة كبيرة، وأن عليه مسئوليات جسيمة، وأنه لا بد أن يمارسها قبل فوات الأوان، وذلك أن الأوان، أوان امتحان والأقلام معملة، والوقت ضيق، والعمر قصير، وفي العمل تقصير، والناقد بصير، فيحتاج الإنسان للمبادرة قبل فوات الأوان، ولذلك شرع الله للبشر المسابقة والمبادرة إلى الخيرات، فقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة:148]، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وقال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، وقال تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحض على المبادرة والمسارعة بالأعمال الصالحة.

فلذلك لا بد أن يستشعر الإنسان مسئوليته، وأن يستشعر كذلك ضيق الأمد لأداء المهمة، فأنت أتيت إلى الأرض ولست من أهلها، أهبطت إليها إهابطاً، ووصلت إليها في تأشيرة مدتها محددة هي مدة العمر، وهي مجهولة بالنسبة لك، وفي أعمالٍ ووظائف محددة، فإذا أتقنت هذه الأعمال والوظائف وأديتها على أحسن الوجوه، قبل انقضاء التأشيرة، فإن بقية التأشيرة ستكون ربحاً وزيادة وامتداداً في الخير، وإذا جلست إلى آخر مدة التأشيرة ثم بدأت في مزاولة العمل الذي من أجله أتيت، فقد غامرت وخاطرت، ويمكن أن تنقضي التأشيرة قبل أداء مهمتك، كما يفعله كثير من المسوفين الذين يقولون: نحن شباب وسنترك المبادرة إلى الطاعات والأعمال الصالحة حتى نشيب ويتقدم بنا العمر، فيقال: من يضمن لكم أنكم ستوصلون إلى ذلك، أو إذا وصلتم إليه فمن يضمن لكم الاستمرار على طريق الهداية، ومن يضمن لكم ألا تصابوا بالأمراض التي تمنع من الطاعات، ومن يضمن لكم ألا تصابوا بأمراض الإيمان وأمراض القلوب التي تحول بين الإنسان وبين المسابقة في الخير.

فلذلك لا بد أن يستشعر الإنسان ضيق وقت التأشيرة، وأن كثيراً من العوائق تحول دون إتمام العمل والمهمة الشاقة، التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، ولم يكف أنهن أَبَيْنَ أن يحملنها، بل مع ذلك أشفقن منها، والإشفاق يقتضي خوفاً وقشعريرة واستعظاماً للأمر وهولاً منه، فكل ذلك ينبغي أن يستشعره الإنسان عند ممارسته لهذه الأمانة التي جعلت في عنقه.

الحياة الدنيا

وهو يعلم أن مدة عمره محصورة يسيرة، وأن له ثلاث فرص لأداء مهمته واستخلافه في هذه الأرض:

الفرصة الأولى: فرصة الحياة الدنيا، فلا تظنوا أن هذه الحياة باقية دائمة؛ بل هي منقطعة زائلة، وكل ما فيها زائل ذاهب، وهي عرض ونسيان، وبقاء الحال من المحال، وكل يوم نرى من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة ما يدل إلى انقضاء الدنيا، كل يوم نرى ما يدل على تقوض بنائها وذهاب أهلها، فتذكروا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وقف على ضجنان وهو جبل قريب من مكة فقال: لا إله إلا الله وحده، كنت أرعى أبلاً للخطاب على ضجنان فكنت إذا أبطأت ضربني، وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعشِّ، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم أنشأ يقول:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد

لم تغنِ عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تجدُ

أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذبٍ لا بد من ورده يوماً كما وردوا

فهذه الدنيا متقلبة، وهي إلى زوال، وأنتم الآن في آخر أممها، فآخر أمة فيها هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة لا محالة قد مرت منها القرون، فأنتم الآن في الخامس عشر من قرونها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على قطع التسويف، وعدم تطويل الأمل، فإذا أنذرهم الدجال كلمهم حتى يظنون أنه قد نزل بطائفة النخل، فإذا رأى فيهم قلقاً وخوفاً، قال: ( إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإلا فالله خليفتي على كل مسلم ).

حال الصحابة في الدنيا

وكان يحدثهم عن القيامة فكأنهم يرونها، وكانوا كلما رأوا جديداً في حياتهم تأثروا به تأثراً بالغاً، رأى رجل من الأنصار منخلاً وهو الذي يرقق به البر، فلما رآه قال: ما هذا؟ قيل: منخل يرقق به البر، فحزن حتى بال الدم؛ لأنه رأى أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد فتحت عليهم الدنيا أبوابها بعده، وأنهم قد عاشوا في رفاة وأمان بعد أن كانوا في ذلك الحال الشديد، ومعهم أشرف الخلق وأزكاهم، وأحبهم إلى الله سبحانه وتعالى.

فعلم أن فتح أبواب الدنيا ليس خيراً لهم؛ لأنه لو كان خيراً لهم لناله من هو خير منهم، وكذلك قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ( ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة سميطاً )، أي: ما رأى شاة مشوية بكاملها غير مقطعة.

وانظروا إلى ما ينعم به الناس اليوم، فقد كان الصحابة إذا رأوا أي حدث من ذلك اشتد عليهم شدة عظيمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رباهم على قطع الأمل وعدم التسويف؛ لأنهم يعلمون أن الدنيا فانية، وكلما سمعوا هيعة أو خبراً ظنوا أنه شرط من أشراط الساعة، لقوة إيمانهم، فكل شيء جاهز لديهم، إنما يتعلق بالدار الآخرة، إذا سمعوا صوتاً كبيراً ظنوا أنه من أشراط الساعة، وإذا سمعوا أي خبر توقعوا أن يكون متعلقاً بأشراط الساعة، بخروج الدابة، أو خروج الدجال ، أو طلوع الشمس من مغربها أو غير ذلك.

والناس اليوم رجعوا إلى التسويف، وطول الأمل إلا من رحم الله، فكثير من الناس يصبح ويمسي ولا يدور أمر الآخرة في خلده، ولا يتوقع أن يكون هذا العام، وهو عام ألف وأربعمائة وتسعة وعشرين من الهجرة، عام وجود شرطٍ من الأشراط الكبرى، أو حصول آفة من الآفة والطوام، ولا يتوقعون قيام الساعة في بكرة غدٍ مثلاً؟

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خير يومٍ طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم ، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مطلقة مصيخة من طلوع فجره إلى طلوع شمسه تنتظر الساعة، إلا الإنس والجن )، فالدواب جميعاً تنتظر الساعة من طلوع فجر يوم الجمعة إلى طلوع شمسه، إلا الإنس والجن، ففيهم الغافلون المعرضون عن الله سبحانه وتعالى، أما من سواهم فكلهم من المؤمنين إلى الله، كما قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ[الحج:18].

فالتقسيم إنما جاء في الإنسان ومثل ذلك في الجن، أما ما سوى ذلك من الدواب فكلها ساجدة لله سبحانه وتعالى، وظلالها معها، وكلها موحدة مؤمنة مسبحة بحمده، فكلها تنتظر نهاية هذه الدنيا، وتنتظر لقاء الله سبحانه وتعالى: مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:5].

فلذلك لا بد أن نستشعر أن الحياة الدنيا وهي دار العمل مدتها محصورة يسيرة، وقد آذنت للزوال، فما لم يعمله الإنسان فيها لا يجده يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا[آل عمران:30].

عمر الإنسان الشخصي

والفرصة الثانية: هي عمر الإنسان الشخصي، فما منا أحد إلا وله عمرٌ محدد، قد كتب في الصحف التي عند الله ووقعت فيه في الأزل، ثم كتب في اللوح المحفوظ في العام الذي يموت فيه، وكتب معه وهو جنين في بطن أمه، عندما أرسل الله إليه الملك وهو يقبض النطفة، فيقول: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فيأمره الله سبحانه وتعالى بما شاء من الأمر فيها، ثم بعد ذلك إذا بلغ أربعة أشهر أمره بنفخ الروح في الجنين وهو في بطن أمه، وأمره بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فما منا أحد إلا وقد كتب وقت موته، والوقت الذي تصعد فيه الروح وتفارق الجسد، وكتب بأي شيء يكون موته، فمنا من يموت بالمرض، ومنا من يموت بحوادث السير، ومنا من يموت من غير سبب.

وكم من فتًى يمسي ويصبح لاهياً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

فكثير من الأحياء الذين يهتمون بأمر دنياهم الآن أكفانهم موضوعة على الرفوف، قد نسجت واستوردت وجلبت، وهي جاهزة، ولكنهم لا يشعرون بذلك ولا يعرفونه، فإذا أدرك الإنسان أن عمره محصور يسير، وأن ما لم يعمله فيه لا يمكن أن يجده وسيتمنى الرجوع إلى الدنيا: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:56-58]، والكرة الرجعة، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11]، فلا بد أن نبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يأتي الموت المجهز القاضي، أو يأتي ما يسبق الموت من الأعراض، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بادروا بالأعمال ستاً، فهل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال ، فـالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر). فهذه الست آتية لا محالة.

أعراض الدنيا تتقلب على الإنسان، فهو اليوم فقير وغداً غني، هو اليوم صحيح وغداً سقيم، هو الآن حي وغداً ميت، فلذلك لا بد أن يبادر العمل الصالح قبل فوات الأوان، وقبل الانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة، ( وإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته ).

النعم المسخرات

أما الفرصة الثالثة: فهي ما مكننا الله فيه من أنواع النعم، فما منا أحد إلا وهو يعيش في نعم لله جليلة لا يستطيع إحصائها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، وهذه النعم الجليلة الجسيمة التي لا نستطيع مجرد إحصائها، كثير منها لا يخطر على بالنا ولا نفكر فيه، وفرصة وجودها محصورة وستذهب، فكل نعمة هي وظيفة يوظف بها الإنسان، وبقاء الإنسان على كرسي الوظيفة محصور، وسيعزل عنها لا محالة أو يموت، وما لم يفعله قبل خروجه من هذه الوظيفة لن يفعله بعد نهاية الوظيفة وتعيين إنسانٍ آخر وتنزيل العمل إليه، فلا بد إذاً من استغلاله لصلاحياته قبل فوات الأوان ونهايته، فيبقى حظه حينئذٍ الندم حيث لا ينفعه الندم.

ولهذا فإن وظيفتنا في الاستخلاف في الأرض تقتضي منا إصلاحها، وهذا الإصلاح يؤيد الله سبحانه وتعالى أهله، ويرفع عنهم البلاء ويرفع بهم البلاء عمن سواهم، فالله سبحانه وتعالى لا يهلك القرى إذا كان أهلها مصلحين، وقد تعهد بذلك في كتابه.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4792 استماع
بشائر النصر 4281 استماع
أسئلة عامة [2] 4123 استماع
المسؤولية في الإسلام 4049 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3987 استماع
نواقض الإيمان [2] 3941 استماع
اللغة العربية 3924 استماع
عداوة الشيطان 3924 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3897 استماع
القضاء في الإسلام 3885 استماع