أقسام القلوب


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فأبشروا واحمدوا الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة العظيمة، فأنتم اليوم في هذه الليلة ضيوف الرحمن سبحانه وتعالى في بيت من بيوته، تتعرضون لنفحاته سبحانه وتعالى، ما يجمعكم إلا ضيافة الرحمن سبحانه وتعالى، وهذه المزية العظيمة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين ( تأخر عنهم ذات ليلة لم يصل العشاء حتى ذهب عامة الليل، ثم خرج عليهم وقال: لقد علمت أنه لا ينتظرها الليلة سواكم ).

وهي نعمة عظيمة أن يشعر الإنسان بأن الله سبحانه وتعالى لم يحجبه عنه، وأنه يسره لأن يكون من عباده؛ فالذين لا يرتضي الله عبادتهم ولا خدمتهم يصرفهم بأنواع الصوارف؛ فمنهم من يصرفه بالكفر، ومنهم من يصرفه بالغفلة، ومنهم من يصرفه بالمرض، ومنهم من يصرفه بالاشتغالات بأمور الدنيا، ومنهم من يصرفه بأن يسلط عليه الشهوات، ومنهم من يصرفه بأن يسلط عليه الشواغل من شياطين الجن والإنس.

وإذا خلص الله سبحانه وتعالى عبداً من الشواغل، وأتى به إلى بيت من بيوته، يمر على الملائكة الكرام الكاتبين على أبواب المساجد، ويجالس ضيوف الملك الديان سبحانه وتعالى، وينتظر نفحاته في بيت من بيوته يسمع كتاب الله سبحانه وتعالى ويتدبره، ويسمع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما جلس يجافي جنبه عن مضجعه إلا ابتغاء مرضاة الله؛ فهي نعمة عظيمة جسيمة لا بد من تذكرها وشكرها لله سبحانه وتعالى.

ثم عليك كذلك أن تتذكر أن هذا الشهر الذي نحن فيه -وهو شهر شوال- شهر يجتهد الشيطان فيه للقصاص من المؤمنين الذين فاتوه بالإيمان العظيم الذي بنوه في شهر رمضان؛ فقد وفق الله أقواماً لصيام رمضان وقيامه، ولقراءة القرآن وتدبره فيه، وللنفقة والصدقة، ووفق آخرين للذكر وعمارة المساجد والاعتكاف، وكل ذلك يسوء الشيطان الرجيم غاية الإساءة، فهو حريص على القصاص من أولئك القوم الذين فاتوه بعبادة الله التي من أجلها خلقوا، وفاتوه بما قدموا لأنفسهم، وهو عدوهم وقد أقسم بعزة الله ليغوينهم؛ فلما لم يستجيبوا لندائه لم ييأس منهم في شهر رمضان، ولكنه أمهلهم ليدخل شهر شوال؛ فيجتمع على إبليس جنده، ويخرج المصفدون من جنده من المردة من سجنه، وحينئذٍ يصول صولته ويجول جولته، وكثيراً ما يوقع كثيراً من الذين تابوا وأنابوا في شهر رمضان في الشباك والشراك في شهر شوال، فإذا كانت هذه الليلة مذكرةً لكم بليالي رمضان فهي نعمة عظيمة تدل على أن الإنسان على العهد مع الله سبحانه وتعالى، ومن المعلوم ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث شداد بن أوس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها في يوم فمات فيه دخل الجنة، ومن قالها في ليلة فمات فيها دخل الجنة ).

فهذا الكلام الذي هو سيد الاستغفار فيه تذكر الإنسان لعهده مع الله سبحانه وتعالى، وتنفيذ لذلك العهد، والمؤمنون الذين كانوا يحسنون العبادة في رمضان قد عهدوا بذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فهم يجددون العهد معه الآن في هذه الليلة، ويحرصون على أن يتذكروا ليالي رمضان، وأن يعلموا أن الأيام والليالي كلها لله، وأنه ما من وقت يمر إلا والله سبحانه وتعالى يستحق العبادة فيه، ويستحق إحسان العبادة وزيادةً فيها، ومن هنا فأنتم تحبون كل عابد لله سبحانه وتعالى؛ لأنه يؤدي عملاً تغبطونه عليه، وتودون مشاركته فيه، كما تحبون محمداً صلى الله عليه وسلم و أبا بكر و عمر و عثمان و علياً و جبريل و ميكائيل و إسرافيل ؛ لأنهم عبدوا الله سبحانه وتعالى كما يستحق؛ فمحبتكم لهم على أساس عبادتهم لله التي من أجلها خلقتم، وكذلك تحبون أن توفقوا لأية عبادة تتقربون فيها إلى الله، ولو كانت لحظةً واحدةً يحبس فيها الإنسان جوارحه عن معصية الله، ويحبس فيها بدنه ابتغاء مرضاة الله، وتعرضاً لنفحاته وهدايته سبحانه وتعالى، وهو الذي ( يمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويمد يده بالليل ليتوب مسيء النهار )، فسبحانه ما أحلمه وأكرمه.

ثم علينا أن نتذكر كذلك أن المهم ومحل النظر الرباني منا هو ما كان في القلوب، فالقلوب ذات أهمية عظيمة في أصولنا، وفي أصل كياننا؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرج عنه البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: ( إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس؛ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ).

والقلوب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قلب سليم، وقلب مريض، وقلب ميت، وكل إنسان منا محتاج إلى أن يشخص حالته، وأن ينظر بعين الفحص والتقييم إلى قلبه من أي القلوب هو؛ هل هو قلب سليم، أو قلب مريض، أو قلب ميت؟ وعلى أساس ذلك يحدد ويصنف مستقبله وواقعه.

علامات القلب الميت

إن القلب الميت من علامته ألا يحب صاحبه أية عبادة تقرب إلى الله، وألا يسر لحسنته، وألا يساء لسيئته، وألا يعرف معروفاً، وألا ينكر منكراً، وألا يحقر أمر الآخرة في خلده، وهذا الحال حاصل لكثير من الناس، هم يسرفون ويذنبون آناء الليل وأطراف النهار، ولا يستشعرون عظمة من يخالفون، وهم كذلك إذا وفق أحدهم لطاعة لم يستشعر لذة المناجاة، ولم يستشعر النعمة بالتوفيق لأداء هذه العبادة، وهم كذلك غافلون منهمكون في شئون الدنيا، فلا يخطر أمر الآخرة في خلد أي أحد منهم، ولا يتذكر أي أحد منهم أن إسرافيل قد أمسك بالقرن الآن، والتقمه وأصغى ليتاً وهو ينتظر الإذن بالنفخ في الصور، ولا يستشعرون أن يوم القيامة أمره عظيم جداً، كما قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، لا يتذكرون مشاهد القيامة وعرصاتها العظيمة، فقل من يستحضر تلك اللحظة التي يأخذ فيها طائره من عنقه، ويقرأه أمام الناس، ويقرأه على رءوس الملأ، فيقرأ كل أعماله وقد ناداه الملك الديان فقال: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14].

قل منا من يدور في خلده حاله ذاك، فهو يقرأ على رءوس الملأ بحضرة الملك الديان، وبحضرة أنبيائه وملائكته، وبحضرة الخلائق أولهم وآخرهم، يقرأ فعلت يوماً كذا وكذا وكذا، وفعلت ليلة كذا وكذا وكذا، وهو يقر بما كان يكتمه ويخفيه، ويقره غاية الإقرار، يقر به على رءوس الملأ، ويقرأه جهاراً نهاراً لا يتلعثم ولا يتتعتع؛ فهذا الموقف لا شك موقف مؤثر، لكن قل من يدور في خلده من الناس، قل من يستشعر العرض على الملك الديان سبحانه وتعالى ساعة يعرض الناس حفاةً عراةً غرلاً، ليس مع أحد منهم إلا عمله، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].

أما من يستشعر تلك اللحظات التي يوضع فيها الموازين بالقسط لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47] إنما يدور ذلك في خلد من كان قلبه سليماً حياً معافىً، وهو الذي يفكر فيما أمامه، وينتظر تلك المواقف وهو مؤمن بها صادق.

إن أصحاب القلوب الميتة رغم قناعاتهم بهذه المواقف وبهذه الأمور، ورغم إيمانهم وتصديقهم بها لا يتصرفون على أساسها، فهم في واد وهي في واد آخر.

علامات القلب المريض

أما القلوب المريضة فمن علامتها التردد والتحير؛ فصاحب القلب المريض إذا سلك طريق الهداية لا يصبر على ذلك الطريق؛ بل إذا لم يسقط عند أول نكبة فسيسقط عند التي تليها أو التي بعدها، ومن علامة أصحاب القلوب المريضة أنهم ليست لديهم مناعةً من ميكروبات الإيمان؛ فهذا الإيمان يمرض كما تمرض الأبدان، وله فيروسات وميكروبات، وهذه الميكروبات هي من الأمراض المعدية؛ فيسمع الإنسان الكلمة الجارحة الخارقة في جدار الإيمان، فإذا لم ينكرها قلبه، ولم يقشعر لها أخذت مكانها في قلبه، واستقرت فيه، وهي فيروس ضار سيتكاثر ويتناما مثلما تتكاثر البكتيريا، وكذلك كثيراً ما يرى الفعل يفعله الإنسان من سخط الله؛ فإذا لم ينكره قلبه أشربه ودخل إليه، إذا لم يحبه ويباشره فعلى الأقل يسكت عنه، نسأل الله السلامة والعافية.

كذلك من علامات القلوب المريضة: أن صاحب القلب المريض إذا رأى أي مخلص لله سبحانه وتعالى في أي عمل من الأعمال يتهمه دائماً في نيته وأنه هو غير مخلص، ولا يتصور أن يخلص الآخرون، إذا رأى أي مقدم سنةً للدين لا بد أن يتهمه بأنه غير صادق، إذا رأى من يجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وهو لا يعرفه وما عرف فيه شراً ولا خيراً من قبل، فلا بد أن يتهمه وأن يبدأ أولاً بالبحث في مثالبة والنواقص التي لديه، وإذا رأى أي ساع في الخير ولو لم يعرفه ولم يسمع عنه أي ذكر فلا بد أن يبحث عن نواقصه، ومن أين جاءه الخلل والنقص؛ ولذلك فأصحاب القلوب المريضة يتغافلون عن أمراضهم وسوءاتهم وعيوبهم، ويبحثون عن عيوب الآخرين، فهم يلتمسون للآخرين العيوب، ويلتمسون مساوئهم وزلاتهم، ويظنون أنهم في منأىً عن تلك الوساوس والسوءات والمعايب، وأنهم يسكنون في برج عادي عال لا تتناوله تلك المصائب، ولا تصل إليه بوجه من الوجوه، ومن هنا فيتناسون عثراتهم وزلاتهم، ويجعلون من زلات الآخرين جبالاً عظيمةً، ويجعلون من الحبة قبة، ويجعلون من العثرة صفقةً، وهكذا في كل تتبعاتهم للأمور.

وأصحاب القلوب المريضة يركنون دائماً إلى جانب الهدم؛ فلذلك يسرهم أن يسمعوا موسعاً مبصراً، ويسوءهم أن يسمعوا منذراً، وهم دائماً يحبون الركون إلى الراحة، ولا يحبون العمل بوجه من الوجوه، يحبون النوم والغفلة والراحلة، ويحبون أن يأخذوا قسطاً من هذه الحياة الدنيا، ولا يحبون أبداً أن يقدموا شيئاً لآخرتهم، وهم يتمادون في الإصرار على إغفال ما أمامهم؛ لأنهم يسوفون، وينخدعون بعقد الشيطان التي يعقدها على قافية رأس كل أحد منهم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب في كل عقدة: ( إن عليك ليلاً طويلاً فنم )؛ فلذلك يسهل على هؤلاء المبتلين بداء مرض القلب أن تسري إليهم وساوس الشيطان، ويسهل عليهم أن يتشككوا في أمور العقائد، وفي ثوابت الشرع، ويسهل عليهم أن يتساءلوا في أمر لا تبلغه العقول، ولا تصل إليه، في الوقت الذي نجد فيه أهل الإيمان وأهل سلامة القلوب لا يفكرون في ذلك النوع من التفكير، ولا يطرحون تلك الأسئلة على أنفسهم؛ لقناعتهم ولحصول السكينة في قلوبهم، ولحصول الطمأنينة التامة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، فلا يتشككون بشيء، ولا يقفون وقفة تحير في أي أمر من الأمور، وهم يقولون ما قال الزبيري رحمه الله:

أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني

فما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين

صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك تجد هؤلاء يسيرون وراء كل ناعق، ويتربون في الأوحال، كلما عرضت شبهة من الشبه قالوا بها وتشربتها قلوبهم وآذانهم، وتلقفتها ألسنتهم قبل آذانهم.

علامات القلب السليم

ثم من علامات القلب السليم: حرصه على الازدياد من الخير دائماً، وتقصير صاحبه للأمل، وإيثاره للدار الآخرة على الأولى، وانطلاقه من مبدأ التسليم لأمر الله سبحانه وتعالى، والقناعة بكل ما جاء من عنده دون نقاش، وتذوقه لمعاني الإيمان، فكل هذا من صفات القلوب السليمة؛ ولذلك فإن إبراهيم عليه السلام قد ضرب الله فيه المثل لأصحاب القلوب السليمة: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84]، فكل أمره موافق للفطرة؛ ولهذا اتخذه الله خليلاً، وهذا أعلى مقام للمخلوق أن يتخذه الرب سبحانه وتعالى خليلاً، فإنما اختار الله إبراهيم خليلاً حين نقاه وامتحنه ونجح في كل الامتحانات كما قال الله تعالى: وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124].

ولذلك فإن أصحاب القلوب السليمة يتبعون ملة إبراهيم ، ويجتهدون في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالطاعات ولو خالفت أهواءهم، كما تقرب إبراهيم بذبح ولده حين أمر بذلك في المنام مع محبته له وحاجته إليه، وكما نفذ الأمر بترك ولده وجاريته بواد غير ذي زرع لا ماء فيه ولا مرعى امتثالاً لأمر الله، وكما بادر كذلك بالامتثال في هجرته عن قومه حين كفروا بالله، وكما أظهر توكله على الله في المضايق عندما قال: (حسبي الله ونعم الوكيل) حينما رماه أصحابه في النار فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].

إن أصحاب القلوب السليمة منا دائماً ينتقدون أنفسهم، ويرون العيب فيها، ويظنون بالآخرين ظن السلامة، ويرون أنفسهم دون الآخرين دائماً؛ فهم يعلمون أن معايير هذه الحياة الدنيا تختلف عن معايير الآخرة؛ فالمعايير الأخروية هي المعايير المعتبرة، وإنما معيار الفضل فيها بالتقوى فقط كما قال الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ومن هنا فهم يضعون أنفسهم في قفص الاتهام دائماً، يعلمون أن النفس أمارة بالسوء، ويعلمون أنها تسعى للراحة ولا تريد عملاً ولا تعباً، ويسعون لمجاهدة الشيطان، فأوقاتهم كلها مجاهدة؛ ولذلك فإن الشيطان يتعب مع هؤلاء، يبني حيله، ويندي رسله ويبقى هؤلاء صامدين على الحق، لا يتأثرون بمكائد الشيطان.

علاج أمراض القلوب

بعد معرفتنا لبعض مظاهر أنواع القلوب الثلاثة علينا أن نطبق ذلك على أنفسنا، وإذا راجعنا هذا التصنيف فعرف كل واحد منا داءه ومكمن هذا الداء فهنا عليه بعد ذلك العلاج، ومن أهم ما نعالج به أمورنا عملية بسيطة جداً لا شك أن أكثر السامعين والسامعات يعرفها ويدرسها من خلال انتشار الهاتف الجوال في صفوف الناس، فهذا الهاتف كما تعلمون له ذاكرتان: ذاكرة الجهاز، وذاكرة الشريحة، يخزن الإنسان بعض الأرقام والعناوين على ذاكرة الشريحة، لكن يمكن أن ينسخها في ذاكرة الجهاز، والنسخ قسمان: نسخ مع الاحتفاظ بالأصل، ونسخ مع إزالة الأصل، لكن النسخ في ذاكرة القلوب دائماً مع الاحتفاظ بالأصل؛ فنحن لدينا قناعات عقلية راسخة في العقول نريد نسخها إلى القلوب والعواطف، فلا شك أن جميع السامعين والسامعات يعرفون أن الكذب حرام، ومن صفات المنافقين ومن آياتهم، وأن الصدق واجب، وأنه من صفات المؤمنين، ويعرفون أن الغيبة حرام، وأن أكل الربا حرام، ويعرفون كذلك ما في قيام الليل وصيام النفل من الأجر العظيم والمنزلة العالية عند الله سبحانه وتعالى، لكن هل هذه القناعات تلقى تطبيقاً في كل الأحيان؟ أبداً؛ بل أكثر الناس وهو مقتنع بهذه الأمور يخالفها في أكثر أوقاته، والسبب أن هذه القناعة قد اختزنها بعقله ولم يوصلها إلى قلبه ولا إلى عاطفته، ومن هنا لا بد أن نعمل عواطفنا، فننقل قناعاتنا العقلية إلى محل الحب والكره منا وهو العاطفة والقلب؛ فإذا أحببنا كل ما يحبه الله حباً شديداً، وأبغضنا كل ما يبغضه الله بغضاً شديداً حينئذٍ سهل على جوارحنا أن تنقاد وراء العواطف، وتنساق وراء ما يحبه الله، وتبتعد عن كل ما يكرهه الله، وهذا الأمر ميسور سهل لكل من عرف الداء، أما من لم يعرف هذا أصلاً فلا يرجى له الشفاء منه؛ لأنه مبتلىً بداء عضال، وهو لا يستشعر خطر ذلك المرض.

إن علينا يا إخواني أن نحاول أن نجعل من أنفسنا خصماً لنا، وأن يجلس كل واحد منا في خلوته أو في جلوته ويجعل نفسه شخصاً آخر بين يديه يحاوره ويكلمه، فيعرض على نفسه علو الهمة، ويعرض عليها محبة كل ما يحبه الله، ويعرض عليها بغض كل ما يبغضه الله، حتى لو وقع هو فيه، فإذا وقع فيما يبغض الله وكان مبغوضاً لديه هو سهلت عليه التوبة منه، وكانت توبته صادقةً، وإذا فعل ما يحبه الله كان ذلك بصدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى ولم يكن ذلك بالتقليد، ولم يكن ذلك بمجرد الهواية أو لأنه رأى الآخرين يفعلونه أو رئاء الناس؛ بل فعله على أساس أنه محبوب لله سبحانه وتعالى، يتقرب به إليه.

إن القلب الميت من علامته ألا يحب صاحبه أية عبادة تقرب إلى الله، وألا يسر لحسنته، وألا يساء لسيئته، وألا يعرف معروفاً، وألا ينكر منكراً، وألا يحقر أمر الآخرة في خلده، وهذا الحال حاصل لكثير من الناس، هم يسرفون ويذنبون آناء الليل وأطراف النهار، ولا يستشعرون عظمة من يخالفون، وهم كذلك إذا وفق أحدهم لطاعة لم يستشعر لذة المناجاة، ولم يستشعر النعمة بالتوفيق لأداء هذه العبادة، وهم كذلك غافلون منهمكون في شئون الدنيا، فلا يخطر أمر الآخرة في خلد أي أحد منهم، ولا يتذكر أي أحد منهم أن إسرافيل قد أمسك بالقرن الآن، والتقمه وأصغى ليتاً وهو ينتظر الإذن بالنفخ في الصور، ولا يستشعرون أن يوم القيامة أمره عظيم جداً، كما قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، لا يتذكرون مشاهد القيامة وعرصاتها العظيمة، فقل من يستحضر تلك اللحظة التي يأخذ فيها طائره من عنقه، ويقرأه أمام الناس، ويقرأه على رءوس الملأ، فيقرأ كل أعماله وقد ناداه الملك الديان فقال: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14].

قل منا من يدور في خلده حاله ذاك، فهو يقرأ على رءوس الملأ بحضرة الملك الديان، وبحضرة أنبيائه وملائكته، وبحضرة الخلائق أولهم وآخرهم، يقرأ فعلت يوماً كذا وكذا وكذا، وفعلت ليلة كذا وكذا وكذا، وهو يقر بما كان يكتمه ويخفيه، ويقره غاية الإقرار، يقر به على رءوس الملأ، ويقرأه جهاراً نهاراً لا يتلعثم ولا يتتعتع؛ فهذا الموقف لا شك موقف مؤثر، لكن قل من يدور في خلده من الناس، قل من يستشعر العرض على الملك الديان سبحانه وتعالى ساعة يعرض الناس حفاةً عراةً غرلاً، ليس مع أحد منهم إلا عمله، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].

أما من يستشعر تلك اللحظات التي يوضع فيها الموازين بالقسط لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47] إنما يدور ذلك في خلد من كان قلبه سليماً حياً معافىً، وهو الذي يفكر فيما أمامه، وينتظر تلك المواقف وهو مؤمن بها صادق.

إن أصحاب القلوب الميتة رغم قناعاتهم بهذه المواقف وبهذه الأمور، ورغم إيمانهم وتصديقهم بها لا يتصرفون على أساسها، فهم في واد وهي في واد آخر.

أما القلوب المريضة فمن علامتها التردد والتحير؛ فصاحب القلب المريض إذا سلك طريق الهداية لا يصبر على ذلك الطريق؛ بل إذا لم يسقط عند أول نكبة فسيسقط عند التي تليها أو التي بعدها، ومن علامة أصحاب القلوب المريضة أنهم ليست لديهم مناعةً من ميكروبات الإيمان؛ فهذا الإيمان يمرض كما تمرض الأبدان، وله فيروسات وميكروبات، وهذه الميكروبات هي من الأمراض المعدية؛ فيسمع الإنسان الكلمة الجارحة الخارقة في جدار الإيمان، فإذا لم ينكرها قلبه، ولم يقشعر لها أخذت مكانها في قلبه، واستقرت فيه، وهي فيروس ضار سيتكاثر ويتناما مثلما تتكاثر البكتيريا، وكذلك كثيراً ما يرى الفعل يفعله الإنسان من سخط الله؛ فإذا لم ينكره قلبه أشربه ودخل إليه، إذا لم يحبه ويباشره فعلى الأقل يسكت عنه، نسأل الله السلامة والعافية.

كذلك من علامات القلوب المريضة: أن صاحب القلب المريض إذا رأى أي مخلص لله سبحانه وتعالى في أي عمل من الأعمال يتهمه دائماً في نيته وأنه هو غير مخلص، ولا يتصور أن يخلص الآخرون، إذا رأى أي مقدم سنةً للدين لا بد أن يتهمه بأنه غير صادق، إذا رأى من يجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وهو لا يعرفه وما عرف فيه شراً ولا خيراً من قبل، فلا بد أن يتهمه وأن يبدأ أولاً بالبحث في مثالبة والنواقص التي لديه، وإذا رأى أي ساع في الخير ولو لم يعرفه ولم يسمع عنه أي ذكر فلا بد أن يبحث عن نواقصه، ومن أين جاءه الخلل والنقص؛ ولذلك فأصحاب القلوب المريضة يتغافلون عن أمراضهم وسوءاتهم وعيوبهم، ويبحثون عن عيوب الآخرين، فهم يلتمسون للآخرين العيوب، ويلتمسون مساوئهم وزلاتهم، ويظنون أنهم في منأىً عن تلك الوساوس والسوءات والمعايب، وأنهم يسكنون في برج عادي عال لا تتناوله تلك المصائب، ولا تصل إليه بوجه من الوجوه، ومن هنا فيتناسون عثراتهم وزلاتهم، ويجعلون من زلات الآخرين جبالاً عظيمةً، ويجعلون من الحبة قبة، ويجعلون من العثرة صفقةً، وهكذا في كل تتبعاتهم للأمور.

وأصحاب القلوب المريضة يركنون دائماً إلى جانب الهدم؛ فلذلك يسرهم أن يسمعوا موسعاً مبصراً، ويسوءهم أن يسمعوا منذراً، وهم دائماً يحبون الركون إلى الراحة، ولا يحبون العمل بوجه من الوجوه، يحبون النوم والغفلة والراحلة، ويحبون أن يأخذوا قسطاً من هذه الحياة الدنيا، ولا يحبون أبداً أن يقدموا شيئاً لآخرتهم، وهم يتمادون في الإصرار على إغفال ما أمامهم؛ لأنهم يسوفون، وينخدعون بعقد الشيطان التي يعقدها على قافية رأس كل أحد منهم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب في كل عقدة: ( إن عليك ليلاً طويلاً فنم )؛ فلذلك يسهل على هؤلاء المبتلين بداء مرض القلب أن تسري إليهم وساوس الشيطان، ويسهل عليهم أن يتشككوا في أمور العقائد، وفي ثوابت الشرع، ويسهل عليهم أن يتساءلوا في أمر لا تبلغه العقول، ولا تصل إليه، في الوقت الذي نجد فيه أهل الإيمان وأهل سلامة القلوب لا يفكرون في ذلك النوع من التفكير، ولا يطرحون تلك الأسئلة على أنفسهم؛ لقناعتهم ولحصول السكينة في قلوبهم، ولحصول الطمأنينة التامة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، فلا يتشككون بشيء، ولا يقفون وقفة تحير في أي أمر من الأمور، وهم يقولون ما قال الزبيري رحمه الله:

أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني

فما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين

صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك تجد هؤلاء يسيرون وراء كل ناعق، ويتربون في الأوحال، كلما عرضت شبهة من الشبه قالوا بها وتشربتها قلوبهم وآذانهم، وتلقفتها ألسنتهم قبل آذانهم.

ثم من علامات القلب السليم: حرصه على الازدياد من الخير دائماً، وتقصير صاحبه للأمل، وإيثاره للدار الآخرة على الأولى، وانطلاقه من مبدأ التسليم لأمر الله سبحانه وتعالى، والقناعة بكل ما جاء من عنده دون نقاش، وتذوقه لمعاني الإيمان، فكل هذا من صفات القلوب السليمة؛ ولذلك فإن إبراهيم عليه السلام قد ضرب الله فيه المثل لأصحاب القلوب السليمة: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84]، فكل أمره موافق للفطرة؛ ولهذا اتخذه الله خليلاً، وهذا أعلى مقام للمخلوق أن يتخذه الرب سبحانه وتعالى خليلاً، فإنما اختار الله إبراهيم خليلاً حين نقاه وامتحنه ونجح في كل الامتحانات كما قال الله تعالى: وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124].

ولذلك فإن أصحاب القلوب السليمة يتبعون ملة إبراهيم ، ويجتهدون في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالطاعات ولو خالفت أهواءهم، كما تقرب إبراهيم بذبح ولده حين أمر بذلك في المنام مع محبته له وحاجته إليه، وكما نفذ الأمر بترك ولده وجاريته بواد غير ذي زرع لا ماء فيه ولا مرعى امتثالاً لأمر الله، وكما بادر كذلك بالامتثال في هجرته عن قومه حين كفروا بالله، وكما أظهر توكله على الله في المضايق عندما قال: (حسبي الله ونعم الوكيل) حينما رماه أصحابه في النار فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].

إن أصحاب القلوب السليمة منا دائماً ينتقدون أنفسهم، ويرون العيب فيها، ويظنون بالآخرين ظن السلامة، ويرون أنفسهم دون الآخرين دائماً؛ فهم يعلمون أن معايير هذه الحياة الدنيا تختلف عن معايير الآخرة؛ فالمعايير الأخروية هي المعايير المعتبرة، وإنما معيار الفضل فيها بالتقوى فقط كما قال الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ومن هنا فهم يضعون أنفسهم في قفص الاتهام دائماً، يعلمون أن النفس أمارة بالسوء، ويعلمون أنها تسعى للراحة ولا تريد عملاً ولا تعباً، ويسعون لمجاهدة الشيطان، فأوقاتهم كلها مجاهدة؛ ولذلك فإن الشيطان يتعب مع هؤلاء، يبني حيله، ويندي رسله ويبقى هؤلاء صامدين على الحق، لا يتأثرون بمكائد الشيطان.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع