فقه الاختلاف


الحلقة مفرغة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإن الله عز خلق الناس من نفس واحدة، ولكنه حكم على أن يكونوا حزبين:

الحزب الأعلى وهو حزب الله، والحزب الأدنى حزب الشيطان؛ فأما حزب الله فقد حكم لهم بالغلبة والفلاح، وذكر أوصافهم في كتابه وأثنى عليهم وأشاد بهم.

وأما الحزب الثاني حزب الشيطان، وقد حكم الله عليهم بالخسران، وذكر أوصافهم، ونفر منهم في كتابه؛ فقال سبحانه وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ[البقرة:253]، تجدون أحياناً الشقيقين خرجا من بطن واحد، وتغذيا بغذاء واحد، وتربيا على هيئةٍ واحدة، أحدهما من حزب الله، والآخر من حزب الشيطان؛ بل تجدون أكبر من ذلك، فتجدون أحدهما هو أول من يأخذ كتابه بيمينه، وشقيقه هو أول من يأخذ كتابه بشماله.

فهذا أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه هو أول من يأخذ كتابه بيمينه، وشقيقه الأسود بن عبد الأسد هو أول من يأخذ كتابه بشماله، وهما أخوان شقيقان من قريش، وتجدون الفرق الشاسع بين العباس بن عبد المطلب ، و أبي لهب بن عبد المطلب ، وهما عمان من أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللذين أدركا البعثة، هذا من خيرة أهل الجنة، ومن أعلى الناس منزلة فيها، والآخر من شر أهل النار، ومن أدناهم منزلة فيها، أجارني الله وإياكم.

وكذلك تنظرون إلى هذا المستوى أيضاً؛ فتجدونه في كثير من الأشقاء كأبي جهل ، وأخيه الحارث بن هشام ، فـأبو جهل من قادة أهل النار، وأخوه الحارث بن هشام من قادة أهل الجنة.. وهكذا؛ فهذه حكمة بالغة يمحص الله تعالى بها عباده، ويختار جنده وحزبه لا على أساس نسب ولا حسب، وإنما على أساس حكمة واختيار، يختار الله به من شاء، كما قال: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68]، وقال: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51].

إن حزب الشيطان يحاولون دائماً أن يتألبوا ويتألفوا، وأن يكونوا يداً واحدة على حزب الله، وحزب الله المفروض فيهم كذلك أن يتألبوا ويتألفوا، وأن يكونوا يداً واحدة على من سواهم، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم وأموالهم، وهم يد على من سواهم ويقوم بذمتهم أدناهم ).

وكذلك حذرهم الله عز وجل من الخلاف، وأمرهم بتوحيد جهودهم، وتكثيف وحدتهم، واتفاق كلمتهم، ونبه على ذلك في كثير من الآيات، وبين ما يقنع به من الناحية العقلية، قال سبحانه وتعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ[التوبة:36]، بين هنا علة أمرنا بأن نقاتل المشركين كافة، وهي أنهم يقاتلوننا كافة، فكما تألبوا علينا، واجتمعت صفوفهم رغم اختلاف قلوبهم وتنافرهم إلا أنهم جميعاً يد واحدة على من قال: لا إله إلا الله؛ فعلى المسلمين إذا علموا هذا وأيقنوا أن أعداءهم مهما اختلفت مشاربهم، وتباينت آراؤهم أن يحاولوا أن يكونوا يداً واحدة ضدهم، على المسلمين أن ينتبهوا لهذا الأمر الرباني الموجه إليهم، ويدركوا قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا[النساء:76].

وقد أعاننا الله تعالى عليهم، بحصول النفرة في صفوفهم؛ ولأن الله تعالى لن يؤلف قلوبهم في الواقع، كل شخص منهم يكره صاحبه، ويحسده، ويمقته، ويحاول أن يزداد عليه حظاً من أمور الدنيا، بينما نجد أن القيم الإسلامية تحض المسلم على أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، وعلى ألا يحسده، وعلى ألا يبغضه، وعلى ألا يسوم على سومه، ولا يخطب على خطبته، ولا يسعى لأي شيء يغير قلبه عليه؛ ولهذا جعل الله تعالى المؤمنين بعضهم أولياء بعض، قال الله تعالى: وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ[التوبة:71].

إن أعداءنا يحدثنا الله تعالى عنهم بقوله في وصف اليهود ومن شايعهم من المنافقين: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى[الحشر:14]، (تحسبهم جميعاً)؛ من شدة تكالبهم على هذا الدين، وحرصهم على ضرر أهله، ولكن مع ذلك قلوبهم شتى، كل شخص منهم يحسد الآخر ويحاول أن يزداد حظه من الدنيا على حظه، والسبب واضح، وهو أن المؤمنين يريدون مرضاة الله وتنافسهم إنما هو في القرب من الله، والكافرون يريدون الزيادة في حظوظ الدنيا، والدنيا يتنافس فيها أهلها، أما المؤمنون فحرم عليهم التنافس في أمور الدنيا، وشرع لهم التنافس في أمور الآخرة؛ ولذلك يقول الله تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ[المطففين:26].

إن التنافس يكون في ما يقربنا من الله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى أبا ذر أن ينظر في الدنيا إلى من دونه حتى يشهد نعمة الله عليه، وينظر في الآخرة إلى ما فوقه حتى يحاول أن يلتحق به؛ ففي أمور الدين يحاول الشخص أن ينظر إلى من فوقه ومن هو أقوى منه ديناً وأكثر علماً، ينظر إلى الذين يأتون المسجد قبل الأذان على طهارة، ويحاول أن يلتحق بهم، ويكون مثلهم، ينظر إلى الذين يملكون ألسنتهم ولا يتكلمون في أعراض الناس، ولا يغتابون الناس، ولا يحملون النميمة؛ فيحاول أن يكون مثلهم.

ينظر إلى الذين ينفقون أموالهم عن طواعية، وتستر، ينفقونها طيبة بها قلوبهم، لا يريدون رياء ولا سمعة، ويحاول أن يلتحق بهم، ينظر إلى الذين يصومون الأيام القائظة في الصيف الحار، ابتغاء مرضاة الله ويحاول أن يكون مثلهم، ينظر إلى الذين يقومون الليالي الشاتية الطويلة، ويحاول أن يلتحق بركبهم، إذاً: ينظر في الدين إلى من فوقه.

أما في أمور الدنيا فالمسلم إذا كان مريضاً في بدنه فينظر إلى الذي هو ملازم للفراش قد ابتلي بنقص في خلقته، وإذا كان فقيراً نظر إلى المحروم الذي لا يجد غذاء يتغذى به، وإذا كان غنياً نظر إلى الفقير الذي دونه، حتى يحمد نعمة الله عليه، لا ينظر الفقير إلى الغني ليعجبه ما هو فيه؛ بل حذر الله رسوله من هذا فقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى[طه:131]، لتمتد عينك إلى الذين زادوا في الخير، وزادوا في التقرب من الله، ولا تنظر إلى الذين تنافسوا في الدنيا، وامتحنهم الله بها؛ لأن ما آتاهم الله كثير من الناس يظن أنه دائماً نعمة، والواقع خلاف ذلك؛ بل قد يكون نقمة؛ فكثير من الناس تغدق عليه الخيرات، ويعطى صحة في البدن، وقوة فيه، وكثرة في المال والأولاد، ومع ذلك يقول الله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا[المدثر:11-17]، نعوذ بالله، يتوعده الله تعالى بأن يحمله فوق عنقه جبلاً عظيماً من جبال النار، وهو صعود، نعوذ بالله.

وكذلك فإن هذه الأموال التي يمتحن الله تعالى بها الناس، كثير من الناس قد يظن أن الذي تمتلئ يداه من الدنيا، يوفق دائماً فيها لصرفها في رفاهيته وتعففه في الدنيا، وفي نجاته في الآخرة، والذي يسألهم ويطلع على أحوالهم عن كثب؛ يجد كثيراً منهم في شقاء عجيب، دائماً مشغول البال، دائماً يخاف أن تخرب تجارته، وأن تتعطل منافعه، وهو في حذر دائم، وقلق دائم، يستيقظ على حذر، ولا يجد وقتاً للراحة ولا يجد وقتاً للطمأنينة؛ لأنه قد امتلأ قلبه بالدنيا؛ بل دخلت في قلبه ولم تدخل في يده.

أنتم هنا جماعة المسجد كم منكم من يملك شيئاً من أمور الدنيا لكنها تكون في يده، ولا تكون في قلبه، لكن وراءكم أقواماً من جماعات البيوت، تدخل الدنيا في قلوبهم، ولا تكون في أيديهم؛ ولذلك لا يستطيعون توزيعها، ولا يستطيعون أن يسخروها لخدمتهم، ولا أن يشتروا بها أنفسهم يوم القيامة، في ذلك اليوم الذي يود الناس فيه لو يفتدون بأي شيء: يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ[المعارج:11-14].

إن التفاوت في الدنيا من مظاهر الاختلاف الذي فرضه الله على عباده، ولا تنزعجوا منه فهو واقع لابد منه، خلق الله الجنة والنار، وتعهد لكل واحدة منهما بأهلها، ولا يمكن أن تمتلئ الجنة وتخلو النار، ولا أن تمتلئ النار وتخلو الجنة؛ بل لا بد أن يسير بعث النار إلى النار، ويسير بعث الجنة إلى الجنة، هذه حكمة لا بد منها؛ فلذلك لا تنزعجوا من هذا النوع الأول من أنواع الخلاف، واعلموا أنه امتحان يمتحنكم الله به، وأن الله عز وجل غني عنكم جميعاً، لا يريد التكثر بكم، ولا القوة بكم، فهو الغني الحميد، القوي الشديد، شديد المحال، يقول في خلقه: ذلك وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد:4].

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله سبحانه وتعالى لو كشف الحجاب لحظة واحدة لأحرقت سبحات وجهه السموات السبع، والأرضين السبع، وما فيهن )، فلذلك ما أهون أهل الأرض كلهم على الله إن عصوه؛ فلا تساوي الأرض وأهلها جميعاً شيئاً من خزائن الله ومن ملكوته، كل ما فيها لا يساوي شيئاً مما عند الله، لاحظوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصفه للجنة، والجنة دار من خلق الله ليست هي كل شيء، ومع ذلك يقول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: ( موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها )، الدنيا تشمل السموات السبع، والأرضين السبع، والمجموعة الشمسية التي نحن فيها وكل الكواكب، كل ذلك موضع سوط أحدكم في الجنة خير منه، موضع سوطه، المكان الذي يضع فيه عصاه فقط خير منه.

ولاحظوا ما روى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل في وصف الجنة، حيث يقول: ( أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )، يفكر الناس كل تفكير وما وصلوا إلى أدنى شيء من نعيم أدنى أهل الجنة نعيماً، ومع هذا فنجد التفاوت الشاسع بين منازل أهل الجنة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري)، من تباعد منازلهم فيما بينهم، اقرأوا إن شئتم سورة الرحمن، وسورة الواقعة، تجدون التفاوت الشاسع بين المنزلتين من منازل الجنة، بين منزلة المقربين، ومنزلة أصحاب اليمين.

إذا كان الأمر كذلك فنعود هنا، ونرجع عن هذا الخلاف الحتمي الذي لا بد منه وهو الخلاف بين حزب الله وحزب الشيطان، إلى أن نصل إلى الخلاف الحاصل بين حزب الله المؤمنين الموحدين؛ أنصار الله الذين رضوا واستجابوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعوا قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ[الصف:14]؛ فقال المؤمنون: سمعنا وأطعنا، جاءوا جميعاً مقبلين بقلوبهم على الله سبحانه وتعالى لما سمعوه يناديهم، وهم يعلمون أن نداء الله ليس كنداء الناس، يعلمون الشرف العظيم لدى كل البشر الذي أحرزه موسى حين أصبح كليم الله، حين كلمه الله، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]؛ لذلك إذا سمعوا الله يناديهم ويقول: (يا أيها الذين آمنوا) اقشعرت أجسامهم، وتهيأت قلوبهم، وأنصتت آذانهم؛ لأنهم حصلوا على شرف عظيم حيث كلمهم ربهم الذي خلقهم وسواهم، يتهيئون لأن يكونوا كلهم آذاناً لسماع كلام الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللهِ[الصف:14]، فيقولون: سمعنا وأطعنا، لبيك ربنا، قد استجبنا، كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ[الصف:14]، هذا مثل ضربه الله لهذا الصراع المستمر الحتمي بين الحق والباطل، دائماً ما يبدأ الدين وتبدأ الدعوة إليه في قلة من الناس مستضعفين أذلة، ولكنهم مستضعفون أذلة بمعايير أهل الأرض، أما بمعايير السماء فهم الأعلون والله معهم، وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ[محمد:35].

ولذلك قال الله تعالى لأهل أحد حين رجعوا من تلك الغزوة العظيمة: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[آل عمران:139-143].

لذلك فإن علينا معاشر المؤمنين الذين استجبنا لدعاء الله، واستجبنا لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكون كما رضي لنا، أن نكون يداً واحدة، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يكذبه، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاثاً، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه ).

إذاً: أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نكون يداً واحدة على من سوانا، وأن نزيل الفوارق فيما بيننا، وأن نحاول أن نزيل الخلاف إذا حصل.

نحن نعلم أن للخلاف أسباباً كثيرة، يحصل الخلاف على أمور الدين، ويحصل على أمور الدنيا، يأتي أولاً صغيراً ضعيفاً ثم ينفخ فيه الشيطان فيزداد ويكبر، وهكذا تبدأ الحروب كما تبدأ النار، بداية النار إنما هي من الشرر، هذا الشرر البسيط تتقد منه النيران العظيمة، التي تأكل الأخضر واليابس، كما قال أحدهم:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم

والحرب أول ما تكون فتيةً.

ففي بداية أمرها كل الناس يظنون أن الأمر بسيط، ولكنه ينفخ فيه الشيطان فيزداد؛ لذلك فإن الخلافات التي تحصل ينبغي لأهل العقول أن يتدبروا فيها، وأن ينظروا إلى أسبابها، وأن يشخصوها، ويحاولوا علاجها، قبل أن يتسع الخرق على الراقع.

حصلت خلافات بين الجماعة المسلمة في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه عالجها علاجاً حسم مادة المرض.

لاحظوا ما حصل في غزوة بني المصطلق حين خرج وارد من المهاجرين، ووارد من الأنصار، وحين وصلا إلى الماء وتخالفا في طريقة أخذ الماء، فضرب المهاجري الأنصاري فصاح المهاجري: يا للمهاجرين! وصاح الأنصاري: يا للأنصار! فتألب المنافقون وقال ابن أبي : إن هؤلاء الجلابيب قد غلبوكم على دوركم ولَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ[المنافقون:8]؛ فحسم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخلاف، أمرهم أن يرتحلوا فخرجوا في الارتحال من وقت صلاة الظهر، ولم ينزل بهم إلا في آخر الليل حتى نزلوا وقد تعبوا من طول السفر، وجد السير ليشتغلوا بالتعب، عن ما دار في نفوسهم، وما أثاره المنافقون فيهم، ثم بعد ذلك تلا عليهم ما أنزل الله عليه في هذه الواقعة، وقرأ عليهم سورة المنافقين، وجاء الناس وهم الأنصار يقولون: إن ما حصل إنما حصل من المنافقين، فإن أمرتنا أن نقتلهم قتلناهم، فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وجاء عبد الله بن أبي ، وهو أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد الله فلما وصلوا إلى المدينة، أمسك بركاب أبيه وأقسم يميناً بالله لا يدخل المدينة حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: ولمَ يا بني؟ أنت الأذل ورسول الله الأعز، فولله لا تدخلها حتى يأذن لك، وشهر سيفه في وجهه، حتى جاء إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المدينة فدخلها، هذا ولده الذي رباه ونشأ في حجره، لكن الله ملأ قلبه من الإيمان وملأ قلب الآخر من النفاق.

إن الخلاف الذي يحصل بسببه -وبالأخص بين أهل القبلة المصلين الذين يجتمعون في المساجد ويجيبون نداء الله- بعض الخلافات، التي تنكر تسويتها بطرق بسيطة. منها مثلاً وهو الخلافات المذهبية.

الخلافات المذهبية في زمن الصحابة

نحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءنا بالبينات والهدى، جاءنا بكتاب الله وهو كلام الله، وجاءنا بالسنة المبينة لمعنى القرآن، حيث أمره الله أن يبين لنا معنى كتابه، والكتاب والسنة كلاهما من الأقوال، والأقوال يبحث فيها من جهتين:

الجهة الأولى: جهة الورود والثبوت، معناه: وهل ثبت فعلاً أن هذا آية من كتاب الله؟ هل ثبت أنه من كلام الله؟ هل ثبت فعلاً أن هذا حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله أو فعله؟ هذه الجهة هي الجهة الأولى وهي جهة الورود.

الجهة الثانية: هي جهة الدلالة، ما معنى هذه الآية بعد أن تحققنا أنها في المصحف آية من كتاب الله؟ ما معنى هذا الحديث بعد أن تحققنا أنه في موطأ مالك ، أو في صحيح البخاري ، أو صحيح مسلم ، ما معناه، وماذا يريد الله بهذه الآية؟ وماذا يريد رسوله صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث؟ هذا الوجه الثاني من أوجه البحث، ويسمى البحث في الدلالة.

هذان الوجهان لم يحتج الصحابة إلى البحث فيهما، لم يحتاجوا إلى البحث في جهة الورود لماذا؟ لسماعهم من الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4]، وأنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تحتج إلى أحد يصدق لك أو يكذب، آمنت به وصدقت، ( صدقناك على خبر السماء، ألا نصدقك على خبر الأرض )، كما قال خزيمة بن ثابت .

إذاً: يكفيهم أنهم سمعوا من الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، إذاً هذا في مجال الثبوت والورود.

وأما في مجال الدلالة فلم يحتاجوا أيضاً إلى البحث؛ لأنهم جميعاً من الناطقين بالعربية على وجه السليقة، كلهم من الذين يفهمون كلام العرب، ومن ليس منهم من أصل عربي كـبلال و سلمان يتقنان كلام العربية، بل كلاهما مشهور بالفصاحة والبلاغة، وكلاهما كان خطيباً يقف على المنبر يقوم في الناس ويعلمهم بلال رضي الله عنه جاء بأخيه إلى بيت من الأنصار التي هي من بيوت الشرف؛ فلما أتاهم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: هذا أنا بلال وهذا أخي كنا كافرين فهدانا الله للإسلام، وكنا عبدين فحررنا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله، فإن أنكحتمونا فلكم الشكر، وإن رددتمونا فلكم العذر؛ فقالوا: والله لا نردكما؛ فزوجوهما، لاحظوا هذه الكلمات البليغة جداً، التي يفكر فيها البلغاء باستخراج بعض النكات البلاغية منها، وهو يقولها على وجه السليقة والبديهة.

وهكذا سلمان الفارسي الذي أمره عمر بن الخطاب على مدائن كسرى كلها، وكان لا يأكل من بيت المال وإنما يأكل من كسب يده، يصلح النخل للناس ويحفر لهم الآبار، ويبني لهم البيوت، ويعيش من كسب يده، وهو أمير على مدائن كسرى كلها، وهو الخطيب الذي يخطب على المنبر في الجمعة وفي الأعياد وغير ذلك.

الخلافات المذهبية في زمن التابعين

إذاً: لم يحتج الصحابة إلى البحث في جهة الدلالة، جاء من بعدهم التابعون؛ فلم يحتاجوا أيضاً كثيراً إلى البحث في الجهتين، أما جهة الورود؛ فلسماعهم من الصحابة، والصحابة عدول كلهم فيما يتعلق بالرواية؛ لأن الله تعالى يقول: فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[التوبة:96]، ويقول: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ[الفتح:18]، فإذا أثبت لهم الرضا نفى عنهم الفسق؛ لأنه لا يرضى عن القوم الفاسقين، وقد رضي عن الصحابة فعلم أنهم غير فاسقين، إذا كانوا غير فاسقين فإن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، يعني: المحل الذي يقبل صفة هذا الثوب، إما أن يكون أبيض، وإما أن يكون غير أبيض، لا يمكن أن يجتمع فيه البياض وغير البياض في وقت واحد، ولا يمكن أن يخلو منها، كذلك الإنسان لا بد أن يكون عدلاً أو فاسقاً، وقد انتفى عن الصحابة الفسق؛ فثبت لهم ضده وهو العدالة فهم جميعاً عدول بتعديل الله؛ فلذلك كل من أخبره صحابي بأمر فإنه يقتنع به لأنه معدل بتعديل الله.

فإذاً لم يحتج التابعون للبحث في جهة الورود كذلك لم يحتاجوا كثيراً إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأنهم ما زالوا أهل اللسان العربي على وجه السليقة، ولم تتغير الألسنة ولم تختلف الحضارات بعد.

الخلافات المذهبية في زمن تابعي التابعين

وحين جاء أتباع التابعين، حصلت المشكلة، فاحتاجوا إلى البحث في الجهتين جميعاً، جهة الورود لأنهم ما لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم، ولا لقوا الصحابة رضوان الله عليهم المعدلين بتعديل الله؛ بل لقوا التابعين فيهم العدول وفيهم غير العدول، فاحتاجوا إلى البحث في الثبوت.

كذلك احتاجوا البحث في جهة الدلالة؛ لأنهم لم يعودوا أهل اللسان العربي على وجه السليقة، بل فيهم من يفهم العربية على وجهها، وفيهم من لا يفهمها على وجهها، أضرب لكم مثالاً: نحن الآن لو قرأت عليكم آية واحدة من كتاب الله، وامتحنتكم كل شخص منكم سيفهم فيها قدراً مما آتاه الله، وتتفاوت أفهامكم فيها وهذا راجع إلى الرزق؛ فبعضكم يقسم الله له فيها رزقاً في الفهم عجيباً، وبعضكم يكون رزقه فيها؟ دون ذلك، فيتفاوت الناس فيها بحسب الرزق، أنتم تشاهدون الناس يمكث أحدهم عشرين سنة، وهو يبذل الجهد من أجل الحصول على المال، ولا يحصل على شيء، وتشاهدون آخر يأتي فلا يمكث إلا أياماً قلائل ويحصل على الملايين أو المليارات، وهذا راجع إلى قدر الله فهو الذي يكتب ما شاء، وكذلك هنا الفهم والعلم، توزيعه قدري، راجع إلى قدر الله يكتب لمن شاء ما شاء.

ولهذا محمد بن مالك في تفسير الفوائد يقول: وإذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين، ما عسر على كثير من المتقدمين. ويقول العلامة محمد الفال المتالي رحمه الله:

وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل

فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل

غير مكتوب له، جاء أتباع التابعين فاحتاجوا إلى البحث في الجهتين، احتاجوا إلى البحث في جهة الورود، ووضعوا قواعد لذلك هي قواعد الجرح والتعديل؛ فلان ثقة، وفلان غير ثقة، وهذه يقول فيها أحدهم وهو محمد بن سيرين : والله ما كنا نبالي عن من نأخذ هذا العلم حتى ركب الناس الصعب والذلول، فقلنا: سموا لنا رجالكم، فمن كان مقبولاً قبلناه، ومن كان مردوداً رددناه.

ويقول أحدهم: إن هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذوا دينكم. وبدأوا ينتقدون الناس واشتهر قوم بنقد الرجال، وهم أئمة الجرح والتعديل، وقد ألف فيه كثير من الأئمة، وممن ألف في هذا المجال مثلاً، من أقدمهم محمد بن سعد في كتابه الطبقات، وبعده خليفة بن خياط في كتابه الطبقات، وكتابه التاريخ، وهو شيخ البخاري ، ثم بعده الإمام أحمد في كتابه العلل ومعرفة الرجال، و يحيى بن معين في التواريخ، ثم بعده علي بن المديني أيضاً في عصره، ثم بعد ذلك البخاري في كتاب التاريخ الكبير، والتاريخ الصغير، والضعفاء، ثم بعد ذلك ابن أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل، الذي ذكر في مقدمته أئمة الجرح والتعديل من أتباع التابعين، وبدأهم بـمالك بن أنس ؛ فهو أول من ذكر من أئمة الجرح والتعديل لخبرته بالرجال؛ ولذلك لم يروِ مالك عن ضعيف قط إلا عن رجل واحد، وهو عبد الكريم بن أبي المخارق ، ولماذا روى عنه مالك ؟ يقولون: ليس من بلده فرأى حسن صلاته فغره بحسن صلاته، فروى عنه، وكان من شدة انتقاده للرجال، أنه قال: إني لأرى الرجل لو أقسم على الله لأبره، من التزامه بالسنة، والصلاح، ولكني لا أرضى الرواية عنه؛ لأنه يتكلم كلام الجمعة في اليوم الواحد، وكلام الشهر في الجمعة، فالشخص الكثير الكلام لا يثق بروايته، لأن من كثر كلامه كثر سقطه؛ ولذلك لقي كثيراً من الناس يتنافس في الرواية عنه فأعرض عنه مالك ولم يروِ عنه شيئاً.

وكذلك من بعده شعبة بن الحجاج ، و سفيان بن عيينة ، و سفيان الثوري ، و يحيى بن سعيد القطان ، و عبد الله بن المبارك و عبد الرحمن بن المهدي ، و الأوزاعي وغيرهم من أئمة الجرح والتعديل، هؤلاء آتاهم الله تعالى ذكاءً وقوة خارقة فيما يتعلق بتمييز الصحيح من الضعيف، كانوا أمناء الله على الوحي، اختارهم الله لهذه المهمة، فهم من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، هم معجزة من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، يبقرون للناس حتى يبينوا الصحيح من الضعيف؛ ولذلك حين قام محمد بن سعيد المشهور بـالمصلوب فوضع بعض الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاع أمره رفع إلى الخليفة؛ فلما أتاه أراد أن يقتله ويصلبه، قال: لئن قتلتموني وصلبتموني فقد تركت فيكم أربعة آلاف حديث أحل فيها الحرام وأحلل فيها الحلال، وضعتها من عند نفسي، قال له الخليفة: ويلك أين أنت من ابن المبارك و ابن مهدي ، يبقران عنها حتى يخرجانها؟ فدعا الخليفة عبد الله بن المبارك ، و عبد الرحمن بن مهدي، فسألهما عن محمد بن سعيد هذا هل يعرفانه؛ فقالا: نعم، فقال: تعرفان روايته، قالوا: عنده بعض الأحاديث موضوعة، التي هو وضعها، فقال: ما هي؛ فجعلا: يتذكران، ويعدان حتى وصلا أربعة آلاف حديث وتوقفا، فإذا هي قدر الأحاديث التي ادعى الرجل.

قال عبد الله بن المبارك : والذي نفسي بيده لو أن رجلاً بالصين، هم من الليل أن يضع حديثاً، على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصبح الناس في بغداد يقولون: فلان كذاب وضاع، هذا حفظ الله لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

لذلك فإن جهة الورود اشتغل بها الناس، وألف فيها كثير من الكتب، واشتغل فيها كثير من النقاد، وليست محل البحث الذي سنتكلم فيه الآن.

نحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءنا بالبينات والهدى، جاءنا بكتاب الله وهو كلام الله، وجاءنا بالسنة المبينة لمعنى القرآن، حيث أمره الله أن يبين لنا معنى كتابه، والكتاب والسنة كلاهما من الأقوال، والأقوال يبحث فيها من جهتين:

الجهة الأولى: جهة الورود والثبوت، معناه: وهل ثبت فعلاً أن هذا آية من كتاب الله؟ هل ثبت أنه من كلام الله؟ هل ثبت فعلاً أن هذا حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله أو فعله؟ هذه الجهة هي الجهة الأولى وهي جهة الورود.

الجهة الثانية: هي جهة الدلالة، ما معنى هذه الآية بعد أن تحققنا أنها في المصحف آية من كتاب الله؟ ما معنى هذا الحديث بعد أن تحققنا أنه في موطأ مالك ، أو في صحيح البخاري ، أو صحيح مسلم ، ما معناه، وماذا يريد الله بهذه الآية؟ وماذا يريد رسوله صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث؟ هذا الوجه الثاني من أوجه البحث، ويسمى البحث في الدلالة.

هذان الوجهان لم يحتج الصحابة إلى البحث فيهما، لم يحتاجوا إلى البحث في جهة الورود لماذا؟ لسماعهم من الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4]، وأنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تحتج إلى أحد يصدق لك أو يكذب، آمنت به وصدقت، ( صدقناك على خبر السماء، ألا نصدقك على خبر الأرض )، كما قال خزيمة بن ثابت .

إذاً: يكفيهم أنهم سمعوا من الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، إذاً هذا في مجال الثبوت والورود.

وأما في مجال الدلالة فلم يحتاجوا أيضاً إلى البحث؛ لأنهم جميعاً من الناطقين بالعربية على وجه السليقة، كلهم من الذين يفهمون كلام العرب، ومن ليس منهم من أصل عربي كـبلال و سلمان يتقنان كلام العربية، بل كلاهما مشهور بالفصاحة والبلاغة، وكلاهما كان خطيباً يقف على المنبر يقوم في الناس ويعلمهم بلال رضي الله عنه جاء بأخيه إلى بيت من الأنصار التي هي من بيوت الشرف؛ فلما أتاهم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: هذا أنا بلال وهذا أخي كنا كافرين فهدانا الله للإسلام، وكنا عبدين فحررنا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله، فإن أنكحتمونا فلكم الشكر، وإن رددتمونا فلكم العذر؛ فقالوا: والله لا نردكما؛ فزوجوهما، لاحظوا هذه الكلمات البليغة جداً، التي يفكر فيها البلغاء باستخراج بعض النكات البلاغية منها، وهو يقولها على وجه السليقة والبديهة.

وهكذا سلمان الفارسي الذي أمره عمر بن الخطاب على مدائن كسرى كلها، وكان لا يأكل من بيت المال وإنما يأكل من كسب يده، يصلح النخل للناس ويحفر لهم الآبار، ويبني لهم البيوت، ويعيش من كسب يده، وهو أمير على مدائن كسرى كلها، وهو الخطيب الذي يخطب على المنبر في الجمعة وفي الأعياد وغير ذلك.

إذاً: لم يحتج الصحابة إلى البحث في جهة الدلالة، جاء من بعدهم التابعون؛ فلم يحتاجوا أيضاً كثيراً إلى البحث في الجهتين، أما جهة الورود؛ فلسماعهم من الصحابة، والصحابة عدول كلهم فيما يتعلق بالرواية؛ لأن الله تعالى يقول: فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[التوبة:96]، ويقول: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ[الفتح:18]، فإذا أثبت لهم الرضا نفى عنهم الفسق؛ لأنه لا يرضى عن القوم الفاسقين، وقد رضي عن الصحابة فعلم أنهم غير فاسقين، إذا كانوا غير فاسقين فإن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، يعني: المحل الذي يقبل صفة هذا الثوب، إما أن يكون أبيض، وإما أن يكون غير أبيض، لا يمكن أن يجتمع فيه البياض وغير البياض في وقت واحد، ولا يمكن أن يخلو منها، كذلك الإنسان لا بد أن يكون عدلاً أو فاسقاً، وقد انتفى عن الصحابة الفسق؛ فثبت لهم ضده وهو العدالة فهم جميعاً عدول بتعديل الله؛ فلذلك كل من أخبره صحابي بأمر فإنه يقتنع به لأنه معدل بتعديل الله.

فإذاً لم يحتج التابعون للبحث في جهة الورود كذلك لم يحتاجوا كثيراً إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأنهم ما زالوا أهل اللسان العربي على وجه السليقة، ولم تتغير الألسنة ولم تختلف الحضارات بعد.

وحين جاء أتباع التابعين، حصلت المشكلة، فاحتاجوا إلى البحث في الجهتين جميعاً، جهة الورود لأنهم ما لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم، ولا لقوا الصحابة رضوان الله عليهم المعدلين بتعديل الله؛ بل لقوا التابعين فيهم العدول وفيهم غير العدول، فاحتاجوا إلى البحث في الثبوت.

كذلك احتاجوا البحث في جهة الدلالة؛ لأنهم لم يعودوا أهل اللسان العربي على وجه السليقة، بل فيهم من يفهم العربية على وجهها، وفيهم من لا يفهمها على وجهها، أضرب لكم مثالاً: نحن الآن لو قرأت عليكم آية واحدة من كتاب الله، وامتحنتكم كل شخص منكم سيفهم فيها قدراً مما آتاه الله، وتتفاوت أفهامكم فيها وهذا راجع إلى الرزق؛ فبعضكم يقسم الله له فيها رزقاً في الفهم عجيباً، وبعضكم يكون رزقه فيها؟ دون ذلك، فيتفاوت الناس فيها بحسب الرزق، أنتم تشاهدون الناس يمكث أحدهم عشرين سنة، وهو يبذل الجهد من أجل الحصول على المال، ولا يحصل على شيء، وتشاهدون آخر يأتي فلا يمكث إلا أياماً قلائل ويحصل على الملايين أو المليارات، وهذا راجع إلى قدر الله فهو الذي يكتب ما شاء، وكذلك هنا الفهم والعلم، توزيعه قدري، راجع إلى قدر الله يكتب لمن شاء ما شاء.

ولهذا محمد بن مالك في تفسير الفوائد يقول: وإذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين، ما عسر على كثير من المتقدمين. ويقول العلامة محمد الفال المتالي رحمه الله:

وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل

فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل

غير مكتوب له، جاء أتباع التابعين فاحتاجوا إلى البحث في الجهتين، احتاجوا إلى البحث في جهة الورود، ووضعوا قواعد لذلك هي قواعد الجرح والتعديل؛ فلان ثقة، وفلان غير ثقة، وهذه يقول فيها أحدهم وهو محمد بن سيرين : والله ما كنا نبالي عن من نأخذ هذا العلم حتى ركب الناس الصعب والذلول، فقلنا: سموا لنا رجالكم، فمن كان مقبولاً قبلناه، ومن كان مردوداً رددناه.

ويقول أحدهم: إن هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذوا دينكم. وبدأوا ينتقدون الناس واشتهر قوم بنقد الرجال، وهم أئمة الجرح والتعديل، وقد ألف فيه كثير من الأئمة، وممن ألف في هذا المجال مثلاً، من أقدمهم محمد بن سعد في كتابه الطبقات، وبعده خليفة بن خياط في كتابه الطبقات، وكتابه التاريخ، وهو شيخ البخاري ، ثم بعده الإمام أحمد في كتابه العلل ومعرفة الرجال، و يحيى بن معين في التواريخ، ثم بعده علي بن المديني أيضاً في عصره، ثم بعد ذلك البخاري في كتاب التاريخ الكبير، والتاريخ الصغير، والضعفاء، ثم بعد ذلك ابن أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل، الذي ذكر في مقدمته أئمة الجرح والتعديل من أتباع التابعين، وبدأهم بـمالك بن أنس ؛ فهو أول من ذكر من أئمة الجرح والتعديل لخبرته بالرجال؛ ولذلك لم يروِ مالك عن ضعيف قط إلا عن رجل واحد، وهو عبد الكريم بن أبي المخارق ، ولماذا روى عنه مالك ؟ يقولون: ليس من بلده فرأى حسن صلاته فغره بحسن صلاته، فروى عنه، وكان من شدة انتقاده للرجال، أنه قال: إني لأرى الرجل لو أقسم على الله لأبره، من التزامه بالسنة، والصلاح، ولكني لا أرضى الرواية عنه؛ لأنه يتكلم كلام الجمعة في اليوم الواحد، وكلام الشهر في الجمعة، فالشخص الكثير الكلام لا يثق بروايته، لأن من كثر كلامه كثر سقطه؛ ولذلك لقي كثيراً من الناس يتنافس في الرواية عنه فأعرض عنه مالك ولم يروِ عنه شيئاً.

وكذلك من بعده شعبة بن الحجاج ، و سفيان بن عيينة ، و سفيان الثوري ، و يحيى بن سعيد القطان ، و عبد الله بن المبارك و عبد الرحمن بن المهدي ، و الأوزاعي وغيرهم من أئمة الجرح والتعديل، هؤلاء آتاهم الله تعالى ذكاءً وقوة خارقة فيما يتعلق بتمييز الصحيح من الضعيف، كانوا أمناء الله على الوحي، اختارهم الله لهذه المهمة، فهم من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، هم معجزة من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، يبقرون للناس حتى يبينوا الصحيح من الضعيف؛ ولذلك حين قام محمد بن سعيد المشهور بـالمصلوب فوضع بعض الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاع أمره رفع إلى الخليفة؛ فلما أتاه أراد أن يقتله ويصلبه، قال: لئن قتلتموني وصلبتموني فقد تركت فيكم أربعة آلاف حديث أحل فيها الحرام وأحلل فيها الحلال، وضعتها من عند نفسي، قال له الخليفة: ويلك أين أنت من ابن المبارك و ابن مهدي ، يبقران عنها حتى يخرجانها؟ فدعا الخليفة عبد الله بن المبارك ، و عبد الرحمن بن مهدي، فسألهما عن محمد بن سعيد هذا هل يعرفانه؛ فقالا: نعم، فقال: تعرفان روايته، قالوا: عنده بعض الأحاديث موضوعة، التي هو وضعها، فقال: ما هي؛ فجعلا: يتذكران، ويعدان حتى وصلا أربعة آلاف حديث وتوقفا، فإذا هي قدر الأحاديث التي ادعى الرجل.

قال عبد الله بن المبارك : والذي نفسي بيده لو أن رجلاً بالصين، هم من الليل أن يضع حديثاً، على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصبح الناس في بغداد يقولون: فلان كذاب وضاع، هذا حفظ الله لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

لذلك فإن جهة الورود اشتغل بها الناس، وألف فيها كثير من الكتب، واشتغل فيها كثير من النقاد، وليست محل البحث الذي سنتكلم فيه الآن.