خطب ومحاضرات
اغتنام الحياة
الحلقة مفرغة
المقدم: بسم الله اللطيف الرءوف المنان، الغني القوي السلطان، الحليم الكريم الرحيم الرحمن، الأول فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده، والظاهر فلا شيء فوقه، والباطن فلا شيء دونه، الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، أرسى الأرض بالجبال في نواحيها، وأرسل السحاب الثقال بماء يحييها، ثم قضى بالفناء على جميع ساكنيها، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى[النجم:31]، أحمده تعالى وأشكره، ومن مساوي عملي أستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى صحابته وسلم تسليماً كثيراً مزيداً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فشيخنا غني عن التعريف، ولكن حبذا أن نعرفه قليلاً؛ حتى يتأكد لنا قدر هذا الشيخ، وما ذلك إلا ترغيباً في العلم الذي عنده، والفقه الذي يحمله، وهذا مما لا بد من معرفته، ومن جميل ما وقفت عليه في سورة سبأ قول الله سبحانه وتعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ[سبأ:6]، وهذا ما خص الله سبحانه وتعالى أهل العلم، والذين أوتوا العلم، أن الله عز وجل يريهم الحق من الوحي الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا من فضل الله تعالى على هذه الأمة، فإن السر في هداية هذه الأمة في الوحي الذي نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال ربنا عز وجل: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي[سبأ:50].
فالشيخ محمد بن الحسن الددو ، ولد نهاية شهر أكتوبر سنة 1963م في البادية التابعة لمقاطعة أبي تلميت، بدأ بدراسة القرآن الكريم في السنة الخامسة، وأكمله بعد تجاوز السنة السابعة، ودرس مبادئ العلوم الشرعية، وصحب جده الشيخ محمد عالي ولد عبد الودود رحمه الله تعالى، ودرس عليه ولازمه حتى وفاته، تبحر في مختلف العلوم الشرعية على جده وعلى خاليه محمد يحيى و محمد سالم ابني عدود ، وشارك بعد ذلك في الدراسة، وحصل على البكالوريوس سنة 1986م، وكان من المتفوقين على المستوى الوطني، وأعطي منحة إلى تونس، واعتذر عنها ثم سجل في جامعة نواكشط كلية الحقوق، وشارك في مسابقة المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، فحصل على المرتبة الأولى فيها، كما حصل عليها في مسابقة القسم الجامعي لجامعة الإمام محمد بن سعود في نواكشوط ليلتحق به، وإثر مقابلته مع مدير الجامعة أثناء زيارة له في نواكشط، اتخذ هذا الأخير قراراً بنقل محمد بن الحسن إلى الرياض مباشرة إثر تحديد مستواه، وسجلته الجامعة في الرياض في المستوى الثالث، ليكمل الدراسة فيها، حصل على الماجستير بامتياز، في نفس الجامعة، وكانت رسالته عن مخاطبات القضاة، ويعد رسالة للدكتوراه أيضاً في ذات الجامعة، يشهد له العلماء بالتبحر في العلوم الشرعية المختلفة، قرآناً وسنة، وفقهاً وأصولاً، فضلاً عن معرفة واسعة بلغة العرب وتاريخهم، وبالعلوم الأكاديمية الكلامية والمنطقية، وله معرفة عميقة بعلماء موريتانيا وإنتاجهم، وله اطلاع جيد على العصر وعلومه ومستجداته.
متزوج وله أبناء وبنات، شارك في عدد كبير من المؤتمرات الدولية، ودرس وحاضر في أوروبا وأفريقيا والعالم العربي وآسيا وأمريكا، فله رسائل مطبوعة، كما طُبعت رسالته للماجستير، وله عدد كبير من الفتاوى والأشرطة التي هي موجودة في موسوعة باسمه.
اعتقل عدة مرات وما نقموا عليه إلا صدعه بالحق، وإفتاءه بما يعلم ويفقه، واعتقل عدة مرات في مايو سنة 2003 إلى أكتوبر 2004م، وأيضاً في نوفمبر2004 إلى إبريل 2005م.
ونسأل الله سبحانه وتعالى الذي بيده ملكوت كل شيء أن يمتعنا بعلم شيخنا، وأن يبارك في حياته، وأن يحفظه من بين يديه ومن خلفه، وأن يجعل سره خير من علانيته، وباطنه خيراً من ظاهره، وما شهدنا إلا بما علمنا.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أحمد الله تعالى، وأسأله سبحانه أن يجعلنا أجمعين من المتحابين فيه، والمتجالسين فيه المتزاورين فيه، الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
فقد أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
وأخرج مالك في الموطأ و مسلم في الصحيح من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي).
وأخرج مسلم في الصحيح كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتجاورين فيّ، والمتباذلين فيّ). جعلنا الله وإياكم منهم.
ولا شك أن وقت هذه الحياة الدنيا قصير، وأنه يمر بسرعة هائلة، وأن الحجة قائمة لله سبحانه وتعالى على عباده، فَللهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ[الأنعام:149]، وهذا الوقت الذي يمضي بهذه السرعة الهائلة يُسئل عن دقائقه وثوانيه، فالله سبحانه وتعالى يقول: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37]، ويقول تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان:61-62]، فأولى ما نتذكر فيه ما يمكن أن نرجح به كفة حسناتنا، ونصل به إلى رضوان ربنا، ونتقي به سخطه وغضبه، فالله سبحانه وتعالى غني عنا، ولا يزيد في ملكه عبادة العابدين، ولا ينقص في ملكه وسلطانه معصية العاصين.
ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحد منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئا)، لذلك لا بد أن يحرص كل واحد منا على نجاته في هذه الدار، وبالأخص إذا تذكر أن عمر هذه الدنيا هو عمر امتحان، وهو أقصر أعمار الإنسان، فالإنسان خلقه الله ولم يشاوره في خلقته، فقد قال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51]، وقال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:8]، وأقام عليه الحجة بما أنزل من الوحي وبإرساله للرسل، وقد قفى على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فقامت به حجة الله على العباد.
وهذا العمر كما ذكرنا هو أقصر أعمار الإنسان.
والإنسان له خمسة أعمار:
العمر الأول منها: هو عمره في عالم الذر، عندما: ( مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذرية، فقال آدم : أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية، فقال آدم : أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلقهم حتى ما يتميزون، فناداهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى )، قالها مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم، كلهم أقروا له بالربوبية.
ثم أخذ عليهم العهد أن يعبدوه وألا يشركوا به شيئاً، قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[يس:60] وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[يس:61]، وهذا العمر الأول دخل فيه الإنسان حيز الوجود؛ لأنه وجه إليه الخطاب وأجاب بالكلام، فما منا أحد إلا وقد قال في ذلك العمر: بلى، وما منا أحد إلا وقد وافق على العهد الذي أخذ عليه وأعطاه، وأقر به لله جل جلاله.
وبقي من ذلك العمر الأول معنا أمران:
الأمر الأول منهما التعارف بين الأرواح، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
والأمر الثاني: الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الدين القيم عند الله، فالإنسان مفطور على العبودية لله، فلو ولد في جزيرة من جزائر البحر، ولم يلقَ أي معلمٍ ولا مرشد، فإنه من المستحيل أن يقول: أنا ربكم الأعلى، أو أن يستغني عن العبادة، بل لا بد أن يبحث عن شيءٍ يعبده، فإذا هدي إلى عبادة الله عبده، وإلا عبد حجراً أو شجراً أو غير ذلك، لكنه بفطرته عبد، وهو محتاج إلى الدين بفطرته.
مفسدات الفطرة
وهذه الفطرة لها مفسدات تفسدها.
فمنها: التكبر والعناد فهو مفسد للفطرة، وكل متكبر لا بد أن يخالف فطرته، ولذلك فرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، إنما أفسد فطرته حتى قال هذا القول المنافي لفطرة الإنسان بسبب التكبر والعناد، ولذلك قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا[النمل:14].
ومن مفسدات الفطرة كذلك: التقليد، والتقليد ثلاثة أنواع: منه تقليد الإنسان لزملائه وأصدقائه، وكثيرا ما يجر إليه الأخلاق والتصرفات التي هو في غنىً عنها، وإن لم يقتنع بها.
فكثير من الكلام يتعوده الإنسان من كثرة سماعه له من زملائه وأصدقائه، وكثير من التصرفات تسري إليه من خلال معاملته مع الناس ومخالطته لهم، ولذلك فإن كثيراً من أفعال الإنسان وأخلاقه لو بحث عن نفعها لوجد فيها ضرراً، ولوجدها غير حميدة، ولتعجب من أين أتته؟ فالأصل السلامة منها، ولكنه إذا راجع أصل ذلك وجده من خلطة الأصحاب.
فالذين يشربون الدخان يعلمون ضرره بأبدانهم، ويعلمون كذلك في غالب الأحوال ضرره بأديانهم، لكن لماذا شربوه؟ فليس هو حلو المذاق، حتى يوافق الفطرة، ولا حسن الرائحة، حتى يوافق الفطرة، ولا فيه مصلحة للبدن، حتى يستعمله الإنسان ولو كرهاً، فهو يستعمله تقليداً للأصحاب، وهكذا في كثير من تصرفات الإنسان.
النوع الثاني من التقليد: تقليد الإنسان لما أدرك عليه أهله، فالإنسان يتربى في صغره في أحضان أهله، فيراهم يفعلون أفعالاً ويتركون تروكاً، فينساق وراءهم في ذلك الأمر، ولو لم يقتنع به، أو يقنعوه به بدليل، فالأصل أن الإنسان صاحب الفطرة السليمة يقول: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، ويستند إلى الدليل وينطلق منه، لكن إذا فسدت فطرته بالتقليد، قلد في أمور مخالفة للدليل، ولو لم يفقه ذلك.
ولذلك فإن الإسلام ليس مجرد تقليد، بل هو قرار يتخذه الإنسان من تلقاء نفسه، فيه استسلام لأمر الله ورضى بحكمه، وانقياد لطاعته، واجتناب لنواهيه.
وهذا القرار إذا اتخذه الإنسان من تلقاء نفسه، فإنه حينئذٍ يترتب عليه كل آثاره، وإذا اتخذه لمجرد تقليد، فإنه يوشك أن يقول في قبره إذا سأله الملكان: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت.
ولذلك فالكثير من الناس في إسلامهم الآن رأوا آباءهم وأمهاتهم يفعلون أفعالاً، فهم يفعلونها تقليداً لهم، ولا يميزون بين ما جاء منها من عند الله، وما كان خرافة أو اجتهاداً أو عادةً. فكانوا وهم صغار يُضربون إذا فعلوا بعض الأفعال، ويُضربون إذا تركوا بعض الأشياء فتعودوا على ذلك، فهذا النوع هو الثاني من أنواع التقليد.
والنوع الثالث من أنواع التقليد: تقليد الزعماء، فكل زعيم يُعجب به الإنسان، سواء كان إعجابه به لدينه أو لدنياه، أو لأيدلوجية يقلده فيها، فإنه كثيراً ما يقلده في كثير من الأمور المخالفة للفطرة، فينساق وراء أقوال الزعيم وأفعاله، ولذلك تجدون بعض الناس يُحرقون أنفسهم فداءً لزعمائهم، وهذا أشد شيءٍ في منافاة الفطرة، أن يعرض الإنسان نفسه للهلاك، بل النار من أجل زعيمه.
وهذه الفطرة تقتضي في الأصل نقاءً وصفاءً، يقتضي من الإنسان قبول الحق إذا سمعه، ورد الباطل إذا سمعه، فيكون مستعداً لقبول الحق، لا يتكبر عليه ولا يرفضه إذا سمعه، ويكون كذلك مستعداً للعمل به؛ لأن مجرد قبول الحق وتصديقه إذا لم يصحبه عمل فلا فائدة فيه.
ولذلك فإن الفطرة مما يعززها الذكرى، والله تعالى يقول: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ[الذاريات:55]، فالذكرى نافعة للمؤمنين لتعزيزها الفطرة، وهي تغذية للقلوب.
أقسام الناس مع الذكرى
والناس فيها على أربعة أقسام:
القسم الأول: لا يتحملون سماع الذكرى، بل يفرون منها كما يفرون من الأسد، وهؤلاء هم المشركون الذين قال الله فيهم: فَمَا لَهمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-51]، وكما قال تعالى: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:11-13]، فهؤلاء يجتنبون الذكرى بالكلية، ويفرون منها هذا الفرار العظيم المشبه بقوله: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:50-51].
والنوع الثاني من الناس يتحملون سماع الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة فلا توصلها إلى القلوب؛ لأن القلوب قد طبع عليها، فحيل بينها وبين سماع الحق، وهؤلاء هم المنافقون، الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16].
والقسم الثالث: هم الذين يسمعون الذكرى من بعض الناس دون بعض، فهم مستعدون للسماع ممن يعجبهم شكله أو نسبه أو مستواه أو يعرفونه أو هو من فئتهم وجماعتهم أو من مستواهم فهذا يمكن أن يسمعوا منه، وأما من ليس كذلك فليس لديهم استعداد للسماع لهم، وهؤلاء هم مرضى القلوب الذين يفصلون في الذكرى، حالهم حال أهل مكة وأهل الطائف عند نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[الزخرف:31-32].
والقسم الربع: الذين يسمعون الذكرى من كل أحد، فيقبلون ما فيها من الحق وينتفعون به، ثم يبادرون إلى اتباع ما قبلوه من الحق، ويردون ما ليس حقاً، وهؤلاء هم المبشرون ببشارة الله، قال الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:17-18]، وقال تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73]، وبعد هذا العمر بقيت سماتنا وأرواحنا في سماء الدنيا عند آدم، ولذلك ثبت في حديث المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنه لما فتح له باب السماء الدنيا قال: (فإذا آدم عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، وإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فسألت جبريل ما هذه الأسودة؟ فقال: نسم بنيه، -والنسمة جنس واحدته نسمة، نسم بنيه- أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، إذا نظر إليهم ضحك لكثرتهم، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة، إذا نظر إليهم بكى لكثرتهم).
وهذه الفطرة لها مفسدات تفسدها.
فمنها: التكبر والعناد فهو مفسد للفطرة، وكل متكبر لا بد أن يخالف فطرته، ولذلك فرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، إنما أفسد فطرته حتى قال هذا القول المنافي لفطرة الإنسان بسبب التكبر والعناد، ولذلك قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا[النمل:14].
ومن مفسدات الفطرة كذلك: التقليد، والتقليد ثلاثة أنواع: منه تقليد الإنسان لزملائه وأصدقائه، وكثيرا ما يجر إليه الأخلاق والتصرفات التي هو في غنىً عنها، وإن لم يقتنع بها.
فكثير من الكلام يتعوده الإنسان من كثرة سماعه له من زملائه وأصدقائه، وكثير من التصرفات تسري إليه من خلال معاملته مع الناس ومخالطته لهم، ولذلك فإن كثيراً من أفعال الإنسان وأخلاقه لو بحث عن نفعها لوجد فيها ضرراً، ولوجدها غير حميدة، ولتعجب من أين أتته؟ فالأصل السلامة منها، ولكنه إذا راجع أصل ذلك وجده من خلطة الأصحاب.
فالذين يشربون الدخان يعلمون ضرره بأبدانهم، ويعلمون كذلك في غالب الأحوال ضرره بأديانهم، لكن لماذا شربوه؟ فليس هو حلو المذاق، حتى يوافق الفطرة، ولا حسن الرائحة، حتى يوافق الفطرة، ولا فيه مصلحة للبدن، حتى يستعمله الإنسان ولو كرهاً، فهو يستعمله تقليداً للأصحاب، وهكذا في كثير من تصرفات الإنسان.
النوع الثاني من التقليد: تقليد الإنسان لما أدرك عليه أهله، فالإنسان يتربى في صغره في أحضان أهله، فيراهم يفعلون أفعالاً ويتركون تروكاً، فينساق وراءهم في ذلك الأمر، ولو لم يقتنع به، أو يقنعوه به بدليل، فالأصل أن الإنسان صاحب الفطرة السليمة يقول: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، ويستند إلى الدليل وينطلق منه، لكن إذا فسدت فطرته بالتقليد، قلد في أمور مخالفة للدليل، ولو لم يفقه ذلك.
ولذلك فإن الإسلام ليس مجرد تقليد، بل هو قرار يتخذه الإنسان من تلقاء نفسه، فيه استسلام لأمر الله ورضى بحكمه، وانقياد لطاعته، واجتناب لنواهيه.
وهذا القرار إذا اتخذه الإنسان من تلقاء نفسه، فإنه حينئذٍ يترتب عليه كل آثاره، وإذا اتخذه لمجرد تقليد، فإنه يوشك أن يقول في قبره إذا سأله الملكان: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت.
ولذلك فالكثير من الناس في إسلامهم الآن رأوا آباءهم وأمهاتهم يفعلون أفعالاً، فهم يفعلونها تقليداً لهم، ولا يميزون بين ما جاء منها من عند الله، وما كان خرافة أو اجتهاداً أو عادةً. فكانوا وهم صغار يُضربون إذا فعلوا بعض الأفعال، ويُضربون إذا تركوا بعض الأشياء فتعودوا على ذلك، فهذا النوع هو الثاني من أنواع التقليد.
والنوع الثالث من أنواع التقليد: تقليد الزعماء، فكل زعيم يُعجب به الإنسان، سواء كان إعجابه به لدينه أو لدنياه، أو لأيدلوجية يقلده فيها، فإنه كثيراً ما يقلده في كثير من الأمور المخالفة للفطرة، فينساق وراء أقوال الزعيم وأفعاله، ولذلك تجدون بعض الناس يُحرقون أنفسهم فداءً لزعمائهم، وهذا أشد شيءٍ في منافاة الفطرة، أن يعرض الإنسان نفسه للهلاك، بل النار من أجل زعيمه.
وهذه الفطرة تقتضي في الأصل نقاءً وصفاءً، يقتضي من الإنسان قبول الحق إذا سمعه، ورد الباطل إذا سمعه، فيكون مستعداً لقبول الحق، لا يتكبر عليه ولا يرفضه إذا سمعه، ويكون كذلك مستعداً للعمل به؛ لأن مجرد قبول الحق وتصديقه إذا لم يصحبه عمل فلا فائدة فيه.
ولذلك فإن الفطرة مما يعززها الذكرى، والله تعالى يقول: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ[الذاريات:55]، فالذكرى نافعة للمؤمنين لتعزيزها الفطرة، وهي تغذية للقلوب.
والناس فيها على أربعة أقسام:
القسم الأول: لا يتحملون سماع الذكرى، بل يفرون منها كما يفرون من الأسد، وهؤلاء هم المشركون الذين قال الله فيهم: فَمَا لَهمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-51]، وكما قال تعالى: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:11-13]، فهؤلاء يجتنبون الذكرى بالكلية، ويفرون منها هذا الفرار العظيم المشبه بقوله: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:50-51].
والنوع الثاني من الناس يتحملون سماع الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة فلا توصلها إلى القلوب؛ لأن القلوب قد طبع عليها، فحيل بينها وبين سماع الحق، وهؤلاء هم المنافقون، الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16].
والقسم الثالث: هم الذين يسمعون الذكرى من بعض الناس دون بعض، فهم مستعدون للسماع ممن يعجبهم شكله أو نسبه أو مستواه أو يعرفونه أو هو من فئتهم وجماعتهم أو من مستواهم فهذا يمكن أن يسمعوا منه، وأما من ليس كذلك فليس لديهم استعداد للسماع لهم، وهؤلاء هم مرضى القلوب الذين يفصلون في الذكرى، حالهم حال أهل مكة وأهل الطائف عند نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[الزخرف:31-32].
والقسم الربع: الذين يسمعون الذكرى من كل أحد، فيقبلون ما فيها من الحق وينتفعون به، ثم يبادرون إلى اتباع ما قبلوه من الحق، ويردون ما ليس حقاً، وهؤلاء هم المبشرون ببشارة الله، قال الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:17-18]، وقال تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73]، وبعد هذا العمر بقيت سماتنا وأرواحنا في سماء الدنيا عند آدم، ولذلك ثبت في حديث المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنه لما فتح له باب السماء الدنيا قال: (فإذا آدم عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، وإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فسألت جبريل ما هذه الأسودة؟ فقال: نسم بنيه، -والنسمة جنس واحدته نسمة، نسم بنيه- أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، إذا نظر إليهم ضحك لكثرتهم، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة، إذا نظر إليهم بكى لكثرتهم).
وبعد ذلك يأتي العمر الثاني: وهو عمر الإنسان فوق الأرض في هذه الحياة الدنيا، وهو عمر الامتحان، وهو أقصر أعمار الإنسان، وهذا العمر بدايته بنفخ الروح فيه وهو جنين في بطن أمه، ونهايته بانتزاع الروح منه عند الموت، قال تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ[الأنعام:61]، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[الأعراف:34]، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا[النازعات:1-2]، وهذا العمر هو عمر العمل، فالدنيا دار عمل ولا جزاء، وبعدها الآخرة دار جزاء ولا عمل.
فعلى الإنسان أن يدرك خطره، وأنه ليس من أهل هذه الأرض، حتى يركن إليها ويميل إلى متعها وما فيها، بل هو غريب، مثله مثل المسافر استظل بشجرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة)، فينتفع من الدنيا فقط بما يعينه على الآخرة.
الحكمة من تمتع المؤمن في الدنيا
ولذلك فإن لك أن تسأل: لماذا يتمتع المؤمنون بمتع الحياة الدنيا، ويقتنون ما فيها فيتزوجون ويأكلون المطاعم ويشربون المشارب، ويبنون البيوت، ويلبسون الملابس، ويركبون السيارات الفارهة، وهم يعلمون أن هذه الدنيا متاع، وأنها ضرة الآخرة؟!
والجواب: أن من كان من أهل الإيمان والصدق إنما يأخذ من ذلك ما يضيق به على الشيطان، فلا يأخذه إلا من حله ليسد به على الشيطان باباً كان بالإمكان أن يدخل منه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، وإلا فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، فيأكل الإنسان ما يعينه على كف جوارحه عن المعصية، ويتمتع به فقط في طريقه، ولكنه لا يركن إليه، فلا يحزن على ما فاته منه ولا يفرح بما ناله، وهذا يقتضيه الإيمان بقدر الله، فمن آمن بقدر الله خيره وشره، حلوه ومره، وعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، لا يمكن أن يفرح بما نال من الحياة الدنيا، ولا يمكن أن يحزن على ما فاته منها.
ولذلك قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:22-23]، واللام للتعليل ومعها (كي) كذلك للدلالة على التعليل، لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ[الحديد:23]، معناه: لا تحزنوا على ما فاتكم من متع الدنيا، وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:23]، أي: من أمر الدنيا.
وهذا العمر قصير جداً، وبالأخص في زماننا، فإن بركة الأيام والليالي قد نزعت، وهي في ازدياد النقص دائماً، كلما اقتربت الساعة كلما نزعت البركة من الأعمار، فلو تذكرتم أو قرأتم سير أعلامنا الماضين، وأدركتم كبار السن فسألتموهم عما كانوا يعملونه في اليوم، وما كانوا يقطعونه على أرجلهم أو على دوابهم من المسافات، وما ينجزونه من الأعمال؟ لتعجبتم كيف يوجد هذا في يوم واحد، مقارنة بأيامنا؟، وقد جاء في الحديث: (إن بين يدي الساعة أياماً تكون السنة فيها كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاشتعال السعفة)، وما حصل من وسائل الاتصال ووسائل النقل وسرعة تطور العالم هو أيضاً مؤذن بذلك، فهذه السرعة كلها تقتضي هذا الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا العمر الذي هو أقصر أعمارنا وصلنا إليه في تطورٍ في الخلقة، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أطوار، ولذلك جاء في نذارة نوح : وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا[نوح:14]، وفي نذارة النبي صلى الله عليه وسلم: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ[الانشقاق:19]، وهذا في الفرد والجماعة، أما الفرد فيمر بتسعة أطوار في خلقته، بينها الله تعالى في سورة المؤمنون بقوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[المؤمنون:12-14]، ومعنى (أنشأناه خلقاً آخر): ما يمر به في تناميه من صباه إلى شيخوخته، فيبدأ بضعفٍ ثم يصل إلى قوة، ثم يعود إلى ضعف وشيبة، فذلك قوله: أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:14-16]، ونحن الآن قد قطعنا من هذه الأشواط التسعة سبعة، فأمامنا الموت والبعث، لكن كل الأطوار الأخرى قد خضناها، ومن حددت له مسافة كأن حددت له مسافة تسعة كيلو فقطع منها سبعة كيلو، سيعلم أن النهاية قريبة لا محالة، فلذلك لا بد من الاستعداد للانتقال من هذه الدار.
وهذا العمر الدنيوي كل يومٍ وليلة منه هي بمثابة عمر بكامله، تطوى صحائفها ويختم عليها، وتعرض على الله يوم القيامة، فإذا استيقظ الإنسان من منامه بعد أن ذهبت روحه، وهو لا يدري أتعود إليه أم لا؟ فليحمد الله على أن رد إليه روحه، وأن عافاه في جسده، وأن أذن له بذكره، ثم ينطلق في العمل من جديد، ويبدأ ذلك بذكر الله، وتجديد العهد معه، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث شداد بن أوس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالهن في يومه فمات فيه دخل الجنة، ومن قالهن في ليلته فمات فيها دخل الجنة )، فهذا تجديد لذلك العهد الذي في العمر السابق، (وأنا على عهدك ووعدك)، وهو وعده لمن مات لا يشرك به شيئاً أن يدخله الجنة.
الحكمة من تعاقب الليل والنهار
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بتعاقب الليل والنهار، وأهمية ذلك للإنسان، فقال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان:62]، فتعاقب الليل والنهار معين على الطاعة والعبادة مذكر للغافلين، منبه للسائرين، وحجة قائمة لله على الخلائق أجمعين، ولذلك قال الماوردي رحمه الله:
أقبل على صلواتك الخمس كم مصبحٍ وعساه لا يمسي
واستقبل اليوم الجديد بتوبةٍ تمحو ذنوب صحيفة الأمسِ
فليفعلن بوجهك الغض البلى فعل الظلام لصورة الشمسِ
فأنت أتيت إلى هذا العمر الجديد وإلى هذه الدنيا في تأشيرة مدتها محددة في علم الله، مجهولة بالنسبة إليك، ولكنك كل يوم ترى ما يذكرك بالخروج منها، ففي كل يومٍ تسمع: مات فلان، قتل فلان، تحطمت طائرة، تحطم قطار، حصل حادث حصلت كوارث، كل يوم ترى توديع بعثٍ من أهل الدنيا ينطلقون إلى الدار الآخرة، منهم من هو أسن منك، ومن هو أصغر، ومن هو معاصر لك، ومن هو أقوى ومن هو أضعف، ومن هو أعلم ومن هو أجهل، ومن هو أغنى ومن هو أفقر، وأنت ترى ذلك عياناً بياناً بين يديك، وهو تبشير لك بالانتقال، كما قيل: وتسمع ما حييت بهالكٍ حتى تكونه.
وهذا الانتقال ليس فيه رجعة، والعاقل إذا حجزت له تأشيرة وخرج في مهمة، فإنه لا يجلس حتى تنتهي تأشيرته ثم يعود خائباً لن يؤدّ المهمة التي جاء من أجلها، ونحن هنا تأشيرتنا محددة في علم الله، ونحن لا نطلع على ذلك، قال سبحانه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ[لقمان:34]، فنحتاج إلى مبادرة العمل الذي أتينا من أجله وإلى إنجازه قبل فوات الأوان.
فرص النجاة في عمر الدنيا
ولنا في هذا العمر القصير ثلاث فرص للنجاة:
الفرصة الأولى: مدة الحياة الدنيا، فهذه الدار وإن كانت مذمومة ولا تساوي عند الله جناح بعوضة، وهي تسمى الدنيا إما من الدناءة وإما من الدنو، فاسمها إما أن يكون مشتقاً من الدناءة؛ لضعف مستواها فهي دنيئة، وإما لدنوها فهي أقرب لنا من الدار الآخرة، لكن هي دار العمل، فما لا يعمله الإنسان فيها لا يجده: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30].
والفرصة الثانية: هو عمرك الشخصي، فأنت تنتظر قبض روحك، ولا تدري متى يكون ذلك، لكنك تعلم أن ذلك آتٍ لا محالة:
من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
والله تعالى يقول: اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى[الزمر:42]، فالجميع حتى المتأخر له أجل، فالموت لا بد منه ولو طال العمر.
ومن هنا فعليك أن تبادر قبل أن يأتيك الموت، وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم من عجائب هذا الموت أموراً عجيبة، فقد ذكر ( أن العبد إذا كان في منقطع من الدنيا وإقبال على الآخرة، أتاه ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فإن كانت نفسه طيبةٍ مؤمنة ناداه فقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:27-30]، فتتهوع إليه روحه كما تتهوع القطرة من في السقاء، فلا تمكث في كفه طرفة عين، حتى يسلمها إلى ملائكة قد جلسوا مد البصر كأن وجوههم الشموس، فيجعلونها في كفنٍ من أكفان الجنة، ويجعلون عليها من طيب الجنة، ثم يرتفعون بها إلى سماء الدنيا، فيستأذنون فيُقال: مرحباً بالنفس الطيبة، فتفتح لها أبواب السماء حتى تخر ساجدة تحت العرش، ثم يُقال لها: ارجعي للسؤال وإن كانت نفسه خبيثة ناداه فقال: يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة، فتتفرق في البدن فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فلا تمكث في كفه طرفة عين، حتى يسلمها إلى أولئك الملائكة وهم: بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ[الأنعام:93-94]، وحينئذٍ يجعلونها في سفط من أسفاط النار، ويجعلون عليها من قطران النار، ثم يرتفعون بها إلى السماء، فيُقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، ارجعي من حيث جئتِ: لا تُفَتَّحُ لَهمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ * لَهمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ[الأعراف:40-41] ) نسأل الله السلامة والعافية.
والنقطة الثالثة: هي ما مكنا الله فيه من أنواع النعم التي لا تحصى، قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[النحل:18]، وهذه النعم لها آجال محددة، وهي امتحان الإنسان ومدة بقائه وتمتعه بها قليل، فتمتع الإنسان بأية نعمة هو مثل جلوسه على كرسي الحلاق، ينتظر الحلاقة، ثم يقوم ليترك مكانه لغيره، ولا يمكن أن يشغل أحد وظيفةً أبد الآبدين، ولا أن يستغل نعمةً أبد الآبدين، بل هو يجمع حطام الحياة الدنيا طيلة عمره، فإذا جاء الموت فرق ورثته ما جمع فيما بينهم، ثم يبدأون الجمع، ثم يفرق ورثته ما جمعوا وهكذا، فيتداول الناس ما يجمعونه.
وبذلك فإن تعب الإنسان في أمرٍ نهايته هي هذه أن يسلبه ويخرج منه، ففي الحديث: ( يقول ابن آدم : مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو قدمت لآخرتك )، وفي الآخر: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا من أحدٍ إلا ماله أحب إليه، قال: فإنه ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر )، فما أخره الإنسان ليس بمالٍ له، قد خرج منه، وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ[الأنعام:94].
وهذه فرصة، وكثير من الناس لا يستشعرها، وقد حدثني أحد الثقات أن وزيراً للمالية بأحد البلدان العربية حدثه شخص من أقاربه، أنه أعطي فرصاً كثيرة لخدمة الناس، وجُعل تحت يديه تقسيم الأراضي وكثير من الأمور، ولكنه جعل يسوف وينتظر، حتى جاء انقلاب عسكري فأسقط النظام، فخرج هو من وظيفته لم ينجز أي شيء، ولم ينفذ أي شيء، ولم ينفع أي أحد، فندم غاية الندم على ذلك، فلذلك على الإنسان أن يبادر هذه النعم قبل فواتها، وأن يستغلها قبل زوالها.
ولذلك فإن لك أن تسأل: لماذا يتمتع المؤمنون بمتع الحياة الدنيا، ويقتنون ما فيها فيتزوجون ويأكلون المطاعم ويشربون المشارب، ويبنون البيوت، ويلبسون الملابس، ويركبون السيارات الفارهة، وهم يعلمون أن هذه الدنيا متاع، وأنها ضرة الآخرة؟!
والجواب: أن من كان من أهل الإيمان والصدق إنما يأخذ من ذلك ما يضيق به على الشيطان، فلا يأخذه إلا من حله ليسد به على الشيطان باباً كان بالإمكان أن يدخل منه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، وإلا فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، فيأكل الإنسان ما يعينه على كف جوارحه عن المعصية، ويتمتع به فقط في طريقه، ولكنه لا يركن إليه، فلا يحزن على ما فاته منه ولا يفرح بما ناله، وهذا يقتضيه الإيمان بقدر الله، فمن آمن بقدر الله خيره وشره، حلوه ومره، وعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، لا يمكن أن يفرح بما نال من الحياة الدنيا، ولا يمكن أن يحزن على ما فاته منها.
ولذلك قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:22-23]، واللام للتعليل ومعها (كي) كذلك للدلالة على التعليل، لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ[الحديد:23]، معناه: لا تحزنوا على ما فاتكم من متع الدنيا، وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:23]، أي: من أمر الدنيا.
وهذا العمر قصير جداً، وبالأخص في زماننا، فإن بركة الأيام والليالي قد نزعت، وهي في ازدياد النقص دائماً، كلما اقتربت الساعة كلما نزعت البركة من الأعمار، فلو تذكرتم أو قرأتم سير أعلامنا الماضين، وأدركتم كبار السن فسألتموهم عما كانوا يعملونه في اليوم، وما كانوا يقطعونه على أرجلهم أو على دوابهم من المسافات، وما ينجزونه من الأعمال؟ لتعجبتم كيف يوجد هذا في يوم واحد، مقارنة بأيامنا؟، وقد جاء في الحديث: (إن بين يدي الساعة أياماً تكون السنة فيها كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاشتعال السعفة)، وما حصل من وسائل الاتصال ووسائل النقل وسرعة تطور العالم هو أيضاً مؤذن بذلك، فهذه السرعة كلها تقتضي هذا الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا العمر الذي هو أقصر أعمارنا وصلنا إليه في تطورٍ في الخلقة، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أطوار، ولذلك جاء في نذارة نوح : وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا[نوح:14]، وفي نذارة النبي صلى الله عليه وسلم: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ[الانشقاق:19]، وهذا في الفرد والجماعة، أما الفرد فيمر بتسعة أطوار في خلقته، بينها الله تعالى في سورة المؤمنون بقوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[المؤمنون:12-14]، ومعنى (أنشأناه خلقاً آخر): ما يمر به في تناميه من صباه إلى شيخوخته، فيبدأ بضعفٍ ثم يصل إلى قوة، ثم يعود إلى ضعف وشيبة، فذلك قوله: أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:14-16]، ونحن الآن قد قطعنا من هذه الأشواط التسعة سبعة، فأمامنا الموت والبعث، لكن كل الأطوار الأخرى قد خضناها، ومن حددت له مسافة كأن حددت له مسافة تسعة كيلو فقطع منها سبعة كيلو، سيعلم أن النهاية قريبة لا محالة، فلذلك لا بد من الاستعداد للانتقال من هذه الدار.
وهذا العمر الدنيوي كل يومٍ وليلة منه هي بمثابة عمر بكامله، تطوى صحائفها ويختم عليها، وتعرض على الله يوم القيامة، فإذا استيقظ الإنسان من منامه بعد أن ذهبت روحه، وهو لا يدري أتعود إليه أم لا؟ فليحمد الله على أن رد إليه روحه، وأن عافاه في جسده، وأن أذن له بذكره، ثم ينطلق في العمل من جديد، ويبدأ ذلك بذكر الله، وتجديد العهد معه، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث شداد بن أوس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالهن في يومه فمات فيه دخل الجنة، ومن قالهن في ليلته فمات فيها دخل الجنة )، فهذا تجديد لذلك العهد الذي في العمر السابق، (وأنا على عهدك ووعدك)، وهو وعده لمن مات لا يشرك به شيئاً أن يدخله الجنة.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بتعاقب الليل والنهار، وأهمية ذلك للإنسان، فقال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان:62]، فتعاقب الليل والنهار معين على الطاعة والعبادة مذكر للغافلين، منبه للسائرين، وحجة قائمة لله على الخلائق أجمعين، ولذلك قال الماوردي رحمه الله:
أقبل على صلواتك الخمس كم مصبحٍ وعساه لا يمسي
واستقبل اليوم الجديد بتوبةٍ تمحو ذنوب صحيفة الأمسِ
فليفعلن بوجهك الغض البلى فعل الظلام لصورة الشمسِ
فأنت أتيت إلى هذا العمر الجديد وإلى هذه الدنيا في تأشيرة مدتها محددة في علم الله، مجهولة بالنسبة إليك، ولكنك كل يوم ترى ما يذكرك بالخروج منها، ففي كل يومٍ تسمع: مات فلان، قتل فلان، تحطمت طائرة، تحطم قطار، حصل حادث حصلت كوارث، كل يوم ترى توديع بعثٍ من أهل الدنيا ينطلقون إلى الدار الآخرة، منهم من هو أسن منك، ومن هو أصغر، ومن هو معاصر لك، ومن هو أقوى ومن هو أضعف، ومن هو أعلم ومن هو أجهل، ومن هو أغنى ومن هو أفقر، وأنت ترى ذلك عياناً بياناً بين يديك، وهو تبشير لك بالانتقال، كما قيل: وتسمع ما حييت بهالكٍ حتى تكونه.
وهذا الانتقال ليس فيه رجعة، والعاقل إذا حجزت له تأشيرة وخرج في مهمة، فإنه لا يجلس حتى تنتهي تأشيرته ثم يعود خائباً لن يؤدّ المهمة التي جاء من أجلها، ونحن هنا تأشيرتنا محددة في علم الله، ونحن لا نطلع على ذلك، قال سبحانه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ[لقمان:34]، فنحتاج إلى مبادرة العمل الذي أتينا من أجله وإلى إنجازه قبل فوات الأوان.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4830 استماع |
بشائر النصر | 4289 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4132 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4060 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4000 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3947 استماع |
عداوة الشيطان | 3934 استماع |
اللغة العربية | 3931 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3907 استماع |
القضاء في الإسلام | 3897 استماع |